نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

سور الصين العظيم – كافكا

sour

سور الصين العظيم

 

قصة قصيرة بقلم:  فرانز كافكا

 

ترجمة: خليفه دسوقـي

 

كان العمل لإنشاء  سور الصين العظيم قد انتهى في أقصى ركنه الشمالي بعد أن كان قد امتد علي طول قطاعين من الجنوب الشرقي  والجنوب الغربي ليلتحما بعده  في ذلك الركن. وكان مبدأ الإنشاء المتقطع قد طُبق على مستوى أصغر من ِقبل كلا جيشي البناء العظيمين، الشرقي و الغربي. وكان العمل يتم كما يلي :

يتم تشكيل فرقة من حوالي العشرون عاملاً يناط بها إنجاز جزء من السور بطول خمسمائة يارده، بينما تكون مجموعة مماثلة منهمكه في بناء طول مماثل من السور ليقابل الجزء الأول. وعند انتهاء  عمل الوصلة فإن البناء لن يبدء مرة أخرى حيث انتهت هذه الياردات الألف، وبدلاً من ذلك فإن مجموعتي العمل تلك تنقلان لتبدآ البناء في  منطقة أخرى.  ومن البديهي أنه وبهذه الطريقة لا بد وأن تبقى ثغرات كبيرة لا يتم إغلاقها إلاّ تدريجياً  وجزءاً بعد جزء  ، بل وإن  بعضها لم يتم ذلك فيها إطلاقاً إلاّ بعد الإعلان الرسمي لانتهاء بناء السور. وفي الواقع، يقال أن هناك فجوات لم يتم إغلاقها إطلاقاً ، وربما كانت هذه أسطورة من الأساطير التي أثارها بناء السور والتي لا يمكن التحقق منها بواسطة فرد من الأفراد يحكُم على ذلك رأي العين  وخاصة لو أُخذ طول السور في الإعتبار. ورب قائل، بعد نظرة أولى، أنه كان من الأجدى ، في جميع الأحوال، لو أن بناء السور

 تم بطريقة متصلة ، علي الأقل في ما بين الجزئين الرئيسيين، أولم يكن الهدف من بناء السور كما كان معلوماً ومعلناً بصفة شاملة هو أن يكون حماية لنا من شعوب الشمال؟ فكيف إذن يمكن لسور أن يحمي إن لم يكن صرحاً متصلاً ؟ أوليس لمثل هذا السور أن يعجز عن الحماية إضافة على أن ما يوجد منه نفسه يبقى معرضاً لخطر مستمر، فكتـل السور القائمة في المناطق المهجورة يمكن تدميرها بسهوله، وخاصة أن تلك القبائل التي أقـلـقـتها عمليات التشييد كانت تـتـنـقل وتبدل مواقع

مخيماتها بصورة مذهلة ، كأسراب الجراد تماماً،ً وعلى هذا فإنه من الممكن أنه كان لديها نظرة عامه عن تقدم البناء أفضل مما كان لدينا نحن البناؤون. ومع ذلك فإنه من المحتمل أنه لم يكن هناك طريقة أخرى لإنجاز البناء . ولفهم ذلك علينا الأخذ بالأعتبارات التالية: كان على السور أن يكون حماية لقرون طويلة  و بناءاً على ذلك فإن  أكثر التصميمات دقة في البناء ، وتطبيق كل حكم المعمارفي كل العصور وعند حميع الشعوب مع الإحساس المتواصل بالمسؤولية لدى كل بنّاء ، كل هذه كانت لوازم مسبقة لا يمكن الإستغناء عنها من أجل هذا العمل. صحيح أنه قد استـُخدم عمال بالأجر اليومي من بين الجهله من العامة، رجال ونساء وأطفال، أدوا أعمالهم مقابل أجر في مهمات ذات طبيعة يدوية صرفة ولكن الإشراف كان يتطلب، حتى على العمال الذين يعملون لأربعة أيام، خبيراً ضليعاً في فن البناء، رجلاً يمكنه الإحساس بكل فؤاده والنفاذ فيما يتضمنه العمل، وكلما كانت المهمة أرقى كلما كانت المسؤلية أكثر ثقلاً كذلك.  ومن الناحية العملية فإنه كان من اللازم الحصول على مثل هؤلاء الرجال، حتى وإن لم يكونوا بنفس الوفرة التي كان يمكن لأعمال البناء أن تمتصها  بالرغم من أعدادهم الكبيرة. وأما بالنسبة للعمل فإنه لم يُباشر فيه بدون روية، فقبل خمسون عاماً من وضع الحجر الأول رُسّـِم فن المعمار، وفن البناء منه خاصة،  كأهم فرع من فروع المعرفة على كل امتداد ذلك الجزء من الصين الذي كان على السور أن يحيط به. وأما سائر الفنون الأخرى فإنها لم تحز على الإعتراف بها إلاّ فيما كان منها ذي علاقة بفن المعمار. وإنني  ما زلت أتذكر جيداً حين كنا أطفالاً صغاراً، ونحن لا نكاد نثق بأننا نقف على أقدامنا،  في حديقة معلمنا حين أخذنا في بناء ما يشبه السور من الرمل بناءاً على أمر منه، ثم أن المعلم استند بكامل طوله عليه وهو يثبت مئزره  فانهار السور طبعاً مما أدى بالمعلم لتوبيخنا بلهجة شديدة على عملنا الردئ فأخذنا،والدموع تملأ عيوننا، نعدوا في شتى  الإتجاهات نحو أباءنا.

 

كنت ذو طلع سعيد في ما يتعلق بنجاحي في الإختبار النهائي بالمدرسة الصغرى  وأنا في العشرين من عمري في ذات الوقت الذي بدأ فيه إنشاء السور. أقول ذو حظ سعيد لأن كثيرين من الذين نالوا أعلى الدرجات العلمية الممكنه قبلي ، لم يجدوا شيئاً يفعلونه سنة إثرأخرى فأخذوا يهيمون على وجوههم على غير هدي وهم يحملون في رؤسهم تصاميم معمارية رائعة وغرقوا في غياهب اليأس بالألوف.  غير أن الذين استُـخدِم منهم  للعمل في بناء السور كملاحظين في نهاية الأمر، وبالرغم من أن هذا ربما كان  من أقل الأعمال رتبة، فإنهم  كانوا حقاً أكفاء لأداء مهامهم.  كانوا بنائين دائمي التفكير في بناء السور، رجال أحسوا بأنهم جزء من السور منذ وضع أول حجر أساس على الأرض.  ومن الطبيعي أن بناؤن من هذا الطراز لم تكن لديهم الرغبة في انجاز عملهم على الوجه الأكمل فحسب، بل أنه لم يكن لديهم من الصبرمايكفي لرؤية السور قائماً تام الكمال. وأما عمال اليومية فلم يكن لديهم نفاذ الصبر هذا لأنه لم يكونوا ليرون سوى أجورهم. وأما كبار المشرفين والمشرفون المتوسطي الرتبة فإنه كان لهم مما يرونه من التقدم المتعدد الجوانب للسور ما كان يُـبْـقي  معنوياتهم مرتفعه.  وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى لتشجيع  المشرفين ذوي الرتب الدنيا، والذين كان من الواضح أنهم متـفوقون ثقافياً على مهماتهم التافهة تـفوقاً كبيراً. ومثالاً على ذلك فإنه لم يكن لينتظر منهم أن يضعوا الحجر فوق الحجر لشهور وربما لسنوات بلا انقطاع، في مناطق جبلية مهجورة  وعلى بعد  مئات الأميال من مواطنهم، أسرى للقنوط الملازم لمثل هذا العمل الشاق والذي لن ينتهي حتي في حياة أطول الناس عمراً ،  كل هذا كان يمكن أن يقذف بهم إلى مهاوي اليأس ويجعلهم، علاوة على ذلك، أقل قدرة على العمل. ولقد اعتـُمِد نظام العمل المتقطع في البناء لعين هذا السبب ، فخمسمائة ياردة يمكن إنجازها في حوالي خمسة سنوات وفيها يكون المشرفون على كل حال وحتماً مستـنـفـَذي القوى وفاقدو كل إيمان بأنفسهم وبالسور وبالعالم أيضاً. وعليه فإنه وأثناء الإحتفالات المقامه بمناسبة إتمام الألف يارده  وتكريمهم  فإنهم يرسلون بعيداً… بعيداً جداً حيث يمرون أثناء رحلتهم بقطاعات من السور تم بناءها، تقف شامخة هنا وهناك، ويمرون أثناء ذلك بمقر القيادة العليا حيث تقدم لهم أنواط الشرف ويرون ابتهاجات جيوش العمال الجديدة التي تمر بهم قادمة من أعماق الوطن، ويرون كذلك الغابات وهي تُقطَّع لاستعمالها  دعامات للسور والجبال تكحت وتُحول إلي حجارة فيه، ويستمعون للأناشيد تـُؤدَّى  في المقامات المقدسة حيث يصلي الأتقياء من أجل بناء السور، فكان كل هذا يخفف من حدة نفاذ صبرهم.

وفي مواطنهم ،حيث هدوء الحياة، يريحون أنفسهم هناك لبعض الوقت فـتـتجدد  قواهم. ولقد كان   الإصغاء والتصديق المتواضع الذي تقابل به  تقاريرهم، ،والإيمان الذي كان يكنّه مواطنيهم البسطاء المسالمين بحتمية إتمام السور يملأ قلوبهم بالحبور ، وكالأطفال المفعمين بالرجاء الأبدي  يودعون ذوييهم والرغبة في مزيد من سور الأمة قد أصبح هاجساً لا يقاوم، فيبدأون رحلتهم مبكرين أكثر مما يلزمهم فتصاحبهم  نصف القرية لمسافات بعيدة، وجماعات من الناس على كل الطرقات تلوح الألوية والأعلام. ولم يكن ليلاحظوا قبلاً كم هي بلادهم ثرية  وجميلة وجديرة بالحب.  كل مواطن كان أخاً من أجله يُبنى السور لحمايته وهذا الأخ، بدوره، سيكون مديناً له بالشكر طيلة حياته. الإتحاد !الإتحاد!  حلقة من الأخوة ..تياراً من الدم لم يعد محصوراً ضمن دورة ضيقة لجسم واحد بل  يتدفق عذوبة  ليعود أبداً من خلال الاعماق اللانهائيه للصين.  وهكذا إذن يمكن فهم نظام البناء المتقطع . غير أنه كانت توجد هناك أسباب أخرى بنفس الدرجة من الأهمية ، ويجب ألاّ  ينظر باستغراب لتوقفي عند هذه المسألة لوقت طويل لأنها أهم مشكلة في كامل عملية تشييد السور مهما بدت وكأنها ليست كذلك عند النظرة الأولى. وإذا كان علي أن أنقل أفكار ذلك العصر وأجعلها قابلة للفهم فإنه لن يكون بمقدوري الغوص في ذات هذه المسألة بما فيه الكفاية.

 

إذن يجب أن يقال أنه في تلك الأيام كان من النادر تحقيق أي شئ أقـل شأناً من عملية تشييد برج بابل مع أن الإستحسان الإلهي ، طبقاً للإعتبار الإنساني ، كان مخالفاً أشد المخالفة لذلك العمل. أقول هذا لأنه في الفترة المبكرة من البناء أخرج أحد المثقفين كتاباً تطرق فيه لمقارنة تعالج الموضوع كاملاً. وفي هذا الكتاب حاول المؤلف إثبات أن برج بابل فشل في الوصول لهدفه ليس للأسباب التي قُـدمت بدون استثناء ، أو لأنه في سياق الأسباب المعترف بها لم يتضمن أهمها كلها. وكانت براهينه مستمدة ليس فقط من التقارير والوثائق المكتوبة ، بل أنه أجرى بحوثاً ميدانية فاكتشف أن البرج  قد سقط ، وكان من المحتم أن يسقط ، نظراً لهشاشة أساسه. وفي ما يتصل بهذا فإن عصرنا على كل حال متفوق تـفوقـاً عظيماً على العصر القديم، وتقريباً فإن  كل رجل متعلم في عصرنا هوفي نفس الوقت  بناءًا محترفًا معصومًا في ما يخص وضع الأساسات. وعلى كل حال فإن هذا لم يكن ما يسعى مثقفنا  للبرهنة عليه ، بل أن ما كان يؤكده بالحجة، هو أن السور العظيم فقط هو الذي يمكن أن يزود ، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، الأساس المأمون لبرج بابل الجديد. إذن السور أولاً ثم البرج بعده. ولذا كان كتاب مثقفنا هذا في يد كل إنسان في ذلك الوقت، ولكنني اعترف أنني حتى يومنا هذا لم استطع أن أرى كيف تصور الكاتبُ ذلك البرجَ. كيف يمكن  للسور الذي لم يشكل حتى ولو دائرة ، بل ربع أو نصف دائرة، كيف إذن يمكن له أن يزود برجاً بالأساسات. من الواضح أن هذا غير ممكن إلاّ إذا قُـصد بذلك تحميله معنىً روحياً. وإذا كانت الحالة هي هذه فِلم إذن ُيْنشأ هذا السور المادي الملموس في كل الأحوال والذي كان ثمرة عمل العديد من البشر بطول حياتهم؟ ولماذا ، أيضاً، كانت هناك في الكتاب مخططات للبرج، بالرغم من أنه يجب الإعتراف هنا بأنها كانت مبهمة، ومقترحات مفصلة لتعبئة طاقات الشعب من أجل هذا العمل الجديد، الهائل.

 

كانت هناك في ذلك العصـر أفكار جامحة في أذهان الناس – ولم يكن كتاب مثـقـفنا هذا سوى  مثال لأحداها- ربما وبكل بساطة لأن الناس كانوا يريدون ضم قواهم لأقصى ما في استطاعتهم من مدى لإنجاز هدف فريد. إن الطبيعة الإنسانية، المتغيره جوهرياً وغير المستـقرة  كالغبار تماما،ً لا يمكنها أن تحتمل الكبح ، فإن ألزمت نفسها فإنها سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاقها بجنون بل وتمزق كل شئ إرباً، السور والوثاق وحتى ذاتها.

 

وهناك احتمال أن ذات هذه الإعتبارات والتي كانت تعمل ضد بناء السور على الإطلاق لم تكن غائـبة من حسبان القيادة العليا عند الأخذ بنظام البناء المتقطع ونحن – وعندما أقول نحن فإنني أتحدث باسم الكثيرين من الناس- نحن أنفسنا لم نكن نعلم حتى أنعمنا النظر في مراسيم القيادة العليا واكتشفنا أنه بدون هذه القيادة لم يكن ليكفي ما تعلمناه من كتبنا أو حتى من إدراكنا الإنساني لإنجاز المهمات المتواضعة التي أنيطت بنا في إطار الكل العظيم.

  وفي مكتب القيادة –  الذي لا يعلم أحد ممن سألتهم في ذلك الوقت أوالآن أين يكون أو حتى من يجلس فيه – في ذلك المكتب من الممكن للواحد منا أن يثــق أن كل الرغبات الإنسانية  تـتعاقب في دائرة، بينما تـتعاقب الأهداف والإنجازات في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذه تنعكس العوالم الإلهية الرائعة وتسقط على أيدي القادة  و هم يتـقصون مخططاتهم. ومن هنا فإن المراقب الفطن لا بد وأن يعتقد أن القيادة، إن كانت تريد ذلك بحق، فإنه كان بإمكانها التغلب على الصعوبات التي حالت دون الأخذ بنظام البناء المستمر.  وعليه فإنه لم يبقى إذن سوى الوصول إلى نتيجة تذهب إلى القول بأن القيادة قد اختارت نظام التشييد المتقطع هذا بصفة متعمدة. ولكن هذا نظام مجهد وبالتالي غير ملائم، مما يجعل النتيجة المتبقية هي أن القيادة إنما أرادت شيئاً غير ملائماً. نتيجة غريبة ! وإنها حقاً كذلك. غير أن هناك الشئ الكثير مما يقال  لدعم صحتها ، وربما كان مناقشة ذلك الآن مأموناً، ولكنه في تلك الأيام كان  الكثيرون من الناس، ومن بينهم أفضلهم، يعيشون وفق حكمة سرية تقول : ” حاول أن تفهم مراسيم القيادة العليا، ولكن لمدىً معين ، وبعدها تجنب الذهاب في تأملاتك إلى أبعد من ذلك. حكمة بليغة، تم تطويرها إلى حكمة أخرى تنص على تجنب المزيد من التأمل ولكن ليس لأن ذلك قد يكون ضاراً ، فليس هناك ما يؤكدأنه قد يكون كذلك، إضافة على أن ما هو ضار أو غير ضار ليس له دخل بالمسألة، وبدلاً من ذلك تأمل النهر في فصل الربيع وهو يرتـفع وينمو ويصبح أكثر قوة  ويغذي بوفرة أكبر، تلك التربة الممتدة على شاطئيه وهو يحافظ على مساره حتى يصل البحر حيث يُسْـتـقبل بترحاب كبير لكونه حليفاً يعتد به. وإلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا. وبعد هذا فإن النهر يفيض على شطـئانه ويفقد مساره وشكله ويبطئ من سرعة تياره ويحاول تجاهل مصيره بخلق بحور صغيره في الأرض الداخلية فيدمر الحقول، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يـبـقي على نفسه طويلاً في توسعه الجديد وعليه بدلاً من ذلك أن يجري عائداً إلى ما بين شاطـئـيه مرة أخرى ، بل وسوف يجف بائـساً في فصل الصيف الذي يلي هذا الفصل. وإلى هنا لا يمكنك متـابعة تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا.

 

والآن  وبالرغم من أن هذه الحكمة كان لها شأن وقوة غير عاديين خلال بناء السور فإنه في ما يتصل بمقالتي هذه ذات علاقة محدودة. إن مبحثي هذا تاريخي محض، ولم تعد موجودة تلك الومضات المضيئة من تلك السحابة الرعدية التي اختفت منذ وقت طويل،  وعليه فإنني ربما أجازف في البحث عن تفسير لنظام البناء المتقطع الذي قد يذهب لأبعد مما كان يرضي الناس في ذلك الوقت، علماً بأن الحدود التي تـَضْرِبها علي طاقتي  في التفكير ضيقة بما فيه الكفاية بينما اتساع الأرض المطلوب تجاوزها غير محدود.

 

ضد من كان السور العظيم يقف سداً؟  ضد شعوب الشمال.  إنني من جنوب شرق الصين، ولا يوجد هناك شعب شمالي يهددنا. نقرأ عنهم في كتب الأقدمين. والفظائع التي ارتكبوها طبقاً لطبائعهم تجعلنا نتـنهد في تعريشاتنا الهادئة. وتمثلات الفنان الصادقة تظهر لنا وجوههم الملعونة بأفواههم الفاغرة ذات الأسنان المدببة،  وعيونهم نصف المغلقة  وكأنها تبحث عن الضحية التي ستمزقها أسنانهم وتلتهمها. وعندما يجمح أطفالنا فإننا نريهم هذه الصور وفي الحال يقذفون بأنفسهم على أذرعنا وعيونهم تـقـطر دموعاً. وأكثر من هذا فإننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن أولئك الشماليين ولم تقع عيوننا عليهم وإن لزمنا قرانا فإننا لن نراهم أبداً حتى لو اتجهوا يقصدوننا على ظهور جيادهم المتوحشه- فالمسافة شاسعه ولن تـتـيح لهم أن يدركوننا فـتـنتهي رحلتهم هباءاً منثوراً.

 

لماذا إذن، إذا كان الأمر كذلك، تركنا مواطننا والنهر بجسوره ، وأمهاتنا ، وأباءنا، وزوجاتنا الدامعات وأطفالنا الذين يحتاجون لعنايتنا وغادرنا إلى مدينة بعيدة للتدرب هناك بينما ترحل أفكارنا لمسافات أبعد حيث السور في الشمال. لماذا؟ سؤال يطرح على القيادة . إن قادتنا يعرفوننا، وهم في خضم همومهم العملاقة يعرفون عنا وعن اهتماماتنا الصغيرة فيستحسنون أو يستهجنون صلوات المساء التي يتـلوها الأب وهو بين أفراد عائلته. وإذا ما سمح لي أن أعبر عن مثل هذه الأفكار بشأن القيادة العليا فإنني سوف أقول أنها قد وُِجدت منذ زمن قديم ولم تعقد إجتماعاً ، فلنقل، مثل تلك الإجتماعات التي يعقدها الماندرين (الموظفون الكبار في امبراطورية الصين القديم:المترجم)  حيث يدعون للإجتماع على عجل لمناقشة حلم جميل حلمه أحدهم ، وينفض الإجتماع بمثل السرعة التي عقد بها لتدق الطبول التي تُـخرِِج الناس من أسِرّتهم في نفس الليلة لتنفيذ ما تقرر حتى لو كان حفلة إضاءه تقام على شرف أحد الآلهة الذي قد يكون أظهر فضلاً  كبيراً  لوجهائهم ، ليسوقهم في اليوم التالي إلى ركن مظلم وهو يهوي بضربات الهراوة عليهم وقبل أن تخمد أضواء الألعاب النارية تقريباً. ومن الأحرى بي أن أقول أن القيادة العليا قد ُوُجِدت منذ الأزل وكذلك قرار بناء السور. غير مدركين هم، شعوب الشمال الغافلون ، الذين يظنون أنهم تسببوا في بناءه  وغير مدرك هو ذلك الإمبراطور الذي ظن أنه أصدر القرار ببناءه.  ولكننا نحن ، بناة السور ندرك أن الأمر لم يكن كذلك ولكننا نمسك عن التفوه به.

 

وفي أثناء ومنذ بدء بناء السور  أشغلت نفسي وحصرياً تقريباً، بدراسة علم الأجناس المقارن – وهناك مسائل محددة يمكن البحث فيها حتى النخاع- وكأنها هي الطريقة الوحيدة – واكتشفت أننا نحن الصينيين نمتلك مؤسسات شعبية وسياسـيـة فريدة في  وضوحها وأخرى فريدة في غموضها. والرغبة في تـقـصي هذه الظواهر، والأخيرة منها بوجه خاص، أثارت وما زالت تثير اهتمامي ، وبناء السور نفسه يتعلق جوهرياً بهذه المسائل.

 

وأما أعظم مؤسـساتنا الأكثر غموضاً فهي الإمبراطورية ذاتها.  ومن الطبيعي أن يكون هناك في بيكنج وفي البلاط الإمبراطوري بعض الوضوح في هذا الموضوع مع أن ذلك أكثر ما يكون وهماً منه حقيقة.  ويزعم أساتذة القانون السياسي والتاريخ في المدارس العليا أنهم يملكون المعرفة الدقيقة عن هذه الأمور وأنهم قادرون على نقل معرفتهم هذه إلى تلامذتهم- ومن المتوقع أنه كلما أخذنا في الهبوط درجات  إلى المدارس الأقل رتبة كلما وجدنا أن يقين الأساتذة  و طلبتهم في علمهم يـتـسرب من بين أيديهم لنرى السطحية تـناطح الجبال علواً حتى تبلغ عنان السماء وتتخذ لها محوراً من المفاهيم القليلة التي غرست في أذهان الناس لقرون….مفاهيم  ، رغم أنها لم تفقد شيئاً من حقيقتها الأزلية فإنه تبقى إلى الأبد غير مرئية في هذا الضباب من الإرتباك. ويبقى إن هذا السؤال بالضبط ، والخاص بالإمبراطورية،  هو في اعتقادي الذي يجب أن يوجه للشعب ليجيب عليه. أوليس الشعب هو السند النهائي للإمبراطورية!؟  وهنا علي أن أعترف بأنني إنما أتحدث عن مسقط رأسي فقط . وباسـتـثـناء آلهة الطـبـيعة  وطـقـوسها على مدى العام بكامله بتـناوباتها الجميله الغنـية ، فإنـنا لا نفكر إلاّ في الإمبـراطـور، ولكن، ليس الإمبراطـور الحالي؛ وكان حرياً بنا أن نفكر فيه لو كنا نعلم من يكون أو لو كنا نعلم أي شيئ محـدد عنه.  هذا حق – وهو الفضول الوحيد الذي يملؤنا-إننا نحاول دائماً الحصول على المعلومات  عن هذا الموضوع ، ولكن ، وحتى لو بدا الأمر غريـباً ، فإنه من المستحيل إكتـشاف أي شيئ سواء من الحُجّاج،  مع أنهم تجولوا  داخل الكثير من  بلادنا، أو حتى من الملاّحين الذين أبحروا ليس على أنهارنا الصغيرة فحسب بل وحتى على الأنهار المقدسة. صحيح أن الواحد منّا  يسمع الكثير جداً ولكن ليس من المستطاع جمع أي شيئ محدد.

 

إن وطننا أرض شاسعة جداً  وليس بمقدور أية أسطورة أن تفي حقها في ذلك بل إن السموات ذاتها بالكاد أن تكون ممتدة عليها ، وبيكينج نفسها ليست إلاّ نقطة عليه والقصر الإمبراطوري أقل من نقطــة .  والإمبراطور بما هو كذلك، أقوى وأعلى سلطـة من بين رتب الدنيا؛ إننا نقبل هذا ولكن الإمبراطور الحالي  رجل مثلنا، ومثلنا أيضا يضطجع علي سرير بحجم مبالغ فيه وربما كان من الممكن أن ذلك السرير جد ضيق وقصير، ومثلنا أيضاً يمد نفسه أحياناً وعندما يكون مرهقاً جداً فإنه يـتـثائب بفمه الرقيق القـَطْـع. ولكن كيف يمكننا أن  نعرف أي شئ عن ذلك – ونحن على بعد آلاف الأميال جنوباً وعند حدود مرتفعات التبت ؟ وإضافة علي ذلك فإن أية أنباء حتى إن  وصلتنا فإنها لن تصل إلاّ متأخرة جداً لدرجة أنه عند وصولها تكون قد أصبحت باليه قبل ذلك بزمن طويل. والإمبراطور محاط دائماً بحاشية من النبلاء  الغامضون الأذكياء الخبـثاء – الضغينة  في قناع من الخدم والأصدقاء- وكان هؤلاء يشكلون وزناً معاكساً للسلطة الإمبراطورية ويعملون دائماً على إطاحة الحاكم من موقعه باستعمال السهام المسمومة. والإمبراطورية خالدة لا تموت ولكن الإمبراطور يترنح ويهوي من عرشه ، نعم، سلالات ملكية بكاملها تغرق في نهاية الأمر وتـلفظ أنفاسها الأخيرة في حشرجة موت واحدة. وأما أفراد الشعب فإنهم لن يعرفوا عن هذه الصراعات والشدائد وكأنهم بلغوا متأخرين ،كغرباء في مدينة، يقفون في نهاية طريق جانبي يخنقه الإزدحام وهم يقضمون بسلام الطعام الذي أتوا به معهم بينما، بعيداً في المقدمة، في ساحة السوق، قلب المدينة، يجري إعدام حاكمهم.

 

وهناك اسطورة تصف هذا الموقف جيداً. وتمضي الأسطورة هكذا: إن الإمبراطور قد أرسل إليك رسالة أيها المواطن المتواضع، أيها الظل الحقير الذي يرتعد فرقاً وهو في أبعد الأبعاد من الشمس الإمبراطورية. إن الإمبراطور قد أرسل وهو على فراش موته رسالة إليك وحدك. أمر الرسول أن يركع بجانب السرير ثم همس بالرسالة له. ولقد كانت الرسالة من الأهمية بمكان أنه أمر الرسول أن يعيد همس الرسالة في أذنه، ثم بإيماءة من رأسه أكد صحتها. نعم ، أمام مشاهدي وفاته المجتمعون-  كانت قدأزيلت كل الجدران العائقة – وعلى الدرجات المفتوحة و الفسيحة العالية وقف في حلقة، أمراء الإمبراطورية العظماء- وأمام كل هؤلاء تسلّم الرسول الرسالة فبدأ رحلته مباشرة . كان رجلاً قوياً لا يكل، يدفع بيده اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرى ، ويشق طريقه بين الحشد ، فإذا  ما قابلته مقاومة ما فإنه يشير إلى صدره حيث يلمع رمز الشمس ، فيُسهّل له بأكثر مما لو كان لرجل آخر. ولكن الحشود كبيرة وأعدادها لا نهاية له.  لو استطاع الوصول للحقول المفتوحة فما كان أسرعه في الطيران، وفي الحال ، وبدون شك كنت لترحب أنت بطرقات قبضته على بابك. ولكنه بدلاً من ذلك فإنه يـبـدد طاقـته بلا طائل…..ما زال يشق طريقه في الغرف الداخلية ..ولن يستطيع أبداً الوصول إلى أخرها …وإذا وُفق في ذلك فلا فائدة ترجى من ذلك. هناك الساحات التي يجب ان يعبرها وبعدها هناك القصر الخارجي الثاني ، ومرة أخرى هناك الدرجات والساحات ثم قصر آخر….وهكذا لآلاف الأعوام . وإذا نجح أخيراً في الإندفاع والنفاذ من أقصى البوابات الخارجية – وهذا لن يحدث أبداً …أبداً- فإن العاصمه الإمبراطورية سوف تبـسط نفسها أمامه… مركز العالم محشوة بنفاياتها لدرجة الإنفجار ولا أحد يسـتطيع شق طريقه من هنا حتى لو كان يحمل رسالة من رجل ميت.

 

وهكذا، وبمثل هذا القنوط والرجاء، يتعلق شعبنا بالإمبراطور. إن شعبنا لا يعرف أي إمبراطور يحكمه وهناك شكوك حتى في ما يخص اسم الأسرة الملكية. وفي المدرسة يُدرّس الكثير عن هذه الأسرات مع تواريخ تعاقبها ولكن الشك الشامل المحيط بهذه المسألة كبير جداً بحيث يجر كثيرين من المثـقـفين للخوض فيه. وفي قريتنا يظن في الأباطره الذين ماتوا منذ زمن طويل وكانهم ما زالوا منصبين على عروشهم حتى أن أحد الذين لم يعودوا أحياء إلا في الأغاني قُـرِأ له مؤخراً بلاغ من  على المذبح بواسطة أحد الكهنة. معارك قديمة أصبحت تاريخاً منذ زمن طويل هي جديدة في حسباننا ورُب جار لأحدهم، أخذ بعدها يعدو  والبهجة تعلو وجهه، لينقل تلك الأخبار. وأزواج الإمبراطور المدللات المتعجرفات يـغويهن أفراد الحاشيه الماكرون ويلهبهن الجشع وتـسيطر عليهن شهواتهن الجامحة فيرتكبن رذائلهن مرة بعد المرة. وكلما أوغلن في الزمن كلما كانت الألوان التي يطوين فيه أعمالهن أكثر توهجاً ، وبصرخة جزع عالية تـسمع قريتنا في نهاية الأمر كيف أن إمبراطورة ما شربت دماء زوجها في فصل جفاف طويل قبل آلآف السنين.

 

هكذا إذن يتعامل أفراد شعبنا مع الأباطرة الراحلين، ويخلطون بين من يحكم الآن وأولئك الذين رحلوا.  وإذا حدث مرة، مرة واحدة في حياة رجل ما، أن أتى أحد رسميي الإمبراطورية أثناء جولة له في الأقاليم وتصادف أن نزل في قريـتـنا ثم أذاع بعض البلاغات باسم الدولة ،وفحص قوائم الضرائب ، وفتش مدارس الأطفال، وسأل الكاهن عن أعمالنا وشؤننا ، وبعد ذلك وقبل أن يصعد على كرسي محفته فإنه يلخص انطباعاته ويسهب في النصح على القرية المحتشدة أمامه، ثم تمر ابتـسامة على كل وجه ، ويختلسون النظرات فيما بينهم، وينحنون على أطفالهم حتى يتجنبوا انتباهة الموظف الإمبراطوري لهم، ثم يأخذون في التـفكير، ويسألون أنفسهم لماذا يتكلم عن رجل ميت هكذا وكأنه ما زال حياً؟. إن عاهله الذي يتحدث عنه قد مات منذ زمن طويل والأسرة قد امحت وبادت ولا بد أن هذا الموظف الرسمي يهزء بنا، ولكننا سوف نعالج هذا وكأننا لم نـتـنـبه له حتى لا نكدره ، ولكنه لن يكون لنا طاعة إلا لحاكمنا الحالي، لأن فعل  خلاف ذلك جريمة.  

 

ومن خلف محفة الموظف الرسمي المغادرة، يقوم بجبروته كحاكم للقرية ، رمز يُـبـجّـل عَرَضاً، يقوم من جرة حفظ رماد الموتى التي تـفـتـتت وأصبحت غباراً.

وبالمثل فإن شعبنا قليل التأثر بالثورات الداخلية والحروب المعاصرة ،  وإنني لأتذكر تلك الحادثة في صباي عندما اندلعت الثورة في الإقليم المجاورلنا- مع أنه بعيد عنا أيضاً بشكل ما. لم أعد أتذكر ما الذي تسـبب في تلك الثورة، ولم يعد ذلك الآن مهماً . فمسـبـبات الثورة موجودة هناك في أي وقت والناس هناك قابلون للإثارة. وعلى أية حال وفي يوم من الأيام جاء متسول إلى دار أبي وهو يحمل معه ورقة نشرها الثوار حين مروره بذلك الإقليم . ولقد تصادف أن كان ذلك اليوم يوم عيد وكانت غرف منزلنا مكتظة بالضـيوف فأخذ القسـيس الذي  كان يتوسط الجمع  بدراسة الورقة، وفجأة أخذ الكل في الضحك وفي خضم هذا الإرتباك تمزقت الورقة وطُرد المتسول، الذي كان قد أخذ، على كل  حال ، ما يكفيه من الصدقات قبل ذلك ، تلاحقه الضربات. وتفرق الضـيوف للإسـتـمتاع بذلك اليوم الجميل. لماذا؟ لقد كانت لهجة  ذلك الإقليم المجاور تختلف عن لهجتنا في بعض مظاهرها الجوهرية وهذا الإختلاف يحدث أيضاً في جزء معين من اسلوب كتابة الكلمات بما كان يمثل لدينا مظهراً عتيقاً  ، فلم يكد القسيس يكمل قراءة صفحتين فقط حتى كنا قد توصلنا لقرارنا. إن التاريخ القديم قدّم خبر أن الأحزان القديمة قد بَرُأت منذ زمن طويل. ومع أن بشاعة الحياة – أو هكذا يبدو لي عند التذكر- في الوقت الحاضر قدمت لنا كلمات ذلك المتسول بشكل لا يمكن نـقـضه، فإننا أخذنا نضحك ونهز رؤوسنا ثم رفضنا مواصلة الإصغاء. إن شعبنا مصاب بهاجس نفي الحاضر.

 

وإذا كان هناك من يسـتـنـتج أنه في الحقيقة ليس لدينا إمبراطور، فإنه لن يكون بعيداً عن إصابة الحقيقة. ومرة تلو الأخرى فإنه يجب تكرار:  أنه ربما لا يوجد هناك شعب أكثر ولاءاً للإمبراطور من شعبنا في الجنوب. ولكن الإمبراطور لم يستـمد الفائده من ولائنا لصالحه. وحقاً، فإن التـنين المقدس  يقف على ذلك العمود الصغير في أطراف قريـتـنا  وهومنذ بداية ذاكرة الإنسان  يزفر أنفاسه النارية من في اتجاه بيكينج رمزاً للولاء- ولكن بـيكينج  ذاتها أكثر غربة للناس في قريتـنا  من العالم الآخر. هل يعـقـل أن تكون هناك قرية تصطف بيوتها جنباً بجنب وتغطي مساحات تعادل كل الحقول التي يراها أحدنا من فوق تلالنا ولمسافات أبعد كثيرا .  وهل يمكن أن يكون هناك أناس مكدسون في هذه البـيوت وبينها ليلاً ونهاراً. ؟ إننا نجد تصوير ذلك أكثر عسراً من تصوير أن بيكينج وإمبراطورها كائن واحد، قل، سحابة تمر تحت الشمس على مدار الدهور.

 

والآن فإن اعتـناق مثل هذه الآراء إجمالاً إنما هو فوز بحياة حرة وغير مخـتـنـقه بشكل عام، وهي بأي حال من الأحوال ليست لا أخلاقية. ولم أكد  أجد في رحلاتي مثل هذه الأخلاقيات النقية التي تـتـمتع بها قريتي ومسقط رأسي مع أنها لم تتعرض لأي قانون عصري ولا تـنـكب إلأ على المواعظ  والتحذيرات التي تصل إلينا من أقدم العصور.

 

إنني أتجنب وأحذر التعميم فلا أؤكد أن الحال هي كذلك في العشرة آلاف قرية في إقليمنا وأقل من ذلك تأكيداً هو مايخص كل الخمسمائة إقليم في الصين. ومع ذلك فإنه ربما كان علي المجازفة بالقول بناءاَ على كل الذي كتب عن هذا الموضوع وقرأته، وبناءاً على ملاحظاتي أقول أن بناء السور خاصة بما أتاحه من وفرة في المادة الإنسانية قد قدمت سانحة لإنسان يتمتع بالمعقولية  لمسح وتقصي روح كل الأقاليم – وبناءاً على كل ذلك يمكنني أن أجازف وأؤكدأن الموقف السائد تجاه الإمبراطور يُظهر شيئاً متـناسقاً وشاملاً شمولاً أساسياً مع ذلك السائد في قريتـنا  .  وهنا لا أريد أن أصور هذا الموقف وكأنه فضيلة . وعلى العكس من ذلك فإنني أرى أن مسؤلية ذلك تقع على عاتق أقدم إمبراطورية على وجه الأرض وهي التي لم تنجح بعد في تطوير، أوأهملت تطوير، مؤسـسة الإمبراطورية بحيث تكتـسب دقة تـتـيح لها العمل والإمتداد مباشرة وبدون توقف حتى أقصى حدود الأرض ، وعلى كل حال هناك أيضاً شيئ من الضـعف في العقيدة  والقدرة على التخيل عند الشعب مما يمنعهم من انـتـشال الإمبراطورية من وهدة الركود في بيكينج وضمها إلى صـدورهم بكل حقائق حياتها الواضحة،  وهي لا تريد شيئاً أفضل من تلك اللمسة  والتي من بعدها تقضي أجلها.  وهكذا إذن فإن هذا الموقف ليس من الفضيلة في شيئ . والأكثر من هذا جدارة بالملاحظة هو أن هذا الضعف كان يجب أن يبدو وكأنه أحد المؤثرات العظمى التي توحد  شعبنا،  وحقاً، فإن الواحد منا إن أراد أن يذهب هذا المذهب ويعبرعنه  لقال أن هذا هو الأرضيه التي نعيش في كنفها . وإذا ما تهيئنا لتعيين عيب أساسي هنا فإن ذلك يعني ليس ضمائرنا فحسب ولكن ما هو أكثر سوءاً وأعني بذلك إرتعاش أقدامنا. ولهذا السـبـب فإنني لن أمضي أبعد من ذلك في هذه المرحلة من بحثي في هذه المـسـألة في هذا الوقت.

 

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

“حلم ساعة من الزمن”

“حلم ساعة من الزمن

كيت شوبان

same 

ترجمة : دلال الرمضان

 

 

نظراً لكون السيدة (ميلارد) كانت تعاني من اعتلال في القلب، فقد حرصوا على إخبارها بنبأ وفاة زوجها ببالغ اللطف. حيث تولت شقيقتها( جوزفين) تلك المهمة، إذ نقلت لها الخبر بعبارات متقطعة و تلميحات غامضة باحت بنصف ما تخفيه. أما (ريتشارد) صديق زوجها، فقد كان إلى جانبها أيضاً. وهو أول من تلقى نبأ الوفاة، إذ كان جالساً في مكتب الصحيفة عندما وردهم نبأ كارثة السكة الحديدية، حيث تصدر اسم (برنتلي ميلارد)  قائمة القتلى.

انتظر لبعض الوقت كي يتأكد من صحة الخبر، حتى وصلته برقية أخرى تؤكد ذلك. ثم سارع إلى منزل صديقه ليسبق أي أحد آخر يمكن أن ينقل هذا الخبر السيء بأقل قدر من الحرص و المراعاة لمشاعر الزوجة.

لم يكن وقع الخبر عليها كحاله مع غيرها من النساء اللاتي يعتريهن عجز تام عن تقبل أخبار كهذه. فقد انفجرت بالبكاء على الفور، ثم ارتمت بين ذراعي أختها دون سابق إنذار. وعندما انقضت عاصفة الحزن، سارعت بالذهاب إلى غرفتها بمفردها. ولم تكن ترغب بأن يتبعها أحد.

قبالة النافذة المفتوحة، كان هنالك كرسي مريح وفسيح، كانت قد غاصت فيه وهوت من فرط الإنهاك الذي استنزف جسدها، وبدا أنه امتد حتى وصل إلى روحها. كان بوسعها رؤية قمم الأشجار التي ترتجف معلنة استقبال الربيع الجديد في الساحة الممتدة أمام بيتها، ونسمات المطر العذبة تملأ الأجواء. أما في الشارع، فقد كان هنالك بائع متجول ينادي على بضاعته.

بالإضافة إلى التقاطها لصوت خافت لأنغام أغنية يرددها أحدهم من بعيد. ناهيك عن عدد لا حصر له من عصافير الدوري التي تغرد على حواف الأسطح.

بدت السماء في الجهة الغربية المقابلة لنافذتهاكبرك زرقاء مبعثرة بين  الغيوم التي تتلاقى و تتكدس فوق بعضها البعض. لقد جلست مسندة رأسها على متكأ الكرسي دون حراك، باستثناء شهقة خرجت من حنجرتها وهزتها كما يهتز طفل صغير بكى حتى غفا و استمر بالتنهد حتى في أحلامه.

 

لقد كانت شابة ذات ملامح هادئة ووجه جميل، تنم خطوطه عن قدرة على ضبط النفس وبعض  القوة. بيد أنه لم يكن في عينيها، الآن، سوى نظرة فاترة تحدق باتجاه إحدى تلك البرك الزرقاء في السماء. لم تكن مجرد نظرة خاطفة، بل كانت دلالة على إرجاء التفكير لبعض الوقت.

ثمة شيء ما آت إليها، وهي تترقبه بوجل شديد. ترى، ما هو هذا الشيء؟

لم تكن تعلم ماهيته ، فقد كان شيئاً رقيقاً و مراوغاً. لذا، تصعب تسميته. بيد أنها شعرت به يتسلل من السماء، متجهاً نحوها عبر الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الهواء.

ها قد بدأ صدرها يعلو ويهبط في اضطراب واضح. وها قد بدأت تدرك ماهية ذلك الشيء الذي يقترب ليتملكها. لقد كانت تحاول إبعاده عنها بإرادة واهنة، تماماً كيديها البيضاوين النحيلتين. وعندما أطلقت العنان لنفسها، هربت همسة صغيرة من بين شفتيها المنفرجتين قليلاً. لقد كررت العبارة بصوت خافت مرة تلو الأخرى.

حرة! حرة! حرة!

وسرعان ما تلاشت تلك النظرة الفارغة، و تلك المحفوفة بالرعب، من عينيها اللتين باتتا متقدتان و مشرقتان، ليتسارع نبضها وتحيل الدماء المتدفقة كل خلية في جسدها دافئة و مسترخية.

لم تتوقف عن التساؤل فيما إذا كان ذلك الشيء الذي استحوذ عليها هو مرح وحشي أم لا. لقد تمكن ذلك الشعور الجلي الرفيع من جعلها تتجاهل ذلك الأمر لعدم أهميته.

هي تدري أنها ستبكي مجدداً عندما ترى يدي زوجها الحنونتين الناعمتين يلفهما الموت، وذلك الوجه الذي لم يرمقها إلا بنظرات الحب، بات مزرقّاً و شاحباً وخال من الحياة.

بيد أنها رأت خلف ذلك المشهد القاتم، موكباً طويلاً من السنوات المقبلة التي تخصها وحدها، وها هي تفتح ذراعيها أمام تلك السنوات مرحبة بها. لن يكون هنالك من ستعيش لأجله في الايام المقبلة. ستحيا لأجل نفسها فقط.

لن يكون هناك أحد، مهما بلغ من قوة الإرادة، قادر على إخضاعها بذلك الإصرار الأعمى الذي يظن الرجال و النساء أن من حقهم أن يفرضوا من خلاله رغباتهم الخاصة على شريك حياتهم. و سواء كان ذلك الفعل بنية طيبة أم سيئة، فإنها في لحظة التنوير الخاطفة تلك،  لا تراه بعيداً عن مسمى الجريمة.

لقد أحبت زوجها في بعض الأحيان، كما لم تكن تطيقه في أحايين أخر. فما الذي يعينه ذلك؟

وما هي قيمة الحب، ذلك اللغز المحير، أمام امتلاك هذا القدر من تأكيد الذات الذي أدركت، للتو، أنه الدافع الأقوى للوجود.

لقد استمرت تهمس قائلة:

_ حرة! جسداً و روحاً!

في غضون ذلك، كانت (جوزفين) راكعة أمام باب الغرفة المغلق، وهي تقرب شفتيها من ثقب الباب متوسلة للدخول :

_افتحي الباب يا لويس. أتوسل إليكِ! افتحي الباب ! ستؤذين نفسك. ما الذي تفعلينه يا لويس؟ بحق السماء افتحي الباب. أرجوك!

لترد لويس:

_ اتركيني! لن أؤذي نفسي أبداً.

وكأنها كانت تحتسي إكسير الحياة عبر تلك النافذة المفتوحة.

لقد تمرد خيالها و أخذ يجوب أيامها المرتقبة. أيام الربيع، أيام الصيف، و كل الأيام  التي ستغدو ملكاً لها وحدها. دعت ربها أن يطيل في عمرها، وهي التي اقشعرت بالأمس من فكرة الحياة الطويلة.

وبعد إلحاح طويل من شقيقتها، نهضت وفتحت لها الباب. كانت هنالك نظرة انتصار محموم في عينيها، كما مشت بعلياء، عن غير قصد منها، كما تمشي إلهة النصر. إذ أمسكت بخصر شقيقتها  وأخذتا تنزلان الدرج. حيث كان (ريتشارد) ينتظرهما في الأسفل.

 

وبعدها، قام أحدهم بفتح الباب الخارجي مستخدماً المفتاح. لقد كان (برنتلي ميلارد) هو من دخل إلى المنزل، وقد بدا عليه إعياء السفر. كان يحمل حقيبته الصغيرة ومظلته بكل هدوء. يبدو أنه كان بعيداً عن مكان وقوع الحادث، كما بدا أنه لم يسمع بحدوثه البتة. لقد وقف بذهول امام صرخة ( جوزفين) الثاقبة، و حركة صديقه ( ريتشارد) السريعة ليحجبه عن مرأى زوجته.

بيد أنه تأخر كثيراً.

عندما جاء الأطباء لفحصها قالوا بأنها توفيت بسبب اعتلال في القلب. بسبب الفرح القاتل!

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

إعترافات قرد شيناغاوا

إعترافات قرد شيناغاوا

القاص / هاروكي موراكامي

ترجمة / يحيى الشريف

تحرير وتدقيق : سهام  سايح

savehurki

 

صادفتُ قردًا مسنًّا عند نُزل ضئيل الحجم ذو طراز ياباني في مدينة ذات ينابيع ساخنة  بمحافظة غونما قبل حوالي خمسة أعوام. كان نُزلاً ريفيًا بسيطًا  أو؛ بدرجة أكبر آيلاً للسقوط تقريبًا، صامدًا بشق الأنفس، حيث أمضيت هناك ليلة فحسب.

كنتُ مسافرًا، فأينما قادتني روحي ذهبت، وصلت الساعة السابعة مساءً عند المدينة ذات الينابيع الساخنة و نزلت من القطار. كان الخريف على وشك أن ينقضي، لم تبرح الشمس مكانها لبرهة من الزمن قبل أن تغيب، إذ غَشّى المكان عتمة زرقاء داكنة خاصة في المناطق الجبلية.  هبّت ريحٍ باردة و عاتية قادمة من قمم ٍ جبلية، تحمل أوراقًا  بحجم قبضة اليد يملأها صوت الخشخشة  على طول الشارع.

سرتُ وقد تجاوزت وسط المدينة بحثًا عن مكان لأمكث فيه، ولكن لا تستقبل النزل اللائقة الضيوف بعد ساعات العشاء. توقفت عند خمس أو ستة أماكن، ولكن جميعها ردّتني خائبًا. أخيرًا، صادفت نُزلاً استجاب لطلبي في منطقة مهجورة خارج المدينة. كان مكانًا موحشًا، وآيلاً للسقوط، فندقٌ رخيصٌ تماماً. من المؤكد أنّه شهد مرور الكثير من السنوات، لم تكن ثمّة جاذبية غريبة تتوقعها في نُزل قديم. تتناثر بها المعدات هنا وهناك دون ترتيب.

رتبت المعدات كيفما اتفقت لكنها لم تنسجم مع بقية المكان. انتابتني الشكوك ما إذا كانت ستصمد لهزة أرضية قادمة، بمقدوري أن أتمنى فحسب بأن لا يضرب زلزال حين أكون هناك.

لا يُقدِّم النُزل وجبة العشاء، ولكن اشتمل على وجبة  الإفطار ، فسعر الليلة الواحدة رخيص بشكل لا يُصدق . عند مدخل مكتب الاستقبال البسيط، يقبع شيخ أصلع بالكامل – يخلو وجهه من الحاجبين أيضًا- دفعت له ثمن ليلة واحدة مُقدمًا. افتقار وجه الشيخ  من الحاجبين يبرز كبر عينيه ولمعانًا غريبًا بشكل صارخ.  ثمّة قطة  ترقد على وسادة في الأرض بجانبه، كبيرة و بُنية اللون. مسنّة مثله، يبدو أنها تغط في نوم عميق. لا بّد أن ثمّة  شيئا ما غريبا بشأن أنفها، فهي تشخر بصوت أعلى من أي قطً سمعته على الإطلاق. أحيانًا تفقد إيقاع شخيرها بشكل متقطع. بدا كل شيء في النُزل قديمًا ويتهاوى.

 

الغرفة التي عُرضت عليّ  ضيقة ، مثل منطقة التخزين حيث يحتفظ النزيل بفراش فوتون الياباني؛ يظهر ضوء السقف خافتاً ، و تصرّ الأرضية تحت الحصير الياباني ما ينذر بالسوء بكل خطوة. غير أنّه فات الأوان على أن أهتم  بالتفاصيل. قلت لنفسي يتعيّن عليّ أن أكون سعيدًا أن أنال سقفا يؤوي رأسي وفوتونا للنوم عليه.

وضعتُ على الأرض قطعة واحدة من أمتعتي، حقيبة كتف كبيرة، وفكرت في رحلتي إلى المدينة ( لم تكن الغرفة  المنشودة  تمامًا و التي تمنيت الاسترخاء فيها). ذهبت إلى متجر مجاور لبيع شعيرية سوبا اليابانية وتناولت عشاءً بسيطًا . ذلك العشاء أو أبقى بدونها ، حين لم تكن مطاعم أخرى مفتوحة. لديّ جعة ، وبعض الوجبات الخفيفة، و قليل من شعيرية سوبا الساخنة.  كانت سوبا عادية ـ وشوربة فاترة ، ولكن أقولها مجددًا ، لم أكن أظهر استيائي بشأنها. تغلبت على فكرة الذهاب إلى الفراش  بمعدة فارغة . بعد أن غادرت متجر سوبا، اعتقدت بأنّني أرغب بشراء بعض الوجبات الخفيفة وقارورة ويسكي صغيرة، ولكن لم يكن بوسعي أن أجد  متجرًا بساعات عمل متواصلة . كان ذلك بعد الساعة الثامنة مساءً، و الأماكن الوحيدة التي وجدتها  مفتوحة هي مراكز ألعاب الرماية  في المدينة ذات الينابيع الساخنة. لذا سرت عائدًا إلى النُزل، ارتديت رداء إياكاتا، وذهبت إلى الطابق السفلي للاستحمام.

مقارنة مع مبنى رثٍ وبالي بمرافقه، بدا حوض الينابيع الساخنة في النُزل رائعًا و مدهشًا، وبخار الماء كثيفًا يميل للخضرة، ورائحة الكبريت حادة أكثر من أي شيء جربته على الإطلاق، فغمرتُ نفسي هناك، وأدفأتُها حدّ النخاع.  لم يكن ثمّة مستحمون آخرون ( لم تكن لدي فكرة إذا كان ثمّة  ضيوفٌ في النُزل)، بات بمقدوري أن أستمتع  لمدة أطول في الحوض بروية .شعرتُ بعد برهة بالدوار وخرجت كي ألتقط أنفاسي، ثم عدتُ إلى حوض الاستحمام. ربّما هذا النُزل المتداعي خيارٌ جيّد بعد كل ذلك، كما اعتقدتْ. بلا شك إنه أكثر إحساسًا بالأمان من الاستحمام مع بعض السيّاح المزعجين الذين تجدهم في النُزل الكبرى.

غمرتُ نفسي في الحوض للمرة الثالثة بينما انزلق القرد ودخل بصخب  من الباب الأمامي المفتوح . ‘‘المعذرة’’ قالها بصوتٍ منخفض. تطلّب مني الأمر ثواني كي أستوعب بأنّه قرد. غمرتني كلُّ تلك المياه الساخنة الكثيفة في حالة من الذهول، ولم أتوقع على الإطلاق بأنّني أسمع قردًا يتحدث، لذا لم يكن بإمكاني  أن أبني صلة في الحال  بين ما كنت أشاهده و حقيقة مفادها أن ذلك قرد حقيقي.  أغلق القرد الباب خلفه، وعدّل الدلاء المبعثرة و وضع ميزان الحرارة في الحوض لمعاينة درجة حرارته. حدّق بعينيه باهتمام في عقرب الميزان، وضاقت عيناه على اتساع العالم مثلما يعزل عالم البكتيريا  بعض السلالات الجديدة المسببة للمرض .

سألني القرد ‘‘ كيف وجدت الاستحمام في الحوض؟’’

 

قلت أنّه رائع للغاية . شكرًا لك.’’  ترددت أصداء صوتي بكثافة ، برفق، عند البخار. بدت خرافية تقريبًا، ليس مثل صوتي الذي أعرفه ولكن، نوعًا ما ، مثل صدى الصوت  الآتي من الماضي من سحيق الغابة . كان ذلك الصدى … توقف لحظة.   ماذا يفعل قرد هنا؟ ولماذا تحدث بلغتي؟.

سألني القرد ‘‘هل أقوم بدَعك ظهرك؟ ’’ ، ما زال صوته منخفضاً . كان صوته واضحاً وجذاباً  جهيراً كما موسيقى  دوو- ووب. ليس على الإطلاق ما تتوقعه. غير أن لا شيء غريباً بشأن صوته: لو أغلقت عينيك واستمعت، سوف تعتقد بأنّه شخص عادي يتحدث.

أجبتُ ‘‘ نعم ، شكراً جزيلاً.’’ لم يكن كما لو أنني أجلس هناك  متمنياً بأن يأتي شخص ما و يقوم بدَعَك ظهري، ولكن كنت أخشى إذا رفضته أن يعتقد بأنّني أعارض أن يقوم قرد بذلك. اعتبرت  ذلك عرضًا ودياً من جانبه، وبالتأكيد لم أرغب أن أؤذي مشاعره. لذا نهضت خارج الحوض ببطء وألقيت بنفسي على المنصة الخشبية الصغيرة،  ووجهت ظهري للقرد.

لم يكن القرد يرتدي أية ملابس. والتي بالطبع  هو الحال عادة  بالنسبة للقرد، لذا لم أصدم بغرابة ما يحدث. بدا مسنًّا تمامًا، لديه الكثير من الشيب في شعره. أتى بمنشفة صغيرة، وقام بدَعَك الصابون عليها، ودغدغ ظهري بيديه الخبيرة ، تدليكٌ جيد.

قام القرد بإبداء رأيه ‘‘ لقد أضحى الطقس باردًا  للغاية هذه الأيام ، أليس كذلك؟’’.

‘‘نعم إنّها كذلك’’.

‘‘ قبل أن يُغطى هذا المكان بالثلج لفترة طويلة، سيتعيّنُ عليهم أن يقوموا بجرف الثلج من السقوف ، ليست مهمة سهلة ، صدقني.’’

قفزت بسؤال بعد توقف وجيز؛ ‘‘ لذا يمكنك أن تتحدث بلغة البشر؟’’.

أجاب القرد بخفة ‘‘ بمقدوري بالفعل .’’ ربّما سُئل عن ذلك كثيرًا . ‘‘ لقد ترعرعت على يد البشر منذ  سنوات عمري الأولى ، وقبل أن أعرف  بأنني أجيد التحدث. عشت لفترة طويلة في طوكيو، في حيّ شيناغاوا .’’

‘‘في أي جزء من حي شيناغاوا؟’’

‘‘ حول غوتنياما.’’

‘‘ إنّها منطقة رائعة’’.

 

نعم، كما تعلم، إنّه مكان ساحر للعيش فيه. يجاور حديقة غوتنياما، فقد استمتعت بالمنظر الطبيعي هناك.’’

عمّ  السكون بعد حوارنا عند هذه النقطة. واصل القرد دَعَك ظهري بثبات (كان شعورًا رائعًا)، فحاولت طوال الوقت  أن أفكر بالأمر بعقلانية. قرد ترعرع في شيناغاوا؟ و في حديقة غوتنياما؟ كما يتحدث لغة بشرية بطلاقة ؟  كيف أمكن ذلك ؟ يا إلهي ، فهذا قرد. وليس شيئاً آخر.

قلت ‘‘ أسكن في  ميناتو- كو.’’ قول لا معنى له جوهريًا.

ردّ القرد بنبرة وديّة ‘‘ إذن ، كنا جيرانًا تقريبًا’’ .

سألت القرد ‘‘ ماذا يفعل الشخص الذي تربيت عنده في شيناغاوا؟‘‘.

سيدي أستاذ جامعي. تخصَّص في  الفيزياء، ثم  شغل كرسياً في جامعة طوكيو غاكوجي.’’

‘‘إذن، مفكر إلى حد كبير.’’

‘‘كان بالتأكيد كذلك، أحب الموسيقى أكثر من أيّ شيء آخر، لاسيّما موسيقى بروكنر و ريتشارد شتراوس. بصنيعهما، قمت بتطوير ولعي إلى هذه الموسيقى بنفسي. استمعت لها طوال الوقت.  يمكنك القول بأنّني حزت على معرفة واسعة دون أن  أدرك ذلك.’’

هل استمتعت  بموسيقى بروكنر؟

‘‘نعم. أجد دومًا سيمفونيته السابعة، لا سيّما الحركة الثالثة رفيعة المستوى.’’

تناغمت مع حديثه ‘‘ أستمع غالبًا إلى سيمفونيته التاسعة.’’ في قول  آخر لا معنى له.

ردّ القرد ‘‘نعم، هذه موسيقى رائعة بحق.’’

‘‘ لذا هل البروفيسور من علمك اللغة؟’’.

‘‘نعم قام بذلك. كان رجلاً عقيماً؛ و ربّما حاول أن يُعوِّض ذلك بتدريبي بصرامة إلى حد ما كلّما كان لديه وقت، فهو صبور للغاية، و يضع الاحترام والانتظام فوق كل شيء، شخص جاد؛ و لديه مقولة مفضلة “إعادة الحقائق الدقيقة هي الطريق إلى الحكمة“. أما زوجته هادئة ، لطيفة و تعاملني دوماً بحنان. إنّهم على وفاق، أتُعتع أن أذكر هذا لشخص ٍغريب، ولكن، صدقني، يمكن أن تكون أنشطتهم الليلية مكثفة للغاية.’’

قلت ‘‘ حقًا.’’

أتمّ القرد دَعَك ظهري أخيراً. قال لي ‘‘ شكراً على سعة صدرك’’ وانحنى برأسه .

قلت له ‘‘ شكرًا لك’’ إنّه لإحساس رائع. لذا ، هل تعمل هنا في هذا النُزل؟’’.

‘‘نعم أعمل هنا. إنّهم كرماء بما يكفي للسماح لي بالعمل هنا. لا توظف الفنادق الكبيرة قردا على الإطلاق. غير أن لديهم هنا نقصًا في الأيدي العاملة ، لا يهتمون إذا كنت قرداً أو أيًّا كان . يُدفَع لي الحد الأدنى للأجر  كقرد ، ويدعونني أعمل  فحسب أينما يمكنني البقاء بعيدا عن الأنظار خصوصًا ترتيب منطقة حوض الاستحمام، و التنظيف، أشياء من هذا القبيل.سيصاب معظم الضيوف بالصدمة  لو قدَّم لهم قرد الشاي  وهكذا . العمل في المطبخ ممنوع،جداً ، سأواجه مشكلات مع قانون الغذاء والصحة العامة.’’

سألته ‘‘ هل عملت هنا لمدة طويلة ؟’’.

‘‘ لقد مضت حوالي ثلاثة أعوام.’’

‘‘  ومع هذا  قد تكون خضت الكثير  قبل  أن تستقر هنا ؟’’.

أومأ القرد بسرعة ‘‘ صحيح تماماً .’’

تعتعت في الكلام، ولكن  انسل مني كما ينسل السيف من غمده فسألته  ‘‘ إذا لم تمانع ، هل يمكنك أن تسهب أكثر عن ماضيك؟ ’’.

فكر القرد في هذا السؤال، ثم قال ‘‘ نعم ، لا بأس بذلك .ربّما لا تكون محط اهتمام كما تتوقع، لكنني  خارج الدوام عند الساعة العاشرة  و يمكنني أن أمرّ على غرفتك بعد ذلك. هل يناسبك ذلك ؟ ’’

أجبته ‘‘بالتأكيد’’. ‘‘ سأكون ممتناً لو يمكنك أن تجلب معك بعض الجعة.’’

‘‘ عُلم. بعض الجعة الباردة.  هل موافق على  نبيذ سابورو ؟’’

‘‘ لا بأس بذلك. إذًا ، هل تشرب الجعة؟’’

‘‘ نعم ، قليلاً.’’

 

‘‘ إذن أرجو أن  تجلب معك قارورتين كبيرتين.’’

‘‘ بالطبع. إذا فهمتك بشكل صحيح، هل ستمكث في جناح أرايزو، في الطابق الثاني؟ ’’.

قلت له ‘‘ هذا صحيح.’’

قال القرد ‘‘بالرغم أنّه غريب بعض الشيء ، ألا تعتقد ذلك؟’’  يضحك القرد قائلاً ‘‘ نُزلٌ عند جبلٍ مع غرفة اسمها أرايزو على شاطئ وعرّ.’ ’’ لم أسمع على الإطلاق بقرد يضحك. إلاّ أنّني أعتقد بأن القرود تضحك، و حتى تبكي، في بعض الأحيان.  لا ينبغي أن يفاجئني الأمر، نظراً لأنّه كان يتحدث’’.

سألته ‘‘ بالمناسبة ، هل لديك اسم؟.’’

‘‘ كلا ، بدون أسماء، بحد ذاتها.إلا أنّ الجميع ينادونني بقرد شيناغاوا.’’

تزحلق القرد لفتح الباب الزجاجي، استدار، و انحنى بأدب، ومن ثمّ أغلق الباب ببطء.

أتى القرد قبل العاشرة بقليل إلى جناح أرايزو ، يحمل صينية مع زجاجتين كبيرتين من الجعة . بالإضافة إلى ذلك، تحتوي الصينية فاتح القارورة، كأسين، ومع بعض الوجبات الخفيفة: عبارة عن حبّار مجفف ومتبّل و كيس من كاكيبي -عبارة عن مقرمشات الأرز  مع الفول السوداني-. وجبات خفيفة نموذجية . يبدو قرداً ذكياً. .

ارتدى القرد بنطالاً رياضاياً رمادياً، و قميصاً سميكاً بأكمام طويلة مطبوع عليها ‘‘ أحبك يا نيويورك’’ ، ربما تعود هذه الملابس لأحد الأطفال الذي لم يعد يرغب بها.

‘‘لم يكن ثمّة منضدة في الغرفة، لذا جلسنا ،جنباً إلى جنب، على مخدات زابوتن، أسندنا ظهورنا إلى الجدار. استخدم القرد فتاحة القارورة لفتح غطاء الجعة وسكب كوبين . تقعقعت أكوابنا معاً بصمت في نخب بسيط.

قال القرد ‘‘ شكراً على الشراب’’ ارتشف الجعة الباردة بسعادة . شربتُ بعض الكؤوس أيضًا. بصدق ، إنّه لشعور غريب كوني جالسا بجانب قرد، وأشاركه الجعة ، إلا أنّني أعتقد أنك اعتدت على ذلك.

ردّ القرد ‘‘ الجعة بعد العمل لا يمكنك تحملها’’  مسح فمه بذراعه المشعرة . ‘‘ بالنسبة للقرد، فرص أن أحظى على جعة مثل هذه قليلة وبعيدة.’’

 

‘‘ هل تعيش هنا في النُزل ؟’’.

‘‘نعم ، ثمّة غرفة في العلّية ، حيث يسمحون لي بالنوم. ثمّة فئران من وقت إلى آخر ، لذا من العسير أن أرتاح هناك، ولكن أنا قرد، إذن عليّ أن أكون شاكراً وممتناً أن أحظى بفراش للنوم عليه وثلاث وجبات في اليوم . ليست جنة أو أي شيء آخر.’’

لقد أنهى القرد كأسه الأول، لذا سكبت له آخر.

قال بأدب ‘‘ ممتن للغاية.’’

سألته ‘‘ هل عشت يوماً ما ليس مع البشر ولكن مع بني جنسك؟ أعني مع قردة آخرين؟’’ هناك العديد من الأشياء أردتُ أن أسأله عنها.

أجاب القرد بوجهٍ متعكر قليلاً  ‘‘ نعم ، عدة مرات.’’ شكلت التجاعيد تلك  بجانب عينيه طيات عميقة. ‘‘ لأسباب متنوعة ، طُردت قسراً ، من شيناغاوا و أخُليت في تاكاساكياما؛ المنطقة الجنوبية التي تشتهر بمنتزه القرود. اعتقدت أول الأمر أنني بوسعي أن أعيش بسلام هناك، ولكن لا تسير الأشياء على هذا النحو. كانت القردة الأخرى رفاقي الأعزاء، لا تفهمني بشكل خاطئ، إلا أنني قد حظيت بتربية أسرة بشرية، بفضل البروفيسور وزوجته، فليس باستطاعتي أن أعبِّر عن مشاعري جيداً إليهم. ولم يكن لدينا سوى القليل من القواسم المشتركة، و لم يكن التواصل سهلاً. قالوا لي ‘  تتحدث بشكل مضحك’، كانوا يسخرون مني ويتنمرون عليّ. تُطلق زناءة* القردة قهقهة عندما ينظرون إليّ. القردة حساسون للغاية حول الاختلافات. وجدوا الطريقة التي أتصرف بها هزلية، وتزعجهم، وتثير غضبهم في بعض الأحيان. أضحى شاقًا علي ّ أن أبقى هناك، لذا في نهاية المطاف خرجت من تلقاء نفسي. بتُ قرداً شاذاً، بعبارات أخرى.’’

‘‘لابّد أنك شعرت بالعزلة والوحدة؟’’.

‘‘ بالتأكيد. لم يقم أحد بحمايتي، ولقد استجديت لأحظى ببعض الطعام بمفردي و لأبقى على قيد الحياة بطريقة ما.و لأنّني لم أحظى بالتواصل مع شخص ما بات أسوأ شيء.  ليس بمقدوري أن أتحدث مع القردة أو البشر. عزلة كهذه  تنفطر لها القلوب.  تمتلئ تاكاساكياما بالبشر الزوار ، ولكن لا يمكنني أن أخوض حواراً مع أي شخص كان أصادفه’’  .

‘‘ولا يمكنك  أن تستمع إلى بروكنر أيضًا.’’

تفوّه قرد شيناغاوا ‘‘ هذا صحيح. ذلك ليس جزءًا من حياتي الآن’’ وشرب بعض كؤوس من الجعة. درست وجهه، مع أن وجهه أحمر منذ البداية ، لم ألحظ  بأنّه بات أكثر احمراراً بسبب بضعة كؤوس من الشراب.  تخيلت بأنّ هذا القرد يمكن أن يتحمّل شرابه. أو ربّما لا يمكنك أن تعرف عبر وجوه القردة بأنّهم في حالة سُكر.

‘‘ أما الشيء الآخر الذي عذبني حقاً هي العلاقات مع الإناث.’’

 

قلت له ‘‘ فهمت.’’ ماذا تعني بأي علاقة مع الإناث—؟’’

‘‘ باختصار، لا أشعر بذرة رغبة جنسية إلى زناءة القردة. حظيت بكثير من الفرص أن أكون معهن، ولكن لم أشعر بلذة وبنفسي على الإطلاق.’’

‘‘ لذا لم تنجذب إلى زناءة القردة ، بالرغم من أنك قرد أيضًا؟’’

‘‘ نعم. ذلك صحيح. إنّه لأمر محرج ، لكن صدقاً، لا يمكنني  أن أحب سوى  إناث البشر.’’

كنت أفرغ بصمت كأس الجعة . فتحتُ كيس الوجبات المقرمشة و أمسكت بحفنة. ‘‘  أعتقد بأن ذلك  من الممكن أن يؤدي إلى بعض المشاكل الحقيقية’’.

‘‘ نعم، مشاكل حقيقة، في الواقع . كوني قرداً، بعد كل شيء، لم يكن ثمّة طريقة يمكنني أن أتوقع بأن تستجيب فيها إناث البشر إلى رغباتي. بل إن هذا يخالف علم الوراثة.’’

انتظرته أن يسهب في الحديث. قام القرد بدَعَك خلف أذنه بشدّة ومضى يتحدث أخيرًا.

‘‘ لذا كان عليّ أن أجد طريقة أخرى لتخليص نفسي من رغباتي التي لم تتحقق.’’

‘‘ماذا تعني ب ‘طريقة أخرى‘ ؟’’.

قطّب القرد وجهه بشدّة. أضحى  وجهه الأحمر أكثر قتامة.

قال القرد ‘‘ ربّما لم تصدقني .’’  ‘‘ من المحتمل أن لا ترغب بتصديقي ، يتعيّن عليّ أن أقول . طفقت أسرق أسماء النساء اللاتي وقعت بغرامهن.’’

‘‘تسرق  أسماءهن؟’’ .

‘‘ صحيح. لست متأكدًا من السبب، ولكن يبدو بأنني ولدت بموهبة خاصة لذلك. لو شعرت بأنني أحببتها، بمقدوري أن أسرق اسم المرأة وجعله خاصًا بي.’’

داهمتني موجة من الارتباك.

 

قلت له ‘‘ لست متأكداً من أنّني فهمت.’’ ‘‘عندما تقول بأنك تسرق أسماء النّاس، هل تعني بأنّهم يفقدون أسمائهم؟’’

‘‘ كلا. لا يفقدون أسمائهم كلياً . أسرق جزءًا من أسمائهم. بينما أخذ ذلك الجزء يفقد الاسم جوهره ، يصبح أخفّ من ذي قبل. مثلما السحب  تغشى الشمس و تصبح ظلالك على الأرض  أكثر شحوباً. قد لا يَعُون بمشاعر الخسارة. فهذا يعتمد على الشخص. قد يكون لديهم إحساس فحسب  بشيءٍ ما بعيداً بعض الشيء  .’’

‘‘ إلاّ أن بعضهم يدرك  ذلك بوضوح ،أليس كذلك؟ ذلك  أن جزءًا من أسمائهم فقُدت؟’’

‘‘ نعم ، بالطبع. يجدون في بعض الأحيان بأنّه ليس بوسعهم أن يتذكروا أسمائهم. فذلك غير مريح تماماً، إنه إزعاج حقيقي ، كما قد تتخيل. قد لا يميزون ماهية أسمائهم. يعانون في بعض الحالات من خلال شيء ما قريب من  أزمة الهوية . هذا خطئي برمته، منذ أن سرقت اسم ذلك الشخص. أشعر بالأسف حيال ذلك. غالباً أشعر بحجم تأنيب الضمير الملقى على عاتقي.  أعرف أن ذلك خطأ،  فمع ذلك لا يمكنني منع نفسي. لا أحاول أن أبرِّر تصرفاتي، ولكن مستويات الدوبامين لدي تجبرني أن أفعل ذلك. كأن ثمّة صوتًا يقول لي ، ‘ مرحباً، افعلها، اسرق الاسم. لا يبدو أنّ الأمر غير قانوني أو أي شيء آخر.’’

شددت يدي إلى الخلف ودرست القرد. دوبامين؟ تحدثتُ أخيراً. ‘‘ تسرق تلك الأسماء لأولئك النساء عن حب أو رغبة جنسية. هل صحيح ما أقوله؟ ’’

‘‘ بالضبط. لا أسرق اسم  أي شخص عشوائياً فحسب.’’

‘‘ كم عدد الأسماء التي سرقتها؟’’

بتعبير جاد، بلغ  القرد مجموع ما وصل إليه بأصابعه . كما حسب، دمدم شيئا ما . نظر إلى الأعلى . ‘‘ سبع أسماء. سرقت أسماء سبعة نساء.’’

هل هذا كثير ، أم لا ؟  من يستطيع أن يقول؟

سألته ‘‘ كيف تفعل ذلك إذن؟  ‘‘ إذا لم تمانع أن تخبرني؟’’

‘‘إنها قوة الإرادة في الغالب . قوة التركيز، والطاقة النفسية. غير أن هذا ليس كافياً، أفتقر إلى شيء ما مكتوب عليه اسم الشخص في الواقع. تعتبر البطاقة الشخصية خيارا مثاليا. رخصة القيادة، بطاقة تعريف الطالب، بطاقة التأمين، أو جواز السفر. شيء من هذا القبيل. ستؤدي الغرض بطاقة الاسم أيضاً . على كل حال، أحتاج إلى أشياء حقيقة  مثل واحدة من تلك . السرقة هي الطريقة الوحيدة عادة. أملك مهارة التسلل إلى غرف الناس بينما يكونون خارج المنزل. أستطلع المكان لشيء ما مع أسمائهم عليها وأخذها.’’

 

‘‘ لذا أنت تستخدم الأغراض التي مكتوب عليها اسم المرأة ، بجانب قوة إرادتك، لسرقة الاسم؟’’

‘‘بالضبط. أحدق في الاسم المكتوب هناك لمدة طويلة، فأركز على عواطفي، يستحوذ اسم الشخص الذي أحبه على انتباهي . تتطلب الكثير من الوقت و الأمر مرهق عقلياً وجسدياً. انغمست فيه كلياً، فأضحى جزء من المرأة جزءًا مني. لم يكن لعاطفتي ورغبتي من متنفس حتى ذلك الوقت، أما الآن باتت مرضية بأمان .’’

‘‘لذا ليس ثمّة شيء  ذا صلة ماديا ؟’’

أومئ القرد بحدة . ‘‘ أعرف بأنني مجرد قرد حقير، ولكنني لا أقوم بأي شيء غير ملائم على الإطلاق. ما أقوم به سوى أن جعل اسم المرأة التي أحبها جزءًا مني- هذا كثير بالنسبة لي-. أتفق بأن هذا التصرف يبدو منحرفاً، ولكني أيضاً أتصرف بنقاء أفلاطوني كلياً. استحوذ على حب كبير للاسم في داخلي ببساطة، وسرية.  كنسيم لطيف يهب على المروج.’’

قلت له  متأثراً ‘‘اممم.’’  ‘‘أعتقد أنه بوسعك أن تدعو بذلك النموذج النهائي للحب الرومانسي.’’

‘‘ أتفق . إلا أنّها نموذج نهائي من الشعور بالوحدة أيضاً. مثل وجهي العملة المعدنية . الطرفان ملتصقان معاً بشدة ولا يمكن فصلهما.’’

توقف حوارنا هنا، أضحينا أنا والقرد في صمت مطبق شربنا الجعة ، وتناولنا الوجبة الخفيفة  كاكيبي و الحبّار المجفف.

سألته ‘‘ هل سرقت اسم أحدهم مؤخراً؟’’

هزّ القرد رأسه. انتزع بعض الشعر الخشن على ذراعه، كما لو يود أن يوقن  بأنه قرد حقيقي بالفعل. ‘‘ كلا ، لم أقم بسرقة اسم مؤخراً. عندما أتيت إلى المدينة ، حسمت أمري  لوضع  الماضي خلفي، ذلك النوع من سوء السلوك. بفضل ذلك،  لقد عثرت روح هذا القرد الضئيل على جرعة من الأمان. تعلّقت بأسماء سبعة نساء في قلبي وأعيش حياة هادئة ومطمئنة. ’’

قلت له ‘‘ أنا سعيد أن أسمع ذلك.’’

‘‘أعلم بأن هذه خطوة جريئة بالنسبة لي، ولكن كنت أتساءل إذا تكون لطيفاً بما يكفي بأن تسمح لي بإبداء رأيي حول موضوع الحب.’’

قلت ‘‘ بالطبع.’’

 

يومض القرد بعينيه عدة مرات. ملوحاً برموش عينيه الكثيفة صعوداً وهبوطاً مثلما يلوح سعف النخل عندما تهب نسمة. أخذ نفسا عميقا وبطيئا، كنوع التنفس الذي يتنفسه  متسابق القفز قبل أن يبدأ السباق.

‘‘ أؤمن بأنّ الحب دعم لا غنى عنه لنا لكي تستمر الحياة. يوما ما يخبو الحب. أو ربما لا يصل إلى شيء إطلاقًا. حتى لو يتلاشى الحب، حتى لو بدون مقابل، بوسعك أن تنعش الذاكرة لتحظى بشخص تحبه، أو تغرم بشخص ما. هذا منشأ قيّم للدفء. بدون منشأ دافئ، فقلب الشخص- وقلب القرد أيضاً- قد يتحول إلى برودة لاذعة في أرض قاحلة.  المكان حيث لا تنعكس عليه  أشعة الشمس، أينما أمان الورود البرية، وأشجار الأمل، لا تحظى بفرصة للنمو. هنا داخل فؤادي،  تعلقت بأسماء أولئك النساء السبعة الحسناوات التي أحببتهن. .’’ استلقت يده على صدره  المكسو بالشعر. أخطط أن أستخدم  تلك الذكريات كمصدر دعم ضئيل لتدفئة الليالي الباردة، لتبقيني دافئاً لأحيا ما تبقى من حياتي الخاصة .’’

ضحك القرد مرة أخرى ، هزّ رأسه برفق بضع مرات .

أكمل كلامه ‘‘ إنّها طريقة غريبة لسردها ، أليس كذلك؟  ‘‘ الحياة الشخصية. نظراً لأنني قرد، ولست بني آدم . ههه هه ! ’’

فرغنا أخيراً من شراب الزجاجتين الكبيرتين من الجعة عند الساعة الحادية عشر ونصف.  قال القرد ‘‘ يجب أن أذهب’’. ‘‘حظيت بشعور رائع للغاية أخشى أنني أثرثر كثيراً. اعتذاراتي.’’

قلت له ‘‘ كلا ، وجدتها قصة مشوقة .’’   ربما  ‘‘ مشوقة’’ ليست الكلمة الصحيحة، على الرغم من أنني أعني،  مشاركة الجعة و الدردشة مع قرد كانت تجربة غير عادية  واستثنائية في حد ذاتها.  إضافة إلى ذلك حقيقة بأن هذا القرد بالذات أحب بروكنز وسرق أسماء نساء لأنه كان مدفوعاً برغبته الجنسية ( أو ربما الحب)، و لم تُطفق  كلمة ‘‘ مشوقة’’ بوصفها. كانت أكثر شيء لا يصدق ولم أسمع بها على الإطلاق. غير أنني لم أرد إثارة عواطف القرد مرة أخرى بعدما بات ضرورياً، لذا اقترعت الكلمة الأكثر هدوءًا وحيادية .

كما ودّعنا بعضنا ، منحت القرد فاتورة ألف ين كبقشيش، قلت له ‘‘ ليس كثيراً’’ ‘‘ ولكن أرجو أن تشتري لنفسك وجبة جيدة  لتأكل.’’

رفض القرد في بادئ الأمر، ولكن أصررت على ذلك فقبلها أخيرا. قام بطيِّ الأموال ودسِّها بعناية في جيب بنطاله الرياضي.

ردّ القرد ‘‘ إنه لطف كبير  منك .’’  ‘‘  لقد استمعتَ إلى قصة حياتي السخيفة ، وأكرمتني بشراب الجعة ، و الآن هذه الإيماءة السخيّة. لا يسعني أن أقول لك كم أقدر ذلك .’’

وضع القرد زجاجتي الجعة و الأكواب على الصينية وحملها إلى خارج الغرفة .

 

أردت أن أنهي إجراءات خروجي من الفندق  في صباح اليوم التالي عائداُ إلى طوكيو. عند المنضدة الأمامية، لم أر الشيخ الأصلع المخيف الذي ظهر بدون شعر أو حواجب في أي مكان، ولا القطة المسنّة التي تعاني مشاكل بأنفها.  بدلا ً من ذلك عثرتُ على امرأة سمينة عبوس  بمنتصف العمر، و عندما قلت لها  أرغب بدفع رسوم إضافية عن زجاجتي الجعة  لليلة الماضية أخبرتني بشكل قاطع ، بأنه لم يكن ثمّة رسوم طارئة على فاتورتي. أصرّت  المرأة السمينة بأن ‘‘ جميع ما لدينا هنا جعة معلبة من آلة للبيع بقطع نقدية .’’  ‘‘ لا نقدم قوارير جعة إطلاقاً.’’

ارتبكت مرة أخرى, شعرت كأن أجزاءً من الواقعية والخيال تبدل الأماكن عشوائياً. لقد شاركت زجاجتي جعة  سابورو مع القرد كما استمعت إلى قصة حياته.

عزمت أن أُحضر القرد للمرأة السمينة، إلاّ أنني قررت ألا أفعل. ربما القرد ليس موجوداً حقاً ، و قد يكون كل ذلك وهماً، نتاج لعقلٍ مخلل بنقع طويل في الينابيع الساخنة. أو ربما  ما رأيته بدا غريباً، و حلماً واقعياً. إذا تفوهت بالأمر وقلت مثلا ‘‘ لديك موظف وهو قرد مسن بوسعه  أن يتحدث، أليس كذلك؟’’ ربما قد تأخذ منحنى آخر، وأسوأ سيناريو، ستخال بأنني مجنون.  كانت فرص وجود قرد غير مدون كموظف، وليس بميسور النُزل أن يقدمه علانية  خشية أن ينبه  مكتب الضريبة  أو قسم الصحة .

قمت بإعادة كل شيء ذهنياً  ما أخبرني به  القرد أثناء ركوب القطار إلى البيت. قمت بتدوين جميع التفاصيل، بأفضل ما يمكن تذكرها، في دفتر الملاحظات الذي أستخدمه للعمل، أفكر عندما أعود إلى طوكيو سأكتب كل شيء من البداية إلى النهاية .

إذا كان القرد موجوداً بالفعل- وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني عبرها رؤيته- لم أكن متأكداً  من مقدار ما يجب قبول ما قاله لي عند شرب الجعة. فمن الصعب أن أحكم على قصته بإنصاف. هل من المحتمل أنه سرق أسماء النساء و استحوذ عليهم بنفسه؟ هل هذه بعض القدرات الفريدة من نوعها التي لم تمنح سوى لقرد شيناغاوا ؟ ربما كان القرد مريضاً بالكذب. من يمكنه أن يقول ذلك؟ بطبيعة الحال لم  أسمع بأن قرداً مصاباً بالميثومانيا من قبل إطلاقاً، ولكن، إذا أمكنه أن يتحدث بلغة البشر بمهارة كما فعل، لن تكون وراء عالم من الاحتمالات بالنسبة له أكثر من كونه كاذباً اعتياديا.

 

أجريت مقابلات مع العديد من الأشخاص كجزء من عملي ، فقد بت ُجيداً  في التعرف على من يمكن تصديقه ومن لا يمكن . عندما يتحدث شخص ما لبعض الوقت، بوسعك أن تلتقط بعض التلميحات الخفيّة و الإشارات ونيل شعور بديهي سواء كان ذلك الشخص صادقاً أو لم يكن. لم أعثر على ذلك الشعور حول ما أخبرني به قرد شيناغاوا بأن القصة مختلقة. النظرة في عينيه و تعابيره، والطريقة التي تأمّل  بها الأشياء كل مرة في لحظة، ووقفاته، إيماءاته، و طريقة تعثره بالكلمات— لا شيء حوله بدا مصطنعاً  أو مجبراً. وفوق كل ذلك، وجدت ثمّة إخلاصاً  كاملاً وحتى مؤلماً في اعترافاته.

انتهت رحلة استرخائي المنفردة ، عدت إلى دوامة المدينة الروتينية.  حتى عندما لم يكن لدي مهام رئيسية متعلقة بالعمل، بطريقة ما، كما أتقدم في السن، وجدت نفسي منشغلاً أكثر من ذي قبل. يبدو أن الوقت يسير بخطى ثابتة سريعة. لم أقل في النهاية لأي شخص عن قرد شيناغاوا إطلاقاً، أو كتبت أي شيء بشأنه. لماذا أحاول طالما لا أحد سيصدقني؟ ما لم أقدم دليلاً— يثبت في الواقع وجود القرد— قد يقول الناس بأنني ‘‘ أختلق الأشياء فحسب مرة أخرى.’’  لو كتبت بشأنه قصة خيالية  قد يعوزها التركيز أو المقصد منها. بميسوري أن أتخيل جيداً نظرة الارتباك التي ستبدو على محيا محرري وهو يقول ‘‘  أتردد أن أسال، بما أنك مؤلف، ولكن ما هو موضوع القصة المفترض أن يكون ؟’’

موضوع؟ ليس بوسعي أن أقول بأن هناك موضوعا. إنه مجرد قرد مسن  يتحدث بلغة البشر، و يدَعَك ظُهور الضيوف في الينابيع الساخنة عند مدينة صغيرة بمقاطعة غونما، الذي يستمتع بالجعة الباردة، و يقع في غرام إناث البشر، ويسرق أسمائهن. أين الموضوع في ذلك. أو الأخلاق في ذلك؟

يمضي الوقت، وطفقت ذكرى المدينة ذات  الينابيع الساخنة تتلاشى . مهما كانت الذكريات الحية، ليس بوسعها أن تغزو الزمن.

الآن بعد مرور خمسة أعوام ، قررت أن أكتب بشأنها، وفقاً إلى الملاحظات التي دونتها في ذلك الوقت. كل ذلك لأن شيئاً ما حدث مؤخراً ما حدا بي أن أفكر بالأمر . إذا لم تقع الحادثة ، قد لا أكتب هذه.

كان لدي موعد متعلق بالعمل في صالة القهوة في فندق بمنطقة أكاساكا. يعمل الشخص الذي أنا بصدد مقابلته محرراً بمجلة سفر. فهي امرأة جذابة، ثلاثينية أو حول ذلك، ضئيلة الجسد، بشعر طويل، وبشرة جميلة، و عينان كبيرتان جذابتان .كانت محررة متمكنة. و ما زالت عازبة. عملنا معاً عدة مرات، و أضحينا على وفاق. بعدما اهتممنا بالعمل، جلسنا و دردشنا مع شربنا للقهوة لبعض الوقت.

 

 

 

رنّ هاتفها الخلوي ونظرت إليّ معتذرة. أشرت لها أن ترد على الاتصال. تحققت من الرقم  الوارد فأجابته. يبدو الاتصال بشأن  قيامها  ببعض الحجوزات. عند مطعم ، ربما، أو فندق، رحلة طيران. شيء على هذا المنوال. تحدثت لبعض الوقت ، تحققت من أجندتها، ثم  رمقتني بنظرة قلقة.

سألت بصوتٍ خفيض، ويدها تغطي الهاتف ‘‘ آسفة جداً ’’.  ‘‘ أعلم أنه سؤال غريب، ولكن ما هو اسمي ؟’’

شهقت شهقة تلقائياً كما استطعت، وقلت لها اسمها كاملاً. أومأت برأسها و تناوبت المعلومات مع  الطرف الآخر من الخط. ثم أغلقت الهاتف واعتذرت مجدداً.

‘‘ أنا آسفة للغاية بشأن ذلك. على حين غرة  لم أستطع تذكر اسمي. أشعر بالإحراج للغاية.’’

سألتها ‘‘ هل يحدث هذا في بعض الأحيان ؟’’

بدت تُعتع في الكلام، و لكنها أومأت أخيراً .  ‘‘ نعم ، تحدث كثيراً هذه الأيام. لا يمكنني فحسب تذكر اسمي كأنني فقدت الوعي أو شيء من هذا القبيل.’’

‘‘ هل تصابين بنسيان  أشياء أخرى أيضاً؟ مثلا لا يمكنك تذكر يوم ميلادك أو رقم هاتفك أو رقم سري؟ ’’.

هزت رأسها بحزم.‘‘ كلا ، على الإطلاق. لدي دوماً ذاكرة جيدة. أحفظ جميع تواريخ ميلاد أصدقائي. لم أنس اسم أي شخص آخر، ولا حتى مرة واحدة. إلا أنني  ما زلت بعض الأحيان لا أستطيع تذكر اسمي. لا يمكنني أن أكتشفها. بعد بضع دقائق، تعود ذاكرتي، ولكن  تلك بضع الدقائق غير مريحة أبداً، و تنتابني حالة هلع. كأنني لست نفسي مرة أخرى . هل تعتقد أنها علامة على ظهور مبكر لمرض الزهايمر؟’’

أطلقت تنهيدة . ‘‘ طبياً ، لا أعلم ، ولكن متى بدأ ، أنسيت اسمك فجأة ؟’’

نظرت بعينين نصف مغمضتين و فكرت بشأنها. ‘‘قبل ستة أشهر تقريباً، أعتقد. أتذكر ذلك عندما ذهبت أستمتع بأزهار الكرز. كانت هذه أول مرة.’’

‘‘ قد يكون هذا أمراً غريباً أن أسال عنه، ولكن هل فقدت أي شيء في ذلك الوقت.نوع من بطاقات الهوية ، مثل رخصة القيادة، جواز سفر، بطاقة التأمين؟’’

 

زمّت شفتيها، سرحت بأفكارها للحظة. ‘‘ أتعلم، ما ذكرته الآن، فقدت رخصة القيادة في ذلك الوقت. حدث ذلك في وقت الغذاء جلست على مقعد الحديقة، أحظى باستراحة، وضعت حقيبة اليد بجواري على المقعد. أعدت تزيين شفتي بمرآتي و عندما ألتفت مجدداً، اختفت حقيبة اليد. لم أستطع أن أفهم ذلك. أشحت بنظري لثانية فحسب، لم أشعر بوجود أي شخص قريب أو أسمع خطوات وقع أقدام. بحثت حولي، ولكن كنتُ وحيدة. الحديقة هادئة، ومتأكدة لو أتى شخص ما لسرقة حقيبتي كنت سألاحظ ذلك. ’’

انتظرتها لتواصل حديثها

‘‘هذا ليس كل ما حدث غريباً. تلقيت مكالمة في نفس الظهيرة من الشرطة، تخبرني بأنهم قد عثروا على حقيبتي. قد وضعت في الخارج بالقرب من  مركز شرطة صغير قرب الحديقة . كانت المبالغ النقدية  ما زالت داخلها، وكذلك البطاقات الائتمانية، وبطاقة الصراف الآلي ، و الهاتف النقال. كلها هنا، لم تلمس. لقد فقدت رخصة قيادتي فحسب. فوجئ الشرطي تماماً.  من الذي  لا يأخذ المبالغ النقدية، الرخصة فقط، و يترك الحقيبة في الخارج بالقرب من مركز الشرطة؟’’

تنهدت بهدوء ، ولكن لم أقل شيئاً.

‘‘حدث هذا نهاية شهر مارس. ذهبت في الحال إلى مكتب السيارات في ساميزو و طلبت منهم إصدار رخصة جديدة. كانت الحادثة برمتها غريبة كلياً، ولكن من حسن الحظ لم يكن ثمّة أي أذى حقيقي.’’

‘‘ساميزو في شيناغاوا ، أليس كذلك؟’’

ردّت‘‘ نعم هذا صحيح. إنها في هيقاشيوي. شركتي في تاكاناما،  لذا مشوار سريع بالتاكسي’’ ألقت نظرة متشككة إليّ. ‘‘ هل تعتقد أن ثمّة صلة بالموضوع. بين عدم تذكر اسمي و فقدان الرخصة؟’’

هززت رأسي سريعاً. لم أستطع طرح  قصة قرد شيناغاوا بالضبط.

قلت لها ‘‘ كلا.لا أعتقد بأن ثمّة صلة .’’ ‘‘ إنما خطرت في بالي فحسب. بما أنه يتضمن اسمك.’’

بدت غير مقتنعة.  أعرف بأنّه ينطوي على مخاطرة ، ولكن ثمّة سؤال آخر مهم للغاية يتعين عليّ أن أسألك.

‘‘بالمناسبة ، هل رأيت أي قرود مؤخراً؟

سألتني ‘‘ قرود’’ . ‘‘ هل تعني الحيوانات؟’’

قلت لها ‘‘ نعم . قرود حية حقيقية’’

هزت رأسها  ‘‘ لا أعتقد بأنني قد رأيت قرداُ لسنوات.  ليس في حديقة حيوانات، أو أي مكان آخر.’’

هل عاد قرد شيناغاوا إلى خُدعه القديمة؟  أو  أكان قرداً آخر يستخدم لارتكاب نفس الجريمة؟ ( قرد نسخة؟) أو شيء ما آخر ، غير ذلك القرد يفعل هذا؟

لم أرد حقاً أن أفكر بشأن قرد شيناغاوا بعودته لسرقة الأسماء. لقد أخبرني بالحقيقة تماماً ، بأنه يخبئ أسماء سبعة نساء بداخله يجده كثيراً كما يقول ، و بأنه سعيد بالعيش ببساطة حياته المتبقية بهدوء في المدينة  ذات الينابيع الساخنة. بدا أنه يعني ذلك.  ربما القرد لديه حالة نفسية مزمنة، أحد أسباب عقله  الذي لا يمكن السيطرة عليه. وربما حثه كلا ً من مرضه، والدوبامين على فعل ذلك ! و من المحتمل لاحقته كل تلك الوساوس في شيناغاوا، للعودة إلى عاداته السابقة الضارة .

ربما سأحاول بنفسي في وقت ما . يتدفق هذا الفكر العشوائي والخيالي في الليالي المؤرقة أحيانا. سأسرق بطاقة الهوية أو بطاقة اسم لامرأة أحبها ، سأنبه فكري عليها مثل الليزر، واسحب اسمها من داخلي، واستحوذ جزءًا منها، كلها إلى نفسي . كيف يبدو ذلك الشعور؟

كلا. لن يحدث ذلك إطلاقاً. لم أكن ماهراً في خفة اليد إطلاقاً، و ليس بمقدوري أن أسرق شيئا ما يعود إلى شخص آخر. حتى لو لم يكن هذا الشيء شكلاً جسدياً، و سرقتها لم تكن مخالفة للقانون.

حبٌ متطرف ، و وحدة كافرة.  منذ ذلك الحين، أينما أسمع إلى سيمفونية بروكنر أفكر في الحياة الشخصية لقرد شيناغاوا. أتصور ذلك القرد المسن في المدينة ذات الينابيع الساخنة، داخل علّية نُزل متهدم ، نائماً على فوتون رقيق. أفكر بالوجبات الخفيفة- كاكيبي و الحبّار المجفف- التي استمتعنا أثناء شربنا الجعة معاً، و أسندنا أنفسنا  على الجدار.

لم أر محررة مجلة السفر الجميلة منذ ذلك الحين، لذا ليس لدي أي فكرة ما المصير الذي لحق باسمها بعد ذلك. أتمنى أنه لم يسبب لها أي معاناة حقيقة. فهي بريئة بعد كل الذي حدث. لم يكن خطأهُا . أشعر بسوء حيال ذلك، ولكن ما زلت لا يمكنني إجبار نفسي لأخبرها بشأن قرد شيناغاوا.

تمت .

*زنّاءة : أنثى القرد

 

Published in the print edition of the June 8 & 15, 2020, issue.

Haruki Murakami published his fourteenth novel in English, “Killing Commendatore,” last year.

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

قلوب وأياد

hands

قصة : قلوب و أيادٍ*

تأليف : أو . هنري 

ترجمة : يحيى الشريف 

 

تدفق الركاب بمدينة دنفر داخل عربات القطار بي إم إيست باوند السريع. جلست على إحدى العربات هناك شابة جميلة مرتدية بأناقة وذوق جميل و محاطة بوسائل الرفاهية و الفخامة؛ حيث دأبت على السفر والترحال. كان فيما بين القادمين الجدد شابين؛ أحدهما وسيماً وجسوراً، بوجهٍ واضح لا لبس فيه، وسلوك حسن; بينما بدأ الشخص الآخر مكدراً، بوجه كئيب، مرتدياً ملابس ثقيلة تقريباً. كان الاثنان مصفدي اليدين معاً .

على الرغم من أنهم اجتازوا ممر العربة، كان المقعد الشاغر الوحيد مغايراً؛ بحيث يواجه الشابة الفاتنة. هنا أقعد الشخصين المقيدين معاً أنفسهم. رمقت الشابة نظرة خاطفة عليهما من بعيد، مع لا مبالاتها بصورة مفاجئة ; و ابتسامة محبة تشع محياها, و أثر وردي ناعم على خديها المكتنزين، حملت بيدها الصغيرة قفازين رماديين. فعندما تحدثت بدا صوتها، مليئاً، و عذباً، و موزوناً، معلنة بأن صاحب الصوت قد أعتاد التحدث والاستماع.

‘‘حسناً، السيد إيستون، لو جعلتني أتحدث أولاً، أفترض أنه يتعين عليّ. هل بوسعك أن تميز أصدقاؤك القدامى عندما تصادفهم في الغرب ؟’’

حث الشاب نفسه بحدة عند سماع صوتها، وأبدى مقاومة لتعرضه للإحراج قليلاً والذي تخلص منه في الحال، ومن ثم صافح أصابعها بيده اليسرى.

‘‘ قال، وقد علتَ على شفتيه ابتسامة، إنها الآنسة فيرتشيلد.‘‘ أطلب منكِ أن تعفي اليد الأخرى; فإنها مشغولة حالياً فحسب .’’

رفع يده اليمنى قليلاً، مربوطاً حول الرسغ ‘‘سوار’ٍ’ لامع على اليد اليسرى لرفيقه. تغيرت نظرة السرور التي في عيني الفتاة ببطء إلى نظرة مرعبة مرتبكة. تلاشى في حينها تورد خديها. بدت استغاثة شفتيها الممزقة مريحة بغرابة. إيستون، وبضحكة متواضعة، كما لو أنه مستمتع، كان يُهمّ بالتحدث لولا أن الأخر سبقه. فقد كان الرجل ذو وجه الكئيب يراقب وجه الفتاة بنظرات خفية من خلال عينيه الحادتين.

‘‘اسمحي لي بالتحدث، يا آنسة، ولكنني أرى بأنك على دراية بحارس السجناء هنا. إذا أنت كذلك سوف أسأله أن يتحدث بكلمة طيبة لأجلي عندما يضعونني في الحبس؛ سيقوم بذلك، ستبدو الأشياء أسهل بالنسبة لي هناك. سيضعني في سجن ليفنوورث؛ حيث حكم عليّ سبع سنوات بتهمة التزوير.’’

قالت الفتاة ‘‘ آوه !’’ أخذت تتنفس بعمق و استعادت لونها الطبيعي. ‘‘ إذاً هذا ما تفعله هنا ؟ حارس السجناء !’’

قال إيستون، بِتَرَوٍّ‘‘ عزيزتي الآنسة فيرتشيلد ’’ 

‘‘ كان عليّ أن أفعل شيء ما. لدى المال طريقة للاختفاء في لمح البصر، فإنكِ تُدرك أن الأمر يتطلب المال لمواكبة النخبة في واشنطن. رأيت الانفتاح في الغرب ، و – حسناً، وظيفة حارس السجناء  ليست ذا منصب كبير تماماً كما السفير، ولكن–’’

قالت الفتاة بحرارة ‘‘ السفير’’ ، لم  يَعد يتصل. و لا يعوزه عن فعل ذلك. ينبغي عليك أن تعرف ذلك . فالآن أنت وَاحِدٌ من أولئك الأبطال الغربين مفعماً بالحياة، فأنت تقود وتطلق النار وتجوب في جميع أنواع المخاطر. فالحياة مختلفة عن التي في واشنطن. فقد مضت عنك الحياة القديمة ولا يُضيرك ذلك.’’

عادت عيني الفتاة مسحورة، و اتسعت قليلاً، كي تستقر على الأصفاد المتلألئة. 

 قال الرجل الآخر ‘‘ لا تقلقي بشأنهم. ‘‘ جُل الحراس يُقيدون أنفسهم بالسجناء لمنعهم من الفرار. يعرف السيد إيستون عمله.’’

 سألت الفتاة ‘‘ هل سنراك مرة أخرى قريباً في واشنطن؟’’ 

قال إيستون ‘‘ليس قريباً’’. ‘‘أخشى بأن حياتي السابقة قد وَلَّتْ بلا رجعة.

تفوهت الفتاة بكلام لا علاقة له بالموضوع ‘‘ كم أحب الغرب’’ . كانت عيونها يشعان بلطف. تأملت  بعيداً من نافذة عربة القطار. بدأت تتحدث بصدق وبساطة بدون بريق الأناقة و السلوك: ‘‘أمضينا أنا وأمي الصيف في دنفر. عادت إلى البيت الأسبوع الماضي؛ لأن جدي كان مريضاً بعض الشيئ. بإمكاني أن أعيش و أكون سعيدة في الغرب. أعتقد أن الهواء هنا يتفق معي. المال ليس كل شئ. ولكن الناس دوماً يسيئون فهم الأشياء ويظلون أغبياء–’’

تذمر الرجل ذو الوجه الكئيب ‘‘ قل ، أيها الحارس’’ ‘‘ إن هذا ليس عدلاً تماماً. أنا بحاجة إلى الشراب، ولم أدخن طوال اليوم. ألم تحدثت طويلا بما فيه الكفاية؟ هل ستأخذني إلى المكان المخصص للتدخين الآن؟ فأنا أتوق إلى التدخين.’’ 

رفع المسافران المقيدان بالأصفاد أرجلهم، إيستون بنفس الابتسامة البطيئة على محياه.

 قال ، برفق.‘‘لا يمكنني أن أرفض توسلاً من أجل التبغ ’’ ‘‘ فإن الأمر لصديق تعيس. وداعاً آنسة فيرتشيلد. فالواجب ينادي، كما تعلمين.‘‘ رفع يده مودعاً.

 

قالت ‘‘ إنه لأمر سيئ للغاية بأن لا تذهب إلى الشرق’’ هندمت ملابسها بأناقة مرة أخرى. ‘‘ ولكن يجب عليك أن تذهب إلى ليفنوورث، أفترض ذلك؟

 قال إيستون مجيباً ‘‘ نعم’’ ‘‘ يجب عليّ أن أذهب إلى ليفنوورث.’’ 

عبر الرجلان الممر إلى المكان المخصص للتدخين.

قد سمع اثنان من الركاب في المقعد القريب معظم المحادثة. قال أحدهم : ‘‘ ذلك الحارس الشاب معدنه أصيل. فبعض الزملاء الغربيين لا بأس بهم.’’

 سأل الآخر ‘‘ إنه لشابٍّ صغير أن يتولى مكتباً مثل ذلك ، أليس كذلك؟

 صاح المتحدث الأول ‘‘شاب ! ’’ ‘‘ لماذا– آوه ! ألم تفهم الفكرة ؟ قل– هل سبق لك أن رأيت شرطياً يُقيد سجيناً بالأصفاد بيده اليمنى؟’’

 

‘‘تمت’’

*

قد نُشرت قلوب وأيادٍ أولاً تحت إسمه المستعار، سيدني بورتر، في عام 1902م. القصة مليئة بالتقلبات والتلاعب بالألفاظ، كما كانت حياة أو هنري الخاصة. حكم عليه بالسجن لمدة خمسة سنوات في سجن فيدرالي بتهمة اختلاس 854.08 دولار ، بعدما أن فرّ إلى هندرواس، ومن ثم عاد إلى أوستن كي يتواجد مع زوجته المريضة، حيث سلّم بنفسه. كان قد أطُلق سراح أو هنري قبل وقت قصير من نشر هذه القصة، مما حدا بها مصادراً غير متوقع؛  مثيرة للشفقة و المشاعر خصوصاً.

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

قصة قصيرة للكاتب والناقد الأمريكي 

جون أبدايك John Updike

john

ترجمة: انعام الشريفي 

رغم انني كنت أجولُ لبضعة سنوات بين الزيجات في هرج ٍ ومرج ٍ استلـَبَ كل حواسي، فان الآخرين واصلوا بدورهم العـيـشَ والموت. لين، رفيق قديم في لعب الغولف، بين عشيـّة وضحاها حلّ بالمشفى لما قيل له أنـّه فحص روتيني، ووقع ميتاً في الحمام فوراً بعد أن انتهى من اتصال هاتفي بمخزن الخردوات ليعلمهم انه عائد صباحاً لمباشرة العمل. فهو صاحب المخزن واعتاد أن يعهد به الى مساعده في النهارات المُشمسة فقط.

كان تسديد ضربته خاطفا، وكان يلقي بثقله الخلفي على قدمه اليمنى، وغالبا ماتنبثق كرته الى اليسار دون أن تصل الهواء البتة لكنه يفلح في اليوم الواحد أن يغور بالكرة الى الهدف ببضعة ضربات ٍ موّفقة فـذة. وكان دوماً يظهر بملبس ٍ أنيق يوحي بآمالٍ عريضة للعبة التي يخوضها، فهو ببنطاله الأصفر الفضفاض بلون زهرة البتركبi والياقة السمائية اللون الضيقة المنتصبة للأعلى وسترته الكشمير ذات اللون البرتقالي المُحمّر سيتغاير عن نـَسـَق الأخضر المحيط به، وآتي أنا وقد قدتُ الطريق من بوسطن عبر سحابات ٍ من الأسى والأرق والاضطرام المعنوي أجرجرُ عربتي عبر مساحة الاسفلت المخصّصة للوقوف، فـتـَصـِـرُّ حدوة َحذائي عند كلّ خطوة أخطوها مثل براثن الوحوش.

رغم أن لين كان قد عرف جوليا وأحبّها، وهي زوجتي التي كنت قد تركتها، فأنه لم ينبس ببنت شفة بشأني الشخصي عندما كنت أقود السيارة ساعة كاملة لألتقيه بخلاف ماكنت عليه سابقاً اذ آتيه بعشرة دقائق من الشارع المجاور. فقد كان الغولف بالنسبة لي اذ ذاك ملاذاً ومهجعا، حالما اجتـاز فيه كومة الرمل الأولى التي تحمل كرة الغولف في مسعاي للهدف، أحسّ بانني مطـَوّقٌ في حرم ٍ وسيع ٍ ووضـّاء، بمأمن ٍ من النساء والأطفال المهووسين والمحامين الوقورين والمعارف القدامى واستهجاناتهم والنظام الاجتماعي وغـيظهِ بكليته. فللغولف نُظـُمه الخاصّة وحبّه الخاص فبينما يترنح ثلاثتنا أوأربعتنا ونتصايح لنشقّ طريقنا كلٍّ الى حفرة الآخر، نضحك على سوء الحظ العاثر ونهلـّل للضربات النادرة ذات الجودة النسبية. وأحياناً نجد سماء الصيف قد أحلكت وتهب العاصفة فـنـتحلـّق تحت ظلّ قاطرة ٍ مهجورة أوتحت شجرةٍ تبدو اكثر أمناً من أخواتها من الصواعق. وعندها فأن نفاد صبرنا واهتياجنا العصبي المفطور فينا لانقطاع اللعب والاثارة يخلـُصُ بكليته في هذا الحيز من المحميّة الى مايكاد يقارب حرارة العشق، أنفاسُ وعرقُ رجال في متوسط العمر متراصّين تحت المطر الهاطل بلا انقطاع مثل قطيع ماشيةٍ في شاحنة النقل المغلقة كالصندوق. وكان في وجه لين بقعاً متقرّنة من الأشعاع وكان ينوي ازالتها جراحياً قبل أن تتحول الى سرطان الجلد. فمن كان يحـسب ان صاعقة شريانه التاجي ستـَبتـُرُ بتراً خططه ومشاريعه وتمسحهُ مسحا ًمن حياتي المتشابكة؟ فأنه ما من (رُقاقـتا ثلج ٍ ولا بصمتا أصبعين ولا خفقتا قلبٍ في جهاز الرسم البياني ولا رميتا كرة الغولف قد تماثـلتا أبداً)، هل أبداً سأبصر ملـَكـَته المتأنقة المـَلبـَس الباعثة على الأمل ثانية (هللو ياكرتي العزيزة، هكذا يمزح بينما يشرع بالتهادي الى جلسة القرفصاء) ويبّث كرة منخفضة الى اليسار بطريقته المتفرّدة ونسمعه هاتفا ً باحباط غاضب (فهو يُعَدّ ممن خاض ولادة روحية ثانيةiiفي الكنيسة المعمدانية ممّا أكسبه لغة ً شخصية تترفع عن اللعن المباشر): ” ياكومة ً ممسوخة ً وسخة “

قدتُ سيارتي الى جنازة لين وحاولت أن أخبر ابنه: “كان أبوك رجلا ً عظيماً ” الا ّ ان الكلمات تساقطت مترهلة في تلك الكنيسة المعمدانية الباردة. أن الوان لين المـُزَوّقة، وفورته الحماسية المسيحية، وتسديداته الواعدة والمهدورة للكرة، وصيحات ظفرنا في الذهاب والاياب، وجـَمعـُنا عبر كون ٍ مصنّع يتألف من أطوالٍ متغايرة وثابتة، وأنواع ٍ من العشب كانت جميعها مَـسـَحات حياةٍ أرقّ ُ من أن تـُأسر، بل لابدّ أن تـتـبدّد.

بعد برهة من الزمن قرأتُ في صحيفة أن الآنسة أيمي مـَير ِماونت ذات الواحد والتسعين عاماً قد قضت نحبها أخيراً فشابهت الورقة اليابسة التي تـُحال الى فــُتاة. كانت قد بدت دوماً شيئاً عتيقا ً، كانت أحدى أولئك الأنجليز المُحدَثينiii ومن الأواخر الذين يتداولون سيرة هنري جيمسiv وكأنه قد غادر الحجرة لتوّه. وكانت تمتلك رسائلا ً ماتلبث مطبقة ً أومبعثرة ً الى قطع بعثها هنري جيمس الى والديها حيث يـأتي على ذكرها لا كفتاةٍ صغيرة ولكن كسيـّدة فتيـّة “تشارفُ على “خصوصيتها”، على زهوتها التي تحُوطها تماما ً”. كانت تعيش في بضعة غرف ٍ محتشدة بالقطع الأثريـّة في بيت ٍ ريفي ورثته وخصّصت القسم الأكبر منه للإيجار فحـُشـِرَت حشراً فيما تبقى منه. أما لـِمَ لم تتزوج أبدا ً فقد ظلّ هذا سراً هجـَع عليها هـَوناً ونعومة في شيخوختها ، فلعلّ ذلك الجمال السـَـلـِس الناحل الذي نشهده في الصور الفوتوغرافية الداكنة الحبريـّة اللون، وسيماء السـُلالة النبيلة وتوقـّد الذهن، والتحمّس (بالمعنى الروحي) الذي لم يبرحها قد أوقع الهلع في نفوس الكثير من طالبي يدها مثلما جـَذ َبتهم اليها عين ُ هذه الفضائل. ولعلـّه قد أوجد لديها، وهي في عهدٍ ماتلبث فيه مفردة “الطهر” ذات وقع و”نكران الذات” ذات مقام ٍ في عينيها، قيمة ً لا تعلو فيها تلك اللحظة المهيضة الجناح في أيّ موردٍ لهذه الفضائل. وكان لصوتها نبرة جافة تهكميـّة وفي سلوكها شيءٌ من التململ والرفض. كانت قد أشبعت نفسها تثقيفاً فهي تتابع التطورات الجديدة في العلم والفن وتتناول الطعام الطبيعي وتتعاطى في القضايا السياسية الساخنة يوم كانت كل هذه موضات سائدة. وكانت تحبّ أن يتحلّقُ حولها أناسٌ بغضاضة الشباب. فعندما انتقلنا أنا وجوليا الى المدينة مع الأطفال بوجوهنا الجديدة الطريّة، أصبحنا جزءاً من جلسة الشاي المعقودة لديها في اجواء ٍملؤها الفتور، ولولا ذلك الأفتتان المتبادل بيننا لـما دامت معرفتنا لعشرين سنة.

ولعل الأمر لم يكن بذلك الفتور، فاليوم أعتقد أن الآنسة مَـيرِماونت قد أحبـّتـنا أو بأضعف الايمان قد أحبـّت جوليا التي كانت ترفلُ بالدماثـة، وتزهو كأبنة ودودة حانية عبر تلك الحُجَر الشحيحة الدفء والمستمـِّدة ضيائها من النوافذ والتي يزدحم فيها متاع ٌ ريشي مستدقٌ ومتطاول من إرث ٍ كان يوما ً مفروشا ً عبر الطوابق الأربعة لبيت “باك بـَيْ ” المَدني الطراز. ويخلـُد في ذاكرتي ألق ُ ذقن زوجتي السابقة المكتنز وحنجرتها واكتافها المكشوفتين التي تندمج مع المـَلـَس الشبحي لصور الأخوات مـيَرِماونت ذات الأطارات القديمة المـُصممّة للأستوديوهات. كانت الصور لثلاثة أخوات، نزلت بهما فجيعة الموت مبكـّراً في شبابهما كما لو أنهما أوصتا بقسطهما من السنين إرثا ً للثالثة، تلك الناجية التي تجلس معنا في كرسيـّها المُجنـَّح المـُوشّى بالذهب. وكان وجهها قد استحال بـُنـيـّا من الشيخوخة ً فلايمكن التنبؤ بما فيه، عاجاً بالتجاعيد كوجه هنديّ أحمر، هذا وثمـّة شيءٌ وحشيٌّ كوحشية الهندي الأحمر يلمع في عينيها المعتمتين. “أراها مخيبة للآمال بعض الشيء”، كانت قد تندّ ُ عن هذه الكلمات بجفاء عن أحد المعارف المشتركين الغائبين انذاك أو عن أحدى تلك اللواتي انفـَصَلت عن حلقتها :”لـَم تك ُ تماماً من الطراز الأول”.

أن البحث عن الطراز الأول شيء من العهد البائد لجيلها، والآن لااتذكر من نال استحسانها كلياً مثل ماناله الأب دانيال بـَريجان والسـيِر كينيث كلارك. لقد شاهـَدت كلاهما في التلفاز. عيناها ذات البريق الداكن صارتا تخونانها، وكانت أوقات الأصيل الأثيرة الخاصة بالقراءة (التي يخمد الضوء فيها خلف النوافذ وتتراقص النار الناشئة من خشب البتولا في الموقد المؤطر بالنحاس الأصفر) قد استـُبدلت بساعاتٍ مـُجـَدولة منسقة حسب مايبثه التلفاز والمذياع من البرامج التثقيفية. في تلك السنوات الأخيرة كانت جوليا ترتاد منزلها لتقرأ لها قصة أوستن “مـِدِل مارج” وجوان ديديون وبعضاً من قصص بروست ومورياك بالفرنسية بعدما قرّرت الآنسة مـَيرماونت أن جوليا اجتازت اختبار الفرنسية بنجاح. وكانت جوليا تتمرّن بعض الشئ من خلال القراءة لي، وأنا بينما كنت اتطلّع الى شفتيها وهي تزمّها لتصنع صوت الفرنسية فتصغـُران وتــُدَوّران بشدة وكأنهما شفتا قناع أفريقي من العاج، كدتُ أن أقع في حبّها ثانية ً. إن الود بين النساء لـَمؤثـّرٌ ومؤلمٌ ومثيرٌ للرجل، وبرؤياي الخاصّة فأنه كجلسةِ شاي ٍ انتهت الى مجلس خمرٍ للشَريv الاسبانية في تلك الحُجـَر التي يغصّ فيها الأثاث بجـَلـَبة والتي اشتد فيها الشفق حتى صارت الصفحات البيضاء تـُدار ببطئ وأضحى النـَغـَم الصبور لصوت جوليا الأمارة الوحيدة الدالّة على الحياة. بلى إنه الحبّ ما كان ينداح بين تلك العجوز التي تفنى رويداً وزوجتي التي بدورها رويداً تـُمسي متوسطة العمر ويـُمسي ابنائنا بالغين وغائبين، وصوتها يظل ّ لايـُستـَمع اليه مثلما يـُستمع اليه هاهناك. ومامن شك أن ثمة أسرار كانت تودع بين تلك الصفحات. وكانت جوليا تعود من عند الآنسة ميرماونت لتحضير عشائي المتأخر وهي تبدو أكثر شباباً بل أكثر حبوراً وجرأة بعض الشيء.

في ذلك الطور الحرِج مابعد الحياة الزوجية وعندما كان الأصدقاء القدامى مايزالون يبعثون الدعوات بدافع الالتزام، وتجد نفسك لاتملك حضور الذهن الكافي لردها، وأجدني في تجمـّعات كبيرة تحضرها الآنسة مَـيرماونت. وكانت يومذاك عمياءَ تماماً وتصحبها فتاة صغيرة دائرية الوجه، أجيرةًٌ للصحبة ودليل. وكانت السيدة المـُسـّنة المتهالكة التي تـَعرضُ نفسها كريش الطاووس المـغطى بجرسٍ زجاجي مغروزة ً في كرسي مجنـّـح في زاوية الحجرة فيما يلي طاس خمر البنشvi. ولدى اقترابي منها أحسـّت بجسم ٍ يدنو منها فمدّت يداً ذابلة لكنها أسقطتها حالما سمعت صوتي: “لقد أتيت َ شيئاً فظيعاً” ، نطقت بذلك بسحبة نفس طويلة واحدة. أشاحت بوجهها لتـُظهر أنفها الصـَقريّ من الجانب كما لو انني شوّشتُ نظرها. أمّا دليلتها الفتيّة فوجهها المـُدوّر كصحن الرادار سجّل لمحة ً تدلّ على الصدمة، الاّ انني ابتسمت وفي حقيقتي لم أكُ مستاءاً، فثمـّة َ راحة ً في سماع حُكم الآخرين حتى لو كان معادياً. إنه لمن المستحسن أن نعتقد أن هنالك في موضع ٍ ما جهاز تخطيط يسجـّل هزّاتنا وزلا ّتنا. وأنني لأتخيـّل موت الآنسة ميرماونت بأشهر ليست طويلة بعد ذلك، وكخيالٍ أخيرٍلها، في صورة خيطٍ ينبسط ُساكناً رائقاً بمحاذاة جهاز المراقبة الموصول بها في المشفى. وفي هذا الامتداد المنبسط بقي شيئٌ ما تهكميٌ ولاذع، شيئٌ من سداد الرأي لم يُدَنـّس، من الصبر الجليل في عالمٍ عجز لطيلة تسعين عاما ً أن يبرهن على شيء أكثرَ من خيبة الرجاء. ويومذاك كنا أنا وجوليا قد فرغنا من مراسيم الطلاق.

كلّ مافي جعبة البيت المهجور قد فـُقـِد حتماً، اللوحات المعلّقة على الجدران، الهيئة التي يتبارى فيها الظلّ والضوء وتفجـّر دفئ الأماسي ممـّا تجود به المدافئ. حيوانات المنزل: كانوت. كان كانوت كلب صيدٍ ذكر ذهبي اللون اقتنيناه عندما كان الأطفال مايزالون قبل سن البلوغ كطقم من البهلوانيين. وكان مصدر بهجة لاينقطع، كما هو العهد بهذا النوع من الكلاب، وقد ذاق طعم كل شيء حتى الاخصاء وكأن الحياة وابلٌ متواترٌ من البركات. ومن المثير أنه وقبل موته بقليل جلبته ابنتي الصغرى التي تغني في فرقة البانكvii الى البيت الذي أسكنه الآن مع زوجتي ليزا. فجعل يشّم هنا وهناك بتأدب واكتفى بعقف زاوية أذنيه بقلق لينمّ عن التساؤل لمَ حلّ سيده القديم في هذا البيت الغريب الرائحة. وانهار في النهاية مع تنهيدة عميقة على أرض المطبخ، وبدا سميناً وخاملا ً. وقالت ابنتي التي قــَصـّت شعرها قصيراً وصبغت رقعاً منه بالبنفسجي الزاهي إن الكلب صار يجوب الليالي وينهالُ على نفايات الجيران أو على طعام حصانهم. وبالنسبة لي فأن وراء هذا سوء ادارة، فصديق جوليا الجديد لاعب كرة ظهير ربعي في فريق دارتموث ولاعب تنس وغولف ومهووس بحمل حقيبة الظهر بعدّتها والخروج بها ولهذا فجوليا لاتكاد تتواجد في البيت وصارت منهمكة كلياً في مجاراته وفي تعلّم لعبات جديدة. فأ ُهمـِل البيت ومرج الحديقة وصار الأولاد ينساقون داخله وخارجه مع أصدقائهم ولا يتخلصون من الطعام المتعفن في الثلاّجة الا ّ بين الفينة والفينة. ولمّا أحسّت ليزا بما كابـَدْتـُه من انفعالات نطـَقـَت بكلمات لـِبقة ملّطفة وانحنت على كانوت لتهرش مؤخرة احدى اذنيه. ولأن اذنه كانت ملتهبة وحسّاسة فقد أطبق فكيّه عليها بوهن ومن ثم بسط ذيله على أرض المطبخ اعتذاراً.

ومثلما إلتُ اليه عندما نهرتني الآنسة مَرِماونت، بـَدَت لي زوجتي حينذاك ميّالة الى الاغتباط، فهي إذ تواجه شيئاً من المقاومة، فقد أمسى موضعها من العالم متجذ ّراً. وناقــَشـَتْ ابنتي حول مضادات الالتهاب الخاصة بالكلاب، وفي تلك الوقفة ومن أية نظرة عجلى اليهما لايمكن التنبؤ بأيّـتهما الاكبر سنـّاً رغم اتضّاح ايـّتهما صاحبة الشعر غير المألوف. وكما يـُقال في مثل هذا المقام من سقيم الكلام أن ليزا من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي. وطالما اني بلغت الخمسين الآن فأن أية انثى تحت الخامسة والثلاثين هي من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي، بل معظم أناسيّ هذا العالم هم من الصِغـَر بحيث يمكن ان يكونوا بناتاً لي.

اختفى كانوت لبضعة أيام بعد تلك الزيارة، وبعد بضعة أيام أُخـَر عـُثر عليه في المستنقعات القريبة من بيتي القديم بجسدٍ منتفخ. وقد شخـّص الضابط المسؤول حالته على انها سكتة قلبية، فتسائلت ان كان هذا يمكن ان يحدث لمخلوق ٍ بأربعة أقدام. لقد ضـَربـَتْ الصاعقة كلبي السابق عند ضوء القمر، وقـَلبُه ممتلئٌ بنشوة المستنقعات، ومعدتـُه محشوة بالنفايات، ولقد رَقـَدَ عـدّة أيام بفراء ٍ مـُنتـَفـِش والمدّ يدور فيه ويخرج منه. تلك الصورة تمنحني الرضا كمظهرِ شراع ٍ ملؤه الريح يـشـّـُد زورقه هـَرِعاً بمنأى عن الشاطئ. في واقع الأمر (ورغم أنه من المريع الأقرار) بأنّ كلٍ من هذه الميتات الثلاثة قد جعلتني قريراً هانئاً على نحوٍ ما، فشهود فضيحتي يـُمْحـَوْن، والعالم يـُصبـِح أقل وطأة. وفي نهاية المطاف لن يكون هناك من يذكـُرُني بشخصي في تلك السنين المارجة والمحرجة عندما كنت أعدو بخطى سريعة دون صـَدَفـَتي بين البيوت والزوجات، كثعبان بين أصناف الجلود، وحشٌ من الأنانية، حاجاتي المتنافرة الغريبة عارية ٌ ومخرّمة، وكياني الاجتماعي زريّ ٌ وبلا حصانة. فموت الآخرين يحملـُنـا شيئا ً فشيئا ً حتى لايتبقىّ شيء، وهذا بدوره ضربٌ من الرحمة.

i نبتة زهرية صفراء تنمو كالآعشاب

ii الولادة الثانية تعبير كنسي سائد في أمريكا لمن يخوضون تجربة ما تخلق فيهم أثراً روحياً وتعيد ايمانهم

iii الحديث هنا عن الجالية الانجليزية من البيورتانيين غالباً التي قطنت أمريكا وجلبت معها الموروث البريطاني

iv روائي مولود في أمريكا لكنه عاش في انجلترا وبعض من رواياته تنصب من التراث البريطاني

v خمر مشهورة من الجنوب الاسباني

vi نوع من الكحول يقدم عادة مع طاس كبيرة الحجم وملعقة للغرف في الاحتفالات الكبرى والكرنفالات

vii The Punk حركة موسيقية منشقة عن موسيقى الروك نشأت وتطورّت في الأعوام 1974-1976 تعبر عن تمرد ورفض الشباب للأيدلوجيات المتسلطة وحاليا اندمجت بفرق الروك ثانية

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

استعمالٌ يوميْ

alicewalker

استعمالٌ يوميْ

تأليف: أَليس ووكر.

ترجمة: أحمد الخصيبي.

سأترقبها في الفناء الذي نظفتهُ رفقةَ (ماغي) وجعلناه ناصعاً البارحة بعد الظهر، ففناء كهذا أكثر راحة مما يحسبه الآخرون؛ إنه بمثابة غرفة معيشة واسعة، فعندما نكنس الأرضية من الطين الجاف والرمل الذي تساوت خطوطه مع حواف شقوق الأرض غير المنتظمة، سيتمكن الجميع من المجيء والجلوس لتأمل شجرة الدردار وانتظار النسائم الباردة التي لا تزور غُرف المنزل أبداً.

سيلاحق القلق (ماغي) حتى بعد مغادرة شقيقتها؛ ستقف يائسة ووحيدةً في جنبات البيت، تشعر بالخزي من ندب الحروق على ذراعيها ورجليها، وتحدّق بأختها بنظرات تحكي حسداً وإعجابا، فهي تعتقد بأن الحياة لم تستعص أبدا على أختها، لدرجة أن العالم لم يفقه يوما كيف يتفوه بكلمة “لا” أمامها.

لا شك أنكم تابعتم برامج التلفزيون تلك؛ حين تُقدم الطفلة المميزة أمام الجمهور كمفاجأة من أبويها وتخرج ببطء من خلف الكواليس. (يالها من مفاجأة سارة، لكن ما عساهم أن يفعلوا لو ظهر الأب وطفلته في البرنامج فقط لأجل تبادل الشتائم والإهانات لبعضهما البعض؟) تبتسم الأم للطفلة ويعانقان بعضهما بعضا على شاشة التلفزيون، وأحيانا ما يذرف الأبوان الدموع وتجري طفلتهما لتعانقهما وتتكئ على الطاولة لتخبرهما أنها لم تكن لتصل لما وصلت إليه لولا وقفتهما. لقد تابعتُ هذه البرامج.

يتراءى لي أحيانا في الحلم أنني رفقة (دي) نُستضاف سويا في برنامج تلفزيوني شبيه بهذا حيث يقودنا أحدهم خارج سيارة ليموزين داكنة اللون ذات مقاعد مريحة إلى غرفة مضيئة مكتظة بالناس، وهناك ألتقي برجل أبيض وسيمٍ بشوش الوجه يشبه جوني كارسون[1] حيث يصافح يدي ويحدثني كم أنا محظوظة بفتاة مثلها، بعدها نظهر على الهواء فتعانقني (دي) بعيون فياضة وتضع على لباسي زهرة أوركيد كبيرة رغم أنها قد أخبرتني مسبقا بأن الأوركيد زهرة دبقة.

أما في الحياة الواقعية فأنا امرأة ضخمة ممتلئة أيديها خشنة كأيدي الرجال. أرتدي في الشتاء ثوب النوم حين أذهب إلى السرير، أما في النهار فأرتدي بدلة العمال. أنا كالرجال؛ أستطيع قتل خنزيرٍ وسلخه بلا أدنى رأفة، ولدي دهون في جسمي تبقيني دافئة في عز البرد. بمقدوري العمل خارجا طيلة اليوم أكسّر الثلج لأحصل على ماء الغسيل، وأستطيع أكل كبد خنزير مطهيٍّ على نار مكشوفة بدقائق بعد خروجه والبخار يتصاعد منها. وأوقعت يوما بعجل ثور ضربته ضربة مباشرة بين عينيه بمطرقة حديدية، وعلقت اللحم حتى يبرد قبل حلول الليل. غير أن كل هذا وبكل تأكيد لا يَظهر على الشاشات، فأنا في الطريق التي ترغب ابنتي أن أكون: أنحفَ بخمسين كيلوجراماً، وذات بشرة تشبه فطيرة شعير محلاة نيئة، وشَعرٍ يتلألأ تحت الأشعة الحارقة، سيتحتم على جوني كارسون بذل الكثير حتى يجاري سرعة بديهتي وظرافتي.

عدا أن ذلك لا يمتُّ للواقع بصلة، أعلم ذلك قبل استيقاظي حتى، متى كان لأحد من عائلة (جونسون) لسان طليق! بل من له أن يتخيلني أواجه رجلا أبيض غريبا؟ يبدو أنني قد تحدثت لأمثاله دوما وقدماي تتأهبان لتنطلقا مع الريح وبرأسي ملتفتا إلى أي شيء بعيد عنهم. أما عن (دي) فقد اعتادت دوما النظر إلى الناس في عيونهم، ولم تكن تعترف بشيء يدعى التردد أو الخوف.

“كيف أبدو يا ماما؟” قالت (ماغي) وهي بالكاد تُرى من خلف الباب، وانعكس لي ما يكفي من جسدها النحيل المنطوي خلف تنورة وردية وسترة حمراء.

قلت لها: “أخرجي إلى الفناء”.

هل سبق لكم وأن شاهدتم حيوانا واهنا وضعيفا مثل كلبٍ دهسه شخص طائش وثري ثراءً كافيا لامتلاك سيارة لكنه ظلّ يمشي إلى جانب أحد آخر جاهل كفاية حتى يتلطف به؟ تلك هي (ماغي) حين تمشي، لم تتغير يوما، رأسٌ منكس وعينان تنظران نحو الأرض وأقدام تجر بعضها ذُلّا، هي على ذلك منذ أن شبت النيران التي التهمت بيتنا القديم تماماً.

وعن (دي)، فهي أذكى من (ماغي)، وبشعر جميل وجسد ممتلئ، لقد أصبحَت امرأةً الآن رغم أنني أنسى ذلك أحيانا.  كم مضى على احتراق ذلك البيت الآخر؟ عشر أو اثنتا عشرة سنة؟ أحيانا أستطيع سماع أصوات النيران والاحساس بذراعي (ماغي) ملتفة حولي وشعرها يدخن ولباسها يتساقط على شكل قطع ورقية صغيرة. بدت عيناها مفتوحتان بشدة ومتوهجة بالنيران من حولها، أما (دي) فأراها واقفة تحت شجرة اللثة الحلوة التي اعتادت استخراج اللثة منها وبنظرة على وجهها ملؤها التمعّن مُشاهدةً آخر لوحة زورق رماديةٍ في البيت تسقط باتجاه المدخنة الحمراء المشتعلة. وددتُّ لو أسألها: “لِمَ لمْ ترقصي حول الرماد؟” فقد كَرِهَت (دي) ذاك البيت كرها شديداً.

لطالما حسبت أنها كرهت ماغي أيضا، لكن ذلك كان قبل أن أجمع بدعم من الكنيسة أموالا لنرسلها إلى مدرسة في أوغستا. اعتادت أن تقرأ علينا دونما شفقةٍ: تفرض علينا كلماتٍ وأكاذيب وعادات شعوب أخرى، بل قصص حياة كاملة علينا نحن الأميّتين المحبوستين تحت صوتها، فقد غسَلتنا في نهر الخيال وأحرقتنا بكومة من المعرفة كنا في غنى عنها، وضغطت علينا بأسلوب قراءة العبيد التي اتبعتها حتى تسكتنا مثل غبيتين في اللحظة التي نوشك فيها أن نفهم.

ولطالما رغبت (دي) بالأشياء الجميلة، كارتداء فستان أصفر من قماش الأورجانزا حين تتخرج من الثانوية، وزوجا كعبٍ عاليين ليتطابقا مع زي أخضر كانت قد صنعتُه من زي قديم أعطاني إياه أحدهم. كانت تُطيل التحديق بأية كارثة تصيبها، فلم يكن يطرف جفنها لدقائق متواصلة، وغالباً ما حاربتُ رغبتي في هزها. وأصبح لها في سن السادسة عشرة أسلوبها المتفرد، وكانت تُدرك ذلك.

أما أنا فلم أتلقّ تعليما قط، فبعد الصف الثاني أُغلقت المدرسة، لا تسألوني لماذا، ففي 1927 لم يكن باستطاعة ذوي البشرة الملونة طرح ما قد يطرحونه من تساؤلاتٍ اليوم. تقرأ لي (ماغي) في بعض الأحيان وتتلعثم بعفوية، إنها لا ترى جيدا، وتعلم بأنها ليست ذكية، فالفطنة تجاوزتها مثلما قد تجاوزها الجمال والمال، وستتزوج من جون توماس (ذو الأسنان الطحلبية وتعابير الوجه الجادة) وسأتمكن من البقاء هنا وربما أُنشد ترانيم الكنيسة لنفسي، رغم أنني ما كنت مغنية جيدة يوما ولم أتحل بصوت جميل. لطالما كنت متفوقة في أعمال الرجال، اعتدتُ أن أحب حلب الأبقار حتى تلقيت طعنة جانبية وأنا بسن التاسعة والأربعين، فالبقر لطيف ومهذب ولن يزعجك ما لم تحاول حلبه بالطريقة الخاطئة.

لقد تعمدت إدارة ظهري للمنزل، فهو بثلاث غرف مثل ذاك الذي احترق عدا أن السقف معدني، فما عادت الأسقف الخشبية تُصنع، ولا توجد نوافذ حقيقية بل مجرد فتحات على جنبات البيت، مثل نوافذ السفن، عدا أنها ليست دائرية ولا مربعة، وبجلد غير مدبوغ يثبت أبواب تلك الفتحات. كما أن البيت محاط بمرعى، مثل ذاك البيت، لا عجب أن (دي) ترغب بتحطيمه حين تشاهده. كتبت لي يوما بأنها ستأتي لزيارتنا أينما عشنا لكنها لن تأتي رفقة أصدقائها. تساءلنا أنا و(ماغي) حيال هذا، وسألتني الأخيرة: “ماما، متى كان لـ (دي) أصدقاء؟”

نعم، حظِيَت بالقليل، فتيانٌ ماكرون يخرجون للتجول في يوم الغسيل بعد المدرسة، وفتياتٌ عصبيات لم يُر الضحك والتبسم على وجوههن يوما. صرن منبهراتٍ بـ(دي) ورحنَ يؤلّهن عباراتها المصوغة بإحكام وشكلها اللطيف وحس الفكاهة الذي يغلي ويثور كفقاعات بداخلها، كما أنها تقرأ لهم.

لم تلقِ لنا بالاً كثيرا حين كانت تتودد ل “جيمي تي”، فقد صبّت عليه كل قدرتها على اللومِ والانتقاد، فقد هرب إلى المدينة ليتزوج فتاة رخيصة من إحدى الأُسر الغنية والجاهلة، أما هي بالكاد استطاعت لمّ شتاتها بعده.

وعندما تصلُ سأقابلــ.. أوه لكن ها هم هنا!

تحاول “ماغي” تأدية عملها بطريقتها المزعجة، لكني أوقفها بيدي وأقول: “عودي هنا”، فتقف مكانها تحرك إصبع قدمها في التراب وكأنها تحفر بئراً.

تصعب رؤيتهم تحت أشعة الشمس المحرقة، لكن فوق ذلك أعرف أنها “دي” من أول لمحة لساقها التي تخرج من السيارة، فلطالما كانت ساقها رائعة وكأن الرب نفسه قد صاغها كما شاء. وفي الجانب الآخر من السيارة خرج رجل قصير وبدين والشعر يطغى على أنحاء رأسه ويتدلى بطول قدم واحدة من على ذقنه وكأنه ذيل بغل غريب الشكل، فأسمع صوت “ماغي” تطلق تنهيدة مُحبَطةً (هِه)، كأنما قد رأت نهاية أفعى ملتوية أمام قدميها مباشرة على الطريق.

والآن “دي”، بثوب يصل الأرض في هذا الجو الحار، ثوبٌ مزعج يؤذي بصري، بكثير من البرتقالي والأصفر كفيلٌ بعكس ضوء الشمس. أشعر بكل وجهي يزداد حرارةً بسبب الموجات الساخنة التي تصدرها، وكذلك من قرطيْ أذنيها الذهبيين المتدليين حتى كتفيها، ومن أساورها المعلقة التي تصدر صوتا حين تنفض طيّات الثوب من جيبها. الثوب فضفاضٌ وخفيف، ويعجبني حين تمشي مقتربة. وأسمع “ماغي” تعبر عن إحباطها مجددا بذلك الصوت. وشعر أختها، المسترسل كصوف الخرفان، أسود سواد الليل على أطرافه ضفيرتان طويلتان معقودتان ببعضهما كأنها تخبئ سحليتين خلف أذنيها.

نطقت “دي” وهي آتيةٌ من تلك الطريق الزلقة يقودها ثوبها قائلةً: “وا-سو-زو-تيان-أو[2]!”. أما الفتى البدين بشعره الممتد حتى السرة جاء متبعا بابتسامة وقال: “السلام عليكم يا أمي وأختي!”، راح يحضن “ماغي” لكنها ترنحت إلى الخلف نحو كرسيي. أحسست بها ترتجف هناك، وحين رفعت رأسي رأيت عرقها يتصبب من ذقنها.

قالت لها “دي”: “لا تقِفي”. سيتطلب الأمر دفعة ما بما أنني شجاعة. يمكنك رؤيتي لثانية أو اثنتين قبل أن أفعلها، استدارت مُظهرة كعب نعلها الأبيض وعادت إلى السيارة.  وفي الخارج تلقي نظرة خاطفة ومعها كاميرة “بولارويد[3]” فتنحني لتلتقط صورة تلو الأخرى لي وأنا أمام المنزل و”ماغي” متقوقعةٌ خلفي. كما أنها لا تلتقط أية صورة دون أن تتيقن من أن البيت يتضمنها، وحين تمرّ بقرة تمضغ الطعام على زاوية الفناء، تلتقطها معي و”ماغي” والبيت. وبعدها تضع الكاميرة في مقعد السيارة الخلفي، وتأتي لتقبل جبيني.

في تلك الأثناء أخذ “السلام عليكم[4]” يحرك يد “ماغي”، كانت يدها مترهلة وربما باردة كسمكةٍ رغم العرق المتصبّب منها، ظلت تحاول نزع يدها منه، لكن يبدو أن “السلام عليكم” كان يحاول مصافحتها، لكنه أراد ذلك بلطف، أو أنه ربما لا يجيد فعل ذلك. غير أنه سرعان ما يأس من “ماغي” على أية حال.

قُلت: “حسنا دي”

قالت هي:” لا ماما، لست دي، بل “وانغيرو ليماونيكا كيمانغو!”

قُلت مستغربة:” ماذا حدث لـ “دي”؟”

قالت (وانغيرو): “إنها ميتة، لم أستطع تحمل ذلك أكثر، أن أحمل ذات اسم من اضطهدني”

قُلت:” لكنك تعلمين أيضا أنك سُمّيتي باسم خالتك (ديسي)”.  (ديسي) تُعد شقيقتي وهي من أسمت (دي) بهذا الاسم ولاحقا ما أطلقنا عليها اسم (دي الكبيرة) بعد ولادة (دي).

سألت (وانغيرو): لكنها سميت تيّمنا بمن؟”

أجبتها:” باسم جدتك كما أظن”

سألت مجددا:” وهي الأخرى سُميت باسم من؟”

أخبرتها وقد رأيت عليها آثار التعب:” باسم أمها، هذا أكثر ما يمكنني تتبعه في العائلة”. لكني في الواقع كنت أستطيع التتبع وذكر من يتلوها إلى ما بعد الحرب الأهلية.

قال “السلام عليكم”: حسنا، ها أنتِ هنا”.

أطلقت “ماغي” تنهيدتها المحبَطة مجددا.

بينما واصلتُ الحديث:” لم أكن هنالك قبل ظهور اسم (ديسي) في العائلةـ فلمَ عليّ محاولة تتبعه إلى هذا الحد؟”

بقي جالسا مبتسما ينظر إليّ باحتقار وكأنه يتفحص سيارة من الطراز الرفيع، وظل بين لحظة وأخرى هو و “وانغيرو” يرسلون بنظراتهم شزراً إليّ.

سألت:” كيف يُتهجؤ هذا الاسم؟”

قالت (وانغيرو): “ليس عليك مناداتي به إن لم تريدي”

رددتُ عليها:” لم لا؟ إن كان هذا ما تريدين أن نناديك به فسوف نفعل”

فردّت علي:” أعلم أنه يبدو محرجا في البداية”

فقلت لها: “سأعتاد عليه، انطقيه مجددا بوضوح”

ولاحقا سرعان ما تمكنتُ من الاسم، أما اسم (السلام عليكم) فقد كان أطول بمرتين وأصعب بثلاث مرات، وبعدما تعثرت فيه مرتين أو ثلاث أخبرني أن أدعوه بـ”حكيم الحلّاق” فحسب. وددت أن اسأله إن كان حلاقاً فعلا لكني لم أظنه كذلك ولذا لم اسأله.

جلست أحدثه:” لابد أنك تنتمي إلى أحدى تلك الجماعات المربية لماشية البقر على الطريق. فقد قالوا “السلام عليكم” حينما التقوا بك أيضا غير أنهم لم يصافحوك. إنهم دوما مشغولون بإطعام ماشيتهم ووضع الملح لها وإصلاح السياج ورمي القش. ولما سَمّم البِيض بعض الماشية مكث الرجال طوال الليل حاملين بنادقهم، مشيتُ ميلاً ونصف الميل حتى أرى ذلك فقط.

فقال (حكيم الحلّاق): “أتقبل بعضًا من معتقداتهم، لكني لا أميل إلى الفلاحة وتربية المواشي”. (لم يخبراني ولم أسأل إن كانت وانغيرو (دي) قد ذهبت فعلا وتزوجته).

جلسنا نتناول الطعام فأخبرنا على الحال بأنه لم يأكل الملفوف وأن لحم الخنزير نجس، أما (وانغيرو) فقد تناولت طبق التشيتلينز مع الخبز وقضت على الأخضر واليابس، وتحدثت طويلا أمام طبق البطاطا الحلوة. فكل شيء أبهرها حتى حقيقة أننا ما زلنا نستعمل المقاعد الخشبية التي صنعها والدها للطاولة حين لم نتحمل كلفة شراء الكراسي.

بكت وقالت لي قبل أن تدير وجهها لـحكيم حلاق:” أوه ماما!، لم أكن أدرك مدى جمال هذه المقاعد، أستطيع الإحساس بعلامات الجلوس عليها” وظلت تتلمس المقعد حين قالت ذلك. ثم رمقت بعينها قبل أن تحط يدها على طبق الزبدة الخاص (بالجدة دي) وصاحت:” ها هو!، كنت أعلم بأن هنالك شيئا أود لو تعطيني إياه”. قفزت (وانغيرو) من على طاولة الطعام واتجهت نحو الزاوية لتنظر حيث ممخضة الزبدة، فقد أصبح الحليب متماسكا الآن.

قالت:” ما أحتاجه هو غطاء الممخضة، ألم يصنعها العم “بَدي” من الشجرة التي كانت لكم؟”

قُلت لها: “بلى”

قالت فرِحةً:” و..آه! أريد عصا الممخضة أيضا”

قال الحلاق:” وهل صنع العم “بَدي” العصا كذلك؟”

رفعت دي (وانغيرو) رأسها ونظرت إلي.

نطقت (ماغي) بصوت ضعيفٍ لا يكاد يُسمع:” إن من نحت العصا هو أول زوج للعمة دي، كان اسمه هنري، لكن لاحقا أُطلِق عليه اسم “ستاش”.

قالت “وانغيرو” ساخرة من أختها:” دماغ ماغي كدماغ الفيل” ثم أتبعت بقولها: “يمكنني استعمال غطاء الممخضة كسطح لطاولة الجلوس، كما سأفكر بشيء جميل للعصا”.

عندما أنهت لف العصا، علِق المقبض فأخذتُه بين يدي لبرهة، لم تكن هنالك حاجة حتى لرؤية مكان تحريك العصا لأسفل وأعلى لجعل الزبدة تُشكّل شيئا أشبه بالحوض في الخشب، في الواقع كانت هنالك علامات حفر صغيرة؛ بالأحرى كان يمكن رؤية علامات أصابع إبهامٍ غاصت فيها، لقد كان الخشب ذا لون أصفر فاتح جميل، أُخذ من شجرة زرعت في الفناء حيث عاشت (دي الكبيرة) رفقة (ستاش) سابقا.

بعد العشاء، راحت دي(وانغيرو) تفتش وتعبث بالصندوق المجاور لسريري، وعادت (ماغي) لتنظيف الأواني في المطبخ، خرجت (وانغيرو) بلحافين كانت (الجدة دي) قد جمعتهما، وعلقناهما أنا ودي الكبيرة في إطار الأغطية في الرواق الأمامي وأصلحناهما. إحداهما كان على شكل “لون ستات” والآخر “امش حول الجبل” وفي كليهما كان هنالك رقع من ملابس ارتدتها الجدة دي قبل خمسين عاما، ورقع من قمصان الجد “جاتيل بيزلي” وقطعة زرقاء شاحبة صغيرة جدا كصندوق أعواد ثقاب، مأخوذة من زي جدي الأكبر “إزرا” الذي ارتداه إبان الحرب الأهلية.

قالت (وانغيرو) بكل تودد ولطف:” أيمكنني الحصول على هذين اللحافين القديمين؟”

سمعت صوت شيء يسقط في المطبخ، وبعدها بدقيقة أُغلق باب المطبخ بعنف.

اقترحتُ على (وانغيرو): “لم لا تأخذين واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، فالقديمة صنعتُها رفقة دي الكبيرة من ملابس جمعتها جدتك قبل وفاتها”

اعترضت (وانغيرو):” كلا، أريد هاتين، فهما مُحاكتان من عند أطرافهما بآلة الحياكة”

أخبرتها:” ذلك سيطيل من عمر الأغطية”

فقالت:” ليس هذا ما أصبو إليه، إن هذه الأغطية جمعت من ملابس اعتادت جدتي ارتداءها، وقد فعلت كل هذا يدويا، تخيـــلي!!”. تشبثت بالأغطية باطمئنان بين ذراعيها وراحت تتلمسها بعناية.

أجبُتها مُحاولةً لمس الأغطية:” إن بعض هذه الرُقع كالبنفسجية مثلا أتت من ملابس عتيقة أعطتها إياها أمها”، تراجعت دي (وانغيرو) إلى الخلف حتى لا أصل إلى اللحافين، فقد أصبحت بالفعل تنتمي إليها.

صاحت مرة أخرى وهي متمسكة بها بشدة في حِجرها:” تخيلي!”

صارحتُها:” في الحقيقةـ، لقد قطعتُ وعدا بأن أعطي هذين اللحافين لـ(ماغي) حين تتزوج جون توماس”

شهقت (وانغيرو) وكأن نحلة لسعتها وقالت:” لن تقدّر ماغي هذه الأغطية وستكون متخلفةً بما يكفي حتى تضعها للاستعمال اليومي”

رددتُ عليها:” وهذا ما أظنه، أتمنى أن تفعل كذلك! يعلم الرب المدة التي أبقيتها دون أن يستعملها أحد”. لم أُرد استحضار كيف أنني قد عرضت على دي (وانغيرو) أحد اللحافين حين ذهبت للكلية وأخبرتني حينها بأنها غير عصرية وعتيقة.

غير أنها الآن تقول مشتعلةً غضبا بأنها “لا تقدر بثمن” وأنها “ستغدو رثة ومهترئة خلال خمس سنين إن استخدمتها ماغي”

قُلت لها:” بإمكانها دوما صنع المزيد، (ماغي) تجيد حياكة الأغطية”

حدّقت دي (وانغيرو) بي بنظرة كره وقالت: “لن تفهمي، فالمغزى كله في هذين اللحافين، هذان فقط!”

تساءلتُ وقُلت:” حسنا، ماذا ستفعلين بها؟”

أجابت:” سأعلقها”. وكأنما ليس من شيء آخر لتفعله بها.

كانت (ماغي) بحلول تلك اللحظة واقفة أمام الباب، كان بإمكاني سماع صوت حركة قدميها. نطَقَت كشخص لم يعتد أن يفوز أو يحظى بأي شيء له:” بإمكانها الحصول عليها ماما، سأتذكر (جدتي دي) دون الحاجة إلى اللحافين”

رمقتُها بنظرة حادة وقد تصبغت شَفَتُها السفلى بسعوط عنب الأرض وجعلَ شكلها كالبلهاء. كانت جدتها دي ودي الكبيرة هما من علمها حياكة الأغطية.

وقفت مكانها مخفية يديها المتشوهتين بالندب خلف طيّات تنورتها. ورمقت أختها بنظرة يشوبها شيءٌ من الخوف غير أنها لم تكن غاضبة منها. ذاك كان نصيب (ماغي) وذاك حيث علِمَت خطة الرب.

حين نظرتُ إليها على تلك الحال، أحسستُ بشيء في رأسي يتغلغل حتى وصل إلى أخمص قدميْ، مثلما أكون في الكنيسة وتلامسني روح الرب فتغمرني البهجة وأصرخ.

فعلت شيئا لم أتجرأ على فعله من قبل: احتضنتُ (ماغي) وأخذتها إلى الغرفة وانتزعت الأغطية من بين يديّ السيدة (وانغيرو) ووضعتها في حضن (ماغي). وتسمرت الأخيرة بفم مفتوح هناك على سريري.

أخبرت (دي) أن تأخذ واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، لكنها استدارت دونما أية كلمة وهرعت إلى حكيم الحلاق، وقالت أثناء خروجي مع ماغي إلى السيارة:” أنتِ لا تفهمين”

أردتُ أن أعرف:” ما الذي لا أفهمه؟”

قالت لي:” تُراثُك” والتفَتَتْ إلى (ماغي) وقبّلتها وقالت:” عليك أن تصنعي من ذاتك شيئا، فهذا يوم جديد فعلا لنا، لكنك لن تتعلمي بهذه الطريقة التي ما زالت تعيش عليها ماما”.

ووضعت (وانغيرو) نظارات شمسية أخفت كل ما في وجهها عدا مقدمة أنفها وذقنها.

أما (ماغي) فقد ابتسمت، ربما للنظارات، لكنها كانت ابتسامة صادقة بلا رهبة، وبعدما تلاشى غبار السيارة طلبتُ من ماغي احضار القليل من السعوط لأستنشقه، وثم بقينا نحن الاثنتين نقضي وقتا ممتعا إلى أن حان وقت العودة إلى المنزل والذهاب للفراش.

[1] مقدم برامج تلفزيونية أمريكي شهير خلال الفترة بين الستينات وحتى أوائل تسعينات القرن الماضي

[2] أسلوب إلقاء تحية بإحدى اللغات الافريقية

[3] نوع من أنواع الكاميرات

[4] أسلوب تهكم على الفتى الذي قال السلام عليكم

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

صلاة باللغة الأم

صلاة باللغة الأم

ياسوناري كاواباتا

ترجمة: علي زين.

yasno

1

كان يقرأ كتاباً عن علم اللغويات.

كانت هذه حقيقة نقلها الدكتور راش، وهو أميركي الجنسية.

كان هناك شخص إيطالي يدعى البروفيسور كانديلا، كان يدرّس اللغة الإيطالية والفرنسية والإنكليزية، مات هذ الرجل بالحمى الصفراء.

في اليوم الذي بدأت فيه الحمّى بالظهور كان يتحدّث باللغة الإنكليزية، وفي منتصف مرضه، أصبح يتكلم الفرنسية فقط، وأخيراً في ساعاته الأخيرة، أصبح يتكلم لغته الأم دون غيرها، أي الإيطالية. وبطبيعة الحال لم يكن تصرفه هذا وكأنه تحت تأثير هذيان الحمّى، كما لم يكن يملك في خضم هذا التصرف أي حضور ذهني يسمح له بالتفاخر بذلك أيضاً.

 

حدث هذا أيضاً مع امرأة إيطالية أصيبت بالجنون بشكل مؤقت.

بعد أن أصيبت بالجنون كانت تتكلم الإيطالية بشكل رديء، ومن ثم مع تدهور حالتها، أصبحت تتكلم الفرنسية، وبعد أن بدأ جنونها بالانحسار أخذت تتحدث اللغة الألمانية، وأخيراً عندما بدأت بالتعافي، عادت إلى لغتها الأم، الإيطالية.

كما حدث أن أمضى عالم حِراجة عجوز تابع للحكومة ما تبقى من عمره في ألمانيا، كان هذا العجوز قد عاش على الحدود البولندية عندما كان صبياً. ولمدة ثلاثين أو أربعين عاماً لم يتكلم اللغة البولندية أو حتى سمعها من أحد، فيمكنك الافتراض أنه نسي اللغة بالكامل. إلا أنه، وخلال الساعتان اللتان قضاهما تحت تأثير التخدير، تحدّث وصلى وغنى باللغة البولندية.

ومن بين معارف الدكتور راش كان هناك رجل ألماني قد عمل لسنوات كمبشّر للكنسية اللوثرية في فيلادلفيا، وأخبر راش بالقصة التالية:

كان هناك بعض السويديين القدماء في الجزء الجنوبي من المدينة. مرت عليهم حوالي الخمسين أو الستين سنة منذ أن هاجروا إلى الولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة كانوا نادراً ما يتحدثون بالسويدية، نادراً جداً لدرجة لم يعد أحد يعتقد أنهم لازالوا يذكرونها.

ومع ذلك، فقد صلى العديد من الناس، وهم على فراش الموت وعلى وشك أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، باللغة السويدية، لغتهم الأم، فكان الأمر كما لو أن ذكرياتهم القديمة والمدفونة عادت لهم من مسافة بعيدة.

كانت هذه قصة عن اللغة. ولكن بماذا كان هذا اللغز يريد أن يخبرنا؟

من المرجح أن يجيبنا طبيب نفسي بقوله “أنّ هذا النوع من الحوادث ليس أكثر من انحراف في الذاكرة”.

ومن المرجح أيضاً أن شخصاً عاطفيًا، سيشرّع ذراعيه العاطفيتين وسيعانق بها أولئك العجزة تعاطفاً، أولئك العجزة الذين لا يسعهم إلا الصلاة بلغتهم الأم.

إذا كان الأمر كذلك، فما هي اللغة؟ هل هي مجرد رمز. ما هي اللغة الأم؟

كان هناك كتاب يقول: “تطورت الاختلافات اللغوية بين القبائل الهمجية لتصبح وسيلة تخفي القبيلة بها أسرارها عن القبائل الأخرى”. إذا كان الأمر كذلك، فبعيدًا عن كون الصلاة باللغة الأم تعتبر تقليداً إنسانياً قديماً، مرتبطون نحن به ارتباطًا وثيقًا منذ الأزل، ربما تكون اللغة الأم أيضاً وسيلة للدعم العاطفي.

إن البشرية بتاريخها الطويل ليست الآن سوى جثة مربوطة إلى شجرة بحبال التقاليد. وإذا تم قطع الحبال، فسوف تسقط الجثة ببساطة على الأرض. إن الصلاة بلغتنا الأم ليست إلاّ مظهر من مظاهر تلك الحالة المثيرة للشفقة.

ومع هذا – لكن لا، لابدّ أنه كان يشعر بهذه الطريقة لأنه فقط كان يقرأ كتاباً عن اللغويات ولأنه تذكّر “كايوكو”.

“قد تكون كايوكو بمثابة لغة أم بالنسبة لي”.

 

2

“إن صدره ليس بعرض صدر الحمام، لكن لأجنحته ذات العرض حين تكون مفتوحة”

كان هذا وصفاً لجندب، علقت هذه الكلمات في ذهنه عندما استيقظ، كان قد رأى في حلمه جندباً عملاقاً.

لم يستطع تذكّر أي شيء قبل هذا.

كان هناك جندب ضخم يطير في الأرجاء، ويضرب بجناحيه قرب أذنه، لا بل حتى يكاد يلمس خدّه. لقد فهم تماماً الأسلوب الذي عليه اتباعه لينفصل عن “كايوكو”، لقد علّمه الجندب كيف يفعلها.

وخلال لحظة كان يخطو على طريق ما في القرية، لابد أن الوقت كان ليلاً، وبالكاد كان باستطاعته تمييز الأشجار المتناثرة على الطريق، فيما اخذ الجندب الكبير الشبيه بالحمام يقفز بمراوغة حول خدّيه، لم يكن هناك أي صوت، ومع غرابة الموقف فقد أشعره ضرب الأجنحة بالإثارة، أحس بالأمر كما لو انه لامس التعاليم السرية للبوذية الخفيّة في نبضات ضرب الأجنحة، وبمعنى آخر فقد كان الجندب الشبيه بالحمام رسولاً للحقيقة. إنّ الانفصال عن “كايوكو” كان فعلاً صائباً أخلاقياً. لقد علّمه هذا الجندب دروساً أخلاقية.

أسرع على الطريق ذي اللون الحليبي وهو يفكّر بهذه الأفكار، وكأن أحداً بطريقة ما يلاحقه، وفي اللحظة التي جاء إلى ذهنه فيها وصف الجندب استيقظ من نومه.

“إن صدره ليس بعرض صدر الحمام، لكن لأجنحته ذات العرض حين تكون مفتوحة”.

كانت لزهرة “مسك الروم” ذات الأزهار المزدوجة رائحة باللون الأبيض بالقرب من سريره، كانت هذه الزهرة خاصة بموسم شهر تموز، وفي هذا الشهر لا تُصرّصر الجنادب، فلماذا حلم بالجندب إذن؟ هل حصل شيء ما في الماضي ليربط حشرة الجندب بكايوكو؟

من المؤكد أنه استمع برفقة “كايوكو” لصوت صرّصرّة الجنادب في الضواحي، وربما انهم ايضاً رأوا هذه الحشرات وهي تطير في السماء بينما كانا يتنزهان معاً في حقول الخريف، ومع هذا، “ما الذي يجعل من ضربات أجنحة الجندب رمزاً أخلاقياً؟”.

هذه هي طريقة عمل الأحلام، لكنه لم يستطع إلى الآن الكشف عن ذكرى له مع الجنادب لتساعده في تفسير حلمه هذا، فتبسّم وعاد للوراء غارقاً في النوم.

بجانب المنور فوق المدخل الواسع لمنزل المزارع كانت هناك غرفة تشبه عش طائر السنونو، بنيت الغرفة على شكل برج، فخبأ نفسه داخل هذا العش الغامض. ولكن شيئاً ما جعله يشعر بعدم الارتياح، فلم يستطع البقاء طويلاً في هذه العلّية السرية. فتزحلق كلاعب بهلواني بواسطة عامود بامبو نحو الحديقة الداخلية، وكما كان يحدث في السابق كان هناك رجل يلحق به، فهرب من البوابة الخلفية، كان المنزل يعود لعمه في القرية، وخارج البوابة في الخلف كان هناك صبيٌ صغير، مثل الصبي “إيسونبوشي” في القصة الخيالية، كان الصبي يعترض طريقه كلما حاول أن يركض نحو مخزن الرز.

.”لا، لا، لا يمكنك الاختباء في مكان كهذا”

.”أخبرني إذن أين بإمكاني الاختباء”

.”اختبئ في الحمّام”

.”الحمّام؟”

.”ليس هناك مكان آخر عدا الحمّام، أسرع، هيّا”

حثّه الصبي حينها على خلع ملابسه، ولكنه فكر بإمكانية حدوث مشكلة اخلاقية فيما لو رأى الرجل الآخر الصبي وهو يحمل ملابسه، فاندفع بدلاً من ذلك نحو نافذة الحمّام. ويا لها من مفاجأة! لامسه شيء كالماء الدافئ الذي لم يكن سوى بشرة كايوكو، كانت قد تسلقت للحمام قبله، كانت بشرتها ناعمة وكأنها مدهونة بالزيت، وكان حوض الاستحمام صغيراً جداً بما لا يسمح بالاتساع للاثنين معاً.

.”لن ينجح هذا، إذا رآنا الرجل بهذه الحال، فلن تكون هناك نهاية للشكوك التي ستحيط بنا”

ما أيقظه من نومه هنا هو الإحساس ببشرة “كايوكو” على مسام بشرته في الحلم، بالإضافة للفزع الذي أحس به بعد هذا الشعور.

 

رأى تألق التصميم الذهبي على مخدة الرأس الخاصة بزوجته. كانت المصابيح ما زالت مطفأة وكان ضوء الصباح يتدفق بصفاء إلى الداخل. تَّلمس جسد زوجته. التي كانت ملفوفة بالكامل حتى قدميها في ثوب نومها.

لم يكن إذن لمسه لجسد زوجته ما تسبب بحلم كهذا.

على أي حال، من كان هذا الرجل الذي كان يحاول ملاحقته وقتله في حلمه؟ كان بالتأكيد زوج “كايوكو” أو عشيقها. لكنها لم تكن مع رجل آخر ابداً عندما انفصلا، لذلك لم يكن ممكناً أن يراه أو يسمع عنه.

ظل يتساءل لماذا عليه أن يحلم بحلم يكون فيه مطارداً من قبل رجل آخر.

هل جعلته العلاقة مع “كايوكو” مغرورًا جدًا لدرجة اعتقاده بأنه يمكن أن يكون موضع غيرة شخص ما؟

هذا ممكن.

وحتى الآن كان عليه أن يتعلم من الجندب أن انفصاله عنها كان أخلاقياً.

ربما لأنه لم يكن كذلك.

 

 

3

 

.”أنا عمّ كايوكو”

قالها ثم دخل المنزل على الفور وكأنه لا يحتاج أن يقول أكثر من ذلك حتى يؤذن له بالدخول.

“في الحقيقة إن سبب قدومي إلى هنا هو أن “كايوكو” كانت قد أرسلت لي رسالة مثيرة للاهتمام، لذلك أردت أن أقابلك وأتكلم معك”.

ألقى العمّ نظرة حذرة نحو زوجة الرجل وهي تقدّم الشاي.

“هلّا ناديتها، لو أنها هنا” سأل العمّ.

“هل تقصد كايوكو؟”

“نعم”

“ليس لدي أي فكرة عن مكانها؟”

“أنا على دراية تامة بالأمور، لطفاً لا تحاول أن تخبئ عنّي أي شيء، لقد تلقيت رسالة مرسلة من عنوان منزلك هذا”.

أخرج العم رسالة من جيبه، كُتب على مقدمتها ولاية كاغاوا، تساءل الرجل وهو يأخذ الرسالة فيما إذا كان عمها قد تكبد عناء السفر إلى طوكيو من مسقط رأس كايوكو في جزيرة شيكوكو فقط لمجرد رؤيته. أشار عنوان العودة بالفعل إلى وصية كايوكو من عنوانه الحالي، تأكد من العلامة البريدية وقد أصابته الدهشة، كانت الرسالة قد أرسلت من مكتب البريد الواقع في مقاطعة آتامي حيث كان يعيش.

.”أقرأها من فضلك”

(عمّي العزيز،

لقد تركت كامل شؤوني بيد السيد كيتاني، مصيري وجنازتي، لذلك أريدك أن تسامحني إذا لم تعد حتى خصلة من شعري إلى مسقط رأسي، أرجوك أن ترى السيد كيتاني إذا سنحت لك الفرصة، وأن تسأله عن هذا الشأن، أتساءل ما الذي قد يقوله عنّي.

وصية كايوكو للسيد كيتاني.)

أيّ نوع من الأحاجي هذه؟ كيف علمت أين يقطن؟ ولماذا جاءت إلى الساحل هنا؟ هل لإرسال الرسالة فقط؟

وبعد يومين انتشرت شائعة أن صياداً من “أومي كيب” قد اكتشف انتحاراً مزدوجاً لعشيقين، قال الناس أن الصياد رأى بوضوح، ومن على قمة جرف يرتفع لثلاثمائة قدم، جسمين على أرض المحيط كوضوح السمك في حوض الأسماك، لعل المياه كانت حينها صافية على غير العادة في هذا الوقت المبكر من الصيف.

“إنها كايوكو”

كان من الطبيعي أن يكون حدسه صحيحاً.

لقد اختارت قريته موقعاً لانتحارها، كان وجه الرجل خالياً من أي تعابير، إلا أن هذا الرجل كان يحسد عشيقها الأول، حتى في لحظة موته.

عند اقتراب الموت، تتآكل الذكرى، والذكريات الحديثة هي أول ما يتلاشى، ثم يمضي الموت للوراء حتى يصل إلى بدايات أقدم الذكريات، ثم تشتعل الذاكرة تماماً وللحظة فقط، كشعلة على وشك الاطفاء، وهذه هي “الصلاة باللغة الأم”.

وبهذا، فما كان يحترق في قلب “كايوكو” وهي تموت في المياه لم يكن شريكها في الانتحار، بل كان وجه عشيقها الأول، ربما كانت تلك صلاتها البائسة باللغة الأم.

.”يا لها من امرأة حمقاء”

هذا ما قاله لعمّها بانزعاج وغضب شديدين يجعلك تظن معه أنه رغب في أن يركل الجثة، ولعله كان يتحدث إلى نفسه.

“لقد كانت متلبسة بشبح قديم حتى موتها، لقد كانت برفقتي لعامين فحسب، لكنها لم تتمكن من النجاة مني، لقد جعلت من نفسها عبدة للحياة، كصلاة لعينة باللغة الأمّ!”.

 

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

التخلي عن قطة

f copy copy

التخلي عن قطة

ترجمة يحيى الشيخ

بالطبع لدي الكثير من الذكريات لأبي . إنه من الطبيعي فحسب، بحيث نأخذ بعين الإعتبار بأننا عشنا تحت نفس السقف لمنزلنا والذي لم يكن فسيحاً من وقت ولادتي إلى حين مغادرتي للمنزل بسن  ثمانية عشر عاماً.  وكما هي حالة أغلبية الأطفال والأباء، أتخيل ، بعض ذكرياتي عن أبي بأنها كانت سعيدة ، وبعضها ليس بقدر كافي. ولكن تبقى تلك الذكريات معظمها عالقة في الذهن بشكل واضح  ولا تندرج حالياً  تحت أي فئة ; إذ تنطوي على كثير من الأحداث العادية .

 

على سبيل المثال :

عندما كنا نعيش في شوكوغاوا ( جزء من مدينة نشينوميا، بولاية هايوغو) ، ذهبنا في يوم ما  إلى الشاطئ للتخلص من قطة. ليست قطة صغيرة ولكنها أنثى قط أكبر سناً. لماذا احتجنا إلى التخلص من القطة لم أستطع أن أتذكر ذلك. كان المنزل الذي عشنا فيه بيت عائلي مع حديقة و مساحة كبيرة للقطة. ربما كانت قطة ضالة وقد أخذناها و هي حامل، شعر أبواي بأنهم ليس بوسعهم الإهتمام بها مرة أخرى. ذاكرتي يشوبها شائبة في هذه النقطة . كان التخلص من القطة في ذلك الوقت رغبة مشتركة، وليس شيئا يرغب أحد ما أن ينتقدك لفعل ذلك. لم تخطر في بال أي شخص ابدأ  فكرة إخصاء القطط . كنت في الصفوف الدنيا بالمدرسة الإبتدائية بذلك الوقت، أعتقد، ربما كان حوالي عام 1955، أو لاحقاً بقليل. و كان بالقرب من بيتنا حطام مبنى البنك الذي قد تعرض للقصف بالطائرات الأمريكية—فإنها إحدى  ندوب الحرب القليلة التي لا زالت ظاهرة.

 

انطلقنا أنا وأبي في ظهيرة  ذلك الصيف للتخلي عن القطة عند الشاطئ. ضغط على دواسة دراجته، بينما جلست في الخلف حاملاً الصندوق و بداخلها القطة. قدنا على إمتداد نهر شوكوغاوا، وصلنا إلى شاطئ الكوري، وضعنا الصندوق أرضاً حول بعض الأشجار هناك، دون النظر إلى الوراء، وعدنا إلى البيت. لابّد أن يبعد الشاطئ عن بيتنا حوالي كيلو مترين.

 

عند المنزل ، ترجلنا من الدراجة — نناقش كيف شعرنا بالأسف حيال القطة، ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل؟— و عندما فتحنا الباب الأمامي كانت القطة التي تخلينا عنها للتو هناك، تقوم بتحيتنا بمواء ودي، و بذيلها الطويل منتصباً . كانت قد سبقتنا إلى المنزل. ففي حياتي، لم أتمكن من معرفة كيف فعلت ذلك. كنا على الدراجة، رغم ذلك. ولقد تعثر أبي كذلك. وقفنا هناك للبرهة، دون أن ننبس ببنت شفة. ببطء، تغير منظر أبي من ذهول تام إلى نظرة إعجاب و في النهاية ، و بتعبيرٍ عن ارتياح. عادت القطة كي تكون حيواننا الأليف.

 

كان لدينا قطط دوماً بالمنزل، وكنا نحبهم. و لم يكن لدي أخوة وأخوات، كانت القطط والكتب أفضل أصدقائي حين كنت أشب عن الطوق. أحببت أن أجلس على الشرفة مع القطة متشمساً بنفسي. لذا لماذا أخذنا القطة إلى الشاطئ وتخلينا عنها؟ لماذا لم أحتج على ذلك؟ تلك الأسئلة—بالإضافة إلى كيف سبقتنا القطة إلى المنزل — لم تزل بلا إجابة.

 

ثمّة ذكرى أخرى لوالدي هي :

 

يجلس كل صباح ، قبل تناول الإفطار ، لفترة طويلة أمام  ضريح بتسودان في منزلنا، يتلو باهتمام مغمض العينين الصلوات البوذية،. فلم يكن ضريحاً بوذياً عادياً، تماماً، ولكن كان عبارة عن صندوق اسطواني زجاجي صغير بها تمثال بوديساتفا منقوش بشكل جميل داخله. لماذا يتلو والدي سوترا كل صباح أمام الصندوق الزجاجي، عوضاً عن التلاوة أمام بوتسودان الأساسي؟ هذه واحدة من أسئلة عديدة في قائمة أسئلتي لم ترد لها إجابة .

 

على أي حال، كان جلياً أن هذه شعيرة مهمة بالنسبة  له، أشار أحدهم بتلك البداية كل يوم. على حد علمي، لم يفشل أبداً لإداء ما يدعوه ب ‘‘واجبه’’ ولا يسمح لأحد أن يتدخل فيها. كان ثمّة تركيز شديد عن العمل برمته؛ وليست منصفة، وتوسم ببساطة ب‘‘عادة يومية’’ .

 

ذات مرة ، عندما كنت طفلاً ، سألته لأجل من كنت تصلي، و رد بأن كان ذلك لأولئك الذين قد ماتوا في الحرب. و إلى زميله الجندي الياباني الذي قد مات، لطالما كان الصينيون أعداءهم. لم يُعط المزيد من التفاصيل، ولم أقم بالضغط عليه. أظن لو أن كان لدي رغبة بالتحدث لفتح قلبه لمزيد من التفاصيل. ولكن لم أفعل ذلك. كان ثمة شئ ما في داخلي حال دون أن أسعى وراء الموضوع.

 

يتعين علي أن أشرح قليلاً عن أصل أبي. كان والده ، بينشكي موراكامي، الذي ولد في عائلة فلاحين في ولاية أيشي. كما هو شائع بين الأبناء الصغار، كان جدي قد أرُسل إلى معبد قريب للتدريب ك كاهن. كان طالباً لائقاً، وبعد فترة من التدريب في معابد عديدة كان قد عيُن كاهناً رئيسياً في معبد أنيوجي، في كيوتو. كان لدى هذا المعبد أربعمائة أو خمسمائة عائلة في أبريشتها، وبالتالي كانت ترقية وظيفية تماماً بالنسبة له.

 

نشأت في أوساكا– بمنطقة كوبي، وبالتالي لم تكن لدي فرص عديدة لزيارة منزل جدي، بالنسبة لمعبد كيوتو هذا ، لدي ذكرى قليلة عنه. ما فهمته، ومع ذلك ، أنه كان شخصاً حراً وغير مقيد، و معروف عنه حبه للشرب. كما يدل أسمه — يعني صفة بن أول اسمه ‘‘بلاغة’’—كان لديه طريقة مع الكلمات ; كان كاهناً مؤهلاً ، وكان على ما يبدو شعبياً. أتذكره شخصية كاريزمية ، بصوت مدوي .

 

كان لدى جدي ستة أبناء (ولا فتاة واحدة )، وكان يتمتع  بصحة جيدة، ورجلاً محباً، ولكن للأسف، عندما كان في السبعين من عمره ، ففي الساعة الثامنة وخمسون دقيقة صباحاً من 25 من أغسطس عام 1958م ، صُدم بقطار بينما كان يعبر مسار القطار طريق كيشين، التي تربط كيوتو (ميساساجي) و أتوزو، و قُتل على أثرها.  كانت سكة حديد غير خاضعة للمراقبة، بحيث تقطع في يامادا- تشو،كيتاهانينما،ياماشينا ، في هيقاشيما- كو. ضرب إعصار كبير إقليم كينكي في هذا اليوم بالذات; كان يمطر بغزارة، وكان جدي يحمل مظلة، ربما لم يرى القطار يسير منعطفاً. و كما كان سمعه ضعيفاً أيضاً.

 

علمت أسرتي مساءاً بأن جدي قد مات، أتذكر أبي يُجهز بسرعة لذهاب إلى كيوتو، و أمي تبكي ، متشبثة به، ملتمسة ‘‘ مهما فعلت، لا توافق على تولي المعبد’’ كنت حينها بسن تسعة سنوات في ذلك الوقت، ولكن حفرت هذه الصورة في دماغي، مثل مشهد لا يُنسى من فيلم باللون الأبيض والأسود. كان وجه أبي بلا تعابير، ويومئ رأسه بصمت. أعتقد أنه اتخذ قراره مسبقاً. بإمكاني أن أشعر بذلك.

 

ولد أبي في 1 ديسمبر عام 1917م ، في أواتا- غوشي، ساكي- كو، بمدينة كيوتو. عندما كنتُ طفلاً ، كانت فترة ديمقراطية تايشي السلمية تقترب من نهايتها ، اتبعها فترة الكساد العظيم القاتم ، بعدئذ كان مستنقع حرب الصينية اليابانية، و أخيراً ، مأساة الحرب العالمية الثانية. اتى بعد ذلك الإرتباك والفقر مبكراً في الفترة ما بعد الحرب، عندما كان جيل أبي يقاوم من أجل البقاء. كما ذكرت، كان أبي واحداً من ستة أخوة. وكان قد جُند ثلاثة منهم وحاربوا في الحرب الصينية اليابانية، و نجو بأعجوبة دون جروح خطيرة. كان جميع الأبناء الستة تقريباً أكثر أو أقل تأهيلاً كي يكونوا كهنة. كان لديهم هذا النوع من التعليم. أبي، على سبيل المثال، كان كاهناً مبتدءاً، ما يعادل تقريباً رتبة ملازم ثان في الجيش. يحتشد في الصيف، خلال *موسم أوبون النشط—المهرجان السنوي لتكريم أسلاف العائلات— أولئك الإخوة الستة في كيوتو يقسّمون زيارات أبناء الرعية إلى المعبد. وفي المساء، يجتمعون معاً ويشربون .

 

بعدما مات جدي ، كان ثمة سؤال مُلحّ حول من سيتولى المهام الكهنوتية في المعبد. تزوج أغلب الأبناء بالفعل ولديهم وظائف. والحقيقة تقال، لم يتوقع أحد موت جدي مبكراً أو هكذا فجأة.

 

أراد الابن الأكبر— عمي شيماي موراكامي— أن يصبح طبيباً بيطرياً ولكن بعد الحرب عمل في مكتب للضرائب في أوساكا وكان رئيس قسم الفرعي، بينما قام أبي ، الابن الثاني، بتدريس اليابانية  في كيو غاكون الإعدادية والثانوية المشتركة في منطقة كنساي. كان الإخوة الآخرين إما معلمون أيضاً، أو يدرسون في كليات البوذية التابعة. ولقد عُرض اثنان من الأخوة للتبني من قِبل عائلات أخرى، إذ يعتبر التبني ممارسة شائعة، و لديهم ألقاب عائلية مختلفة. على أيْ حال، عندما يجلسوا للنقاش حول الوضع لا أحد يتطوع بقبول بمهام المعبد. أن تصبح رئيساً كاهناً في معبد كبير ليس بالأمر السهل أن تتولى ذلك، وعبئاً كبيراً لأي عائلة أحد ما. كان الأخوة يعلمون ذلك جيداً. بالنسبة لجدتي، التي أضحت أرملة، من النوع الصارم الذي لا معنى لها;  قد تجد أي زوجة من الصعوبة أن تخدم كزوجة كاهن رئيسي لا يزال معها هناك. كانت أمي الابنة الكبرى لعائلة تجارية راسخة في سينبا، في أوساكا. كانت إمراة تتبع الموضة، فليس كل نوع يناسب كزوجة كاهن رئيسي في كيوتو. ولذلك ليس مستغرباً تشبثها بأبي، بعيون دامعة ، تتوسله بأن لا يتولى زمام الأمور في المعبد.

 

من وجهة نظري على الأقل ، كأبن له ، تراءى لي بأن أبي شخص بسيط ، و مسؤول . لم يرث من والده ذو ميل صريح ( كان من النوع العصبي للغاية)، ولكنه سهل المراس وطريقته في التحدث تشعر الآخرين بالراحة. كان لديه إيمان صادق أيضاً. ربما قد يكون كاهنا صالحاً ، واعتقد أنه كان يعلم ذلك. تخميني بأنه قد يكون أعزباً و لم يكن ل يقاوم الفكرة كثيراً. ولكن لديه شيء ما لا يمكن مساومته—عائلته الصغيرة.

 

في النهاية ، ترك عمي شيماي عمله في مكتب الضرائب و خلف جدي ككاهن رئيسي في معبد أنيوجي. و قد خلفه أبنه لاحقاً، وهو أبن عمي جانيوشي. وفقاً ل جانيوشي، وافق شيماي أن يصبح كاهناً رئيسياً فألتزم بدافع من الشعور كأكبر أبنائه. قلت أنه وافق، لكنه كان أكثر من ذلك بحيث أنه ليس له خيار أخر. في ذلك الوقت ، كان أبناء الرعية أكثر تأثيراُ بكثير من الأن، وربما لم يسمحوا له أن ينجوا من فعلته.

 

عندما كان أبي صبياً ، كان قد أرُسل للتدرب في معبد بمكان ما  في نارا. كان المفهوم و المحتمل بأنه سوف تتبناه عائلة كاهن بنارا. غير أنه، عاد إلى المنزل في كيوتو بعد فترة التدريب. كان هذا ظاهرياً بسبب أن البرد أثر سلباً على صحته ، ولكن يبدو أن السبب الرئيسي أنه لم يتأقلم مع البيئة الجديدة. بعد عودته إلى المنزل، عاش كما كان الحال من قبل كأبن لأبويه. ولكن أشعر بأن تجربته ظلت معه ، كما ندبة عاطفية عميقة. لا يمكنني أن أشير إلى أي دليل خاص لهذا ، ولكن كان ثمّة شئ ما عنه جعلني أشهر بتلك الطريقة.

 

أتذكر الآن تعبير وجه أبي—متفاجئ أولاً، ثم متأثراً، و بعد ذلك أرتاح—مع أن القطة التي من المفترض أننا تخلينا عنها سبقتنا إلى  المنزل .

 

لم أمّر بتجربة أي شئ ٍ مماثل لهذا أبداً.  كنتُ قد ترعرّعت— بمحبة إلى حد ما، ذلك ما أود قوله  — كطفل وحيد لدى أسرة عادية . وبالتالي لا يمكنني أن أفهم، على مستوى العملي أو العاطفي، ما نوع الندبات الروحية التي قد تُنجم على إهمال طفل من قِبل والديه . بإمكاني أن أتخيل ذلك فقط على مستوى السطحي .

 

تحدث المخرج الفرنسي فرانكو تروفو عن كونه أجُبر على العيش بعيداُ عن أبويه عندما كان صغيراً. فسعى لبقية حياته عن موضوع الهجر في أفلامه. قد يكون ربما لدى أغلب الناس تجربة محبطة لا يستطيعون أن يعبروا عنها بكلمات ولا يمكنهم أن ينسونها أيضاً.

 

تخرج أبي من مدرسة هيقاشايما الإعدادية الثانوية ( تعادل مرحلة الثانوية اليوم) في عام 1936م و التحق بمدرسة للدراسات السيزانية بسن الثامنة عشر. كان يتلقى الطلاب بصورة عامة إعفاءاً  لمدة أربع سنوات من الخدمة في الجيش، ولكنه نسي أن يعتني ببعض الأوراق الإدارية، و في عام 1938م، عندما بلغ سن العشرون عاماً كان قد جُند. كان خطأً إجرائياً ، ولكن إرتكاب مثل هذا النوع من الأخطاء لا يمكنك بمجرد أن تعتذر أن يُمهد طريقك للخروج منها. فإن البيروقراطية والجيش مثل ذلك. لابدّ من اتباع البروتوكول.

 

أنتمى أبي إلى فوج المشاة في القرن العشرين، التي كانت جزءاً من الفرقة السادس عشر ( فرقة فوشيمي). تتكون نواة الفرقة السادس عشر من أربع أفواج جنود المشاة : فوج المشاة التاسع (كيوتو) ، وفوج المشاة العشرون (فوكوشياما ) ، وفوج المشاة الثالث والثلاثون (مدينة تيسو، في ولاية ماي)، و فوج المشاة الثامن والثلاثون( نارا). غير واضح لماذا أبي الذي كان من كيوتو ذاتها، قد عُين في فوج المشاة التاسع ولكن عوضاً عن ذلك إلى فوج فوكوشياما البعيدة .

 

كان هذا على الأقل كيف فهمتها لفترة طويلة ، ولكن عندما نظرت أكثر عمقاً إلى المعلومات الأساسية وجدت بأنني كنت مخطئاً. في الحقيقة، لم ينتمي أبي إلى فوج المشاة العشرون ولكن إلى فوج النقل السادس عشر، التي كانت أيضاً جزءاً من الفرقة السادس عشر. فلم يكن الفوج في فوكوشياما ولكن كان مقرها الرئيسي في فوكاكوسا / فوشيمي ، في مدينة كيوتو. وبالتالي عندما كنت تحت إنطباع حيال إن كان أبي قد أنتمى إلى فوج المشاة العشرون؟ سأناقش هذه النقطة لاحقاً.

 

كان معروفاً أن فوج المشاة العشرون كونه واحداً من أوائل الواصلين إلى نانجينغ بعد سقوط المدينة . فقد شُوهدت الوحدات العسكرية بشكل عام يافعة ومدنية، غير أن اعطت إجراءات الفوج خاصة سمعة دموية بشكل مفاجئ . كنت أخشى لفترة طويلة بأن أبي قد شارك في الهجوم على نانجينغ، وكنت متردداً في إستقصاء التفاصيل، فقد مات، في أغسطس ، عام 2008م ، وعمره تسعون عاماً، دون أن اسأله أبداً عن ذلك، و دون أن يتحدث عن ذلك أبداً.

 

وكان أبي قد جُند في شهر أغسطس عام 1938م. بدأت مسيرة فوج المشاة العشرون سيئة السمعة إلى نانجينغ العام الماضي، وذلك شهر ديسمبر عام 1937م، وبالتالي لم يتواجد والدي قرابة عام. عندما علمت بذلك ، شعرتُ بإرتياح كبير، كما لو أن ضغطاً كبيراً ازُيح عني.

 

صعد أبي على متن سفينة نقل القوات كصف ثاني خاص من فوج النقل السادس عشر، في يوجينا هاربور في الثالث من شهر أكتوبر ، عام 1938م ، ووصل إلى شنغهاي في السادس من أكتوبر. أنضم فوجه إلى فوج المشاة السادس عشر. ووفقاً إلى دليل زمن الحرب، كان قد عُين فوج النقل السادس عشر بالمقام الأول لمهام الدعم والأمن. إذا كنت تتبع تحركات الفوج، سترى بأنها تغطي مسافات لا تصدق لذلك الوقت. كانت الوحدات بالكاد مجهزة بمحركات، و تفتقر للوقود كاف—و كانت الخيول هي وسيلة نقل رئيسية—يجب أن يكون السفر للآن شاقاً للغاية. كانت الحالة في المقدمة رهيباً: لم تتمكن الإمدادات من تصل هناك ; كان ثمّة نقص حاد للمؤونة والذخيرة; كان يبدو الزي الرسمي للجنود بالياً; و قادت الظروف غير صحية إلى تفشي الكوليرا و أمراض معدية أخرى. كان مستحيلاً بالنسبة لليابان ، بقوتها المحدودة، التحكم بدولة ضخمة مثل الصين. كان الجيش الياباني قادراً على السيطرة العسكرية من مدينة تلو الآخرى، إلا أنه من ناحية عملية، غير قادر على احتلال الأقاليم بأكملها.  فقد كُتبت المذكرات من قبل جنود فوج المشاة العشرون و اعطت صورة واضحة كيف كان الوضع البائس. لم تكن قوات النقل تشارك في الخطوط الأمامية للمعركة عادة بصورة مباشرة، ولكن هذا لا يعني بأنهم كانوا آمنين. كما كانوا مسلحين تسليحاً خفيفاً فقط (عادة يحملون سلاحاً قديماً مجرد حربة )، عندما هاجم العدو من الخلف عانوا من إصابات كبيرة .

 

هكذا بعد إنطلاق مدرسة سيزان ، فقد اكتشف أبي متعة الهايكو وانضمامه إلى دائرة الهايكو. كان منسجماً معها ، للأستخدام مصطلحاً حديثاً . كتب العديد من شعر الهايكو عندما كان جندياً ونشرت في صحيفة مدرسة الهايكو; على الأرجح ارسلها بالبريد إلى المدرسة من الجبهة :

 

الطيور المهاجرة

آه –  إلى حيث يتجهون

يجب أن يكون وطني

 

جندي ، لكنه  كاهناً

أشبك يدي متضرعاً

نحو القمر

 

لست خبيراً في شعر الهايكو، وبالتالي هذا يجعلني أن أقول كيف أنجز شعره . من الواضح، ما يُجمع تلك القصائد معاً ليس تقنياً بل المشاعر الصريحة والصادقة التي تؤكدها.

 

ولقد درس أبي، بأمانة دون شك، كي يصبح كاهناً. ولكن خطأ كهنوتي حوله إلى جندي. تعرض إلى تدريب أساسي صارم، وقد أعُطي بندقية نوع 38 ، و وضع في سفينة نقل القوات، و ارُسل إلى معارك مخيفة في الجبهة. كانت وحدته في تحرك بشكل متواصل، واشتبكت مع القوات الصينية و المسلحين مشكلين مقاومة عنيفة. في كل طريقة ممكن أن تتخيلها، كان هذا نقيض للحياة في المعبد السلمي في تلال كيوتو. لابدّ أن يكون قد عانى من إرتباك عقلي هائل و اضطراب روحي. في خضم كل ذلك، قد تكون كتابة شعر الهايكو عزاؤه الوحيد. قد تكون الأشياء التي لا يستطيع كتابتها في رسائله، أو قد لا تتمكن من عبر الرقابة، يضع نموذج الهايكو—معبراً عن نفسه في شفرة رمزية، كما كانت—حيث يمكنه الكشف على مشاعره الحقيقية و الصادقة .

 

لم يتحدث إليّ أبي ذات عن الحرب سوى مرة واحدة. عندما قال لي كيف أن وحدته العسكرية قامت بإعدام جندي صيني أسير. لا أعلم ما الذي دفعه لإخباري بذلك. لقد حدث ذلك منذ فترة طويلة لدرجة أن ذاكرته ذاكرة معزولة، فالسياق ليس واضحاً. كنت لازلت في الصفوف الدنيا في المدرسة الإبتدائية. ارتبط بواقع الأمر كيف قد حدث الإعدام. بالرغم أن الجندي الصيني يعلم بأنه سوف يُقتل، لم يُقاوم ، ولم يُظهر أي خوف، بل مكث هناك هادئاً بعينين مغلقتين.  كان مقطوع الرأس. أخبرني أبي بذلك بأن سلوك الرجل كان مثالياً. بدا بأن لديه مشاعر عميقة بإحترام الجندي الصيني. لا أعلم إن كان قد شاهد كما الجنود الأخرون في وحدته العسكرية تنفيذ الإعدام، أو كان قد أجُبر أن يضطلع بنفسه بدور مباشر. ليس ثمّة طريقة الآن لتقرر ما إذا هذا يرجع  إلى ذاكرتي الضبابية، أو ما إذا وصف أبي الحادثة بعبارات غامضة متعمداً. ولكن هناك شئ واحد واضح: تركت التجربة مشاعر كرب وعذاب بحيث بقيت لفترة طويلة في روح ذلك الكاهن الذي تحول إلى جندي.

 

في الوقت، لم يكن شائعاً على الإطلاق أن يُسمح للجنود و المتطوعون الجدد أن يمارسوا القتل من خلال إعدام الجنود الصينيين الأسرى. كان قتل السجناء العزل، بالطبع، إنتهاك للقانون الدولي، ولكن أظهر الجيش الياباني في تلك الفترة بأخذ ممارسة القتل من المسلمات. فمن المحتمل ألا تملك وحدات الجيش الياباني الموارد اللازمة لرعاية السجناء. لقد نُفذ قتل أغلب أولئك المعدومين إما بإطلاق النار على السجين أو طعنه بالحربة، ولكن أتذكر أبي يخبرني بأن هذا الإعدام بالذات قد اسُتخدم سيفاً .

 

لا داعي للقول، بأن حكي أبي عن ذبح الرجل  بدم بارد بالسيف بات محفوراً في دماغي الشاب. بعبارة أخرى، كابد أبي هذا الحمل الثقيل— الصدمة، بمصطلح اليوم—أنتقل، جزئياً، إليّ ، أبنه. تلك الكيفية التي تعمل بها العلاقات الإنسانية، و كيف يعمل التاريخ. كان فعلُ الإنتقال و الطقوس. كان أبي بالكاد يتحدث كلمة عن تجربته في فترة الحرب. من غير المرجح أنه أراد أن يتذكر هذا الإعدام أو يتحدث عنه.  مع ذلك لابدّ أنه قد شعر بحاجة ملحة بأن يربط القصة بأبنه الذي من لحمه ودمه، حتى لو يعني أن ذلك سيبقى جرحاً غائراً لكلينا.

 

عاد فوج المشاة العشرون، بجانب وحدة أبي العسكرية إلى اليابان في أغسطس عام 1939م. استأنف أبي دراسته  بمدرسة سيزان بعد مرور سنة كجندي. في ذلك الوقت، كان يعني التجنيد الإجباري للخدمة العسكرية خدمة عامان، ولكن لسبب ما خدم أبي عام ٍ واحدٍ فقط  . ربما أخذ الجيش بالحسبان حقيقة بأن قد يكون ادُرج أسم أبي كطالب عندما تم تجنيده.

 

واصل أبي بعد خدمته العسكرية كتابة شعر الهايكو بحماس. كان قد كتَب هذا الشعر في أكتوبر 1940م، ربما كانت مستوحاة من زيارة ودية من قِبل شباب هتلر إلى اليابان :

 

كانوا يلحنون بصوت ندي ، ويغنون

كي يُغري الغزلان قرباً،

إلى … شباب هتلر

 

شخصياً ، أحب حقاً  شعر الهايكو هذا ، حيث تلتقط لحظة غامضة في التاريخ بطريقة بارعة ، و إستثنائية . ثمة تباين لافت للنظر بين الصراع الدموي البعيد في أوروبا و الغزلان (ربما الغزلان الذائعة الصيت في نارا). أستمتع أولئك من منظمة  شباب هتلر في زيارتهم القصيرة إلى اليابان، ربما قد ذهبوا كي يهلكوا في شتاءات مريرة بالجبهة الشرقية.

 

تستهويني هذه القصيدة أيضاً :

تلك هي ذكرى سنوية

لموت عيسى، جلست هنا

مع قصائده الحزينة

 

يصف العالم بأنه كان هادئاً و مطمئناً، ومع ذلك،  ثمّة إحساس دائم بالفوضى .

 

كان أبي يحب الأدب دائماً، وبعدما اصبح معلماً،  يقضي الكثير من وقته في القراءة. كان البيت ملئ بالكتب. ربما هذا قد أثّر خلال فترة مراهقتي، عندما نَميت شغف القراءة لنفسي. تخرج أبي بمرتبة الشرف من مدرسة سيزان، و في مارس عام 1941م ، التحق بقسم الأدب بجامعة كيوتو الإمبراطورية. لا يمكن تجاوز اختبار القبول بسهولة بالنسبة لمدرسة عليا مثل جامعة كيوتو الإمبراطورية  بعدما خضع لتعليم بوذي لكي يصبح كاهناً. كثيراً ما تقول لي أمي ‘‘والدك ذكي جداً.’’ كيف كان ذكياً حقاً ليس لدي أيْ فكرة. بصراحة ، أنه ليس ذلك السؤال الذي يُثير إهتمامي كثيراً. لشخص ما في مجال عملي، الذكاء أقل أهمية من الحدس الحاد. أن تكون ذلك ، أيّا كان الأمر، تبقى الحقيقة بأن أبي كان يتلقى دوماً درجات ممتازة في المدرسة.

 

بالمقارنة به ، لم يكن لدى اهتمام كبير بالدراسة أبدا; و كانت درجاتي باهتة من البداية إلى النهاية. أنا من النوع الذي يسعى بلهفة بالأشياء التي اهتم بها ولكن لا يمكنني أن أنزعج بأي شئ أخر. كان ذلك ما ينطبق عني بصدق وكذلك عندما كنت طالباً، ومازال ذلك صحيحاً الآن.

أصيب أبي بخيبة أمل لهذا، ومتأكد بأنه كان يقارنني بنفسه في نفس السن. ولدت في زمن السلام، لابّد أن يكون قد فكر بذلك. بإمكانك أن تدرس كيفما يحلو لك، دون أن يقف شيء في طريقك. و بالتالي لماذا لا يمكنك أن تبذل المزيد من الجهد؟ أعتقد بأنه أراد مني أن أتبع مسار لم يتمكن هو أن يتبعه بسبب الحرب.

 

ولكني لم أستطع أن أرتقي إلى مستوى توقعات أبي.  إذ لم أتمكن ابدأ أن أدرس بالطريقة التي أرادني بها. وجدت أغلب الصفوف في المدرسة غير مستلهمة، النظام المدرسي مفرط في  إرتداء الزي وقمعي. وقاد هذا أبي إلى الشعور بفزع مزمن ، و شعرت بحزن مزمن( وبقدر معين من الغضب اللا واعي). عندما ظهرت لأول مرة كروائي، بعمر الثلاثين عاماً، كان أبي مسروراً للغاية، ولكن في ذلك الوقت قد نَمتْ علاقتنا الفاترة و البعيدة.

 

حتى الآن أحمل معي هذا الشعور— أو ربما رواسب منها — خيبت ظن أبي، خذلته. في العودة إلى سنوات المراهقة، فتلك جعلت الأشياء تبدو غير مريحة في المنزل، حيث تيار ثابت بالشعور بالذنب من جانبي. مازلت أمر بكوابيس عن أدائي لإختبار مدرسي ولم أستطع إجابة عن سؤال واحد. يمضي الوقت دون أن أفعل شيئاً، بالرغم أنني واعٍ لرسوبي في الإختبار سوف تكون هناك عواقب وخيمة—وهذا نوع من الحلم. أستيقظ عادة و جسدي يتصبب عرقاً بارداً.

 

غير أن، في ذلك الوقت، أن أكون ملتصقاً بطاولتي، أنهي واجباتي المدرسية، واحصل على درجات أفضل في الاختبارات فهي أقل جاذبية من قراءة الكتب التي استمتعت بها، والإستماع إلى الموسيقى التي أحببتها، ولعب الرياضات أو لعب **ماه جونغ مع أصدقائي، والذهاب إلى مواعيد غرامية مع الفتيات.

 

كل ما يمكننا فعله هو تنفس الهواء في اللحظة التي نعيشها، و نحمل معنا أعباء الوقت الخاصة، ونكبر مع تلك القيود. هكذا تسير الأمور.

 

تخرج أبي من مدرسة سيزان للدراسات بفصل الربيع عام 1941م،  وتلقى في نهاية سبتمبر مسودة التجنيد الخاصة. ففي الثالث من أكتوبر، عاد إلى إرتداء الزي الرسمي، أولاً في فوج المشاة العشرون(فوكوشيما)، ومن ثم فوج النقل الثالث والخمسون، الذي كان جزءاً من الفرقة الثالث والخمسون.

 

ولقد تمركز جنود الفرقة السادس عشر بصورة دائمة في منشوريا في عام 1940م و بينما انتظمت الفرقة الثالث والخمسون لكي تحل محله. على الأرجح، يُفسرالإرتباك بإعادة التنظيم المفاجئ لماذا وضع أبي مبدئياً في فوج فوكوشيما (كما قلت، كنت دوماً مقتنعاً بشكل خاطئ بأنه قد كان في فوج فوكوشيما من المرة الأولى التي قد جُند فيها.) أرسل الفرقة الثالث والخمسون إلى بورما عام 1944م، وكان ذلك في معركة إمفال، من ديسمبر إلى مارس ، 1945م، حيث كانت الفرقة قد أهُلكت تقريباً من قِبل بريطانيا في معركة نهر ايراوادي.

 

غير أن و بصورة متوقعة تماماً، في  30 نوفمبر عام 1941م، أطُلق سراح أبي من خدمة العسكرية وسُمح له أن يعود إلى الحياة المدنية. كان في 30 نوفمبر قبل ثمانية أيام من الهجوم على بيرل هاربر. بُعيد ذلك الهجوم، أشك بأن الجيش قد كان سخياً بشكل كافي لتركه يغادر.

 

كما قالها أبي، أنقذ حياته من قِبل ضابط . كانت رتبة أبي جندي الدرجة الأولى. أستدعى في ذلك الوقت من قبل ضابط كبير، والذي قال له ،‘‘ أنت تدرس بجامعة كيوتو الإمبراطورية، وأن تخدم بلدك بشكل أفضل من خلال مواصلة دراستك بدلاً من أن تكون جندياً.’’ هل كان لدى الضابط  سُلطة أن يتخذ هذا القرار؟ ليس لدي أيْ فكرة. أنه من الصعوبة تصور بأن طالب العلوم الإنسانية مثل أبي  يمكن أن يرى كما بطريقة ما أن يخدم البلد من خلال العودة إلى الكلية و يدرس الهايكو. كان ثمّة عوامل أخرى في العمل. في تلك الحالتين،  أعفى من الجيش وأضحى رجلاً حراً مرة أخرى.

 

على الأقل هذه كانت قصة سمعتها ، أو لدي ذاكرة سمعية، كطفل. و لسوء الحظ، لم تنسجم مع الحقائق. يُشير أرشيف جامعة كيوتو الإمبراطورية بأن أبي كان مسجلاً في قسم الأدب في شهر أكتوبر عام 1944م. ربما ذاكرتي غير واضحة. أو ربما كانت أمي هي من قالت لي هذه القصة، أو ذكرتها مشوشة. والأن ليس ثمّة طريقة للتحقق من  ما هو حقيقي و غير حقيقي.

 

وفقاُ إلى الأرشيف ، دخل أبي قسم الأدب بجامعة كيوتو الإمبراطورية  في شهر أكتوبر عام 1944م، وتخرج في شهر سبتمبر عام1947م. ولكن ليس لدي فكرة أين كان هو، أو ماذا كان يعمل ، خلال سنوات عمره ما بين ثلاث وعشرون إلى ستة وعشرون، بعد ثلاث سنوات من إعفائه من الجيش وقبل دخوله جامعة كيوتو الأمبراطورية.

 

بعدما أعفى أبي من الخدمة العسكرية، اندلعت الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادئ. في أثناء الحرب ، أبُيدت الفرقة السادس عشر والفرقة الثالثة والخمسون بشكل أساسي. لو لم يُعفى أبي ، و لو كان قد نُقل مع إحدى وحداته السابقة، فقد يكون بدون شك مات على الأغلب في ساحة المعركة، ومن ثم ، بالطبع لم أكن حياً الآن. يمكنك أن تطلق عليها حظاً، غير أن ينقذ حياته بينما رفاقه السابقين يقضون نحبهم أضحى مصدراً للإلم ٍ وكربٍ عظيم. أفهم أكثر من ذلك الآن سبب إغلاقه عينيه ويتلو سوترا بصدق  كل صباح من حياته.

 

في 12 يونيو عام 1945م، بعد أن كان قد دخل جامعة كيوتو الإمبراطورية، تلقى أبي مسودة التجنيد الثالث. و كان قد عُين في هذا الوقت إلى إقليم تشوبو فيلق 143 كجندي من الدرجة الأولى. كان غير واضحاً مكان تمركز الفيلق، ولكنها بقيت في اليابان. بعد شهرين ، في الخامس عشر من شهر أغسطس، أنتهى الحرب، و في ثمانية وعشرون من شهر أكتوبر كان أبي قد أعُفي من الخدمة وعاد إلى الجامعة. كان يبلغ من العمر سبعة وعشرون عاماً.

 

أجتاز أبي في شهر سبتمبر عام 1947م، الإمتحانات وتلقى درجة الليسانس. واصل برنامج التخرج في الأدب بجامعة كيوتو الإمبراطورية. ولدت في شهر يناير عام 1949م. توقف أبي عن دراساته قبل إنهاء البرنامج ، ليس بسبب سنه وإنما الحقيقة بأنه كان متزوجاً ولديه طفلاً. ومن أجل أن لقمة العيش، عمل كمدرس للغة اليابانية بمدرسة كيوي غاكيون، نيشنوميا ، لا أعرف عن تفاصيل كيفية تزوج أبي و أمي. بما أنهم كانوا يقيمون متباعدين—واحد في كيوتو ، و الآخر في أوساكا—على الأرجح أن يكون قد قدمهم للبعض أحد معارفهم المتبادلة. وقد كانت أمي تنوي أن تتزوج رجلاً آخر، معلم موسيقى، ولكنه مات في الحرب. و أحترق المتجر الذي كان يملكه والدها، في سنبا، أوساكا، بغارة جوية أمريكية. وكانت تتذكر دوماً قصف حاملة الطائرات غرومان على المدينة، وتهرب للنجاة بحياتها عبر شوارع أوساكا. ولقد كان الحرب له تأثير بالغ على حياة أمي أيضاً.

 

كانت أمي ، التي تبلغ من العمر ستة وتسعون عاماً، معلمة للغة اليابانية أيضاً. بعد التخرج من قسم الأدب بمدرسة شوين للنساء ، في مدينة أوساكا، عملت كمعلمة بمدرسة التي ارتادتها، ولكنها تركت العمل عندما تزوجت.

 

وفقاًً إلى أمي، عاش أبي في شبابه حياة جامحة جداً. كانت تجاربه خلال فترة الحرب حديثة العهد، وخيبات أمله عن حقيقة حياته التي لم تسَر كما أراد جعلت الأمور تسير بصعوبة أحياناً.  كان يشرب كثيراً، و ويضرب طلبته أحيانا. ولكن مع مرور الوقت كنت أشب عن الطوق وكان ثملاً بعض الشئ إلى حد كبير. وقد يكون محبطاً و متعكر المزاج أحياناً، ويشرب كثيراً(كانت تشتكي أمي بشأن ذلك كثيراً)، ولكن لا أذكر أي التجارب المزعجة بحق منزلنا.

 

أعتقد بأن أبي كان معلماً جيداً للغاية. عندما مات، كنت متفاجئاً بعدد طلبته السابقين الذين أتوا ليقدموا احترامهم. بدوا بأنهم يكنون له قدراً كبيراً من المودة. بات العديد منهم أطباء، واهتموا به جيداً كما حارب السرطان مرض السكري.

 

كانت أمي على مايبدو معلمة رائعة في حد ذاتها، وحتى بعدما أنجبتني وباتت ربة منزل بدوام كامل و قد يقف العديد من تلاميذها عند المنزل. لأسباب عدة، على الرغم من، لم أشعر أبداً بأنني كنت قد توقفت فجأة عن أصبح معلماً.

 

كما تقدمت بالسن وتشكلت شخصيتي، بات النزاع النفسي بيني وبين أبي أكثر وضوحاً. لم يكن كلانا يتزعزع، وعندما يحين التعبير عن أفكارنا بصورة مباشرة ، كنا أثنان من هذا النوع. للأفضل أو للأسوء.

 

بعد أن تزوجت وبدأت العمل، زدنا أنا و أبي أكثر بعداً . و عندما بت كاتباً بدوام كامل أضحت علاقتنا معقدة وفي النهاية قطعنا جميع اتصالاتنا تقريباً. لم يرى أحدنا للآخر أكثر من عشرين عاماً، و كنا نتحدث عندما يكون هناك شئ هام.

 

ولدنا أنا و أبي في أزمنة وبيئات مختلفة، و كانت طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى العالم تبعد أميالاً . إذا كانت هناك فكرة محددة كنت سأحاول على أثرها أن أعيد علاقتنا، ربما آلت الأمور إلى منحى آخر، ولكنني كنتُ أركز بشدة على ما أردت أن أفعله لبذل مجهود.

 

تحدثنا أنا و أبي أخيراً وجهاً لوجه قبل وفاته بفترة وجيزة . كنتُ بعمر الستين تقريباً، و أبي بالتسعين عاماً. كان يمكث في مستشفى  بمنطقة نشيجن، بمدينة كيوتو. كان يعاني من مرض السكر بشكل فظيع، واجتاح السرطان معظم جسده. بالرغم من أنه كان دوماً قوي الجانب، إلا أنه بدا هزيلاً. بالكاد تعرفت عليه. و هناك، في الأيام الخير من حياته— خلال أيام أحتضاره—تحدثنا أنا و أبي محادثة غريبة وتوصلنا إلى نوع من المصالحة. على الرغم من خلافاتنا، وبالنظر إلى أبي الهزيل شعرتُ بوجود رابط بيننا.

 

حتى الآن، يمكنني أن أسترجع ذلك الإرتباك المشترك في أيام الصيف عندما قُدنا معاً دراجته على الشاطئ الكوري للتخلي عن القطة، تلك القطة التي تغلبت علينا كلياً. يمكنني أن أتذكر صوت الأمواج، و عبير صفير الريح عبر أشجار الصنوبر. فإن تراكم أشياء تافهة مثل هذه صقلتني إلى الشخص الذي هو أنا.

 

لدي المزيد من الذكرى التي تتضمن قطة. أدرجت هذه الحادثة في إحدى  رواياتي ولكن قد نتطرق لها هنا مرة أخرى، كشئ حدث بالفعل.

 

لقد كان لدينا هرة صغيرة بيضاء. لا يسعني أن أذكر كيف أقتنيناها ، لابدّ أننا كان لدينا دوماً قطط في ذلك الوقت تأتي إلى منزلنا. ولكنني أتذكر كم كان فرو تلك القطة جميلاً ، وكم كانت رائعة .

 

في إحدى المساءات، كنت أجلس على الشرفة، تركض هذه القطة  فجأة مباشرة إلى أعلى  شجرة الصنوبر الرفيعة  في حديقتنا.  على الأغلب كما لو أرادت أن تظهر لي كم  كانت هي شجاعة و رشيقة. لم أستطع التصديق كم ركضت برشاقة أعلى الجذع و أختفت إلى داخل الفروع العليا. بعد لحظة، بدأت القطة تصدر موءاً بشكل يدعو للرثاء، مع أنها كانت تتوسل للمساعدة. لم يكن لديها مشكلة التسلق عالياً جداً، ولكن بدأ مخيفاً العودة إلى الأسفل.

 

وقفت أسفل الشجرة أبحث، ولكنني لم أتمكن من رؤية القطة. بإمكاني أن أسمع صرختها الخافتة. ذهبت إلى أبي وأخبرته بماحصل، متمنياً بأنه قد يمكنه أن يبحث عن طريقة لإنقاذ القطة. ولكن لم يكن ثمّة شيء يمكن أن يفعله; كان مرتفعاً جداً بحيث لا فائدة من السلم. واصلت القطة موائها للنجدة، وكما بدأت الشمس بالمغيب. وغطى الظلام أخيراً شجرة الصنوبر.

 

لا أعلم ما الذي حصل لتلك اللقطة الصغيرة. عندما أستيقظت في الصباح اليوم التالي، لم اتمكن من سماع صرختها مرة أخرى. وقفت أسفل الشجرة و ناديت القطة بإسمها، ولكن لم يكن ثمّة رد. الصمت المخيم فحسب.

 

ربما في بعض الأحيان  قد تنزل القطة  خلال الليل وتغادر في مكان ما(ولكن إلى أين؟). أو ربما، ليس بإمكانها أن تنزل، وقد تتشبث بالفروع، وتشعر بالإرهاق، تصبح أضعف وأضعف حتى تموت. مكثت على الشرفة، محدقاً بالشجرة، مع تلك سيناريوهات التي  تدور في بالي. أفكر في تلك القطة الصغيرة تتشبث بحياتها الغالية بمخالبها الصغيرة، ومن ثم تذبل وتموت.

 

علمتني التجربة على درساً حياً : بأن البناء أكثر صعوبة من الهدم. للتعميم من هذه، ربما تقول بأن النتائج تطغى الأسباب و تضعفها. في بعض الحالات، تُقتل قطة في عملية; وفي حالات أخرى، إنسان كذلك.

 

على أي حال ، ثمة شئ واحد فقط أردت أن أوضحها هنا. حقيقة واحدة، واضحة:

 

أنا أبن عادي للرجل عادي.أعلم ذلك، بأنه يبدو بديهياً جداً، بما أن بدأت أن أنقب عن تلك الحقيقة، بات من الواضح لي بأن كل شئ قد حدث في حياة أبي وحياتي كان عرضياً. نعيش حياتنا بهذه الطريقة: نشاهد أشياء تأتي عن طريق حادثة و صدفة محضة كحقيقة الوحيدة ممكنة.

بعبارة أخرى، نتخيل سقوط قطرات المطر على أرض بإمتدادها الواسع. كل واحدٍ منا هو قطرة مجهولة بين عدد لا يحصى من القطرات. قطرة منفصلة، و فردية، بالطبع ، غير أن واحدة قابلة للإستبدال. ومع ذلك، و للقطرات المعزولة إحساسها الخاص، وتاريخها الخاص، و مهمتها الخاصة لحمل ذلك التاريخ. حتى إذا خسرت تكاملها المتفرد و تستوعب داخل شئ مشترك. أو ربما على وجه التحديد لأنها مستوعبة إلى وجود أكبر، و مشترك.

يعيد بي عقلي إلى الماضي بين حين وآخر إلى شجرة الصنوبر التي تلوح بالأفق في حديقة منزلنا ب شوكوغاوا، وإلى تفكير بتلك القطة الصغيرة، وهي لا تزال متشبثة بالفرع، وجسدها يتحول إلى عظام مندثر. أفكر بالموت، وكم هو صعب أن تهبط عائداُ إلى الأرض،  والنظر إلى الأسفل بعمق للغاية ما يجعل رأسك يعاني من الدوران.

 

https://www.newyorker.com/magazine/2019/10/07/abandoning-a-cat

 

*

يعد مهرجان Obon أحد أكبر وأهم الأحداث الدينية في اليابان. هذا تقليد بوذي يكرّم أرواح أسلافه ، ولهذا السبب يُعرف أيضًا باسم مهرجان الموتى أو عيد النفوس.

 

**

ماه جونغ هي لعبة صينية تشبه الدومينو، تم إدخالها إلى الغرب في سنوات العشرينيات.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

ليلة القبيحين

ترجمة: صالح علماني

* ماريو بينيديتي (1920 – 2009)، شاعر وروائي من الأوروغواي.

ليلة القبيحين

كلانا قبيح. لسنا قبيحين بالمعنى الخلقي العادي للقبح. فهي لديها وجنة غائرة. مذ كانت في الثامنة من عمرها، حين أجروا لها العملية الجراحية. أما ندبتي الواسعة المقرفة إلى جانب الفم فسببها حرق فظيع، حدث مع بداية مراهقتي.

لا يمكن القول كذلك إن لنا عيوناً ناعسة، مثل ذلك النوع من مصابيح الإغواء التي يتمكن القبيحون المريعون أن يقتربوا، من خلالها أحياناً، من الجمال. لا، ولا بأي حال. فعيناها مثلما هما عيناي إنما هي عيون ضغينة وغيظ، لا تعكس سوى القليل، أو لا شيء، من الاذعان الذي نواجه به سوء حظنا. ربما هذا هو ما جمع بيننا ووحَّدنا. ربما لا تكون كلمة «وحَّدنا» هي الدقيقة والمناسبة. فأنا أعني الضغينة المتمادية التي يشعر بها كلٌ منا بسبب وجهه.

التقينا عند مدخل دار السينما، وقفنا في الدور من أجل أن نشاهد، على الشاشة، جميلين لا على التعيين. وهناك نظر كلٌ منا إلى الآخر أول مرة دون تعاطف، ولكن بتضامن غامض. هناك بالذات سجلنا، منذ النظرة الأولى، وحدتنا المتبادلة. جميع من في الصف كانوا مثنى مثنى، وقد كانوا يشكلون ثنائيات حقيقية: زوجان، خطيبان، عشيقان، جدان، وما أدراني. كل واحد منهم يمسك بذراع أو بيد آخر. هي وأنا وحدنا كانت أيدينا طليقة ومتشنجة.

نظر كل منا إلى قباحة الآخر بإمعان، بوقاحة، وبلا فضول. مررت بنظري على وجنتها الغائرة بضمانة الطلاقة التي تمنحني إياها ندبة حرق خدي المتغضنة، لم تتورد خجلاً، راقني أنها متماسكة وصلبة، وأنها تردُّ على تفحصي لها بإلقاء نظرة مُدقِّقة إلى منطقة حرقي القديم الملساء اللامعة والخالية من شعر اللحية.

دخلنا أخيراً. جلسنا في صفين مختلفين من المقاعد، ولكنهما متجاوران. لم يكن بمقدورها رؤيتي، أما أنا فكنتُ قادراً، حتى في العتمة، على تمييز رقبتها ذات الشعر الأشقر، وأذنها اللطيفة حسنة التكوين. وقد كانت أذن جانبها السليم.

خلال ساعة وأربعين دقيقة أُعجبنا بجمال البطل الأشقر والبطلة اللينة الناعم. فأنا على الأقل كنت قادراً دوماً على الاعجاب بما هو جميل. أما عتبي ولومي فأحتفظ بهما لنفسي وللرب أحياناً. وكذلك لوجوه قبيحين آخرين، وجوه فزاعات أخرى. ربما عليّ الإحساس بالشفقة عليهم، ولكنني لا أستطيع. الحقيقة أنهم شيء أشبه بالمرايا. إنني أتساءل أحياناً عن المصير الذي كانت ستؤول إليه الأسطورة لو أن وجنة نرسيس كانت غائرة، أو أن الحمض أحرق خده، أو كان فاقداً نصف أنفه، أو كانت هنالك ندبة مخيطة على طول جبهته.

انتظرتها عند المخرج. سرتُ بضعة أمتار إلى جانبها، ثم كلَّمتها. حين توقفتْ ونظرتْ إليّ، ظننتُ أنها مترددة. دعوتها لتبادل الحديث في مقهى أو كافيتيريا، فوافقتْ فجأة.

كانت الكافيتيريا ممتلئة، ولكن منضدة شغرت في تلك اللحظة. ومع مرورنا متقدمين بين الناس، كنا نخلّف وراءنا إشارات وإيماءات ذهول واستغراب. كانت قرون استشعاري بارعة بصورة خاصة في التقاط حركات الفضول المرضية، تلك السادية اللاوعية لدى من يملكون وجهاً عادياً ومتناسقاً بصورة إعجازية. ولكنني في هذه المرة لم أكن بحاجة لحدسي المُدَرَّب، ذلك أن أذنيّ تمكنتا من ضبط تمتمات، سعال خافت، نحنحات زائفة. فوجود وجه فظيع ووحيد له أهميته بكل تأكيد؛ لكن وجود قباحتين اثنتين معاً يشكل بحد ذاته استعراضاً كبيراً، أقل قليلاً من عمل مدبَّر؛ شيء لا بد من رؤيته مع رفيق، مع واحد (أو واحدة) من ذوي المظهر اللائق الجديرين بأن يتقاسم المرء الحياة والدنيا معهم.

جلسنا، طلبنا مثلجات، ووجدتْ هي الشجاعة (وهذا أمر أعجبني فيها أيضاً) لتُخرج مرآتها الصغيرة من الحقيبة وترتب شعرها، شعرها البديع.

«ما الذي تفكرين فيه»، سألتُ.

فخبأت المرآة وابتسمت. بئر خدها تبدل شكلها. وقالت:

«أفكر في تعبير مبتذل. الطيور على أشكالها».

تحدثنا مطولاً. بعد ساعة ونصف كان لا بد من طلب فنجاني قهوة لتسويغ طول فترة مكوثنا. وفجأة انتبهتُ إلى أنني أنا، وهي أيضاً، كنا نتكلم بصراحة جارحة يمكن لها أن تهدد بتجاوز الصدق والتحول إلى ما يقارب معادلاً للنفاق. فقررتُ التوغل في العمق.

«أنت تشعرين بأنك مستبعدة من العالم، أليس كذلك؟»

«أجل»، قالت وهي لا تزال تنظر إليّ.

«أنت تقدرين الجميلين، العاديين. ترغبين في أن يكون لك وجه متناسق مثل تلك الفتاة التي إلى يمينك، على الرغم من أنك ذكية، بينما هي، بالنظر إلى ضحكتها، تبدو غبية بكل تأكيد».

«أجل».

لم تستطع لأول مرة مواصلة النظر إليّ.

«أنا أيضاً أرغب في لك. ولكن هنالك احتمال واحد فقط، أتدرين؟ أن نتوصل أنا وأنت إلى شيء محدد».

«شيء محدد مثل ماذا؟»

«كأن يحب كل منا الآخر، يا للعنة. أو نميل أحدنا إلى الآخر. سمه ما تشائين، ولكن هنالك احتمال».

قطبت جبينها. إنها لا تريد التعلل بآمال.

«عديني ألا تنظري إلي كمجنون»

«أعدك»

«الاحتمال هو في أن نندس في الليل. في الليل الحالك. في الظلمة القاتمة. أتفهمينني؟»

«لا».

«عليك أن تفهميني! الظلمة التامة. حيث لا ترينني، وحيث لا أراكِ. جسدك جميل جداً، ألا تعرفين ذلك؟»

احمرت خجلاً وتحولت البقعة الغائرة في خدها فجأة إلى اللون القرمزي.

«أعيشُ وحيداً، في شقة، وهي قريبة جداً».

رفعت رأسها ونظرت إليَّ الآن تسالني، متحرية عني، محاولة بصورة يائسة التوصل إلى تشخيص. ثم قالت:

«هلم بنا».

 

2

لم أطفئ الأنوار وحسب، بل أسدلت كذلك الستارة المزدوجة. كانت تتنفس إلى جانبي. ولم يكن تنفساً مهموماً. لم تشأ أن أساعدها في خلع ملابسها.

لم أكن أرى شيئاً، ولا أي شي على الإطلاق. ولكنني استطعت أن أنتبه مع لك إلى أنها صارت ثابتة بلا حراك، تنتظر. مددتُ يداً بحذر شديد، إلى أن وجدتُ صدرها. نقلت إليّ ملامسي نسخة مشجعة، قوية. هكذا رأيت بطنها وجنسها. يداها أيضاً رأتاني.

أدركت في هذه اللحظة بأنه عليّ أن أنتزع نفسي (وأنتزعها) من تلك الكذبة التي اختلقتها أنا نفسي. أو حاولتُ اختلاقها. كان ذلك كومضة برق. لسنا هكذا، لسنا هكذا.

كان عليّ أن ألجأ إلى كل احتياطيّ من الشجاعة، ولكنني فعلت ذلك. ارتفعتْ يدي ببطء إلى وجهها، وجدتْ ثلم الفظاعة فيه، بدأتْ بمداعبة بطيئة، مقنعة ومقتنعة. الحقيقة أن أصابعي (وكانت ترتعش قليلاً في البدء، ثم تقدمت بهدوء متزايد) ومرت لمرات عديدة فوق دموعها.

عندئذ، حين لم أكن أنتظر ذلك، وصلت يدها أيضاً إلى وجهي، فمرت وأعادت المرور على الندبة وعلى الجلد الأملس، تلك الجزيرة الخالية من شعر اللحية في ندبتي المشؤومة.

بكينا حتى الفجر. تعيسان، سعيدان.

بعد ذلك نهضتُ وأزحت الستارة المزدوجة جانباً.

 

ترجمة: صالح علماني

* ماريو بينيديتي (1920 – 2009)، شاعر وروائي من الأوروغواي.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

هاروكي موراكامي – السير في كوبه

هاروكي موراكامي

Murakami

السير في كوبه

ترجمة : محمد نجيب

كوبة* KOBE : مدينة يابانية ضربها الزلزال عام 1995

ضرب أوساكا زلزال بقوة 6.1 ريختر . في عام 1997 يرتحل هاروكي موراكامي على قدميه من مركز مدينة كوبه لموطن طفولته في أطراف المدينة ليرى التغيير الذي أحدثه الزلزال ببلدته . وجد معالم غريبة لكن وجد أيضاً آثار لذاته و وجد الصدى الدائم للعنف

 

 

1

في مايو عام 1997 . عامان بعد الزلزال العنيف الذي ضرب كوبه , خطرت ببالي فكرة أن أسير بمفردي في روية من نيشينومايا إلى سانوميا في وسط مدينة كوبه . تصادف بقائي في كيوتو في ذلك الوقت من أجل العمل , فمضيت إلى نيشينومايا . على الخريطة , المسافة من هناك إلى كوبه حوالي خمسة عشر كيلو متر . ليست مسافة قصيرة بأي شكل لكن ليست مسافة مرهقة أيضاً , بالإضافة لذلك أنا  سائر واثق الخطى .

ولدت في كيوتو لكن سرعان ما انتقلت عائلتي لشوكوجاوا , حي في نيشينومايا ثم سرعان ما انتقلنا ثانية , مقتربين أكثر من كوبه , إلى آشيا حيث قضيت جل سنين مراهقتي . مدرستي الثانوية كانت تقع في التلال فوق المدينة لذا كان من الطبيعي أن وسط المدينة في كوبه كانت المكان الذي أتوجه إليه كي أستمتع بوقتي , بالتحديد حول سانوميا . أصبحت فتى هانشين – كان نموذجي , يشير المصطلح للمنطقة الواقعة بين أوساكا و كوبه . في ذلك الوقت و ربما الآن أيضاً , كان مكاناً رائعاً للنشأة فيه .مكان هادئ و مسالم يمنحك شعوراً بالاسترخاء و يتميز بإطلالته على المحيط , و الجبال و مدينة كبيرة بالجوار . أحببت الذهاب إلى الحفلات , والبحث عن الكتب الرخيصة في متاجر الكتب المستعملة, والتسكع في مقاهي الجاز و الاستمتاع بأفلام الموجة الجديدة التي أنتجتها نقابة مسرح الفن[1] . الموضة المفضلة لي في ذلك الوقت ؟ جاكيت فانز بكل تأكيد .

لكن بعد ذلك انتقلت لطوكيو من أجل الالتحاق بالجامعة . تزوجت و بدأت العمل هناك و بالكاد كنت أعود لهذه البقعة الصغيرة بين أوساكا و كوبه . كانت هنالك أوقات أعود فيها بالتأكيد إلى هناك لكن بمجرد أن أنهي عملي , كنت دائماً ما أقفز مباشرة في القطار السريع عائداً إلى طوكيو . كنت منشغلاً دائماً و كنت أقضي معظم الوقت مسافراً . و هنالك بعض الأسباب الشخصية أيضاً . يشعر بعض الناس بقوة تجذبهم دائماً للعودة لبلدتهم الأم بينما يشعر أخرون بأنهم لن يستطيعوا العودة أبداً . أحياناً يبدو الأمر كما لو أن القدر هو من يقسم البشر إلى هاتين المجموعتين , و لا يتعلق الأمر إلا قليلاً بمدى قوة مشاعرك نحو هذا المكان . أحببت الأمر أو لا , بدا أنني أنتمي للمجموعة الثانية .

لسنوات عاش والداي في آشيا لكن عندما ضرب زلزال هانشين المنطقة في يناير 1995 , دُمر بيتهما بشكل يستحيل معه البقاء فيه لذا سرعان ما أنتقلا لكيوتو . لذا باستثناء الذكريات التي أختزنها من أجل نفسي ( كنزي الغالي ) , لم يبق هنالك اتصال مادي يربط بيني و بين منطقة هانشين – كان . حرفياً لم تعد بلدتي الأم بعد الآن . انتابني شعور عميق بالخسارة بسبب تلك الحقيقة كما لو أن محور ذكرياتي يتشقق داخلي بصوت خافت لكن لا يزال مسموعاً . كان شعوراً جسدياً .ربما لهذا السبب أردت أن أسير هناك بيقظة وانتباه بحثاً عن أي شئ يمكنني اكتشافه . ربما أردت أن أرى بنفسي كيف ستبدو البلدة التي فقدت كل الروابط الواضحة التي تربطني بها , لي الآن . كم سأكتشف من ظل ماضيّ ( أو ظل الظل ) هناك ؟ أردت أن أرى تأثير الزلزال على البلدة التي نشأت فيها .

زرت كوبه عدة مرات بعد الزلزال , و كنت مصدوماً حقاً من مدى الدمار الذي حل بالمكان . لكن الآن بعد نحو عامين , بدت البلدة و قد لملمت من شتات نفسها , و أردت أن أرى بأم عينيّ التغيرات التي شهدتها المدينة – ماذا سرق هذا العدوان الغاشم من البلدة و ماذا خلف ورائه . لابد من وجود بقايا ما , لا تزال تربطني بها , هكذا فكرت .

ترجلت من القطار في محطة نيشينومايا , لابساً حذاء مشي مطاطي , و حاملاً على كتفيّ حقيبة ظهر تحوي دفتر تدوين و كاميرا صغيرة . بدأت أمشي بإيقاع بطيء باتجاه الغرب . كان الجو مشرقاً و مشمساً فارتديت نظارتي الشمسية . أول مكان مررت به هو السوق قرب المخرج الغربي للمحطة . في المدرسةالإبتدائية , كثيراً ما قدت دراجتي إلى هناك كي اشتري أشياء . مكتبة المدينة قريبة من هنا أيضاً , حيث كنت أقضي وقت فراغي هناك و تصفحت كل كتاب لليافعين وقعت يداي عليه . هنالك أيضاً محل للأعمال اليدوية كنت أبتاع منه الألعاب البلاستيكية . لذا أعاد إلي هذا المكان فيضاً من الذكريات . لم أت لهنا منذ مدة طويلة و السوق قد تغير تماماً بشكل يصعب علي تعرفه . ما مدى التغير الذي سببه التغيير الطبيعي الذي يطرأ على الأشياء عبر الزمن و ما مدى التغيير الذي فرضه الدمار المادي الذي سببه الزلزال , لا يمكنني حقاً التمييز . رغم أن الندوب التي خلفها الزلزال كانت واضحة للعيان . في مكان الأبنية المهدمة , تبعثرت الأراضي الخاوية في المنطقة مثل أسنان كثيرة مفقودة , بينها متاجر مبنية بشكل مؤقت كما لو كانت تربطها ببعضها البعض .نمت الحشائش في الأراضي الخاوية المحاطة بالحبال . يملأ الطريق الأسفلتي تشققات خلفها الحدث المشؤوم . كانت دلائل الدمار الفظيع في كل مكان كما لو كانت المنطقة أطلال مكان قديم .

مقارنة بحي كوبه التجاري الذي ركز عليه العالم و تم إعادة بنائه بسرعة بعد الزلزال , الفراغات الشاسعة هنا اجتاحتني كشئ ثقيل و كئيب مصحوبة بعمق هادئ . من المؤكد أن ذلك الدمار ليس مقتصراً على سوق نيشينومايا . لابد من وجود أماكن كثيرة حول كوبه لا تزال تحمل نفس الجروح و الندبات لكنها تكاد تكون منسية .

بعد حي التسوق و عبر الشارع الرئيسي مزار إبيسو[2] . مزار كبير جداً مبني من أخشاب سميكة . عندما كنت طفلا صغيرا , أحببت أن ألعب هنا و آلمني أن أرى الندبات الواضحة في نفس المكان الآن . معظم مصابيح الإنارة الحجرية الممتدة بطول طريق هانشين السريع كان ينقصها الفوانيس العلوية التي تغطيها . كانت مبعثرة على الأرض أسفلها مثل رؤوس قطعها سيف حاد . أما قواعد المصابيح فقد تحولت لصف من قطع حجرية لا معنى و لا هدف منها , ساكنة كرموز في حلم .

الجسر الحجري القديم الذي يعبر فوق البركة حيث كنت أصطاد الجمبري و أنا طفل ( باستخدام أسلوب بسيط . أربط خيط حول زجاجة فارغة ,  ثم أضع بودرة رخوة كطعم ثم أنزل الزجاجة إلى الماء فيدخل الجمبري لداخل الزجاجة و حينها أقوم بالسحب . ) قد انهار و بقي كذلك .كان الماء في البركة أسوداً وموحلاً و سلاحف ذات أعمار مختلفة ترقد متمددة فوق صخور جافة تتشمس , بينما رؤوسها دون أدنى شك خالية من أي أفكار . آثار الدمار في كل مكان كما لو أن المنطقة أطلال عتيقة . فقط الأخشاب كانت كما أتذكرها من أيام طفولتي صامدة في مواجهة الزمن .

جلست على أرضية المزار تحت أشعة شمس أوائل الصيف , و حدقت من جديد فيما حولي , محاولاً  التأقلم مع ما أراه . أمتص المشهد و أقبله على أنه شئ طبيعي بقدر الإمكان ذهنياً و داخلياً . حاولت تذكر كيف كنت في الماضي . لكن استغرقني ذلك وقتاً طويلاً كما يمكنك أن تتخيل .

_______________

تم إنشائها في الثمانينيات و اهتمت بإنتاج الأفلام اليابانية المستقلة .[1]

إله في الديانة اليابانية [2]

 

 

2

مشيت من نيشينومايا إلى شوكوجاوا . لم يحل الظهر بعد , لكن الجو كان مشمساً لدرجة أنني قد بدأت أتعرق . لم أحتج لخريطة كي تخبرني بشكل عام أين أنا لكن لم أكن أملك ذاكرة للشوارع نفسها . لابد أنني سرت في تلك الشوارع مئات المرات لكن الآن ذاكرتي بيضاء تماماً . لماذا لا أستطيع تذكر الشوارع ؟ أمر غريب . شعرت بحيرة شديدة كما لو أنني عدت للمنزل فوجدت الآثاث و قد تم استبداله . سرعان ما أتضح السبب لي . الأماكن التي كانت أراضي خاوية لم تعد كذلك و الأماكن التي كانت مشغولة لم تعد كذلك – مثل صور نيجاتيف و صور حقيقية قد حلت محل بعضها البعض . في معظم الحالات , الأراضي الخاوية صارت بيوتاً بينما البيوت القديمة قد دمرها الزلزال . يتضافر تأثير هذه الصور –قبل و بعد – لتضيف لعملية الطمس الزائفة لذكرياتي عن البلدة في الماضي .

البيت القديم الذي كنت أعيش فيه قرب شوكاجاوا قد اختفى و حل محله صف من المنازل . و الأرض التي كانت مدرستي الثانوية مبنية عليها قد امتلاءت بمساكن مؤقتة تم تشيدها لإيواء ضحايا الزلزال . حيث كنت و أصدقاؤي نلعب البيسبول , كان ناجو الزلزال المقيميين في تلك الملاجأ قد علقوا غسيلهم و وضعوا الكنب في الهواء الطلق في مساحة تبدو الآن شديدة التكدس .

حاولت عبثاً أن أعثر على آثار الماضي لكن بالكاد وجدت شيئاً منه . لا يزال الماء ينساب في النهر صافياً و نقياً كما كان دائما . انتابني شعوراً غريباً حين رأيت كيف صارت ضفة النهر محاطة الآن بالأسمنت . سرت لفترة في اتجاه البحر قبل أن أتوقف عند مطعم سوشي . كان بعد ظهر يوم أحد و كانوا مشغولين بإعداد الطلبات . المساعد الشاب الذي خرج لتسليم طلبات للبيوت , لم يعد قبل وقت طويل و كان مالك المحل مصراً على تلقي كل الاتصالات الهاتفية . مشهد معتاد تراه في أي مكان في اليابان . انتظرت قدوم طلبي , بينما احتسي البيرة و أبقي عيناً على التلفاز . كان محافظ ولاية هيوغو يتحدث مع أحدهم في برنامج عن سير عمليات إعادة البناء بعد الزلزال . أحاول الآن تذكر ما قاله بالضبط لكن عبثاً لا يمكنني تذكر كلمة واحدة .

عندما كنت طفلاً , كنت أتسلق إلى ضفاف النهر حيث يندفع تيار الماء أمامي مباشرة دون أي عائق يعوق مجال بصري . أعتدت أن أسبح هناك في الصيف . أحببت المحيط و أحببت السباحة . كنت أذهب للصيد أيضاً و أصطحب كلبي للمشئ هناك كل يوم . أحياناً كنت أحب مجرد الجلوس دون أن أفعل أي شئ . و أحياناً أخرى كنت أتسلل خلسة من المنزل ليلاً و أذهب للبحر مع أصدقائي لنجمع الحطب و نشعل النار . أحببت رائحة البحر , و زئيره البعيد و كل ما يجلبه معه . لكن الآن لم يعد هنالك بحر . لقد هدموا الجبال و ألقوا بكل التراب في البحر بواسطة شاحنات و أحزمة ناقلة حتى ملئوا البحر و سدوه .كون الجبال و البحر قريبين جداً , كانت تلك المنطقة مثالية لهذا النوع من أعمال البناء . انتشرت مجتمعات سكنية صغيرة في مكان الجبال المهدمة و بنفس الطريقة برزت مجتمعات سكنية جديدة مكان البحر . حدث كل هذا بعد انتقالي لطوكيو أثناء عصر النمو السريع لليابان عندما كانت البلاد في خضم إزدهار عمراني واسع النطاق .

أمتلك الآن بيتاً في بلدة على ساحل البحر في ولاية كاناجاوا قرب طوكيو حيث أتنقل باستمرار بينه و بين طوكيو . لسوء الحظ , أو دعني أقول لسوء الحظ الشديد , هذه البلدة على ساحل البحر تذكرني أكثر ببلدتي الأم أكثر مما تذكرني بلدتي الأم الآن . تحوي المنطقة جبال خضراء و شاطئ رائع للسباحة . أريد أن أتمتع بتلك الأشياء بقدر الإمكان لأن بمجرد أن يتلاشى مشهد طبيعي فأنه يتلاشى للأبد . بمجرد أن يُطلق جماح العنف البشري , لا يمكن إيقافه أو إصلاح إثاره المدمرة .

بعد ضفاف النهر ,تم ملأ المساحة التي كانت منتجع كوري على الساحل , بالماء فصارت خليجاً أو بركة صغيرة مريحة . كان راكبو القوارب الشراعية هناك , يحاولون قصار جهدهم الإبحار مع الريح . مباشرة جهة الغرب , حيث كان شاطئ آشيا , تقف عمارات شاهقة الارتفاع ككتل صخرية من المونوليث[3] مجردة من أي معالم .

على الشاطئ , الأسر التي قادت سياراتها  الستيشن واغن و الميني فان إلى هناك , تستخدم خزانات البروبان ( الغاز ) الصغيرة للشواء . يشوون لحماً و سمكاً و خضراوات و الدخان الأبيض يتصاعد في صمت إلى السماء في هذا الأحد السعيد . بالكاد توجد غيوم في السماء . كان تابلوه مثالي ليوم من أيام مايو .مع ذلك , بينما أجلس هنالك على الضفة الأسمنتية و أحدق حيث كان البحر الحقيقي في الماضي , كل شئ هنا يشبه إطار عجلة يتسرب منها الهواء ببطء , و بهدوء تفقد واقعيتها .

في قلب هذا المشهد الوديع , من الصعب إنكار آثار العنف .هكذا صدمني الأمر . جزء من بقايا العنف تقبع مختبئة أسفل أقدامنا و أجزاء أخرى مخبئة داخلنا . أحداها مجاز للأخر . أو ربما يمكن لأحداهما ان يحل محل الآخر , كلاهما يرقد هنا نائمين مثل زوج من الحيوانات يراودهما نفس الحلم .

***

أجتزت نهر صغير و ذهبت إلى آشيا . عبرت أمام مدرستي الثانوية القديمة , ثم أجتزت البيت الذي كنت أعيش فيه و وصلت لمحطة قطار آشيا . أعلنت لافتة في المحطة عن مباراة في الساعة الثانية مساء في ذلك اليوم في أستاد كوشين في أوساكا بين فريقي البيسبول تايجرز هانشين و ياكولت سوالوز .  عندما وقعت عيناي عليها , انتابتني رغبة مفاجئة للذهاب . أجريت تغييرات سريعة في خططي و قفزت في القطار . كانت المباراة قد بدأت للتو ,لذا إذا ذهبت الآن , هكذا فكرت فسأكون هناك في الوقت المناسب لمتابعة الشوط الثالث . يمكنني متابعة المشي غداً .

تغير ملعب كوشين قليلاً منذ كنت صبياً . كما لو كنت قد تعثرت في دوامة زمنية , شعرت بإحساس نوستالجي بعدم الانتماء – طريقة غريبة لصياغة مشاعري , أعترف بذلك . من الأشياء القليلة التي تغيرت : غياب الباعة المتجولين الذين يحملون على أكتافهم صفائح الكالبس   المنقطة , و يبيعون شراب اللبن المُخمر . (يبدو أنه لم يعد هنالك الكثير من البشر في العالم الذين لا يزالون يشربون الكالبس . ) و لوحة النتائج التي صارت ألكترونية الآن . ( و يصعب رؤيتها أثناء النهار ) . لكن لون عشب الملعب الأخضر لم يتغير , و مشجعي هانشين لا يزالوا صاخبين كما هو معروف عنهم . قد تأتي و تذهب الزلازل و الحروب و القرون لكن مشجعي هانشين أبديون .

كانت المباراة منافسة بين الراميين كاواجيري و تاكاتسو و انتهت بفوز هانشين بنتيجة 1-0 . قد تعتقد أن فارق النقطة الواحدة يعني أنها كانت مباراة مثيرة لكنها لم تكن بأي شكل من الأشكال . كانت مباراة خالية من أي لحظة مميزة . لأعبر عن الأمر بوضوح أكبر , كانت مباراة لا تستحق المشاهدة . خاصة بالنسبة للمتفرجين في الملعب . بينما تشتد الشمس , زاد عطشنا بشدة . تناولت بعض البيرة الباردة و نعست في مكاني في المدرجات . عندما استيقظت , كنت قد نسيت تماماً أين أنا . ( بحق الجحيم أين أنا ؟ تساءلت ) . ظلال الأضواء الكاشفة كانت تميل باتجاهي , مقترباة مني . تكاد تصل إلي .

_______________________________________________

 مونوليث : معلم جيويوجي يتكون من صخرة ضخمة .[3]

 

3

نزلت في فندق صغير حديث الإنشاء في كوبه . معظم النزلاء مجموعات من النساء .أنا متأكد أن بإمكانك تخيل نوع الفندق الذي أتحدث عنه . في الصباح التالي استيقظت في السادسة و استقليت قطاراً قبل ساعة الذروة الصباحية إلى محطة آشياجاوا و بدأت من جديد جولتي القصيرة مشياً على الأقدام . على عكس اليوم  السابق , كانت السماء ملبدة بالغيوم و الهواء بارد بعض الشئ . تقرير الطقس في الجريدة كان يتوقع بيقين هطول المطر بعد الظهر . ( و بكل تأكيد كانوا صائبين في توقعهم . في المساء , كنت مبللاً تماماً . ) في الجريدة الصباحية التي اشتريتها من محطة سانوميا كان هنالك أخباراً جديدة عن اعتداء على شابتين في بلدة سوما الجديدة ( مكان جديد بُني عن طريق قطع جانب من قمم الجبال , لم أسمع عنه من قبل في حياتي ) . أحداهما قد ماتت . كانت الشرطة تطلق على الحادثة ” هجوماً عشوائياً , و لا يملكون أي أدلة تقودهم للجاني بينما المواطنون الذين يملكون أطفالا صغارا , مرعوبون .كان ذلك قبل مقتل جون هاس , طفل في الحادية عشرة  في كوبه بعد عدة أيام . علي أيه حال , كان هجوماً مرعباً و فظيعاً يستهدف أطفال المدرسة الإبتدائية . نادراً ما أقرأ الجريدة و لم أكن قد سمعت حتى بهذا الهجوم . أتذكر إحساسي بنبرة إقرارية جافة في أسلوب السرد لكن لا تخلو من عمق و غرابة مختبئة بين سطور المقالة .

بينما أطوي الصحيفة , خطرت فجأة ببالي فكرة : رجل يسير في الأرجاء  بمفرده في وضح النهار في يوم عمل قد يبدو مثيراً للشكوك . ظل هذا العنف المتجدد عمّق أكثر من إحساسي بأني عنصر دخيل هنا . كما لو كنت ضيفاً غير مرغوب فيه يسير متخبطاً في مكان لا ينتمي إليه .

سرت بمحاذاة طريق في التلال حيث تمتد قضبان السكة الحديد . أخذت انعطافات قليلة في طريقي نحو الغرب و في غضون ثلاثين دقيقة كنت أدخل لآشيا . آشيا بلدة طويلة و ضيقة تمتد شمالاً و جنوباً . امش قليلاً في اتجاه الشرق أو الغرب لتجد نفسك قد غادرتها . على جانبي الطريق هنالك أراضي خالية خلفها الزلزال و قليل من البيوت المهجورة و قد مالت لأحدى الجانبين .

تختلف التربة في منطقة هانشين – كان عنها في طوكيو . فهي منطقة جبلية رملية لذا الأرض فيها ملساء و بيضاء مما يجعل الأراضي الخالية أكثر بروزاً للعيان . كانت المنطقة مغطاة بحشائش الصيف الخضراء مما جعل التناقض في الألوان أكثر وضوحاً أيضاً . تصورت ندبة جراحية ضخمة على جلد شخص عزيز علي , صورة جعلت ألماً جسدياً حاداً كطعنة يسري داخلي , ألم غير مقيد بزمن أو مكان .

بطبيعة الحال لم تقتصر المنطقة على الأراضي الخالية المغطاة بالحشائش فقط . مررت بعدة مواقع بناء . يمكنني أن أتخيل أنه في أقل من عام سيكون هنالك صف من منازل حديثة البناء هنا , كثيرة جداً لدرجة أنني لن أتعرف على المكان . سيلمع قرميد الأسطح الجديدة تحت أشعة الشمس . بحلول ذلك الوقت ربما لن يبقى أي شئ مشترك بين المشهد هنا و بيني كإنسان . ( غالباً لن يبقى ) . يقف بيننا حاجز قهري فرضته آلة تدميرية قاهرة اسمها الزلزال . حدقت لأعلى نحو السماء في هذا الجو الصباحي الغائم قليلاً و فكرت في هذه الأرض التي جعلتني الشخص الذي أنا عليه الآن و فكرت في الشخص الذي صنعته هذه الأرض , في كل الأشياء التي لا نملك أي سيطرة عليها .

***

 

عندما وصلت لمحطة أوكاموتو المحطة التالية لآشيا , فكرت في الجلوس قليلاً على مقهى – أي مكان سيفي بالغرض – و أطلب فطورا تقليدياً . لم أكل أي شئ طوال النهار . لكن لم أجد أي مقهى مفتوحاً بعد . لم تكن تشبه البلدة التي في ذاكرتي . أشتريت مكرها بسكويت كالوري ميت من أحدى متاجر لوسون على جانب الطريق ثم جلست على دكة حديقة و أخذت أكل في صمت , و أبلع البسكويت مع القهوة . أنتهزت الوقت كي أدون ملاحظات عن الأشياء التي رأيتها في رحلتي حتى الآن .

بعد استراحة قصيرة . أخرجت نسخة من رواية همنجواي ” الشمس تشرق أيضاً ” من جيبي و تابعت القراءة من حيث وقفت . قرأت الرواية من قبل في المدرسة الثانوية و كنت قد بدأت قرائتها ثانية في سريري بالفندق بالأمس و أسرتني القصة تماماً . أتساءل لماذا لم أدرك من قبل كم هي رواية عظيمة . إدراكي لذلك منحني شعوراً غريباً . لابد أن عقلي كان في مكان أخر حين قرأتها أول مرة .

لم أجد مكاناً للأفطار في المحطة التالية  أيضاً لذا مشيت بتثاقل بمحاذاة قضبان السكة الحديد , و أنا مستغرقاً في أحلامي عن فنجان قهوة ساخن و شرائح توست سميكة . كالسابق , وجدت نفسي أمر بعدد من الأراض الخالية و مواقع البناء . أنزلقت على الطريق بجواري عدة سيارات مرسيدس بينز سيدان كلاس : إي , تقل الأطفال للمدرسة أو المحطة , كما أتصور . لا يعلو السيارات خدشاً أو بقعة واحدة . مثل رموز بلا معنى و زمن يمضي دون هدف , كلها لا صلة لها بالزلزال أو العنف , على الأغلب .

أمام محطة روكو , أعطيت لنفسي امتيازاً صغيراً فدخلت لمطعم ماكدونالز و طلبت سندوتش ماك مافن بالبيض ( ب 360 ين ) و تمكنت أخيراً من إسكات جوعي الذي كان يتنامي داخلي كزئير بحر . قررت أخذ أسترحة لمدة نصف ساعة . كان الوقت الآن هو التاسعة صباحاً . عندما دخلت لماكدونالز عند التاسعة صباحاً  , شعرت كما لو أنني داخل واقع متخيل ضخم خلقه المكان أو كاني جزء من عقل باطني جمعي [4] . لكن في الحقيقة كنت محاطاً بواقعي أنا . للأفضل أو الأسوء , كانت ذاتي قد وصلت مؤقتاً لطريق مسدود , و لم تعد تملك مكاناً تذهب إليه .

 

***

لأني قطعت كل هذه المسافة , قررت أن أصعد المنحدر الذي يقود إلى مدرستي الثانوية القديمة . بدأ شريط خفيف من العرق في التكون فوق جبهتي . في الثانوية كنت استقل دائماً حافلة مزدحمة للمدرسة لكن الآن أمشي في نفس الطريق بمفردي .

في ساحة اللعب الشاسعة المساحة الذي تم شقه في منحدرات الجبال, كانت الطالبات يلعبن كرة اليد كجزء من حصة الرياضة . كان هنالك هدوء خارق للطبيعة يخيم على المكان ما عدا صيحات الفتيات التي تعلو من حين لأخر . كان المكان ساكناً تماماً لدرجة أنني شعرت أنني تعثرت و سقطت في فراغ من نوع ما . فراغ ليس من المفترض أن أدخله .ما سر هذا الصمت المطبق ؟

حدقت في ميناء كوبه الذي يتوهج بضوء شاحب بعيداً في الأسفل , و أستمعت بإنصات أملاً في التقاط بعض أصداء من الماضي لكن لا شئ أتى إلي . فقط أصوات الصمت .  هذا كل شئ . لكن ماذا بيد الإنسان أن يفعله ؟ نتحدث عن أشياء حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاماً . أكثر من ثلاثين عاماً .

شئ واحد يمكنني قوله بكل يقين : كلما كبُر الإنسان , كلما صار أكثر وحدة . ينطبق ذلك على الجميع دون استثناء .لكن ربما هذا ليس شيئاً سيئاً . ما أعنيه هو : من منظور ما , حيواتنا لا شئ سوى سلسلة من مراحل تساعدنا على التعود على الوحدة . و من هذا المنطلق , فلا سبب للشكوى . بالإضافة لذلك حتى لو أردنا أن نشكو , فمن سنشكو له على أية حال ؟!

***

_________________________________

[4] مصطلح يطلق على جزء من العقل الباطن للإنسان مستمد من خبراته و تفاعله مع بيئته .

 

 

 

4

Marina District Collapse

نهضت و غادرت المدرسة الثانوية و بدأت بفتور في هبوط المنحدر الطويل ( كان التعب قد بدأ يحل بي  . ) . تابعت المشي دون راحة حتى بلغت محطة شين كوبه , المحطة التي يتوقف فيها القطار السريع .من هنا يمكنني الوصول لوجهتي, سانوميا في رحلة واحدة سريعة .

كان لدي متسع من الوقت لذا بدافع الفضول دخلت فندق أورينتال كوبه الجديد , فندق عملاق تم افتتاحه حديثاً قرب المحطة . غصت في أريكة في بهو القهوة و تناولت أول فنجان قهوة مقبول اليوم . أنزلت حقيبة الظهر و خلعت النظارة الشمسية و أخذت نفساً عميقاً و مددت ساقي أمامي كي أمنحها بعض الراحة . شعرت برغبة في التبول فذهبت لدورة المياه و أفرغت مثانتي لأول مرة منذ مغادرتي الفندق في الصباح الباكر . عدت للجلوس في مكاني و طلبت أعادة ملء فنجاني بالقهوة و تأملت المكان حولي .كان الفندق واسعاً بشكل مخيف, مختلف اختلافاً شاسعاً عن فندق أورينتال كوبه القديم قرب الميناء (فندق جميل مساحته مريحة تم إغلاقه بسبب الزلزال . ) وصف هذا الفندق الجديد بأنه مهجور أقرب للحقيقة من وصفه بالاتساع . كان مثل هرم دون عدد كاف من المومياوات . لا أريد أن أنقد المكان نقداً لاذعاً , لكنه ليس مكاناً أود المكوث فيه .

بعد شهور قليلة حدث تبادل لإطلاق النار في نفس البهو الذي جلست فيه . قُتل شخصان . بكل تأكيد لم أملك أي فكرة عن حدوث شئ كهذا في ذلك المكان .لكن تصادف مروري بالمكان في فجوة زمنية سبقت العنف الآتي . سمها صدفة لكن مع ذلك لا يقلل ذلك من شعوري بالغرابة . مثل الماضي , فأن الحاضر و المستقبل يومضان ذهاباً و أياباً بسرعة خاطفة على معبر فوقي .

لماذا نتعرض لمثل هذا العنف العميق و المستمر ؟

بعد أربعة شهور من رحلتي القصيرة تلك , بينما أجلس على مكتبي و أكتب هذه الكلمات , لم أستطع منع نفسي من التساؤل . حتى لو نحيت ما حدث في منطقة كوبه جانباً , أشعر كأن فعل واحد من العنف مُقدر له ( واقعياً أو مجازياً )  كي يقود مباشرة لفعل عنف أخر . هل هنالك حتمية مُولدة لتلك الدائرة المفرغة من العنف ؟ أم أنها الصدفة و حسب , و لا شئ أخر ؟

حدث زلزال هانشين أثناء وجودي في أمريكا ثم بعد ذلك بشهرين حدث هجوم غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو . وجدت هذا بمثابة سلسلة متصلة من الأحداث .

في ذلك الصيف عدت لليابان و سرعان ما أنخرطت في أجراء حوارات مع الناجين من هجوم السارين . بعدها بسنة نشرت كتابي ” تحت الأرض ” . هدفي من هذا الكتاب , ما أردت الكتابة عنه – ما أردت أنا أن أعرف أكثر عنه – هو العنف في مجتمعنا الذي يقبع مختبئاً تحتنا مباشرة . عن العنف الموجود هناك كاحتمال خامل , احتمال قد ينفجر في أي لحظة في صورة عنف , كل هذه الأشياء التي نتناسى وجودها . لهذا لم أختر محاورة من يدعوا أنهم ضحية في الهجوم بل الضحايا الحقيقيون .

أثناء سيري الصامت طوال يومين من نيشينوما إلى كوبه , ظلت تلك الأفكار تدور في رأسي . بينما أمشي خلال الظل الذي تركه الزلزال , ظللت أسأل نفسي : ما المغزي من هجوم السارين في مترو الأنفاق ؟ في نفس الوقت بينما أمضي مخترقاً ظل هجوم السارين : ما الهدف من زلزال هانشين ؟ بالنسبة لي لم يكن الحدثان منفصلين و غير مرتبطين . كشف اللثام عن أحداهما قد يساعد في كشف اللثام عن الأخر . كانت هذه مسألة مرتبطة مادياً و نفسياً في آن واحد . بمعنى أخر الجانب النفسي كان مرآة للجانب المادي و العكس . و علي أن أخلق بنفسي ممراً خاص بي يربط بين الجانبين .

يمكنني أن أضيف سؤالاً أخراً  أكثر  خطورة لمجموعة الأسئلة تلك : ماذا يمكنني أن أفعل بخصوص هذا العنف ؟

 

***

آسف لقولي هذا , لكنني لم أعثر بعد على أجابة واضحة و منطقية لأسئلتي . لم أصل لأي نهاية محددة . كل ما يمكنني فعله حتى هذه النقطة هو أنه من خلال كلماتي الخالية من اليقين أن أرسم بأمانة الطريق الحقيقي الذي قادتني إليه أفكاري ( و تحديقي و ساقاي ) . أتمني أن تتفهم هذا . في النهاية أنا أنتمي لنوعية البشر التي يمكنها إحراز تقدم فقط بتحريك سيقانها و تحريك جسمها , من خلال عملية مادية بطيئة خطوة بخطوة في خط ينحرف باستمرار .يستغرق الأمر وقتاً . وقتاً طويلاً على نحو بائس . أتمنى فقط ألا يكون طويلاً للغاية .

وصلت أخيراً لسانوميا ثانية . بحلول هذا الوقت بدأت تفوح مني رائحة كريهة .لم تكن مسافة طويلة , لكنها أطول من مشيك الصباحي المعتاد . في حجرة الفندق أخذت حماماً ساخناً . جففت شعري و تجرعت زجاجة باردة من المياه المعدنية من الثلاجة . أخذت ثياباً نظيفة من حقيبتي . قميص بولو أزرق غامق و معطف رياضي أزرق من القطن و بنطلون شينوز . كانت ساقاي لا تزالان متورمتين قليلاً لكن لم يكن بإمكاني فعل شئ بخصوص ذلك . تماماً كما لم يمكنني انتزاع تلك الأسئلة المُبهمة التي تقبع ثقيلة و غير مُجابة داخل رأسي .

لم يكن هنالك أي شئ معين أريد فعله لذا ذهبت لمشاهدة فيلم شدني إليه, من بطولة توم كروز . لم يكن فيلماً مؤثراً لكنه لم يكن سيئاً جداً أيضاً . أسترخيت في مكاني و تركت الوقت يمضي . مرت ساعتان من حياتي –ليست بصورة مؤثرة لكن ليست بصورة سيئة أيضاً .

كان الليل يقترب بينما أخرج من السينما . سرت باتجاه التلال نحو مطعم صغير . جلست على منضدة و طلبت بيتزا مأكولات بحرية و بيرة . كنت الزبون الوحيد الموجود بمفرده . ربما كان هذا  نابع من خيالي فقط لكن بدا الجميع سواي سعيدين حقاً . بدا الأزواج راضيين بينما تقهقه مجموعة من الرجال و النساء بصخب . بعض الأيام تكون هكذا .

كان على بيتزا المأكولات البحرية التي جلبوها لي ورقة صغيرة كُتب عليها : هذه البيتزا التي أنت على وشك الاستمتاع بتناولها هي البيتزا 958,816 التي يعدها مطعمنا . لم أستطع استيعاب الأمر . ما الرسالة التي يجب أن أفهمها من تلك الملحوظة ؟ عندما كنت صغيراً كنت معتاداً على الحضور إلى هنا مع حبيبتي , نشرب بيرة مثلجة و نأكل بيتزة مخبوزة حديثاً تحمل نفس الورقة التي تشير لرقم ما . كنا نتحدث عن مستقبلنا , و كل توقعاتنا وقتها لم يتحقق و لو توقع واحد منها . لكن كان هذا منذ وقت طويل جداً . وقت كان لا يزال هنالك بحر هنا , وقت كان فيه جبال . لا يعني أنه لا يوجد هنا بحر أو جبال . بالتأكيد يوجد . لكن ما أتحدث عنه هو بحر مختلف و جبال مختلفة . مختلف عما هو موجود الآن .

بينما أحتسي بيرتي الثانية , فتحت نسختي من ” الشمس تشرق أيضاً “و تابعت القراءة  . قصة منسية عن جيل ضائع . سرعان ما أندمجت مع عالم الشخصيات .

عندما غادرت المطعم أخيراً , كانت تمطر كما توقعت النشرة الجوية . تبللت . تبللت بشكل مذري , وصل الماء حتى عظامي . لم يعد هنالك داع لشراء شمسية .