نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الوقوف على أكتاف العزلة؛

الوقوف على أكتاف العزلة؛

netwon

عن نيوتن , والطاعون, وكيف حرض الحجر الصحي على القفزة الأعظم في تاريخ العلم.

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

” وما الحقيقة إلا ثمرة للصمت والتأمل”

في خمسينات القرن السابع عشر للميلاد, بدأت غمامة الطاعون باجتياح العديد من بلدان أوروبا. حي ضرب الوباء إيطاليا, أولاً, تلتها إسبانيا و ألمانيا, ثم هولندا. في ذلك الحين, كانت إنكلترا _ التي يبدو أن إرادة الله شاءت أن تحميها من ذاك الوباء_ تراقب الدول المجاورة لها من خلف جدار القنال الإنكليزي بوجل شديد, ثم بهدوء يسوده الحذر لمدة وصلت إلى ما يقارب عقداَ  من الزمن.

بيد أن العالم بأسره , آنذاك, كان يضع التجارة في مقام رفيع, كما أن قوى العولمة كانت آخذه بالانتشار. وبما أن اقتصاد إنكلترا كان يعتمد اعتماداً كبيراً على التبادل التجاري , فإن موانئها كانت تعج بالسفن المحملة بالحرير والشاي و السكر القادم من كافة الحدود المكتشفة في العالم. لكن هذه السفن كانت محملة, أيضاً, بالجرذان التي تحمل على أجسادها براغيثاً, وهذه البراغيث هي التي تحمل البكتيريا المسببة للمرض_ والتي كانت عبارة عن مملكة من الكائنات الحية الدقيقة أحادية الخلية , علماً أن الخلية لم تكن مكتشفة بعد, في ذلك الحين_ إذ تنتقل العدوى من تلك البراغيث إلى جسد الإنسان عند رسوّ السفن.

 

وهكذا, تم الإعلان عن أول حالة وفاة بالطاعون في لندن في يوم الميلاد عام 1664. تلتها حالة أخرى في شهر شباط \ فبراير, ثم تتالت الحالات بعد ذلك, وهذا ما دفع كاتب اليوميات الإنكليزي ” صموئيل بيبس” ليكتب في شهر نيسان\ أبريل من العام ذاته قائلاً:

 

في هذه المدينة, ثمة مخاوف كبيرة من المرض . ليحفظنا الرب جميعاً”

 

بيد أن الرب لم يكن نظيراً لانعدام المعرفة العلمية الأساسية بعلمي الأحياء والأوبئة. كانت الوفيات سريعة و مروعة, وسرعان ما أصبحت كثيرة إلى الحد الذي لم يتمكن أحد فيه من حمل الجثث. لتزداد أعداد الضحايا عشرة أضعاف بحلول فصل الصيف. إذ قفز عدد الوفيات من المئات إلى الآلاف في الأسبوع الواحد. لذلك فُرض على المرضى البقاء في منازلهم. كما تم وضع العديد منهم في سفن وتركوا ليلقوا حتفهم بمعزل عن المدينة. أما بيوتهم , فقد رسم عليها من الخارج صليب كبير للدلالة على وجود مصابين في الداخل. و فيما يخص المسرحيات, و الرياضات الدموية العنيفة , وما إلى ذلك من تجمعات لحشود الناس, فقد منعت منعاً باتاً . كما منع الباعة المتجولون من بيع السلع , و موزعي الصحف اليومية من الهتاف في الشوارع, فانزوى الجميع إلى الداخل. ليخيم على مدينة الصخب  والضجيج صمت موحش و غريب. وتغلق الجامعات, هي الأخرى, أبوابها.

 

عندما أرسلت جامعة ” كامبريدج” طلابها إلى منازلهم, كان هنالك شاب شغوف بعلم الرياضيات و الحركة والضوء. هذا الشاب الذي توفي والده الأمي قبل ولادته بثلاثة أشهر. والذي كان يعبد ” إله النظام لا الفوضى” وبدأ دراسته الجامعية عن طريق خدمته لبعض الطلاب الأثرياء من أجل تحصيل مصاريف دراسته. حيث أخذ كتبه التي جمعها, وعاد بها إلى مزرعة أمه.

 

هنا, حيث العزلة و الوحدة, إذ يواصل الوباء امتداده بشراسة, كان ” إسحق نيوتن” يحلم بنقطة الارتكاز التي تنتشل البشرية من عصور الظلام. في هذا المكان, سواء كانت الحادثة حقيقة أم مشكوك بصحتها, سقطت التفاحة. وفي ظل تلك التفاحة بزغت الفكرة الثورية لقانون الجاذبية التي يراها ” نيوتن” قوة ” يمتد تأثيرها حتى مدار القمر” على طول المسافة الفاصلة  بينه وبين الأرض دون انقطاع أو حدود. في ذات المكان شرع نيوتن بحساب تلك القوة التي يعتبرها ” عنصراً ضرورياً لإبقاء القمر في مدارها, بفعل قوة الجاذبية على سطح الأرض” في غضون حسابه لهذه القوة _ قوة الجاذبية_ وكضرورة للقيام بذلك, ابتكر نيوتن نظرية التفاضل و التكامل.

 

في كتابه المميز ” إسحق نيوتن”  الذي يعد مقياساً ذهبياً للسيرة الذاتية و السرد القصصي , والذي يجسر الهوة بين العلم و الشعر, كما يعرفنا على القصص الكامنة خلف المشاهير ” الوقوف على أكتاف العظماء” * يحدثنا الكاتب الأمريكي ” جيمس جليك” عن ” نيوتن” الشاب  الهارب من الطاعون إلى منزل طفولته, إذ يقول:

 

لقد انشأ نيوتن رفوف مكتبته بنفسه, وشيد مكتبة صغيرة. فتح نيوتن دفتر ملاحظاته الذي يحتوي على ما يقارب الألف صفحة , والذي كان قد ورثه من زوج أمه وأسماه ” كتاب مهمل” وبدأ بملئه بملاحظاته التي سرعان ما تحولت إلى بحوث حقيقية. لقد جلب لنفسه المشاكل؛ فقد تفكر بهذه الملاحظات بهوس شديد, محصياً الإجابات الواردة فيها, و طارحاً المزيد من الأسئلة. لقد تجاوز نيوتن حدود المعرفة, على الرغم من عدم علمه بذلك. فكانت سنة الطاعون هي سنة التغيير الجذري بالنسبة له.  فقد جعلت منه تلك الوحدة والعزلة عن العالم الخارجي عالم الرياضيات الأهم في العالم.

 

ومن حسن حظ ” نيوتن” أنه عاش حياتاً طويلة , فقد بلغ عمره عند وفاته  أربعة وثمانين عاماً, أي أنه عاش أكثر من ضعف متوسط العمر المتوقع للإنسان في تلك الفترة. حيث حُمل نعشه من قبل اللوردات و النبلاء آنذاك. كان نيوتن سيعيد النظر إلى أكثر مراحل حياته الفكرية ثراء  خصوبة وهو يدرك بأن “الحقيقة ليست سوى ثمرة للصمت و التأمل”

 

 

 

  • يقصد بها عبارة نيوتن الشهيرة التي أجاب بها عندما سئل عن قدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون، والوصول إلى قوانين لم يستطع غيره الوصول إليها ” إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني”
نشرت تحت تصنيف مقال

بين المهنة و الهواية .. أين المترجم؟

تقرير : وعد العتيبي

dardeliner

الترجمة عالم واسع بين المهنة و الهواية و الموهبة, تُعرف الترجمة على إنها من المهن التي لا يسهل ممارستها لكل متعلم للغات

فهي ليست عبارة عن تعلم لغة فقط بل إنها تتطلب تعلم الآليات و الطرق و ثقافة اللغة الهدف و المصدر و أخلاقيات المترجم تتطلب منه أن تكون مهمته على أكمل وجه فهو مُلزم بتعلم كل شيء يخص جوانب الترجمة ليس فقط التعامل مع النص الذي يرغب بترجمته.

الترجمة تُعد من أشمل المهن لأنها مطلوبة في شتى المجالات ( الأدبية, العسكرية, الطبية, التقنية, القانونية, العلوم الإنسانية..إلخ)

لهذا المترجم الجيد يجب عليه أولاً أن يعرف إن لكل مجال طريقة ترجمة معينة على سبيل المثال:

الترجمة الطبية تتطلب تعلم المصطلحات الطبية, الاختصارات المستخدمة بداخل نطاق عمل المنشأة الصحية و لها صياغة مخصصة و الصياغة تختلف من ترجمة تقرير طبي إلى خطاب موجه لإدارة معينة في المنشأة.

من وجهة نظري الترجمة كمهنة عمل تتطلب مؤهل معين لأن العمل أمانة و لأن المؤهلين للمشاركة في سوق العمل بتخصص (الترجمة) لديهم خبرة أكبر من (متعلمين اللغة فقط) فأنت لا تستطيع حفظ اللوائح والأنظمة ثم ممارسة المحاماة على سبيل المثال

و قم بقياس هذا المثال على بقية المهن “أعطِ الخباز خبزه ولو أكل نصفه”.

لكن حينما يقتضي الأمر بموهبة و هواية الترجمة أرى إنه يحق للمرء ممارستها كعمل إبداعي لطالما لديه المقدرة و التدريب الكافي مثل: ترجمة المقالات و مقاطع الفيديو و ما إلى ذلك.

لقد سألت مجموعة من المترجمين المُبدعين بخصوص هذا الأمر وافقتني الرأي المترجمة (حنين الرحيلي) بقولها:

“بالنسبة للترجمة بكونها “مهنة”؛ فأرى وجوب المؤهل للمترجم ولا يغني التعليم الذاتي عن الدراسة الأكاديمية. يذكرني حال هواةِ الترجمة بقول الشافعي رحمه الله: “وإذا ما ازددتُ علمًا.. زادني علمًا بجهلي”، لذا فإنهم مهما ادّعوا علمَهم وسلامةَ ترجماتهم؛ فهذا في الحقيقة لأنهم لا يدركون وجود الأخطاء لجهلهم بها، الأخطاءُ التي لم يسلم منها أغلب المترجمين المتخصصين وحتى المبدعين منهم، ولكنهم -على النقيض- مدركون لها ويسعون لتجنبها في كل مرة وتحسين ترجماتهم، فكيف بأولئك الهواة المتحمسين؟! لا شك أنهم مشكورون على جهودهم المبذولة، ولكن ما أرجوه هو أن لا تتجاوز تلك الجهود المقاطعَ المرئية والنصوص التويتريّة، وفي اليوم الذي تصل به ترجماتهم إلى المكتبات والمحتوى العربي؛ ستكون تلك -دون مبالغة- كارثة كبيرة!

بينما قال المترجم (محمد الضبع):

“بالتأكيد هنالك مستوى مطلوب من الالتزام والحرفية في الترجمة، وهذا المستوى قد يأتي عن طريق دراسة الترجمة، أو قد يأتي عن طريق الخبرة والتعلم الذاتي في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة. لتقديم ترجمة عالية المستوى، على المترجم استثمار السنوات في العمل بشكل مستمر ليتحسن ويتطور في إنتاجه. بإمكانك أن تكون مترجم سيء بشهادة، وبإمكانك أن تكون مترجم سيء بتعليمك الذاتي. الأمر متعلق بمدى الالتزام والقدرة على التحسن وتقديم الأفضل دائما.

و وافقته الرأي المترجمة (أماني فوزي الحبيشي) :

“الحقيقة أنا أعتقد أن الدراسة والمعرفة النظرية مهمة لأي نوع من الممارسة. بالنسبة للترجمة التقنيات والنظريات مهمة، بقدر أهمية الممارسة بالتأكيد. واتقان اللغة فقط لا يكفي بالتأكيد، فهناك أيضًا أهمية معرفة ثقافة الشعب الآخر وآدابه. ولكن في نهاية الأمر مسألة التعليم الذاتي أثبتت نجاحها مع البعض، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا مترجمين محترفين. ولكن هذا أيضًا يتوقف على نوعية الترجمة، وعلى المقصود ب”تعليم ذاتي

و أتفق معهم المترجم (شريف بقنة) بقوله:

“أعتقد أن ممارسة الترجمة كعمل بدوام كامل يتطلب الحصول على مؤهل بالتأكيد، وانا هنا لا أتكلم عن الترجمة كوظيفة freelancer مستقل، وانما كوظيفة رسمية وبدوام كللي في مؤسسة جيده ومعتبرة، ذلك أن أنظمة المؤسسة تتطلب الحصول على مؤهل للترشح في العمل بها في أغلب الأحوال

اما الحديث عن عمل الترجمة كهواية و كعمل مستقل أو عن بعد فيمكن للموهبة والهواية أن تلعب دوراً”

 

 

بينما كانت هناك وجهات نظر محايدة إتفق عليها بعض المترجمين

فقالت المترجمة (إقبال عبيد):

“أرى أن الترجمة ليست مقتصرة على التعلم والشغف الذاتي في أنواع ومجالات متشعبه ،بعض الترجمات والمواد بالفعل تحتاج دراسة وتأهيل أكاديمي لتناولها حسب المادة المترجمة ،يمكن لاي للهاوي ترجمة رواية أو شعر حسب إلمامه اللغوي من تحصيل قراءته لكن مفهوم الترجمة واسع جداً”

و أيضاً المترجم (عبدالرحمن السيد):

. رسميا فيه متطلبات معينة لممارسة الترجمة ولكنها لا تقتصر على المتخصصين بالترجمة .. وبشكل عام أنا أفضل أن يكون عند المترجم مؤهل في الترجمة ولكن هل هو شرط؟ .. جوابي قطعا (لا).

 

و أيدتهم القول المترجمة (مجد الحفظي) :

“من وجهة نظر محايدة تمامًا، مهنة الترجمة في متناول يد حتى غير المتخصص، ولكن لا يعني ذلك عدم إلمامه بأساسيات الترجمة وقواعدها، لا بد يكون عنده فكرة عنها واطلاع على مجريات أمور الترجمة الحديثة، والأخطاء الشائعة ويطور من نفسه”

 

اختلفت الآراء لكن تبقى الترجمة مهنة مستقلة تمامًا عن (ممارسة اللغة و تعلمها فقط) فليس كل من تعلم اللغة الإنجليزية قادر على ترجمة النصوص لأن الترجمة تعتمد على التدريب و الممارسة و التعليم المستمر ليس فيما يخص اللغات فقط بل عن ثقافة الشعوب و أبرز ما يحدث لهم و بالقراءة المستمرة و المترجم الجيد يكون باحث, مؤرخ , قارئ شغوف ومتدرب مستمر و لكل متخصص بنوع معين من الترجمة يجبّ عليه و لابد أن يكون مُطلِع دائم عن تحديثات المجال الذي يترجم فيه.

و يبقى السؤال هل الترجمة حقٌ للجميع؟ مثلما أثار المترجم (عبدالرحمن السيد) هذا التساؤل بقوله “الطبيب أو الممارس الطبي من الممكن أن يكون مترجم طبي .. وقيسي على ذلك بقية التخصصات”

فهل المبرمج على سبيل المثال يحق له ترجمة المقالات التكنولوجية و التقنيّة؟

من وجهة نظري أرى أنه لا يحق له ترجمة نص كامل رُبما بعض (المصطلحات) بناءً على معرفته و مهمة الترجمة تُترك للمترجم المتخصص في هذا المجال.

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الربيع في زمن الجائحة

الربيع في زمن الجائحة

 

Mariaaa

ماري شيلي: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟ و كيف يمكن لجمال الطبيعة أن يكون طوق النجاة في استعادة التوازن الذهني؟

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

 

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

 

 

قبل نصف قرن من تأمل الشاعرالأمريكي ( والت وايتمان) _ وذلك بعد تعرضه لسكتة دماغية أدت إلى إصابته بالشلل_  في الشيء الذي يضفي قيمة على الحياة, أدرجت الكاتبة الإنكليزية  ( ماري شيلي 30 أغسطس 1797 _ 1 فبراير 1851) السؤال ذاته في روايتها الآسرة التي حملت عنوان ” الرجل الأخير” والتي كتبتها في أكثر فترات حياتها كآبة و سوداوية. وذلك بعد وفاة ثلاثة من أبنائها. إذ توفي اثنان منهما بفعل مرض معدٍ اجتاح البلاد في تلك الفترة, عقب وفاة زوجها الشاعر (بيرسي بيش شيلي) إثر حادثة غرق قاربه.

من عمق ذلك الأسى الدفين , وبين صفحات تلك الرواية التي تحكي عن جائحة تبدأ باكتساح الجنس البشري واحداً تلو الآخر, لتترك_ في نهاية المطاف_  ناجٍ وحيد, هو بطل الرواية, تطرح ( شيلي) سؤالها الجوهري. ألا وهو: لماذا نعيش؟

عبر إجابتها على هذا السؤال, تُخرج ( شيلي) نفسها من تلك الهوة وتواصل حياتها, لتصبح الكاتبة المتفردة بين أقرانها. حيث تمكنت من الصمود أمام كتاب الأدب الرومنسي, فصاغت النثر بجمال شاعري مذهل. كما تمكنت , بجهودها الفردية, من تحويل اسم زوجها الذي كان_ إلى حد ما_ غامضاً, إلى رمز من رموز الأدب في الوقت الراهن. وذلك بفضل إخلاصها, وجهودها المتواصلة _دون كلل_ في التحرير والنشر, تمجيداً لشعره.

لقد حددت ( شيلي) الإطار الزمني لروايتها المتبصرة ” فرانكنشتاين” بقرن سابق لوقت كتابتها _ والتي كتبتها قبل عقد من كتابة الأخرى_ في حين تجري أحداث رواية ” الرجل الأخير” بعد ربع ألفية من الزمن في المستقبل. أي في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين. حيث تبلغ الأحداث ذروتها في عام 2092 للميلاد, في الوقت الذي تصادف فيه الذكرى المئوية الثالثة لميلاد زوجها الشاعر( بيرسي شيلي) أما شخصية الراوي في رواية ” الرجل الأخير ” هي شخصية الشاب المثالي  ” ليونيل فيرني” وهي من أكثر الشخصيات تغلغلاً بكلتا حالتي المعاناة العميقة لعيش الإنسان, و الجمال اللامتناهي للحياة. إذ كانت أقرب الشخصيات لـ( ماري شيلي) في رزانتها وحذرها. وكأن الكاتبة رسمت بورتريهاً نفسياً لذاتها. ففي الوقت الذي تكتسح فيه الجائحة العالم, وتأخذ أحبته واحداً تلو الآخر, يعود بطل الرواية إلى منزله ملتمساً الأمان. كحال الطيور التي تجبرها العاصفة على العودة إلى أعشاشها , حيث تطوي أجنحتها بطمأنينة وهدوء. هنا, في هذا السكون الغريب, وبعد أن تجرد من المشاغل الاعتيادية و المشتتات الاجتماعية, يجد ( ليونيل) نفسه متأملاً في مغزى الحياة. إذ يقول :

كيف أضحى الهائمون حمقى. أولئك الذين غادروا الأعشاش. فوقعوا في شباك المجتمع. ليدخلوا فيما يسميه رجال العالم ” حياة” إنها متاهة الشر, ومكيدة العذاب المتبادل.

إن فعل العيش, وفقاً لما تعنيه الكلمة, لا يعني أن نلاحظ و نتعلم فقط . بل ينبغي علينا أن نشعر أيضاً. علينا ألا نكون مجرد متفرجين على الحدث, بل أن نكون جزءاً منه. يجب ألا نكتفي بالوصف, بل أن نكون موضوعاً له. ينبغي ان يسكن الأسى صدورنا. ولا بد للشك المرير و الأمل الكاذب أن يشكل أيامنا. أتراه يحن إلى هذا الوجود المحموم, ذاك الذي يعلم ماهية الحياة؟

 ها أنذا قد عشت, وقضيت أياماً و ليالٍ من البهجة. لألجأ للآمال الطموحة. والآن.. أغلق باب العالم, ثم أبني أسواراً عالية تحول بيني وبين المشهد المضطرب الذي تدور أحداثه حولي.

بالتوافق مع مقولة الشاعر ( وايتمان)_  ” بعد أن تستنزف كل ما هنالك من عمل و سياسة , وتشارك  وحب , وما إلى هنالك , لتجد أن لا شيء بين هذه الأشياء يرضيك, أو حتى يمكنك احتماله على الدوام, فما الذي يبقى إذاً؟ يسأل الشاعر الأمريكي سؤاله هذا عبر الزمان والمكان, ثم يجيب نفسه بالقول:” الطبيعة هي الباقية”_ لا يجد بطل رواية ( شيلي) معنى الحياة في دوامة العالم الذي صنعه الإنسان بصورته الزائفة, بل في بساطة الحاضر الخلاق في سيمفونية الطبيعة اللا متناهية :

لنبحث عن السلام .. قرب خرير الجداول, و تلويحات الأشجار اللطيفة, و رداء الأرض الجميل, ونصعد إلى عظمة السموات. ولنترك الحياة التي قد نعيشها.

في ذروة الجائحة المميتة , تبدو الطبيعة مصرة على التأكيد على مرونة الحياة. إذ يأتي الربيع محملاً برشقات من الجمال الذي لا يمكن لقوة أن تصده, غير آبه بمعاناة الإنسان, و مرمماً لها في الوقت ذاته. يستعيد ( ليونيل) ثقته بالنجاة , و الجمال, و بجدوى الحياة , وذلك عبر مراقبة انفعال الطبيعة العفوي في تعبيرها متناهي الصغر, وعبر الاستسلام لها في الوقت ذاته. قبل زمن من نظم الشاعرة ( إيميلي ديكنسون) لقصائد تصف الربيع, كتبت ( شيلي):

ها قد ولى الشتاء.. ليأتي الربيع, وقد قادته الشهور, فيعيد الحياة إلى كل مكونات الطبيعة. و ها هي الغابات تكتسي باللون الأخضر, والعجول الصغيرة تتراقص فوق العشب الذي نبت للتو, والظلال الرقيقة للغيوم المجنحة بالرياح تسير فوق حقول الذرة الخضراء. إذ يردد طائر الوقواق الناسك نداءاته الرتيبة طوال الفصل, و يملأ العندليب _ طائر الحب و المساء_  الغابة بصوته العذب. بينما يتوانى كوكب الزهرة عند غروب الشمس الدافئ, و تنبسط الأشجار الخضراء الفتية على طول خط الأفق الصافي. 

ومع هذا التشارك الحر مع عالم الطبيعة غير البشري , يستخلص بطل رواية ( شيلي) جوهر كينونة الإنسان. إذ يقول:

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

قلوب وأياد

hands

قصة : قلوب و أيادٍ*

تأليف : أو . هنري 

ترجمة : يحيى الشريف 

 

تدفق الركاب بمدينة دنفر داخل عربات القطار بي إم إيست باوند السريع. جلست على إحدى العربات هناك شابة جميلة مرتدية بأناقة وذوق جميل و محاطة بوسائل الرفاهية و الفخامة؛ حيث دأبت على السفر والترحال. كان فيما بين القادمين الجدد شابين؛ أحدهما وسيماً وجسوراً، بوجهٍ واضح لا لبس فيه، وسلوك حسن; بينما بدأ الشخص الآخر مكدراً، بوجه كئيب، مرتدياً ملابس ثقيلة تقريباً. كان الاثنان مصفدي اليدين معاً .

على الرغم من أنهم اجتازوا ممر العربة، كان المقعد الشاغر الوحيد مغايراً؛ بحيث يواجه الشابة الفاتنة. هنا أقعد الشخصين المقيدين معاً أنفسهم. رمقت الشابة نظرة خاطفة عليهما من بعيد، مع لا مبالاتها بصورة مفاجئة ; و ابتسامة محبة تشع محياها, و أثر وردي ناعم على خديها المكتنزين، حملت بيدها الصغيرة قفازين رماديين. فعندما تحدثت بدا صوتها، مليئاً، و عذباً، و موزوناً، معلنة بأن صاحب الصوت قد أعتاد التحدث والاستماع.

‘‘حسناً، السيد إيستون، لو جعلتني أتحدث أولاً، أفترض أنه يتعين عليّ. هل بوسعك أن تميز أصدقاؤك القدامى عندما تصادفهم في الغرب ؟’’

حث الشاب نفسه بحدة عند سماع صوتها، وأبدى مقاومة لتعرضه للإحراج قليلاً والذي تخلص منه في الحال، ومن ثم صافح أصابعها بيده اليسرى.

‘‘ قال، وقد علتَ على شفتيه ابتسامة، إنها الآنسة فيرتشيلد.‘‘ أطلب منكِ أن تعفي اليد الأخرى; فإنها مشغولة حالياً فحسب .’’

رفع يده اليمنى قليلاً، مربوطاً حول الرسغ ‘‘سوار’ٍ’ لامع على اليد اليسرى لرفيقه. تغيرت نظرة السرور التي في عيني الفتاة ببطء إلى نظرة مرعبة مرتبكة. تلاشى في حينها تورد خديها. بدت استغاثة شفتيها الممزقة مريحة بغرابة. إيستون، وبضحكة متواضعة، كما لو أنه مستمتع، كان يُهمّ بالتحدث لولا أن الأخر سبقه. فقد كان الرجل ذو وجه الكئيب يراقب وجه الفتاة بنظرات خفية من خلال عينيه الحادتين.

‘‘اسمحي لي بالتحدث، يا آنسة، ولكنني أرى بأنك على دراية بحارس السجناء هنا. إذا أنت كذلك سوف أسأله أن يتحدث بكلمة طيبة لأجلي عندما يضعونني في الحبس؛ سيقوم بذلك، ستبدو الأشياء أسهل بالنسبة لي هناك. سيضعني في سجن ليفنوورث؛ حيث حكم عليّ سبع سنوات بتهمة التزوير.’’

قالت الفتاة ‘‘ آوه !’’ أخذت تتنفس بعمق و استعادت لونها الطبيعي. ‘‘ إذاً هذا ما تفعله هنا ؟ حارس السجناء !’’

قال إيستون، بِتَرَوٍّ‘‘ عزيزتي الآنسة فيرتشيلد ’’ 

‘‘ كان عليّ أن أفعل شيء ما. لدى المال طريقة للاختفاء في لمح البصر، فإنكِ تُدرك أن الأمر يتطلب المال لمواكبة النخبة في واشنطن. رأيت الانفتاح في الغرب ، و – حسناً، وظيفة حارس السجناء  ليست ذا منصب كبير تماماً كما السفير، ولكن–’’

قالت الفتاة بحرارة ‘‘ السفير’’ ، لم  يَعد يتصل. و لا يعوزه عن فعل ذلك. ينبغي عليك أن تعرف ذلك . فالآن أنت وَاحِدٌ من أولئك الأبطال الغربين مفعماً بالحياة، فأنت تقود وتطلق النار وتجوب في جميع أنواع المخاطر. فالحياة مختلفة عن التي في واشنطن. فقد مضت عنك الحياة القديمة ولا يُضيرك ذلك.’’

عادت عيني الفتاة مسحورة، و اتسعت قليلاً، كي تستقر على الأصفاد المتلألئة. 

 قال الرجل الآخر ‘‘ لا تقلقي بشأنهم. ‘‘ جُل الحراس يُقيدون أنفسهم بالسجناء لمنعهم من الفرار. يعرف السيد إيستون عمله.’’

 سألت الفتاة ‘‘ هل سنراك مرة أخرى قريباً في واشنطن؟’’ 

قال إيستون ‘‘ليس قريباً’’. ‘‘أخشى بأن حياتي السابقة قد وَلَّتْ بلا رجعة.

تفوهت الفتاة بكلام لا علاقة له بالموضوع ‘‘ كم أحب الغرب’’ . كانت عيونها يشعان بلطف. تأملت  بعيداً من نافذة عربة القطار. بدأت تتحدث بصدق وبساطة بدون بريق الأناقة و السلوك: ‘‘أمضينا أنا وأمي الصيف في دنفر. عادت إلى البيت الأسبوع الماضي؛ لأن جدي كان مريضاً بعض الشيئ. بإمكاني أن أعيش و أكون سعيدة في الغرب. أعتقد أن الهواء هنا يتفق معي. المال ليس كل شئ. ولكن الناس دوماً يسيئون فهم الأشياء ويظلون أغبياء–’’

تذمر الرجل ذو الوجه الكئيب ‘‘ قل ، أيها الحارس’’ ‘‘ إن هذا ليس عدلاً تماماً. أنا بحاجة إلى الشراب، ولم أدخن طوال اليوم. ألم تحدثت طويلا بما فيه الكفاية؟ هل ستأخذني إلى المكان المخصص للتدخين الآن؟ فأنا أتوق إلى التدخين.’’ 

رفع المسافران المقيدان بالأصفاد أرجلهم، إيستون بنفس الابتسامة البطيئة على محياه.

 قال ، برفق.‘‘لا يمكنني أن أرفض توسلاً من أجل التبغ ’’ ‘‘ فإن الأمر لصديق تعيس. وداعاً آنسة فيرتشيلد. فالواجب ينادي، كما تعلمين.‘‘ رفع يده مودعاً.

 

قالت ‘‘ إنه لأمر سيئ للغاية بأن لا تذهب إلى الشرق’’ هندمت ملابسها بأناقة مرة أخرى. ‘‘ ولكن يجب عليك أن تذهب إلى ليفنوورث، أفترض ذلك؟

 قال إيستون مجيباً ‘‘ نعم’’ ‘‘ يجب عليّ أن أذهب إلى ليفنوورث.’’ 

عبر الرجلان الممر إلى المكان المخصص للتدخين.

قد سمع اثنان من الركاب في المقعد القريب معظم المحادثة. قال أحدهم : ‘‘ ذلك الحارس الشاب معدنه أصيل. فبعض الزملاء الغربيين لا بأس بهم.’’

 سأل الآخر ‘‘ إنه لشابٍّ صغير أن يتولى مكتباً مثل ذلك ، أليس كذلك؟

 صاح المتحدث الأول ‘‘شاب ! ’’ ‘‘ لماذا– آوه ! ألم تفهم الفكرة ؟ قل– هل سبق لك أن رأيت شرطياً يُقيد سجيناً بالأصفاد بيده اليمنى؟’’

 

‘‘تمت’’

*

قد نُشرت قلوب وأيادٍ أولاً تحت إسمه المستعار، سيدني بورتر، في عام 1902م. القصة مليئة بالتقلبات والتلاعب بالألفاظ، كما كانت حياة أو هنري الخاصة. حكم عليه بالسجن لمدة خمسة سنوات في سجن فيدرالي بتهمة اختلاس 854.08 دولار ، بعدما أن فرّ إلى هندرواس، ومن ثم عاد إلى أوستن كي يتواجد مع زوجته المريضة، حيث سلّم بنفسه. كان قد أطُلق سراح أو هنري قبل وقت قصير من نشر هذه القصة، مما حدا بها مصادراً غير متوقع؛  مثيرة للشفقة و المشاعر خصوصاً.