الكاتب والمناضل
إذا كان هناك من يتساءل عن وضعية جوزيه ساراماجو: هل هو كاتب مبدع أم مناضل؟، فإنه يمكن العودة إلى ما قاله ألبير كامي: “ليس النضال هو الذي يدفعنا إلى أن نكون فنانين، بل إنه الفن الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين”، وساراماجو كان فتى فقيراً عادياً، وعندما قرر أن يكون كاتباً حقيقياً وجد نفسه مدفوعاً إلى أن يكون مناضلاً، لأن الإبداع التزام.
من يعرف هذا الكاتب البرتغالي وقرأ أعماله وتابع نشاطه السياسي والاجتماعي يعرف أن الرجل كان دائماً صادقاً مع نفسه قبل أن يكون صادقاً في مواجهة الآخرين، لذلك فهو وإن كان يتقبل النقد الأدبي بروح سمحة باعتبار أن للنقاد، بل وللقراء أيضاً، حق النقد، لكنه لا يقبل التشكيك في رؤيته للعالم التي يعبر عنها من خلال آرائه، حتى لو تعرض للنقد الجارح، وربما من أبرز المواقف التي تعبر عنه ما حدث بعد زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة إثر مذبحة جنين، التي وصفها بأنها “الجريمة البشعة”، وأنها لا تقل بشاعة عن “أوشفيتز” التي بنت عليها إسرائيل أسطورة وجودها، ورد على منتقديه وقتها، بأنه يفضل أن يكون ضحية كالفلسطينيين على أن ينتمي إلى معسكر القتلة بالفعل: إسرائيل، والقتلة بالصمت: الغرب وإعلامه.
كان موقفه هذا قد جاء بعد الزيارة التي قام بها مع عدد من أعضاء “برلمان الكُتاب الدولي” إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ليعلنوا رفضهم للممارسات العنصرية الصهيونية بعد أن راعهم صمت الساسة المريب على كل الصعد، لم يكن من بينهم من يعي الحقيقة المرة التي سيواجهونها على أرض الواقع سوى الكاتب الإسباني “خوان جويتيسولو” الذي كانت زيارته تلك الرابعة، فقد سبقتها زيارات ثلاث مطولة قام بها هذا الكاتب الإسباني وأنجز خلالها العديد من البرامج التليفزيونية التي تدين الاحتلال الإسرائيلي، وتكشف حرب “الإبادة” التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني، وأيضاً كتب خلال تلك الزيارات عدداً من الأعمال الصحفية والأدبية، منها مجموعة مقالات في زيارة له عقب اتفاقات أوسلو، كان لي شرف ترجمتها ونشرها باللغة العربية، صدر جزء منها قبل خمس سنوات في كتاب بعنوان “دفاتر العنف المقدس”.
كانت مفاجأة ما هو على أرض الواقع اليوم في العاصمة الفلسطينية المحتلة “رام الله” وما حولها من المدن والقرى الفلسطينية المدمرة كبيرة على من كانت تلك زيارتهم الأولى، وجعلت بعضهم يقارن ـ في دهشة ـ بين ما يراه وما كان يسمعه عن مناطق أخرى في العالم كانت تعيش أحداثاً مماثلة لما يحدث الآن في وجودهم وأمام أعينهم، فقد أشار أحدهم من نافذة السيارة التي كانت تقلهم عبر بقايا المدن والقرى الفلسطينية التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية من دبابات وجرافات على الأرض، وطائرات “أف 16” وحوامات “الأباتشي” الأميركية من السماء، وبتوجيه من أقمار التجسس الصناعية الأميركية التي توفر لتلك القوات كل المعلومات عن أي تحرك فلسطيني حتى لو كان فردياً، وأقامت على طرقاتها الحواجز العسكرية التي تمنع الاتصال ما بين قرية وأخرى إلا بتصريح خاص، لم يكن الهدف منه أمنياً بقدر ما هو “إذلال الفلسطيني والنيل من كرامته في محاولة لوضع حد لمقاومته”، حسب تعبير أحد أعضاء الوفد برلمان الكتاب الدولي، فيما أكد آخر أن “هذا مزيج من التبت وبرلين قبل سقوط حائطها الشهير”.
مجموعة الكتاب المكونة من ثمانية يمثلون جنسيات وانتماءات عرقية ودينية عديدة، كان بينهم اثنان من الحاصلين على جائزة نوبل للآداب: النيجيري “وول سونيكا”، والبرتغالي “جوزيه ساراماجو” أول من حصل على جائزة نوبل للآداب من كتاب اللغة البرتغالية، وكان هذا الأخير صامتاً طوال الطريق يراقب ما يحدث حوله من جرائم، ويحاول أن يجد له شبيهاً في ذاكرته التي شهدت أسوأ ما أبدعته النفس البشرية من تدمير، سواء خلال الحربين الكبريين في أوروبا، أو الحروب الأهلية الدائرة في العديد من بلدان العالم التي زارها للتضامن مع ضحاياها، وكانت آخر هذه الزيارات لمناطق مشتعلة تلك التي قام بها للمكسيك لإعلان تضامنه مع سكان “تشياباس” الهنود الحمر الذين يتعرضون للإبادة هناك، وكانت تلك الزيارة قبل أيام قليلة من زيارته للعاصمة الفلسطينية رام الله، ولم يجد الكاتب البرتغالي شبيهاً في التاريخ الإنساني المعاصر لما يحدث في الأراضي الفلسطينية سوى ما حدث على أيدي النازي خلال الحرب العالمية الثانية، ليس ضد اليهود فقط، بل ضد كل من كان النازي يرى أنه عقبة في سبيل تحقيق “سمو الجنس الآري”، حتى إن المصادر التاريخية تؤكد أن ضحايا النازي من “الغجر” يفوق كثيراً عدد ضحايا اليهود في ما يسمونه “المحرقة”.
ولأنه يدرك أن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة على أيدي جيش مسلح بأحدث ما يملك البشر من أدوات للتدمير في هذا العصر لا يمكن التعامل معه على أنه مجرد “مواجهة” بين قوتين؛ لأن المواجهة تكون عادة بين قوتين شبه متعادلتين في العدد والعدة، بل هي حرب “إبادة” لا يمكن أن يكون لها اسم آخر، فقد قال كلمته التي كانت لا تعني سوى الحقيقة: “هذه هي المحرقة النازية التي يمارسها الجيش الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ورام الله المحاصرة، تذكرني بمعسكر أوشفيتز النازي”.
بهذا التصريح المباغت للإعلام الصهيوني، ليس في إسرائيل وحدها بل والإعلام التابع والمؤيد للصهيونية في العالم أجمع، الذي لم يتوقع أن يكون بين أعضاء الوفد من يجرؤ على كسر المحرمات الصهيونية، كان رأي جوزيه ساراماجو خروجا عن نطاق الآراء واللغة الدبلوماسية التي اعتادوا سماعها من “المرتعبين” من مجرد نطق كلمة “المحرقة”، رغم أنها لم تعد تقول شيئاً بعد كل هذه السنوات التي اُستهلك استخدامها من قبل إسرائيل.
تصريحات وصدمة
هذه الصدمة التي أحدثتها تصريحات ساراماجو في إسرائيل وبين مؤيديها كشفت عن جهلهم لموقف الرجل، فهو لم يكن يوماً من هؤلاء الذين اعتادوا الابتعاد عن الصدق في التعبير، لا في وطنه ولا خارجه، حتى خلال تسلمه لجائزة نوبل كان خطابه من أجرأ الخطابات التي اعتاد جمهور “نوبل” أن يسمعها من الفائزين بها كل عام، والتي لم تكن تخرج عن التعبير عن السعادة بشرف الفوز بها، وتبجيل صاحبها، لذلك في زيارته للعاصمة الفلسطينية المحاصرة “رام الله” لم يمنع نفسه من التعبير عن رأيه الحقيقي الذي يفكر فيه دون انتظار لمكافأة من أحد، بل كان يعرف أن كل ما سيقوله قد يجلب له المتاعب من قبل وسائل الإعلام التابعة والخاضعة للسيطرة الصهيونية التي ترى في كل رأي مخالف “عداء للسامية”، وكأن إسرائيل هي تلك السامية المزعومة، وكما قال كاشفاً حقيقة أخرى لم يجرؤ أوروبي قبله على البوح بها علناً: “إسرائيل لا ترى موقفاً ثالثاً لأحد، إما الانضمام إلى جوقة المؤيدين إلى السامية طبقاً لتعريفها، أو احتلال مكان العدو للسامية، ذلك السلاح الكاذب الذي يوجهونه إلى مناهضيهم”.
عندما قال ساراماجو في مؤتمر صحفي في رام الله إن ما يحدث من حوله ليس سوى “أوشفيتز” ـ معسكر النازي الذي يقول دعاة الصهيونية إن ملايين اليهود ماتوا فيه ـ حاولت صحفية إسرائيلية ابتزازه قائلة: “لا توجد هنا أفران غاز”، فرد عليها بهدوء: “ما أقوله يتعلق بالفعل وليس بالاسم، وما يحدث هنا يصدر عن روح مماثلة (للنازية) وهذا واضح جداً هنا”، وزاد في رده بقوله: “إن ما يحدث هنا جريمة ضد الإنسانية، وإذا كانت كلمة “أوشفيتز” تغضب الإسرائيليين فعليهم أن يختاروا كلمة أخرى للتعبير عن ما أراه هنا، وعلى أي حال لن تكون أي كلمة أخرى لوصف ما يحدث هنا أقل بشاعة من وصف المحرقة النازية”.
كان ساراماجو يعرف أيضاً أن تصريحاته الناطقة بالحق والحقيقة سوف تثير عليه حرباً تستخدم فيها الصهيونية كل ما تملك من أسلحة دعائية لتشويهه، ولكنه كان جاهزاً للرد، لأنه يعتقد أنه يقول الحق، ولذلك لم يحاول التملص من كلماته أو النكوص عنها، كما حدث من قبل مع الكثير من الساسة والمثقفين، بالتراجع تحت الضغوط من خلال محاولة تقديم تفسيرات من ذلك النوع الذي يستخدمه السياسيون عندما يؤكدون أن تصريحاتهم “قد أسيء فهمها”، أو “اقتطعت الكلمات من سياقها”.
لم تمض ساعات حتى أكد الكاتب البرتغالي في حوار مع صحيفة “الباييس” الإسبانية بالهاتف أجرته معه الصحيفة وهو لا يزال في فندقه في تل أبيب، لعله ينفي أو يتراجع، أو يحاول التملص من كلماته، فما كان منه إلا أن أكد من جديد أن كل كلمة قالها في اتهامه إسرائيل بممارسة “حرب إبادة” ضد الفلسطينيين كانت تعني ما تتضمنه، وأنه فكر كثيراً في هذه الكلمات، واعتنى باختيارها قبل الإدلاء برأيه؛ لأنه ببساطة وصف بدقة ما شاهده على أرض الواقع، وغير مستعد للخضوع لأية ضغوط للتراجع عن ما قاله حرفياً، وأكد أنه إذا كانت إسرائيل لا تريد أن تسمع اسم معسكر النازي “أوشفيتز”، فإنه تعمد “ذكر هذه الكلمة بالتحديد حتى يهتز المجتمع الإسرائيلي من داخله ويطرح نقاشاً حول ممارسات جيشه وحكومته ضد الفلسطينيين، وأن يتخذ ما من شأنه أن يوقف المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني حتى لا يتكرر مع الفلسطينيين ما حدث لليهود على أيدي النازي”.