نشرت تحت تصنيف غير مصنف

فصل مترجم من أغنيات الثوم – مو يان

 

ترجمة : إقبال عبيد Image result for garlic ballads

Image result for mo yan

————————————————————————

أتمدَّد في حقل الذرة، أتأمَّل كثافة الغيوم المتشكِّلة في حين أوراق الدُّخْن الحادَّة تحاصرني.

تتلاشى الغيوم، تحت قبة السماء الزرقاء الصافية؛ لتحرق الأرض الحامية ظهري.

تتدلى حبات النُّسغ مثل سُبحة بيضاء بخيوط شفافة على الأوراق المنتصبة، متردِّدة في السقوط أرضًا، تُشبه كثيرًا الدموع على أهداب العين!

يتراقص الدُّخن في تموجات، ثم يسكن عند توقف الرياح. تنحني السيقان الناضجة في حين يَنغِق زوج من الغربان بنعيق مُذعن، يلتصق أحدهما بذيل الآخر، يتبعهما عُصفور فضوليّ يخلط زقزقته مع نغيقهما.. الهواء لاذع مصحوبًا برائحة الثوم الطازجة التي تنبعث من الأرض.

جينجو وحيدة  في هذا الحقل منحنية؛ هذا لأنها تقطع الدخن الذي انخفض من بين ساقيها، تتسارع يداها بشدة، تضرب الأرض، وتخطف حَفنة تلو الأخرى، وتتموج حركتها إلى أعلى وأسفل، مثل ذيل أصفر كثيف.حُزمتي من الدُّخن مكدسة قربي، و بين خطوط الذرة المهجورة تحاول جاهدة أن ترى الشمس بين فجوات الدخن.

فدانان من الأرض لا يكفيان لفارس مثلي.

لقد اخترتها منذ أن خرجتُ من الجيش العامَ الماضي. إنها ليست جميلة، ولكن أيضًا ليست قبيحة.. كانت مجرد فتاة صغيرة شابّة عندما غادرتُ. والآن قد  كَبِرَتْ، وقوِيَ عودها. أنا أحب المرأة القوية!

سآخُذ حصتي من الدخن إلى المنزل بعد ظهر هذا اليوم.

ساعة يدي المصنوعة من ماركة دياموند التي صنعتها شانغهاي تسير بسرعة، ومتقدمة بحوالي 20 ثانية كل يوم، تشير الآن إلى  11:03.

حدَّدتها عبر المذياع منذ بضعة أيام، لذلك فعليًّا هي في الدقيقة الحادية عشرة. يمكنني أخذُ وقتي في المنزل.

كان إحساس غاوما بالشفقة عميقًا عندما كان منتصباً في مكانه، مُبحرًا بيده، يشاهد جينجو خُلسة، كان يحدق بنفس التركيز الذي مارسه الغرابان اللذان طارد أحدهما الآخر، وتلاهما على  مقربة العصفور بزقزقته المنفردة.

لم تكن تعرف أن هناك أحدًا ما من ورائها.

غاوما يستمع لمشغل الأغانيّ الصغير في جيبه، يستمع إليه عبر سماعات الأذن. قَرُبَ نَفاد البطاريات، تشوه الصوت ليبدو خافتًا ومشوهاً، لكنها موسيقى جيدة في كل الأحوال، وهذا ما ينبغي أن يوضع في الحُسبان.

فتاة شابة مثل زهرة، ظهرُ جينجو كان عريضًا ومسطحًا، و شعرها رطب، كانت تتنفس بقوة.

أزال غاوما  السماعات، ووضعها على عنقه، حيث لا تزال الموسيقى المشوَّهة مسموعة.

“جينجو”.. ناداها بهدوء، أزعجته لسعة الموسيقى القادمة من السِّدادة؛ الأمر الذي جعله يحُكّ. ثم قام بضبطها.

اقتربت ببطء، نظرة فارغة على وجهها المتعرق. كانت تُمسك بمِنجل في يدها اليمنى، وحُزمة من الدُّخن في يسارها. نظرت بلا حَراك إلى وجه غاوما الذي كان مفتونًا بمنحنى خصرها و بجيوب سترتها الزرقاء وباهتة اللون. لم ينطق بشيء.

غرست جينجو المِنجل أسفلها، وقسمت الدُّخن إلى حُزمتين، ثم وضعتهما على الأرض. أتت بقليل من الحشائش، ولفَّت كل حزمة.

جينجو، لِمَ يجب عليك القيام بذلك وحدَكِ؟

ذهب أخي إلى السوق”، أجابت بهدوء، تمسَح وجهها بكوعها، وتضرب خَصرها بقبضة يدها؛ لتُزيل الغُبار وحبّات العرَق من على وجهها الشاحب. تمسك بالخيوط الرطبة من شعرها، وتعدِّل من هيئتها.

أتعاني تشنُّجًا في جانبك؟

ابتسمتْ. تنتشر بقع خضراء صغيرة أمام أسنانها الأمامية، لكن البقع الأخرى تتلألأ. زِرُّ ياقتها المفقود أظهر خط صدرها الأبيض الناعم، و الذي لم يتحمله.

تظهر خدوش حمراء صغيرة قرب حنجرتها ورقبتها المكشوفة، حوافِّ الدخن الحادة، وضعت أيضًا أجزاءً من مسحوق أبيض على جلدها. لتخفيه

أخوكِ الأكبر ذهب إلى السوق؟”، تمنّت أنه لم يقل ذلك؛ لأن أخاها الأكبر مُقْعَدٌ لا يستطيع العمل، أما الذي يذهب إلى السوق عادة فهو الأخ الثاني.

أجابته باعتدال : “لا.

يجب أن يكون هنا ليساعدك”!

نظرت في ضوء الشمس. شعر بالأسف من أجلها!

كم الساعة أخي الأكبر غاوما؟

نظر في ساعته: “الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة”، وأضاف سريعاً: “ساعتي متقدمة قليلا.”

تنهدت بهدوء، ونظرت إلى حزمة الدُّخن الخاصة به، وقالت: “أنت محظوظ أيها الأخ الأكبر غاوما؛ ليس لديك إلا نفسك لتقلق عليها، الآن بعد أن انتهيت يمكنك أن ترتاح قليلا”.

تنهدت مرة أخرى، ثم استدارت، واستندت إلى مِنجلها: “يجب أن أعود إلى العمل!”

وقفت بلا حَراك خلف شخصية عازمة: “سأساعدك”، قالها وهو يتنهد.

شكرًا، لا أستطيع أن أَدَعَكَ تفعل ذلك”، قالتها في تهذيب.

نظر في عينيها: “لِمَ لا؟ ليس لديّ شيء آخر لكي أقوم به… ثم ما فائدة الجيران إذن؟!”

خفضت رأسها، وتمتمت: “حسنًا، يمكنني قبول بعض المساعدة.”

أخرج مشغل الأغانيّ من جيبه، وأوقفه ووضعه على الأرض، وسماعات الأذن، وكل شيء.

ماذا يشغل هذا؟” سألته.

فأجاب: “الموسيقى.

ينبغي أن تبدو لطيفة.”

جيدة لا بأس بها، باستثناء انخفاض البطاريات. سأحصل على البعض غدًا؛ حتى تتمكني من الاستماع له.

قالت مبتسمة: “إن كُسرت مني.. فلستُ مسؤولة، لن أستطيع تحمُّل تكلفة إصلاحها.”

قال: “إنه ليس هشًّا كما تظنين، أبسط جهاز في العالم، ثم إني لن أجعلك تدفعين أبدًا“!

بدأا في قطع الدُّخن الذي اختطفه بهمهمه متصاعدة. كانت تمشي أمامه، و مقابل كل صفين تقطعهما كان يجزّ ثلاثة، وضعها في حُزَم.

ثم قال: “والدك  ليس طاعنًا في السن كي لا يكون جانبك ليساعدك.

توقف حَفُّ مِنجلها: “لديه ضيوف اليوم.”

لم تنجُ بنبرة تعليقها الحزينة من غاوما الذي تناسى الموضوع، وعاد إلى عمله.

توتَّر مِزاجه أكثر مما كان قبلًا، يحك الدخن وجهه وكتفيه “قطعتُ ثلاثة صفوف لكلّ منَّا وأنتِ تقفين في طريقي؟!”، قالها وقد تفجَّر غضبًا!

 

الأخ الأكبر غاوما”، كانت على وشْك البكاء، ثم شكت: “إنني مُتعَبة للغاية!

أجاب: “كان يجب عليَّ  أن أُخمِّن؛ هذه ليست وظيفة امرأة.”

يمكن أن يتحمل الناس أيَّ شيء.”

لو كان لديَّ زوجة.. لتركتها تعمل في المنزل، في المطبخ، أو ربما تَخِيط  الملابس، أو تطعم الدجاج، لكن لن أتركها تعمل في الحقول.”

 

نظرت إليه جينجو، وتمتمت: “إنها امرأة محظوظة، أَيًّا كانت.”

جينجو، أخبريني ما الذي يقوله القرويون عني“؟

لم أسمعهم قطُّ يقولون شيئًا.”

لا تقلقي؛ مهما كانت تلك الأشياء.. فسأتقبّلها”.

حسنًا، البعض منهم يقولون … لا تغضب! … يقولون: إنك اقترفت خطأً في الجيش.”

هذا صحيح، قد فعلت ذلك.”

يقولون: إنك أنت وزوجة قائد الفوج …… أمسكوا بكما“.

غاوما ساخرًا: “يا إلهي! لم تكن زوجته، كانت معشوقته، وأنا لم أحبَّها، لقد كرهتها.. لقد كرهتها فعلا“!

قالت وهي تتنهد: “إنني أفهمك”.

إنها لا تستحقّ ضرطة كلب”! تَعَثَّر، ثم رمى المِنْجَل، وركل الدُّخن بغضب، ثم أعادها مرة أخرى: “إنها لا تستحق ضرطة كلب!”

حضر شقيقها المُقْعَد في ذلك الوقت، وتَذَكَّرَ غاوما. وعلى الرغم من أنه لم يبلغ بعدُ الأربعين، قد تحوَّل لون شعره إلى اللون الأبيض، وبدا وجهه متجعِّدًا بعمق، كانت ساقه اليسرى أقصر من اليمنى، يستخدم طرفًا حديديًّا يعطيه عرجًا واضحًا.

جينجو، هل تخطِّطِين للبقاء هنا فترة الغداء أيضًا؟

اضطرب غاوما مستشيطًا، ثم همس: “لماذا يعاملك أخوكِ كأنكِ أسوأ عدوٍّ له”؟!

عضت على شفتها، ثم سالت دموع كثيرة على خديها!

جينجو، لم أكن أعرف لحظة سلام منذ أن بكيت في ذلك اليوم!

أنا أحبك، أريد أن أجعلك زوجتي… لقد مرَّ عام بالفعل جينجو، لكنكِ تتجنبينني عندما أحاول التحدث معك… أريد أن أنقذك من جحيم حياتك؛ تشانغ كو، وعشرات الخطوط التي تنتظرك من الدخن!!

 هي كل ما أطلبه، ثَمَّة ما  يكفي من الوقت للأخذ بيدها؛ ولو صرخت أمام الجميع.. ولو جاءت  والدتها تقفز تشتم، أو تصفعني!!

لا، لن تصرخ، أعرف أنها معتادة؛ إنها ليست سعيدة بالزواج الذي رتبوه لها. كان ذات اليوم الذي ناداها أخوها الأكبر هو ذات اليوم الذي ساعدتها في جزّ الحصاد.

 والذي اتفق والداها مع الجد ليو شنغ لى وتساو ون.

التعامل مع الآباء وثلاثة أولاد وثلاث بنات معًا مثلُ التعامل مع  الكثير من الجراد، سلسلة مع ستة روابط، أنها وسيلة مضنية لتكوين أُسر جديدة.

هي لا تكرهني، هي معجبة بي! و حين نلتقي تخفض رأسها، وتبتعد ، لكنني أستطيع رؤية الدموع في عينيها.

إن قلبي يَجرح  كبدي،  يؤلِم رئتي، ويتسبب في  آلام في معدتي، يؤلمني كل شيء بداخلي …. “سيدي القائد، أَسرِعْ، أَعطِ الأمر!”، صرّح تشانغ كو: “أرسِلوا قواتكم إلى أسفل الجبل … أنقِذوا أختنا الكبيرة جيانغ … الكثير من العُثّ قد مات في ضوء  الفانوس الضعيف، أختنا الكبيرة جيانغ محتجزة، تخاف الحشود على سلامتها.

أيها  الرفاق، يجب أن نهدأ! إن أخذوا أختنا الكبيرة.. فسأكون أنا الشخص الذي سيجمع الحزن كله … تقوم السيدة العجوز، أُطلِقُ النار من  مسدسين في الهواء، يرفرف شعرها الأبيض في الريح، وتذرف الدموع على وجهها.

قل شيئًا تشانغ كو! غني تشانغ كو: “زوجي يقبع في معسكر السجن… وترتدي أرملته وابنته اليتيمة الثورة”. تشانغ كو، بضعة خطوط أخرى، واثنان آخران، ويمكنني أن أُمسك بيدها، أستطيع أن أشعر بدفء جسدها، أستطيع أن أشُم رائحة العرق النقيِّ تحت إبْطَيها!

“لا تجعل الثورة تقودك إلى  التهور … يجب أن تكون مُتمهِّلًا وواثقًا، خطوة واحدة، دقيقة في كل مرة“!

انفجارات في داخل رأسه، وصعِدت هالة من الضوء حتى حاصرته سحابة من ألوان كثيفة.

مدَّ يده، يبدو أن يده تمتلك عينين، أو ربما عيناها كانت تنتظر طوال الوقت.

قبض عليها بإحكام، كانت عيناه مفتوحتين، لكنه لم يَرَ شيئًا. قلبه الشاحب،لم يكن يشعر بالبرد، لكنه كان يرتعش

 

نشرت تحت تصنيف إنطباعات

ماركيز الكتابة و الترجمة

*** المحاور: ما شعورك تجاه استخدامي لآلة التسجيل في الحوار؟
ماركيز: المشكلة أنني في اللحظة التي أدرك فيها أن الحوار سيصبح مسجلا تتغير ردود افعالي، بالنسبة لي اتخذ دائما حالة الدفاع.
كصحفي، مازلت أعتقد أننا لم نتعلم بعد كيف نستخدم الة التسجيل. أفضل طريقة لإجراء الحوار في رايي هو أن نخوض محادثة طويلة دون وضع أي ملاحظات، ثم على المحاور أن يستذكر ويكتب انطباعه عن المحادثة، ولا يجب عليه بالضرورة استخدام الكلمات ذاتها، وهناك طريقة أخرى لفعلها وهي أن تأخذ بعض الملاحظات ثم تضع معها عبارات تحدث بها الشخص الذي اجريت معه الحوار، كنوع من الأمانة الصحفية، لأن الة التسجيل تتذكر كل شئ، حتى تلك اللحظات التي جعلت فيها من نفسك أحمقا. وهذا هو السبب الذي يجعلني واعيا لكل كلمة اتفوه بها حين أعلم أن حديثي سيجل، بينما أن تحدثت معي بطريقة عفوية ستكون اجاباتي أكثر انطلاقا وحرية.
*** المحاور: حسنا، جعلتني أشعر بالذنب لاستخدامي آلة التسجيل ولكني أصر على احتياجنا لها في حوار كهذا.
ماركيز: لا يهم، كان هدفي من حديثي السابق أن أضعك أنت في حالة الدفاع.
*** المحاور: كيف بدأت بالكتابة؟
ماركيز: بالرسم، برسم الكارتون. قبل تعلمي للقراءة أو الكتابة اعتدت أن ارسم الشخصيات الكارتونية في المدرسة والمنزل.
المضحك في الأمر انني عندما كنت في المرحلة الثانوية كان الجميع يعتقد بأنني كاتب برغم عدم كتابتي لأي عمل أدبي حينها، ولكن إن كان لأحد الطلاب تقريرا أو رسالة لم يستطع كتابتها، فالجميع يعلم أنني الرجل المناسب للمهمة.
عندما التحقت بالكلية كانت لدى خلفية أدبية جيدة، في جامعة بوجوتا بدأت بالتعرف على عدد من الاصدقاء والمعارف الذين كان لهم الفضل في تعريفي على مجموعة من الكتاب المعاصرين، في إحدي الليالي أعارني صديقي كتابا لفرانز كافكا. عدت إلى غرفتي وبدأت بقراءة كتابه “المسخ” صعقني أول سطر قرأته وكدت أسقط من على السرير، كنت مندهشا للغاية.. “بينما استيقظ جريجور سامسا في ذلك الصباح من كوابيسه، وجد نفسه وقد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة..” عندما قرأت هذا السطر فكرت وقلت: لا أعرف أحدا يسمح له أن يكتب بهذه الطريقة.. لو كنت أعرف لكنت بدأت الكتابة منذ زمن.
حينها شرعت في كتابة القصص القصيرة. كانت تلك القصص تستند على قراءاتي، لم أكن قد وجدت الرابط السحري بين الحياة والأدب.. وقد نالت كتاباتي حينها بعض التقدير ربما لأنه لم يكن أحد في كولومبيا يكتب بهذه الطريقة.. في ذلك الوقت كانت معظم حواراتها تدور حول حياة الريف والحياة الاجتماعية. أتذكر أنني أخبرت عندها أن قصصي كانت متأثرة جدا بجيمس جويس.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: هل تظن أن العديد من الكتاب الشبان يميلون لإنكار خبراتهم في الطفولة ويتجهون للكتابة المتأثرة بقراءاتهم كما فعلت أنت في بداياتك؟
ماركيز: لا في الغالب تتجه العملية بطريقة معاكسة، ولكن إن كان عليّ إسداء نصيحة لكاتب شاب فسأقول له أن يكتب عن شيء حدث له لطالما كان من السهل معرفة إن كان الكاتب يكتب عن شيء حدث له فعلا أو عن شيء قرأ عنه.
بابلو نيرودا لديه سطر رائع في إحدي قصائده يقول فيه: ” يالهي احمني من الابتكار عندما أغني”.. يدهشني دائما عندما تحصل أعمالي على الكثير من التقدير بسبب الخيال الذي استخدمه في كتابتها.. بينما الحقيقة أنه لا يوجد سطر واحد فيها لا يملك أساسا يصله بالواقع.. المشكلة أن الواقع الكاريبي يجسد أكثر الخيالات جموحا.
*** المحاور: هنالك خاصية صحفية في طريقتك التي تسرد بها الأحداث، على سبيل المثال عندما تصف حدثا خارقًا للعادة تميل للإسهاب في التفاصيل واستعراض الزمن دقيقة بدقيقة، بشكل يعطي للحدث حقيقته الخاصة به، فهل نستطيع القول إنها طريقة تعلمتها من كونك صحفيا؟
ماركيز: نعم هذه خدعة صحفية، وتستطيع تطبيقها أيضا على الأدب، على سبيل المثال عندما تقول إن هناك فيلا في السماء، لن يصدقك الناس، ولكن عندما تقول إن هناك 425 فيلا في السماء قد يصدقك الناس.. “مئة عام من العزلة مليئة بخدع كهذه.. إنها الطريقة ذاتها التي كانت تستخدمها جدتي.. أتذكر جيدًا تلك القصة عن البطل المحاط بالفراشات الصفراء.. عندما كنت صبيا كان رجل صيانة الكهرباء يأتي إلى منزلنا.. أصابني الفضول تجاهه لأنه كان يرتدي حزاما يقيه من الصعقات الكهربائية.
كانت جدتي إنه في كل مرة يأتي هذا الرجل إلى المنزل، لا يغادر إلا وهو محاط بالفراشات صفراء اللون، لن يصدقني أحد.
عندما كنت أكتب عن رحلة “ريميدوس الجميلة إلى الفردوس” استغرقني الأمر الكثير من الوقت لأجعل هذا قابلا للتصديق.
في يوم ذهبت إلى الحديقة ورأيت امرأة كانت تأتي إلى منزلنا لإنهاء أعمال الغسيل، وكانت تضع ملاءات السرير في الخارج لتجف بينما الرياح تعصف.. كانت المرأة تتحدث مع الرياح وتقنعها بألا تأخذ الملاءات بعيدا. اكتشفت حينها أنني إن استخدمت الملاءات مع ريميدوس الجميلة فسأنجح في جعلها تصعد.. هكذا فعلتها، وصدقني الجميع.. مشكلة كل كاتب هي قدرته على إقناع القراء.. أي كاتب بإمكانه أن يكتب أي شئ طالما أنه نجح في جعله قابلا للتصديق.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: ما رأيك في النقاد الذين يحاولون وضعك في قالب أو تصنيف معين؟
ماركيز: النقاد بالنسبة لي هم أكبر مثال على مشكلة المثقفين.
أولا لديهم نظريات تحدد الطريقة التي يجب أن يكتب بها الجميع.. ثم تبدأ محاولاتهم لوضع الكاتب داخل هذه النظريات كي تناسبه مقاساتها الضيقة.. وان لم تناسبه هذه المقاسات يحاولون إدخاله فيها بالقوة.. أنا أجبت فقط عن هذا السؤال لأنك طرحته. في الحقيقة لا أملك أي رغبة في معرفة آراء النقاد عني، ولم أقرأ لأي ناقد كتب عن أعمالي منذ زمن.. لقد نصبوا أنفسهم وسطاء بين الكاتب وقارئه.. ولطالما حاولت أن اكون كاتبا واضحا ودقيقا كي أصل إلى القارئ دون الحاجة إلى النقد.
*** المحاور: وما موقفك من المترجمين؟
ماركيز: لدى تقدير كبير أكنه للمترجمين، عدا أولئك الذين يستخدمون الحواشي، لأنهم يحاولون باستمرار شرح شيء لم يقصده الكاتب من الأساس. الترجمة عمل صعب جدا ولا يحصل أصحابه على التقدير الكافي ولا حتى على المال.. الترجمة الجيدة هي دائما إعادة خلق للنصوص في لغة أخرى، لهذا السبب أقدر كثيرا جورج راباسا. ترجمت كتبي إلى احدي وعشرين لغة، وراباسا كان المترجم الوحيد الذي لم يطلب مني أي توضيح ليقوم بكتابته عن الترجمة، أظن أنه قام باعادة خلق عملي كاملا في اللغة الانجليزية، هنالك أجزاء من الصعب جدا ترجمتها حرفيا، ولكن على رغم هذا يبقى الاثر الذي يشعر به القارئ حين يقوم المترجم باعادة الكتابة من جديد.
لذلك قلت سابقا إنني اقدر المترجمين كثيرا لانهم يتبعون غرائزهم على عكس المثقفين.وعلاوة على ذلك لا يحصلون على القدر الذين يستحقونه من المال ولا ينظرون إلى عملهم على أنه له قيمةادبية تستحق التقدير.هنالك عدد من الكتب التي اتمني ترجمتها للاسبانية ولكنها كثيرة وسيتطلب الأمر مني جهدا مماثلا للجهد الذي بذلته في كتابة كل كتبي ولن احصل على قدر كافي من المال لسد جوعي أن فعلت ذلك.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: وهل تعتقد أن شهرة الكاتب مدمرة له؟ ولماذا؟
ماركيز: نعم بالطبع.لأنها تجتاح حياتك الخاصة، إنها تأخذ وقتك الذي كنت تقضيه مع الاصدقاء ووقتك الذي كنت تكتب فيه. إنها تميل لفصلك عن العالم الحقيقي، الكاتب المشهور الذي يؤيد أن يستمر بالكتابة عليه أن يدافع عن نفسه باستمرار ضد الشهرة. لا أحب أن اقول هذا لأنه يصعب تصديقه لكني كنت لكتبي أن تنشر بعد وفاتي كي لا اضطر لخوض هذه التجربة الطويلة مع الشهرة. في حالتي الفائدة الوحيدة التي حصلت عليها من الشهرة هي استفادتي منها بطريقة سياسية. أما ماعدا ذلك فلا أشعر بالراحة أبدا. المشكلة أنك تصبح مشهورا طوال اليوم ولا يمكنك أن تقول “حسنا لن اصبح مشهورا حتى الغد” أو تضغط على زر ما وتقول: “لن اصبح مشهورا هنا أو الآن”.
*** المحاور: هل لديك اشياء طمحت لتحقيقها أو ندمت عليها خلال مسيرتك ككاتب؟
ماركيز: أظن أن إجابتي تشبه تلك السابقة التي تحدثت فيها عن الشهرة، سالوني قبل ايام عن مدي رغبتي في الحصول على جائزة نوبل، ولكني أظن أن هذا الشيء سيكون كارثيا بالنسبة لي، سأكون مهتما حتما في استحقاقها ولكن أن أنالها؟.. سيكون هذا سيئًا لأن مشكلة الشهرة ستصبح أكثر تعقيدا، إن أكثر ما أندم عليه في هذه الحياة هو عدم حصولي على ابنة.
*** المحاور: هل هناك أية مشاريع جديدة تقوم بإخفائها عنا؟
ماركيز: انا مقتنع تماما أنني ساقوم بكتابة أعظم كتاب في حياتي ولكني لا أعرف كيف ولا متي، عندما يمر بي شعور مماثل سأجلس بهدوء وأنتظره كي أقبض عليه حين يمر بي ثانية.
إعداد : أحمد صوان – نهى مذكور