نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

نفي إلى سيبيريا – ليو تولستوي

 

leo

نفي إلى سيبيريا 

ترجمة : يونس بن عمارة

 

عاش في مدينة فلاديمير
تاجر شاب يدعى إيفان دميتريتشأكسيونوف. كان لديه متجرين ومنزل من ملكه الخاص.

كان أكسيونوف وسيمًا
أشقر الشعر مجعّد الرأس، مفعما بالمرح، ومولعا جدًا بالغناء. وعندما كان شابا كان
ميّالا للشرب وكان يعربد عندما يفرط فيه لكنه بعدما تزوج تخلى عن الشرب، إلا بين
الحين والآخر.

وفي أحد فصول الصيف عزم
أكسيونوف على الذهاب إلى معرض نيجني وبينما هو يودع عائلته قالت له زوجته:
“إيفان دميتريتش، لا تذهب اليوم لقد رأيت حلما سيئا بشأنك”.

ضحك أكسيونوف وقال:
“أنت تخشين أنني عندما أذهب للمعرض سأنساق مع أحد نزواتي”.

ردت زوجته: “لا
أعرف مما أنا خائفة، كل ما أعرفه هو أنني رأيت حلما سيئًا، حلمت أنك عدت من
المدينة وعندما خلعت قبعتك رأيت أن شعرك قد أصبح أبيض تمامًا”

ضحك أكسيونوفوقال “هذا فأل حسن، سترين بنفسك أني سأبيع كل سلعتي
وأجلب لك بعض الهدايا من المعرض.”

وهكذا ودع عائلته وانطلق بعيدا.

وعندما بلغ منتصف الطريق في سفره التقى بتاجر يعرفه وحجزا في نفس
الفندق للمبيت تلك الليلة. تناولا بعض الشاي معا، من ثم ذهبا للنوم في غرفهما
المتجاورة.

ليس من عادة أكسيونوف النوم حتى وقت متأخر، وكان يحب السفر بينما لا
يزال الجو باردا لهذا أيقظ سائق عربته قبل الفجر وأخبره بأن يجهز الخيول.

ثم سار إلى حيث يقيم مالك النزل (الذي كان يعيش في بيت خلف النزل)
ودفع فاتورته وواصل رحلته.

وعندما سار حوالي خمسة وعشرين ميلا توقف ليطعم الخيول. استراح أكسيونوف
لبرهة في ممر النزل، ثم خرج إلى الرواق، وطلب أن يسّخن له سماور وأخرج قيثارته
وبدأ بالعزف.

فجأة ظهرتعربة يحفها رنين أجراسها ترجل منها ضابط رسمي يتبعه جنديان.
ثم قدم ناحية أكسيونوف وبدأ يستجوبه ويسأله عن هويته ومن أين أتى. أجابه أكسيونوف
عن كل ما سأله وقال له: “هلاّ تناولت الشاي معي؟” لكن الضابط تجاهله ومضى
أبعد في استجوابه وسأله “أين كنت في الليلة الماضية؟، هل كنت وحدك، أو برفقة
تاجر صديق؟ هل رأيت ذلك التاجر هذا الصباح؟ لماذا غادرت النزل قبل الفجر؟”

تسائل أكسيونوف عن سبب طرحه كل هذه الأسئلة، لكنه وصف كل ما حدث ثم
أضاف “لماذا تستجوبني كما لو أنني لص أو قاطع طريق؟ أنا مسافر من أجل تجارتي
الخاصة ولا ضرورة لاستجوابي”

هناك استدعى الضابط الجنديين وقال “أنا ضابط الشرطة لهذا الحيّ
وأنا أستجوبك لأن التاجر الذي قضيت معه الليلة الماضية وُجد مذبوحا، لا بد لنا أن
نفتش أغراضك”

ودخلوا المنزل.فك ضابط الشرطة والجنود أحزمة أمتعة أكسيونوف وفتشوها.
وفجأة سحب الضابط سكينا من أحد الحقائب وهتف”لمن هذا السكين؟”
.

نظر إليه أكسيونوف، ورأى سكينا ملطخا بالدم قد أُخذ من حقيبته وشعر
بالرعب.



 

 

 

2



 

“لماذا
هناك دم على هذا السكين؟”

حاول أكسيونوف أن يجيبه، لكنه بالكاد تمكن من أن ينبس بكلمة، وقال
متلعثما:”لا…أعرف…هو ليس لي.” هنا قال ضابط الشرطة: “هذا
الصباح عُثر على التاجر مذبوحا في سريره، أنت الشخص الوحيد الذي يمكن أن يفعل هذا.
كان البيت مقفلا من الداخل ولم يكن أحد آخر هناك. وهاهي السكين الملطخة بالدم في
حقيبتك، ووجهك وتصرفك يفضحان فعلتك! أخبرني إذًا كيف قتلته وكم سرقت من
المال؟”

أقسم أكسيونوف أنه لم يفعل ذلك؛ وأنه لم ير التاجر بعد أن تناولا
الشاي معا؛ وأنه لا يملك من المال إلا ثمانية آلاف روبل من ملكه الخاص وأن السكين
ليست له. لكن صوته كان متقطعا ووجهه شاحبا وكان يرتجف من الخوف كما لو كان
مُذنبًا.

 وهكذا أمر ضابط الشرطة
الجنديين بتقييد أكسيونوف ووضعه في العربة. وبينما كانوا يُحكِمون وثاق رجليه معًا
ويرمونه في العربة رسم أكسيونوف اشارة الصليب وبكى. أُخذت منه سلعته وأمواله وأرسل
إلى أقرب مدينة وحبس هناك. وأجريت التحقيقات عن هويته في فلاديمير. قال التجار
وسكان المدينة الآخرون أنه كان يشرب ويضيع وقته في ماضيه لكنه كان رجلا طيّبا. ثم
جاءت المحاكمة: واُتهم بقتل تاجر من ريازان وسرقة عشرين ألف روبل منه.

كانت زوجته في حالة يأس ولم تعد تعرف من تصدّق. وكان أولاده كلهم
صغارًا جدا وأحدهم كان لا يزال رضيعًا. أخذتهم جميعًا معها وذهبت إلى المدينة التي
حبس فيها زوجها. لم يسمح لها في بداية الأمر أن تراه لكن بعد الكثير من التوسل
حصلت على إذن من المسؤولين لرؤيته وأُخذت إليه. وعندما رأت زوجها مرتديا لباس
السجن ومكبّلاً، صامتا بين اللصوص والمجرمين، انهارت وأغمي عليها ولم تستعد وعيها
إلا بعد مدة طويلة. ثم جذبت أولادها إليها وجلست بالقرب منه. أخبرته عن بعض الأمور
في المنزل وسألته عما حدث له. أخبرها بكل القصة وسألته”ما الذي نستطيع فعله
الآن”

“يجب أن نقدم التماسا للقيصر كي لا يسمح بهلاك رجل بريء”.

أخبرته زوجته أنها أرسلت التماسا للقيصر لكنه لم يُقبل.

لم يرد أكسيونوف بشيء وبدا حزينا.

ثم قالت زوجته “أنا لم أحلم أن شعرك أصبح أبيضا دون سبب، أنت
تتذكر هذا؟ لم يكن ينبغي عليك أن تسافر ذلك اليوم” ثم مررت أصابعها على شعره
وقالت: “حبيبي فانيا، أخبر زوجتك الحقيقة،ألست من فعل هذا؟”

“إذًا أنت أيضا تشكيّن بي؟!” قال أكسيونوف هذا وأخفى وجهه
بين يديه وانخرط في البكاء. ثم جاء أحد الجنود وقال أنه حان الوقت لتغادر الزوجة
والأولاد وودّع أكسيونوف عائلته للمرة الأخيرة.

وعندما ذهبوا استعاد أكسيونوف ما جرى بينهما من حوار وعندما تذكر أن
زوجته أيضا تشتبه به قال لنفسه “يبدو أن الله وحده هو الذي يعرف الحقيقة، لذا
يجب علينا أن نتضرع له وحده وألا نتوقع الرحمة من أحد سواه”.

وهكذا لم يكتب أكسيونوف أي التماسات أخرى وتخلى عن كل أمل آخر واكتفى
بالصلاة لله.

حُكم على أكسيونوف بالجلد وأن يرسل إلى المناجم. هكذا جُلد بالسوط
وعندما شُفيت الجروح التي سببها السوط نُقل إلى سيبيريا مع محكومين آخرين.

 وطيلة ستة وعشرين سنة عاش
أكسيونوف كسجين مدانٍ في سيبيريا. أصبح شعره أبيض كالثلج ونمت لحيته الخفيفة
الشيباء طويلا. تلاشى مرحه كليا وانحنى ظهره وأصبح يمشي ببطء ويتكلم قليلا ولم يعد
يضحك أبدا لكنه كان يصلّي دائمًا.



 

 

 

3



 

 تعلم أكسيونوف في السجن صنع
الأحذية الطويلة وكسب بعض النقود التي اشترى بها كتاب “حياة القديسين”
وكان يقرأ هذا الكتاب عندما يكون هناك ما يكفي من الضوء في السجن وفي أيام الآحاد
في كنيسة السجن كان يقرأ العظات ويغني مع الجوقة لأن صوته كان لا يزال حسنا.

 أحبّ مسؤولو السجن أكسيونوف
لتواضعه ولطافته واحترمه زملائه المساجين وكانوا ينادونه “الجد”
و”القديس”. وعندما كانوا يودون تقديم طلب لسلطة السجن لأي شيء كان كانوا
يجعلون دائما أكسيونوف ممثلهم وعندما تقع النزاعات بين السجناء كانوا يأتون إليه
ليعيد الأمور إلى نصابها ويفصل في القضية.

لم يصل أكسيونوف أي أخبار عن عائلته ولم يكن يعرف حتى ما إذا كانت
زوجته وأطفاله لا يزالون أحياءً.

وفي أحد الأيام قَدِمت مجموعة جديدة من المحكومين إلى السجن. بحلول
المساء تجمع المساجين القدامى حول الجدد وسألوهم من أي مدينة أو قرية أتوا ولماذا
حُكم عليهم؟ كان أكسيونوف يجلس بين البقية بالقرب من الوافدين الجدد ويستمع بوجوم
إلى ما يقال.

أحد المحكومين وكان رجلا قويا وطويلا في سن الستين بلحية قصيرة شائبة
كان يحكي للآخرين عن السبب الذي من أجله قبض عليه.

“حسنا، أصدقائي” قال “كل ما فعلته هو أنني أخذت حصانا
كان مربوطا إلى زلّاجة وقبض عليّ واتهمت بالسرقة، لقد قلت لهم أنني أخذته فقط كي
أصل إلى المنزل سريعا من ثم كنت سأطلق سراحه إلى جانب أن سائق الزلاجة هو أحد
أصدقائي. وهكذا قلت “لا بأس بذلك”. لكنهم قالوا: “لا، أنت سرقت
الحصان”. لكنهم لم يستطيعوا أن يحددوا كيف أو أين سرقته. لقد اقترفت مرة شيئا
خاطئا فعلا واستوجبت بحق أن أتي هنا منذ فترة طويلة لكني في تلك المرة لم يُقبض
عليّ. والآن ها أنا قد أرسلت هنا من أجل لا شيء على الإطلاق. إيه، سأكذب عليكم لو
قلت لكم أنني كنت في سيبيريا من قبل لكنني لم أبق طويلا فيها.

“من أين أنت؟” سأله أحدهم.

“من فلاديمير. عائلتي من هذه المدينة. اسمي ماكار، ويدعونني
أيضًا سيميونيتش”

رفع أكسيونوف رأسه وقال:”قل لي، يا سيميونيتش، هل تعرف أي شيء
عن عائلة التاجر”أكسيونوف من مدينة فلاديمير”؟ هل هم على قيد الحياة؟

“هل تعرفهم؟ بالطبع أنا أعرفهم. عائلة أكسيونوف عائلة غنية، على
الرغم من أن والدهم في سيبيريا: مجرمٌ مثلنا، على ما يبدو!ماذا عنك، أيها الجد،
كيف أتيت إلى هنا؟

لم يكن أكسيونوف يحب التحدث عن محنته. وهكذا اكتفى بالتنهد، وقال
“من أجل ما اقترفته من الخطايا مكثت هنا في السجن طيلة هذه السنوات الست
والعشرين”

“ما الذي اقترفته؟” سأله ماكارسيميونيتش.

اكتفى أكسيونوف بأن يقول “حسنا، حسنا، لا بد أنني أستحق
ذلك!” ولم يقل شيئا أكثر من ذلك لكن زملائه أخبروا الوافدين الجديد كيف انتهى
الأمر بأكسيونوف إلى سيبيريا وكيف أن أحدا ما قتل تاجرا ووضع السكين بين أغراض
أكسيونوف وهكذا أدين أكسيونوف ظلمًا.

وعندما سمع ماكارسيميونيتش هذا نظر إلى أكسيونوف وصفق ركبته وهتف
متعجبا “حسنا، هذا عجيب! عجيب فعلاً! لقد كبرت فعلا أيها الجدّ!”

سأله الآخرون لماذا كان متعجبا جدا وأين رأى أكسيونوف من قبل لكن
ماكارسيميونيتش لم يجبهم بشيء. واكتفى بالقول: “إنه لأمر عجيب حقا أن نلتقي
هنا، يا رجال!”

جعلت هذه الكلمات أكسيونوفيتسائل عما إذا كان هذا الرجل يعرف من قتل
التاجر، لهذا قال “لربما يا سيميونيتش سمعت عن هذه القضية أو أنك قد رأيتني
من قبل؟”



 

 

 

4



 

“كيف
لا أسمع عنها؟ فالعالم مليء بالشائعات والأقاويل. لكن ذلك كان منذ وقت طويل مضى،
وقد نسيت ما سمعته عنها”.

“ربما سمعت شيئا عن قاتل التاجر؟ سأله أكسيونوف.

ضحك سيميونيتش ماكار وأجاب: “كان ينبغي أن يجدوا السكين في
حقيبته هو! لو أن أحدهم أخفى السكين هناك “فهو ليس لصًّا حتى يقبض عليه”
كما يقولون. كيف يمكن لأحدهم أن يضع سكينا في حقيبتك وهي تحت رأسك؟ من المؤكد أن
ذلك سيجعلك تستيقظ “

عندما استمع أكسيونوف إلى هذه الكلمات أحس بيقين أن هذا الرجل هو من
قتل التاجر. وهكذا قام وذهب بعيدا. وطيلة هذه الليلة ظل أكسيونوف مستيقظًا في
فراشه. كان يشعر بكآبة طاغية تخنقه وانبثقت في ذهنه مختلف الصور من جميع الأنواع.
كانت هناك صورة زوجته كما كانت عندما غادرها ليذهب إلى المعرض. ثم رآها كما لو
كانت معه الآن، برز محيّاها وعيناها أمام ناظريه وسمع صوتها وضحكها. ثم رأى
أولاده، صغارا جدا كما كانوا في ذلك الوقت كان أحدهم يرتدي معطفا صغيرا والآخر لا
يزال رضيعا بين ذراعي أمه. ثم تذكّر نفسه كيف كان وهو شاب مفعم بالسعادة. وتذكر
كيف كان جالسا وهو يعزف على قيثارته في مدخل النزل حيث ألقي عليه القبض وكم كان
خاليا من الهموم وقتها. ثم رأى في ذهنه المكان الذي جُلد فيه والجلاد الذي نفذ
الأمر والناس الذي كانوا حوله والأغلال والمحكومين الآخرين وكل الستة وعشرين سنة
من حياته في السجن وشيخوخته المبكّرة. تفكيره في كل هذا جعله بائسًا جدا لدرجة أنه
كان مستعدا لقتل نفسه.

“وكل هذا بسبب ذلك الوغد!” فكّر أكسيونوف. وهكذا تأجج غضبه
على ماكارسيميونيتش وتاقت نفسه للانتقام حتى لو لقي حتفه في سبيل ذلك. ظل يكرر
الصلوات طيلة الليل لكنه لم يحصل على أي راحة. وخلال النهار لم يقترب من
ماكارسيميونيتش ولم ينظر إليه حتى.

 ومرّ أسبوعان على هذه
الشاكلة. لم يستطع أكسيونوف أن ينام في الليل وكان يشعر بتعاسة بالغة لدرجة أنه لم
يعد يعرف ما الذي سيفعله.

 في أحد الليالي بينما كان
يتمشى حول السجن لاحظ أن جزءا من الأرضية محفور تحت أحد الرفوف التي كان المساجين
ينامون عليها. وتوقف ليرى ما هذا الشيء. فجأة تسلل ماكارسيميونيتش خارجا من تحت
الرف ونظر فوق إلى أكسيونوف بوجه مذعور. حاول أكسيونوف أن يتجاوزه دون أن ينظر
إليه لكن ماكار قبض على يديه وقال له أنه حفر حفرة تحت الجدار وكان يتخلص من
التراب بوضعه في حذائه الطويل وكان يفرغه خارجا كل يوم في الطريق عندما يقودون
المساجين إلى عملهم.

“ليس عليك إلا أن تلتزم الصمت، أيها العجوز وستخرج أنت أيضًا، إذا
تكلمت حول الموضوع سيجلدونني حتى الموت لكنني سأقتلك قبل ذلك”

اهتزّ أكسيونوف من الغضب وهو ينظر نحو عدوه. وسحب يديه بعيدا وهو
يقول له “ليس لدي أي رغبة بالهرب، ولا حاجة لك بقتلي فقد فعلتَ ذلك منذ زمن
طويل!، أما بشأن الوشاية بك فربما أفعل وربما لا حسب مشيئة الله.”

في اليوم التالي أثناء اخراج المحكومين إلى عملهم لاحظ الجنود الذين
يحرسونهم أن محكوما أو اثنين من المساجين يفرغون بعض التراب من أحذيتهم. وهكذا تم
تفتيش السجين وعثروا على النفق. أتى حاكم السجن واستجوب كل المساجين لمعرفة من حفر
الحفرة. جميعهم أنكر أنهم يعرفون الفاعل. بينما كان الذين يعرفون حقا من حفر
الحفرة لا يودون الوشاية بماكار سيميونيتش لأنهم يعرفون أنه سيجلد حتى يشارف على
الموت. وفي الأخير توجه الحاكم إلى أكسيونوف الذي يعرف أنه رجل عادل وقال:

“أنت رجل كبير وصادق أخبرني أمام الله من حفر الحفرة؟”

كان سيميونيتش يقف وكأنه غير معنيّ بالأمر ينظر إلى الحاكم ويختلس
النظر نحو أكسيونوف. ارتجفت شفتا أكسيونوف ويديه ولمدة طويلة من الزمن لم يستطع أن
ينبس بكلمة: كان يفكّر “لماذا ينبغي عليّ أن أتستر على من دمّر حياتي؟”،
دعه يسدد ثمن ما عانيته لكن إن قلت لهم عنه من المحتمل جدا أن يجلد حتى الموت وربما
قد أكون قد اشتبهت به خطأً، وفوق كل ذلك، بماذا سيفيدني هذا حقا؟”



 

 5

 

كرر الحاكم سؤاله
“حسنا، أيها العجوز، أخبرني الحقيقة، من الذي كان يحفر تحت الجدار؟”

ألقى أكسيونوف نظرة خاطفة على ماكارسيميونيتش وقال “لا أستطيع
أن أخبر سعادتك،ليس من مشيئة الله أن أخبرك! افعل بي ما تشاء؛ أنا تحت أمرك

ومهما حاول الحاكم معه كي يستنطقه فإن أكسيونوف لم يقل أي شيء آخر
وهكذا اضطر الحاكم في الأخير لترك الموضوع.

في تلك الليلة، عندما كان أكسيونوف مستلقيا على سريره وقد بدأ يغفو
للتو أتى أحدهم بهدوء وجلس على فراشه. أنعم النظر عبر الظلام وتعرف على ماكار.

“ماذا الذي تريده مني أيضًا؟” سأله أكسيونوف. “لماذا
أتيت إلى هنا؟”

كان ماكار سيميونيتش صامتا هكذا نهض أكسيونوف وقال “ماذا تريد؟
اذهب من هنا أو سأستدعي الحرس!”

انحنى ماكار سيميونيتش ليقترب أكثر من أكسيونوف وهمس قائلا
“ايفان دميتريتش، سامحني!”

“من أجل ماذا؟” سأله أكسيونوف.

“لقد كنتُ أنا من قتل التاجر وأخفى السكين بين أغراضك. لقد كنت
أنوي قتلك أنت أيضًا لكني سمعت ضجة في الخارج لذا أخفيت السكين في حقيبتك وتسللت
خارجا من النافذة”

 ظل أكسيونوف صامتًا ولا يعرف
ماذا يقول. انسحب ماكارسيميونيتش من على السرير-الرف وركع على الأرض. “إيفان
دميتريتش” قال له “سامحني! حبًّا لله، سامحني! سأعترف بأنني من قتل
التاجر وسيطلق سراحك وستتمكن من العودة إلى منزلك”

“من السهل عليك أن تتكلم هكذا” قال أكسيونوف “لكنني
عانيت بسببك طوال هذه الست وعشرين عامًا أين يمكن أن أذهب الآن؟… زوجتي ميتة
وأولادي نسوني ليس لدى مكان أذهب إليه…”

لم ينهض ماكار سيميونيتش لكنه ضرب رأسه على الأرض.”إيفان
دميتريتش،سامحني!” وبكى. “عندما جلدوني بالسوط لم يكن الأمر صعبا أن
أتحمله مثلما هي رؤيتك الآن… رغم ذلك أشفقتَ عليّ ولم تخبرهم عني. من أجل المسيح
سامحني، يا لي من بائس!” وأجهش بالبكاء.

وعندما سمعه أكسيونوف يبكي بدأ هو أيضا بالنحيب. “ليغفر الله لك!”
قال له “ربما أنا أسوأ منك بمئة ضعف” وبهذه الكلمات عم قلبه النور
وتلاشى حنينه لوطنه. ولم يعد لديه أي رغبة في مغادرة السجن وكان يأمل فقط أن يحلّ
أجله قريبًا.

وعلى الرغم مما قاله أكسيونوف اعترف ماكارسيميونيتش بجرمه. لكن عندما
أتى الأمر بإطلاق سراحه، كان أكسيونوف قد مات بالفعل.

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

الجزء الأول: المحامون الحاصلون على جائزة نوبل للسلام ترجمة : نواف آل معتق

الجزء الأول: المحامون الحاصلون على جائزة نوبل للسلام

img_8239

ترجمة : نواف آل معتق

عندما قالت إيلين بالأمس، أن جائزة نوبل للسلام ستمنح للفائزين بها هذا الخميس في عاصمة النرويج “أوسلو”. هممت بالبحث عن معلومات أكثر حول الحاصلين عليها لهذا العام (الرباعي التونسي للحوار الوطني)، وعند بحثي اكتشفت أن أحد أعضاء هذا الرباعي كانت (الهيئة الوطنية للمحامين بتونس). هذا الشيء أثار فضولي في معرفة عدد المحامين الحاصلين جائزة نوبل للسلام. خصوصاً بعد أن قالت إيلين إن السيد نوبل كان لا يحبذ مجالسة المحامين.

Nobel Peace Prize

استحقاق المحامون لجائزة نوبل للسلام أثبتت لي مدى صعوبة الإختيار أكثر مما كنتأظن. إذا أن مفهوم السلام في صورته الكاملة يرتبط جذرياً بحكومات جيدة وسياسيين وقوانين. وكما هو منحوت على رخام مكتبة الكونغرس، “القوانين الجيدة تعمل على حفظ السلام في حين أن القوانين السيئة هي لعنة على السلام” وبما أن القوانين مرتبطة بتحقيق السلام، كذلك القوانين مرتبطة بحياة وسير الكثير ممن حصل على جائزة نوبل للسلام.

بعض ممن حصل على جائزة نوبل للسلام كانوا محامين ممارسين للمهنة بعد أن تحصلوا على شهادات أكاديمية في تخصص القانون، في حين أن البعض الأخر لم يتخرجوا من كليات الحقوق لكن طبيعة أنشطتهم كانت متربطة بشكل أو أخر بالقوانين.

في هذا الجزء، سأذكر ١٤ شخصية ممن استحقت جائزة نوبل للسلام وممن كان لها خلفية حقوقية سواءً كانوا محامين ممارسين أو عملوا كمحامين وفي الآن نفسه كانوا رؤساء لبلدانهم إما قبل أو أثناء أو بعد تسلمهم للجائزة.

Woodrow Wilson

الشخصية الأولى شخصية حديثة وهي شخصية الرئيس باراك أوباما. فاز بالجائزة في عام ٢٠٠٩م أي في العام الأول من ترأسه للولايات المتحدة الأمريكية، تخرج من جامعة هارفرد وقام بتدريس القانون الدستوري في جامعة شيكاغو. الرئيس وودرو ويلسون الحاصل على الجائزة عام ١٩١٩م كان الوحيد من بين كل رؤساء أمريكا الذي جمع بين الخلفية القانونية وبين حصوله على نوبل للسلام. ويلسون تخرج من جامعة فريجينيا وقام بتدريس القانون الدستوري بكلية الحقوق في جامعة نيويورك.

بنفس الخلفية المهنية التي كانت لباراك أوباما ولنيلسون، ديفيد ترامبل و محمد البرادعي حصلا على جائزة نوبل للسلام وقد جاءا أيضاً من خلفية قانونية وكانا في ذات الوقت أستاذين جامعيين.

David Trimble.

فاز ديفيد ترامبل بالجائزة في عام ١٩٩٨م لإيجاده حل سلمي للصراع في شمال ايرلندا كزعيم للحزب الإيرلندي البروتستاني.

تخرج من جامعة الملكة في بلفاست عام ١٩٦٨م وكان الأول على مستوى الجامعة مع مرتبة الشرف الأولى. وبعد أن أصبح عضواً في النقابة الإيرلندية صار محاضراً في القانون ورئيساً لقسم القانون التجاري والملكية في ذات الجامعة.

Mohamed ElBaradei

أنهى محمد البرادعي دراسة البكالوريس في الحقوق بجامعة القاهرة. وفي عام ١٩٧٤م تحصل على درجة الدكتوراة في القانون الدولي من كلية الحقوق بجامعة نيويورك. استحق البرادعي جائزة نوبل للسلام مقابل عمله في الوكالة الذرية للطاقة النووية ولحده من انتشار الأسلحة النووية. انتقل للعمل في برنامج القانون الدولي في معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحوث في الوقت الذي كان فيه استاذاً بكلية الحقوق في جامعة نيويورك. بعد تسلمه للجائزة صار رئيساً لحزب الدستور المصري كحزب معارض لحكومة محمد مرسي. وبعد وقوع الإنقلاب عُين كنائب لرئيس الجمهورية.

José Ramos-Horta

العديد من الحاصلين على جائزة نوبل للسلام درسوا الحقوق لكن بدلاً من أن يمارسوا العمل في مهنة المحاماة انتقلوا للعمل في ممارسة العمل السياسي وأصبحوا بعد ذلك رؤساء لبلدانهم. خوسيه هورتا كان واحداً من هؤلاء. درس خوسيه القانون الدولي العام في أكاديمية لاهاي للقانون الدولي وتدرب حول قانون حقوق الإنسان في المعهد الدولي لحقوق الإنسان في ستراسبورغ.

عارض الإحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية، وفي نهاية المطاف فتح حوار مع اندونيسيا وقدم خطة سلام لإستقلال تيمور الشرقية.

Menachem Begin

حصل مناحيم بيغن على شهادة القانون عام ١٩٣٥م من جامعة وارسو وأصبح رئيساً لوزراء إسرائيل في عام ١٩٧٧م. ثم حصل على جائزة نوبل للسلام علم ١٩٧٨ لدوره في التفاوض حول معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر.

Mikhail Gorbachev

أيضاً من المحامين الحاصلين على جائزة نوبل للسلام، الرئيس الإتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف الذي درس القانون في جامعة موسكو ثم أصبح رئيساً للبلاد في عام ١٩٨٩م وتحصل على الجائزة في عام ١٩٩٠م نظير إسهامه السلمي في إنهاء فترة الحرب الباردة.

Oscar Arias Sánchez

أما بالنسبة لأوسكار شانشيز الذي درس القانون والاقتصاد في جامعة كوستاريكا ثم انتخب هو الأخر ليصبح رئيساً للبلاد في عام ١٩٨٥م. نال جائزة نوبل للسلام لجهوده في إنهاء الحروب الأهلية في أمريكا الوسطى وإحلال السلام في المنطقة.

Eisaku Sato

إيساكو ساتو درس القانون في جامعة الإمبراطورية اليابانية، وتخصص في التشريع القانوني الألماني. ثم ما لبث أن دخل مجال السياسة ليصبح لاحقاً رئيساً للوزراء عام ١٩٦٤م. فاز ساتو بجائزة نوبل للسلام لمساعيه في دفع اليابان للدخول في معاهدة حد انتشار الأسلحة النووية.

  1. Aristide Briand

على الرغم من أن أريستيد بريان درس القانون في جامعة باريس إلا أنه كان يفضل الصحافة والسياسة. شغل أريستيد منصب رئاسة وزراء فرنسا عدة مرات بين م١٩٠٩ حتى ١٩٢٩م. استحق أريستيد جائزة نوبل للسلام عام ١٩٢٦ مقابل مساعيه في إتمام معاهدة الصلح بين فرنسا وألمانيا ولمساعيه في توقيع ميثاق كلوج بريان.

Klerk & Nelson Mandela

مُنحا فريدريك كليرك ونيلسون مانديلا جائزة نوبل للسلام عام ١٩٩٣م لوضعهما حداً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.حيث في عام ١٩٩٠ قام كليرك بإطلاق سراح مانديلا من السجن. ثم أصبح مانديلا في عام ١٩٩٤م رئيساً لجنوب أفريقيا كأول رئيس منتخب ديموقراطياً. درس مانديلا القانون في جامعة ويتواترسراند واجتاز امتحان الحصول على رخصة المحاماة عام ١٩٥٢م فأصبح بذلك من أوائل المحامين السود في جنوب أفريقيا. في المقابل، تخرج كليرك من جامعة بوتش ستورم عام ١٩٥٨م ومارس مهنة المحاماة في منطقة الترانسفال بجنوب أفريقيا.

León Bourgeoi

في عام ١٩٢٠م، استحق ليون أوغست جائزة نوبل للسلام كونه “الأب الروحي” لعصبة الأمم (الأمم المتحدة لاحقاً) وإشرافه على إنشاء محكمة دولية في لاهاي. التحق ليون بكلية القانون في جامعة باريس، ومارس المحاماة لعدة سنوات قبل أن يتحول إلى السياسة. أصبح رئيساً للوزراء عام ١٨٩٥م وعلى مدار حياته السياسية شغل ليون تقريباً كل المناصب السياسية في الحكومة الفرنسية.

Auguste Beernaert(03).jpg

Auguste Beernaert

وأخر شخصية لدينا في الجزء الأول تعود لواحد من أمهر المحامين في بلجيكا “أوغست برناريت”. حصل برناريت على شهادة الدكتوراة في القانون مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة لوفان ثم قُيد اسمه في النقابة عام ١٨٥١م. عمل ككاتب عدل وقام بدراسة التعليم القانوني في فرنسا وألمانيا والكتابة عنهما فحصل بذلك على سمعة جيدة كباحث متمكن، ثم بعد ذلك مارس مهنة المحاماة. في عام ١٩٧٣م انتقل للعمل في الحقل السياسي حتى صار في نهاية المطاف رئيساً للوزراء في بلجيكا. وفي وقت لاحق عاد إلى ممارسة العمل القانوني كعضو في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي وترافع عن دولة المكسيك في أول قضية تنظرها المحكمة عام ١٩٠٢م. حصل على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٠٩م لجهوده في تعزيز السلمية والقانون الدولي.

الحاصلين على جائزة نوبل للسلام الــ١٤ الذين ذكرتهم أعلاه هم ممن كان لهم خلفية قانونية سواءً قبل أو أثناء أو بعد حصولهم على الجائزة. في الجزء الثاني، سوف نسلط الضوء على ١٩ شخصية قانونية أخرى ممن حصلوا على جائزة نوبل للسلام وكان لهم أثرهم على حقلي السياسة والدبلوماسية الدولية بشكلٍ دفع عجلة التقدم في تحقيق السلام.

The original article: Nobel Prize-Winning Lawyers: Part One, December 8, 2015 by Jennifer González

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

مدن كالفينو بين الواقع والخيال – مقال دلال نصرالله

مدن كالفينو بين الواقع والخيال – مقال دلال نصرالله

مدن كالفينو..  بين الواقع والخيال

كيف لطبقات مدينة، وشوارعها، وناطحات سحابها أن تأسر خيالنا وذكرياتنا وذواتنا؟ كيف للعمران أن يؤثر على السكان؟ سنجد الإجابة في “مدن لامرئية” التي يأخذنا فيها الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو في رحلة لاستكشافها عبر حوار متخيل بين الملك قبلخان والرحالة ماركو بولو .. وفيها يصف الأخير مدناً متخيلة، حالمة، بعضها مثالي، وبعضها الآخر غريب جداً.

يصعب علي تصنيف الكتاب، فهو ليس برواية بالمعنى المعروف للرواية، وهو ليس كتابا في أدب الرحلات بشكل بحت، وفيه شيء من علم النفس، والفلسفة، وعلم الاجتماع ! ولو كان الأمر بيدي لوضعت كتب كالفينو كلها على رف خاص به في كل المكتبات، ولألزمت طلبة علم الاجتماع بدراسته بغية إيجاد قاسم مشترك بين علم الاجتماع والأدب. يسلط هذا الكتاب الضوء على مدن يتواصل أفرادها مع بعضهم البعض، ويؤثر أحدهم على الآخر في تفاعل يستخدم الرموز: كالكلمات، والإيماءات، وبعض الجمادات. كما يسلط الضوء على جماعات من سماتها عدم الاستقرار في الحال أو المكان، وعلى جماعات يتكرر فيها الزمان وتتكرر فيها السعادة، ويسلط الضوء كذلك على جماعات أفرادها متعارضو الآراء والتوجهات، وعلى مجتمعات ذات توجهات يوتوبية آلت بهم إلى الجحيم.

تطبيق عملي:-

مدن وعيون: لن ترى المدينة كما هي إن صعدت ناطحة سحاب قيد الإنشاء، وكلما بُني طابق وصعدته، ستلاحظ علوا في خيالك العمودي وهذا أمر جيد يُشعرك بالسيطرة على المكان. وعلى هذا الشعور تعتمد خرائط غوغل.

مدن وذكريات: مخطئ من ظن أنه سيفهم مدينة ويتملكها عبر صورة التقطها من خلال هاتفه النقال، فالمدينة – كما يقول كالفينو – “لا تحكي عن ماضيها بل تحتويه كخطوط اليد” ،، وسيفوز حتما من يقرأ هذه الخطوط.

مدن لا مرئية: وهي مدن تشبه جسم الإنسان، فأنت إن شَرّحت شخصا ورأيت أوردته وشرايينه وأعضاءه الداخلية وهي متصلة ببعضها، يجب أن تتخيل بعدها رحلة قطرة الدم بينها. وهذا ما يحدث في تلك المدن اللامرئية. يجب أن تتدفق أيها الإنسان فيها كلها.

مدن تجارية: رغم أن في لعبة الشطرنج خطط/ استيراتيجيات وكر وفر ومكر، إلا أن هناك نهاية دائما. وهكذا تصعد المدن وتتهاوى ، لكنها ما تلبث أن تستعيد عافيتها .. وتعيد نفسها. في هذه المدن التجارية لا يعرف الناس إلا الاسم الأول لبعضهم البعض ولا يتكلمون إلا عن المال، تماما كما يحدث عند لعب الشطرنج فاللاعبون لا يتحدثون إلا عن اللعبة .. إنها مدن تتمدد كالإسفنج.

مدن ورغبة: وهي مدن نشأتها تشبه الحكاية التالية: “يحكى أن رجالا من دول مختلفة كان كل منهم يرى ذات الحلم في نومه. كانوا يرون أنفسهم في مدينة مجهولة، ويلحق كل منهم ذات المرأة العارية، لكنهم لم يروا منها إلا ظهرها وشعرها الطويل. استيقظوا من نومهم وبحث كل منهم عن هذه المدينة فلم يجدها. لكن وجد أحدهم الآخر . فقرروا بناء مدينة تشبه تلك التي في حلمهم، لكنهم خططوا شوارعها ،تفاصيلها بما يختلف عن الحلم أملا في القبض على هذه المرأة.”

إذن، هي مدن كالأحلام أصلها رغبات  .. هي كهذه المدن التي يمنع فيها التدخين ،يحرم فيها الفرح والموسيقى والتعبير عن الرأى .. إنها مدن كالجحيم.

فهل نصنع نحن المدينة، أم أن المدينة تصنعنا؟ من الواضح أنه تفاعل متبادل، ولن تستطيع البيئة فعل ذلك دون وجود مؤثرات لا يمكن أن نهرب منها: كالأصوات والروائح وغيرها الكثير من المؤثرات التي تشكل المدن التي تحيط بنا. فإما أن نتأقلم معها وننام نوما هانئا، أو أن نفشل في التأقلم وننتحر. لذا علينا أن ننتبه لهذا العالم الذي نصنعه ولا نلقي له بالا.

*دلال نصرالله 2016

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

بين الطب والأدب.. (أدباء أطباء)

حسن عادل

 

 

لبعض يفسر الأمر بكون «الأطباء» من أكثر البشر تحملًا للضغط بشكل عام، وبذلك فأيًا كان الضغط الذي ستضع طبيبًا فيه فإنه سوف يعمل ويبدع، آخرون يفسروه بطريقة “الهروب من الضغط”، حيث الكثير من الأطباء بالفعل يُلاحظ امتلاكهم لمواهب مختلفة ومتنوعة، وهو ما قد يكون كمحاولة للهروب من ضغط العمل والدراسة، وأيًا كان التفسير فإن الأمر والظاهرة موجودة، وهو أن كثيرًا من الأطباء لديهم مواهب متنوعة، ومنها الأدب.

1- أنطون تشيخوف

«الطب زوجتي والأدب عشيقتي» هكذا  يصف الطبيب والأديب الروسي تشيخوف علاقته بالطب والأدب، ورغم عشق تشيخوف للمسرح منذ سن الـ 13 إلا أنه لم يبدأ في الكتابة والتأليف إلا أثناء دراسته في كلية الطب بموسكو، وقد كان يفعل ذلك في البداية بحثًا عن المال، حتى فازت مجموعته القصصية القصيرة “في الشفق”
عام 1887 بجائزة بوشكين، ومنذ ذلك الحين لفت تشيخوف أنظار كبار الأدباء والنقاد وقتها.

استطاع تشيخوف إثراء المسرح الروسي والأوروبي بمجموعة كبيرة من المسرحيات أهمها “العم فانيا” و”الأخوات الثلاث” و”بستان الكرز والنورس”، كما ألف مجموعات هائلة من القصص القصيرة، حتى اعتبر البعض تشيخوف أفضل كاتب للقصة القصيرة في زمنه. لم يتوقف تشيخوف عن مزاولة مهنة الطب حتى بعد أن أصبح من أشهر الأدباء، فقد كان يعالج الفقراء بدون مقابل حتى توفي عام 1904 بمرض السل وهو في عمر الـ44 فقط.

2- آرثر كونان دويل

على غرار تشيخوف فإن دويل بدأ كتابة القصص الخيالية والبوليسية منذ التحق بكلية الطب في جامعة أدنبرة الاسكتلندية، لكن لم تنجح قصته الأولى الخيالية في الانتشار والتي كانت بعنوان “مزرعة جورسثورب”، بعد ذلك بثلاث سنوات نشر قصته الخيالية الثانية “لغز وادي ساساسا”، والتي تزامن نشرها مع نشر دويل لأول مقال أكاديمي طبي له في المجلة البريطانية الطبية.

حصل دويل على الدكتوراه وعمل كطبيب في بورتسموث ولكنه وبحسب ما أورده في مذكراته فإنه لم يكن يأتيه مريض واحد، لذلك كان يتفرغ لكتابة القصص البوليسية القصيرة حتى أصبح واحدًا من أهم كتابها ومؤلفيها.

كتب كونان دويل لأول مرة عن شخصيتا شيرلوك هولمز والدكتور واطسون عام 1886 في رواية “دراسة بالقرمزي”، إلى أن وصلت عدد القصص التي كان شيرلوك هولمز بطلا لها 56 قصة قصيرة و4 روايات آخرها نشر عام 1927. الأمر الذي أثر على كتابة مؤلفين آخرين وتبنوا شخصية شيرلوك في كتاباتهم.

ولم تتوقف مسيرة دويل الطبية حتى أنه تطوع عام 1900 كطبيب أثناء حرب البوير في جنوب أفريقيا، ولدويل مؤلف سياسي واحد بعنوان «الحرب في جنوب أفريقيا: أسبابها ومسارها» وقد برر فيه لسلوك بريطانيا خلال حرب البوير رغم إدانة العالم لسلوكها آنذاك.

3- وليام سومرست موم

س2

بدأ الكاتب الفرنسي المولد إنجليزي الجنسية وليام موم كتاباته الأدبية حينما كان طبيبًا متدربًا في إحدى مستشفيات لندن، وكان يستمد شخصيات قصصه ورواياته من المجتمع المحيط به، فتميزت أعماله بالواقعية، اشتهر موم بعد أول رواية يؤلفها والتي كانت بعنوان “ليزا أوف لامبث” وقد لاقت نجاحًا مبهرًا.

ولم يجد موم في الطب ما يجذبه لذلك لم يبرع فيه وفضل الأدب والكتابة، خاصة عندما زاره أحد المرضى وكان أستاذًا جامعيًا، وتلعثم موم في شرح المرض – كانت عقدة موم منذ الصغر – فكتب للمريض صفحة طويلة يصف له فيها مرضه وتاريخه وعلاجه، فنصحه الأستاذ الجامعي المريض بالكتابة لأنه خلق ليكون أديبًا – مثلما ذكر موم في روايته الأولى – أخذ موم يؤلف المسرحيات الهزلية والتي لم تجد لها مكانًا على مسارح إنجلترا وفرنسا، حتى قبل أحد المسارح عرض مسرحيته “اللادي فريدريك” ولاقت نجاحًا منقطع النظير مما فتح له أبواب المسارح الأخرى.

عاد موم للطب عام 1914 أثناء الحرب العالمية الأولى، حينما التحق بالخدمة الطبية العسكرية في فرنسا، وفي تلك الأثناء تعاون مع المخابرات البريطانية وكتب تفاصيل ذلك التعاون في رواية سماها “عندما كنت جاسوسًا” والتي حققت أرباحًا هائلة.

أكثر ما ساعد موم في كتابة رواياته الواقعية هو سفره الدائم وتنقله بين فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا والصين وروسيا، وأكثر ما أخذ على موم أنه اتجه في أواخر أعماله إلى الكتابات الإباحية والمبتذلة، ويعتبر موم من أغزر الأدباء إنتاجًا بين عامي -1902-1927 فقد كتب حتى وفاته عن عمر الـ 90 عام 1965، 27 مسرحية، واشتهرت رواياته ومنها “القمر وستة بنسات” و”حد الموس” التي أعلن فيها أنه ملحد فاقد الإيمان بوجود إله، و”القناع الملون” و”الريالة” و”الساحر” والتي تدور بعض أحداثها في مصر و”شجرة الجازورينا”.

أدباء عرب

1ـ رجاء الصانع

س10
نشرت الطبيبة السعودية رجاء الصانع أول رواية لها بعنوان “بنات الرياض” عام 2005 لتحدث بها جدلًا مجتمعيًا كبيرًا بعرضها لتفاصيل الحياة اليومية لفتيات المجتمع السعودي المحافظ، وكانت الصانع قد تخرجت من جامعة الملك سعود كطبيبة أسنان، وبعد تخرجها اختيرت للسفر إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراستها ضمن برنامج الملك عبدالله للابتعاث، ولكن بسبب روايتها المثيرة للجدل كادت تفقد تلك الفرصة، لولا تدخلات وزير التعليم خالد العنقري، حصلت الصانع على درجة الدكتوراه من جامعة إلينوي بولاية شيكاغو الأمريكية، كما حصلت على جائزة جامعة إلينوي السنوية للإنجازات العظيمة، وذلك عن أبحاثها في علم الخلايا الجذعية السنية.

وصرحت الصانع في أحد البرامج الإخبارية أنها متوقفة عن الكتابة لإعطاء الفرصة لأبحاثها ونجاحها في مجال الطب، ولكنها عادت لتكتب روايتها الثانية التي لم تخرج للنور بعد، ويذكر أن روايتها الأولى باعت 3 ملايين نسخة حول العالم وترجمت لأكثر من 40 لغة، وأدرجت ضمن القائمة الطويلة لجائزة دوبلين للأدب في عام 2009.

2ـ هيفاء بيطار

س4

عملت طبيبة العيون السورية هيفاء بيطار بالكتابة الأدبية منذ عام 1992، بعد تخرجها من كلية الطب بجامعة تشرين السورية بعشر سنوات تقريبًا، لتصدر أولى مجموعاتها القصصية بعنوان “ورود لن تموت”، ولتحصل بتلك المجموعة القصصية على عضوية اتحاد الكتاب العرب عام 1994، ولتحصل عام 2002 على جائزة أبي القاسم الشابي الأدبية عن مجموعتها القصصية “الساقطة”.

لا تزال بيطار تعمل كطبيبة عيون في إحدى مستشفيات دمشق بجانب عيادتها الخاصة، كما أنها لم تتوقف عن إنتاجها الأدبي الذي تميز بالغزارة، فمنذ عام 1992 أصدرت أكثر من 25 عملًا أدبيًا بين رواية ومجموعة قصصية.

تعتبر بيطار من المؤيدين للثورة السورية وقد ألفت مجموعة قصصية نشرت عام 2014 عن دار الساقي تسرد فيها المعاناة السورية تحت عنوان «وجوه من سوريا».

تتميز أعمال الكاتبة والطبيبة السورية بالاهتمام بقضايا المرأة وخروجها على ظلم المجتمعات الذكورية، حتى أنها صرحت في إحدى الحوارات الصحفية معها في مطلع العام الجاري وبمناسبة صدور روايتها “امرأة في الخمسين” أنها لا تنزعج من مصطلح «الأدب النسوي» بل تحاول من خلال شخصية المرأة في كتاباتها الانتصار للمرأة المظلومة وكسر صمت النساء.

3ـ عبدالسلام العجيلي

س5

“هو خير بدوي عرفته المدينة وخير مدني عرفته الصحراء” هكذا كتب نزار قباني عن الطبيب والأديب والوزير السوري عبد السلام العجيلي، بدأ العجيلي كتابة الشعر ثم القصة والرواية، وذلك منذ تخرجه من كلية الطب في جامعة دمشق السورية عام 1945، ودخل البرلمان السوري ممثلًا عن مدينته “الرقة” عام 1947، وبعد ذلك بعام التحق بجيش الإنقاذ في فلسطين وكتب في ذلك الحين قصيدة حماسية بعنوان “مجاهدون”، وقد أصدر في نفس العام أول مجموعة قصصية له بعنوان “بنت الساحرة”.

تولى الطبيب والأديب السوري عدة مناصب سياسية منها وزير الثقافة ووزير الخارجية ووزير الإعلام وذلك في ستينيات القرن الماضي، وبجانب عمله كطبيب بشري ظل الإنتاج الأدبي للعجيلي يتدفق حتى أثرى المكتبة العربية بأكثر من 33 كتابًاحتى عام 1995 فقط، وكانت روايته “باسمة بين الدموع” هي أول عمل روائي له (عام 1959) بالإضافة إلى عشرات الأعمال الروائية الهامة منها “قلوب على الأسلاك”، و”ألوان الحب الثلاثة”، و”المغمورون”، وعشرات المجموعات القصصية منها “الحب والنفس” و”فارس مدينة القنطرة” وغيرها، بالإضافة إلى تجربة شعرية وحيدة ناضجة هي ديوان “الليالي والنجوم” الصادر عام 1951، كما كتب العجيلي مئات المقالات التي أفردها في عدة كتب منها “حفنة من الذكريات” و”جيل الدربكة” و”محطات من الحياة” و”أحاديث الطبيب” و”خواطر مسافر” و”فلسطينيات عبد السلام العجيلي”.

توفي العجيلي عام 2006 عن عمر 88 عامًا بعد أن حظي بالعديد من الجوائز العربية والعالمية، حيث أن أعماله الأدبية تدرس في الجامعات والمدارس العربية، وقد ترجمت الكثير من أعماله إلى اللغات الأجنبية.

4ـ يوسف إدريس

 

أحد رواد فن القصة القصيرة بالعالم العربي، تخصص الطبيب المصري يوسف إدريس في الطب النفسي عام 1951 وبالفعل فقد حاول ممارسته لكن انتهى به الأمر موظفًا ومفتشًا بوزارة الصحة. لينتج عن ذلك أولى محاولاته الأدبية عام 1951 عندما كتب أولى قصصه القصيرة والتي نشرها في مجلته الثورية التي كان يصدرها كمعارضة لنظام الملك فاروق وكسيكرتيرًا تنفيذيًا للجنة الدفاع عن الطلبة، وهو ما أبعده عن الدراسة لعدة أشهر.

لقب إدريس بأمير وملك القصة القصيرة، وبعد انسحابه من مهنة الطب بشكل كامل عمل محررًا صحفيًا بالجمهورية وكاتبًا بجريدة الأهرام، الأمر الذي أتاح له – كأديب – السفر إلى الكثير من بلدان العالم كفرنسا وأمريكا وإنجلترا واليابان وتايلند وسنغافورة وبلاد جنوب شرق آسيا.

ليوسف إدريس عشرات المؤلفات القصصية والروائية والمسرحية، من القصة مجموعته القصصية “أرخص ليالي” التي نشرت لأول مرة في روز اليوسف، و”جمهورية فرحات” و”البطل” و”حادثة شرف” و”النداهة” و”بيت من لحم”، ومن الرواية أعمال هامة ومشهورة منها “الحرام” و”رجال وثيران” و”العيب” و”البيضاء” و”السيدة فيينا” و”نيوورك 80″، أما أعماله المسرحية فتميزت بإظهار الفارق بين المدينة والقرية ومنها “ملك القطن” و”اللحظة الحرجة” و”الفرافير” و”المخططين” والتي انتقد فيها نظام الرئيس جمال عبد الناصر حتى أنها منعت من العرض عام 1969.

حصل إدريس على عدة جوائز وأوسمة مصرية وعربية منها وسام الجمهورية في عامي 1963 و1967 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ووسام الجزائر، وقد توفي عام 1991 عن عمر 64 عامًا.

5ـ محمد المخزنجي

بدأ المخزنجي حياته كطبيب متخصص في الأمراض النفسية والعصبية بعد أن نال درجة البكالريوس من جامعة المنصورة وحصل على دبلومة في الطب البديل من أوكرانيا، ولكنه اتجه للعمل الأدبي وهجر الطب وعمل محررًا علميًا لمجلة العربي الكويتية ثم مستشارًا لتحريرها في القاهرة.

يعتبر كتابه “لحظات غرق جزيرة الحوت” 1998 أحد أهم أعمال المخزنجي الأدبية لأنه يحمل تفاصيل شهادة المخزنجي على كارثة حريق المفاعل النووي تشيرنوبيل بأوكرانيا، وبعدها أصبح المخزنجي من أقوى الناشطين ضد استخدام الطاقة النووية بكل أشكالها.

يكتب المخزنجي مقالات ثابتة في العديد من الصحف المصرية منها المصري اليوم والدستور والشروق، كما أن له العديد من المؤلفات القصصية بجانب كتابه عن الطب التكميلي بعنوان “مداواة بلا أدوية”، ومنها “الموت يضحك”، و”سفر”، و”رشق السكين”، و”حيوانات أيامنا”، و”فندق الثعالب”، و”أوتار الماء” وهي المجموعة التي حصل عنها على جائزة مؤسسة ساويرس لأفضل مجموعة قصصية نشرت بين عامي 2002 و2004، بالإضافة إلى “البستان” وهي المجموعة القصصية التي حصل عنها على جائزة أفضل مجموعة قصصية صادرة في مصر عام 1992، كما حصل على جائزة الأدب المصري لكبار كتاب القصة القصيرة عام 200.

6ـ أحمد خالد توفيق

لم يفصل الطبيب والأديب المصري أحمد خالد توفيق بين مهنتيه، ولكنه قد يكون استعمل الأولى ليصل إلى الثانية، فالكثير من أعمال الطبيب المصري المتخصص في طب المناطق الحارة لها علاقة بالطب، حتى أن أشهر أبطال قصصه هو الدكتور العجوز رفعت إسماعيل بطل سلسلة ما وراء الطبيعة والتي دخل بها توفيق عالم الكتابة الأدبية.

اشتهر خالد توفيق بكتاباته في أدب الفانتازيا والرعب حتى اعتبر أفضل من كتب في هذا اللون الأدبي عربيًا، وبدأ بسلسلة ما وراء الطبيعة عام 1993 واستمرت حتى عام 2014، وسلسلة فانتازيا التي بدأت عام 1995، ثم سلسلة سفاري التي بدأت عام 1996، ترجم توفيق العديد من الروايات البوليسية الأجنبية ونشرت في سلسلة روايات مصرية للجيب، وسلسلة رجفة الرعب المترجمة.

ولتوفيق العديد من الكتب والروايات منها يوتوبيا وE.S.P وروايته الأخيرة إيكاروس، بالإضافة إلى العديد من المجموعات القصصية منها قوس قزح، ولست وحدك، والهول، وأكواريل.

بالإضافة إلى ترجمته لروايات “نادي القتال” و “ديرمافوريا” و”كتاب المقابر” و”عداء الطائرة الورقية”. يكتب توفيق أيضًا المقالات للعديد من الصحف المصرية منها الشروق والدستور والتحرير، ومقال أسبوعي في جريدة الاتحاد الإماراتية بعنوان “هلاوس”.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

سوق أرابي – جيمس جويس

ترجمة : إقبال التميمي

1405_books_dubliners-hero-jpg

 

 

لأنّ شارع ريتشموند الشمالي مغلقاً في نهايته ، كان هادئاً باستثناء ساعة خروج طلبة مدرسة الأخوة المسيحيّين. يقع هناك بيت مهجور من طابقين في نهاية الشارع المغلق أرضيته المربعة منفصلة عن بقيّة جيرانه ، أما البيوت الاخرى في الشارع كانت تعج بالحياة وتحدّق في وجوه بعضها الثابتة البنيّة اللون.
عمل المستأجر القديم لبيتنا قسّيساً ، ومات في قاعة الاستقبال الخلفيّة ، حيث الهواء هناك نتن وفي كل الغرف بسبب إغلاق المكان لمدّة طويلة . تناثرت في غرفة النفايات الواقعة خلف المطبخ الأوراق القديمة التي لم يعد لها فائدة ، وجدت بينها بعض الكتب ذات الأغلفة الورقيّة ، صفحاتها كانت مجعّدة ورطبة: منها كتاب رئيس الدير بقلم والتر سكوت ، والمصلّي الورع ، ومذكّرات فيدوك. أكثر كتاب أحببته كان الأخير، لأنّ أوراقه كانت صفراء. توسّطت الحديقة البريّة خلف المنزل شجرة تفّاح وبضع شجيرات تحت إحداها وجدت منفاخ الدراجة الصدئة للمستأجر الأخير. كان قسّيساً طيّباً ، ترك في وصيّته كل أمواله للمؤسّسات ، بينما ترك أثاث منزله لأخته.
في أيّام الشتاء القصيرة ، حلّ الغروب قبل أن نكون قد تناولنا العشاء ، وعندما تقابلنا في الشوارع بدت البيوت كئيبة ، و مساحة السماء فوقنا تتغيّر ألوانها بدرجات بنفسجيّة ، رفعت المصابيح الباهتة نحوها أضواءها الضعيفة. لسعنا الهواء البارد ، ولعبنا إلى أن توهّجت أجسامنا. تردّدت صيحاتنا في الشارع الهادئ. أنقذتنا مهمّة اللعب من الحارات الموحلة المظلمة خلف البيوت ، عند الأبواب الخلفيّة للبيوت الداكنة التي تقطر حدائقها بروائح حفر الرماد ، و روائح الإسطبلات المظلمة حيث كانسائس الخيل يمشّط الحصان ويمسح عليه، أو حيث تهزّنا الموسيقى الصادرة من مرابط لجام الحصان. عندما عدنا إلى الشوارع ، غمرت ألأضواء الساقطة من نوافذ المطبخ المكان. كنا نرى عمي يلف حول الزاوية ، فنختبيء في الظل حتى يمر ونصبح بأمان ، أو إذا ظهرت أخت مانجان على العتبة لتنادي أخيها ليتناول الشاي. راقبناها من خلال زاويتنا من الظلال عبر الشارع ، كنّا ننتظر لنرى إن كانت تبقى أو ترحل ، وإذا بقيت تركنا مكاننا في الظل وتقدّمنا مانجان بخضوات خاضعة. كانت تنتظرنا ، شكلها كنّا نعرفه من خلال ضوء الباب المفتوح جزئياّ ، و كان أخوها يداعبها قبل أن يطيعها ، اعتدت أن أقف بجانب الأسوار أنظر إليها. ثوبها يتأرجح كلّما حرّكت جسمها ، وحبل شعرها الناعم كان يُقذَف من جانب لآخر. كنت كل صباح أستلقي الأرض أراقب بابها ، أسدل الستارة حتى يبقى منها حوالي إنش بحيث لا يستطيعون معها رؤيتي ، وعندما كانت تخرج إلى باب البيت كان قلبي يقفز فأركض إلى الصالة أحمل كتبي وألحق بها. احتفظت بشكل جسدها البني في عيني دائماً وعندما كان يقترب المكان الذي نفترق منه في طريقينا كنت أستعجل الخطى وأسبقها. كان هذا يحصل يومياً صباحاً تلو صباح ، لم أحدّثها قط عدا كلمات عارضة قليلة ‘ ومع هذا كان اسمها مثل استدعاء لكل دمي الأحمق.
رافقتني صورتها حتى في أكثر الأماكن عدائيّة للشاعريّة ، في أمسيات السبت عندما كانت عمّتي تذهب للتسوّق ، كان علي أن أحمل بعض الرزم ، وكان علينا أن نسير في بعض الشوارع المتوهجة التي تعج بالبشر ، يقوم بمدافعتنا الرجال السكارى ، والنساء اللواتي يعرضن أنفسهن ، وسط شتائم العمّال ، ومجموعة الأولاد الصاخبون في المحل الذين وقفوا متحفّزين لحراسة براميل خدود الخنازير، و وسط ترديد أنوف مطربي الشارع الذين غنّوا أغنية ” تعال كلك” عن آدونوفان روسا ، أو تغنوا عن المشاكل في وطننا الأم ، هذه الضوضاء تلاقت لإثارة الحياة الوحيدة التي أعيشها ، تخيّلت أنني أمر بأمان خلال حشد من الأعداء. قفزَ اسمها إلى شفاهي في لحظات الصلوات والشكر، بطريقة لم أفهمها أنا نفسي. غالباً ما ذرَفَت عيناي الدمع ولم أدري السبب ، وفي بعض الأحيان شعرت بطوفان من قلبي ينسكب في صدري. فكّرت قليلاً في المستقبل ، لم أعلم إن كنت سأتحدّث إليها يوماً ما أم لا ، وإذا حدّثتها كيف سأخبرها عن مشاعر عشقي المختلطة ، لكن جسمي كان كالقيثارة ، وكلماتها وحركاتها كانوا مثل الأصابع تجري على الأوتار.
في أحدى الأمسيات دخلت إلى غرفة الاستقبال الخلفيّة التي مات فيها القسيس. كانت أمسية ماطرة ومظلمة ، ولم يكن هناك أي صوت في المنزل ، سمعت من خلال أحد ألواح الزجاج المكسورة صوت المطر يطرق الأرض. ومصباح بعيد أضاء النافذة تحتي ، كنتُ ممتنّاً أنّني استطعت رؤية القليل ، كل حواسي بدت وكأنّها ترغب في حجب نفسها ، وأنني كنت على وشك التسلّل منها ، ضممت كفّتي يدي معاً بشدة إلى أن ارتعشتا ، وأنا أتمتم ” أيّها الحب… أيّها الحب ” مرّات عدّة.
أخيراً تكلّمت معي ، عندما تفوّهت بأوّل الكلمات موجهة حديثها لي اضطربت إلى درجة أنّني لم أعرف ماذا أجيب ، سألتني إن كنت ذاهباً إلى سوق أرابي الخيري . نسيت إن كنتُ قد أجبتها بنعم أو لا ، قالت لي أنّه سيكون سوق رائع وأنّها تحب أن تذهب.
سألتها: ” لماذا لا تستطعين؟ ”
وأثناء حديثها كانت تدوّر إسوارة فضيّة حول معصمها. قالت إنّها لا تستطيع لأنّه سيكون هناك مسابقة في ديرها ذلك الأسبوع. أخيها وصبيين آخرين كانا يتنافسان عليها. حنَت رأسها نحوي ، الضوء من المصباح المجاور لبابنا كَشَفَ لي انحناء رقبتها البيضاء ، أضاء شعرها واستقرّ هناك. سقطَ منيراً على اليد القابضة على سياج السور، وتعثّرَ على جانب واحد من ثوبها وأمسك بالحافّة البيضاء لثوبها الداخلي الذي كان بالكاد مرئيّاً عندما وقفت بهدوء.
قالت: اذهب أنت.
قلت: إذا ذهبت سأحضر لك معي شيئاً.
لا يُمكن تصوّر ما أهلكته الحماقات غير المحدودة في أفكار يقظتي ونومي بعد ذلك المساء! تمنّيت أن أفني الأيام المملّة حتى ذلك الحين ، تضايقت من واجبات المدرسة. في المساء في غرفتي وفي الصباح في صفّي المدرسي كانت صورتها تقف بيني وبين الصفحة التي كنت أناضل لقراءتها. مقاطع كلمة ” أرابي ” كانت تلاحقني أثناء الصمت الذي كانت تعربد فيه روحي تسمرني تسحرني بتعويذة شرقيّة. طلبت إذن للمغادرة إلى السوق ليلة السبت ، دُهِشَت عمّتي ، وقالت أنّها تأمل أنّني لم أكن ذاهباً إلى اجتماع له شأن بالماسونيّة. أجبتُ عن بعض الأسئلة في الفصل ، وراقبتُ وجه مدير مدرستي وهو يتغيّر من اللطف إلى الصرامة متسائلاً إن كنت قد بدأت بالتلكؤ. لم أستطع أن أجمع أفكاري المتجوّلة معاً. بالكاد كنت أمتلك الصبر للأعمال الجادة في الحياة ، والتي وجدتها في تلك اللحظة تقف بيني وبين رغبتي ، بدا لي الأمر وكأنّه عبث أطفال من النوع القبيح المُمِل.
في صباح السبت ذكّرت عمّّي أنّني كنت أنوي زيارة السوق في المساء. كان يعبث بالشمّاعة باحثاً عن فرشاة القبّعات ، وأجابني باقتضاب:
” نعم يا ولد ، أعلم “.
وبما أنّه كان في القاعة لم أستطع أن أذهب إلى المساحة الأماميّة وأستلقي بجانب النافذة. شعرتُ البيت متلبّداً بمزحة ثقيلة ، وسرت بطيئاً باتجاه المدرسة. كان الهواء نيّئاً بشكل قاسي وبالفصل قلبي يشكّكني.
عندما عدتُ للمنزل من أجل العشاء لم يكن قد عاد عمّي بعد، ومع هذا كان الوقت مبكّراً ، جلست أحدّق بالساعة لمدّة من الزمن ، وعندما بدأت دقّاتها تزعجني تركت الغرفة. صعدت السلالم وجلست في الجزء العلوي من المنزل. الغرف العالية ، الباردة ، الفارغة ، الكئيبة حرّرتني ، وعدت انتقل من غرفة لأخرى. من النافذة الأماميّة رأيت رفاقي يلعبون في الشارع ، أصواتهم وصلتني ضعيفة وغير مميّزة ، أسندت جبيني على الزجاج البارد ، ونظرت إلى البيت القاتم الذي عاشت فيه. ربّما وقفت هناك لمدّة ساعة ، لا أرى شيئاً سوى الشكل الذي يلبس اللون البني المرسوم في مخيّلتي ، الملموس بشكل مخفي بواسطة ضوء المصباح على انحناء رقبتها ، وعلى اليد الممسكة بحافة السور وعلى الحدود أسفل ثوبها.
عندما نزلت إلى الطابق السفلي مرّة أخرى وجدت السيدة ميرسر جالسة بجانب المدفأة ، امرأة مسنّة ثرثارة ، أرملة المرتهن ، التي جمعت الطوابع المستعملة من أجل عمل خيري. كان عليّ أن أحتمل النميمة على مائدة الطعام. تأخرت الوجبة لأكثر من ساعة ولم يحضر عمّي ، نهضت السيّدة ميرسر لتغادر، اعتذرت لأنّها لم تستطع الانتظار أكثر، لأنّها لم تكن تحب أن تتاخّر بعد الثامنة خارج المنزل ، لأنّ هواء الليل يؤذيها. عندما غادرت بدأت أسير جيئة وذهاباً في الحجرة ، أشدّ بقبضتي على معصمي.
قالت عمّتي: ” أخشى أنّك ستتخلّى عن الذهاب إلى السوق هذه الليلة لمشيئة من الله “.
في التاسعة سمعت صوت مفتاح عمّي في باب القاعة ، سمعته يحدّث نفسه ، وسمعت اهتزاز الشمّاعة عندما استقبلتْ وزن معطفه. أستطيع أن أترجم هذه الإشارات ، عندما كان في منتصف طريقه للعشاء طلبت منه بعض المال لأذهب إلى السوق ، كان قد نسي.
قال: ” أصبح الناس في فراشهم وفي فترة ما بعد قذاهم الأول الآن “.
لم أبتسم. أجابته عمّتي بكل نشاط:
” ألا تستطيع أن تعطيه النقود وتدعه يذهب؟ لقد أخّرته بما فيه الكفاية “.
اعتذر عمّي لأنّه نسي ، وقال إنّه يؤمن بالحكمة التي تقول ” العمل المستمر دون لعب تحوّل المرء إلى شخص غبي “. وسألني إن كنت لا أزال أريد الذهاب ، عندها أخبرته للمرّة الثانية و سألني إن كنت أعرف الطريق جيّداً . عندما غادرت المطبخ كان على وشك أن يقرأ على عمّتي بداية القصيدة.
هرولت في شارع باكنجهام باتجاه المحطّة. احتشد منظر الشوارع بالمشترين وتوهّج الضوء بالمصابيح الغازيّة ذكّرني بالهدف من هذه الرحلة. أخذت مقعدي في مقطورة من الدرجة الثالثة لقطار فارغ ، وبعد تأخر لا يُحتمل تحرّك القطار خارج المحطّة ببطء ، زحف خلال البيوت المتهالكة وفوق النهر المتلألئ. وفي محطّة وستدلاند راو ضغط جمهور من الناس على أبواب
العربة ، لكن الشيّالين دفعوهم إلى الخلف قائلين أنّ القطار خاص من أجل السوق الخيري ، بقيت وحيداً في العربة الخالية ، وخلال دقائق قليلة توقّف القطار بجانب منصّة خشبيّة مؤقّتة. شقّيت طريقي إلى الشارع ، ورأيت من خلال القرص المضيء للساعة أنّ الوقت كان العاشرة إلا عشر دقائق ، أمامي انتصب مبنى كبير يحمل الإسم السحري.
لم أستطع أن أجد أي مدخل بستّة بنسات ، وخشية أن يغلق السوق مررت بسرعة خلال باب دوّار مناولاً شلن لرجل شكله مُتعَب. وجدت نفسي في صالة كبيرة مطوقة إلى نصف ارتفاعها بمعرض. معظم الأكشاك كانت مغلقة ومعظم القاعة كانت غارقة بالظلام ، لاحظت سكوناً يشبه الصمت في الكنيسة بعد أن تنتهي الصلاة. سرت باتجاه وسط السوق الخيري بتردّد. تجمّع بعض الناس حول الأكشاك التي لا زالت مفتوحة قبل ستارة مكتوب عليها بالمصابيح الملوّنة ” مقهى تشانتات ” حيث كان رجلان يعدان المال على صينيّة ، استمعت إلى صوت سقوط القطع النقديّة.
متذكّراً بصعوبة سبب حضوري ، اقتربت من أحد الأكشاك وتفحّصت الزهريّات البورسلين وأطقم الشاي المزركشة ، وعلى باب الكشك كانت صبيّة صغيرة تتحدّث وتضحك مع شابين ، ميّزت لكنتهم الإنجليزيّة واستمعت بسريّة لمحادثتهم.
” لم أقل مثل هذا الحديث أبداً”.
” لكنّك فعلت “.
” لم أفعل “.
” ألم تقل هذا؟ “.
” نعم ، لقد سمعتها “.
” هذه كذبة “.
لاحظتني الشابة ، تقدّمت وسألتني إن كنت أنوي شراء أي شيء ، نبرة صوتها لم تكن مشجّعة ، بدت وكأنّها تسألني من باب الواجب. نظرتُ بتواضع إلى البرطمانات الكبيرة التي وقفت مثل حرّاس على جانبي المدخل المظلم للكشك ، وتمتمت: ” لا ، شكراً ”
غيّرت الشابة مكان إحدى الزهريّات ، وعادت إلى الشابين. بدأوا الحديث حول نفس الموضوع ، نظرتُ الشابة اليّ مرّةً أو مرّتين من فوق كتفها.
تجوّلت في دكّانها ، وعرفت أنّ يقائي في دكّانها غير مجدي ، وأبديت اهتماماً حقيقيّاً في سلعها ، وانصرفت ببطئ. مشيت وسط السوق ، سمحت للفلسين بالسقوط باتجاه نصف الشلن الموجود في جيبي. سمعت صوت مناداة من أحد أطراف المعرض بأنّهم سيطفئون الأضواء. أصبح الجزء العلوي من القاعة مظلماً ، ورأيت نفسي كمخلوق مُنقاد ، احترقت عيناي بالعذاب والغضب.

تعريف بالكاتب:
جيمس جويس كاتب ايرلندي يتمتع بشهرة واسعه ، ولد في دبلن في الثاني من فبراير عام 1882 وتوفي في الثالث عشر من يناير عام 1941 في زيوريخ في سويسرا ، إضافة الى مآسي الحرب العالمية الثانية كانت سنواته الأخيرة تعج بالمشاكل والصعوبات ، من خلال معاناة ابنته من فصام الشخصية ، وفشل ابنه في عمله وزواجه ، وتردّي صحته ، وصراعاته حول كتابه يوليوس ، و قلقه حول كتابه نهضة فينيغان .

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

” بوب ديلان ” قصيدة للشاعر بوكوفسكي

img_1272
“بوب ديلان”.. قصيدة للشاعر بوكوفسكي هذان الشابان
ترجمة : كريمة نادر

في الزقاق المقابل لمنزلي

يُضعان أغاني بوب ديلان

نهارا وليلا

في الستيريو

يرفعان صوت الستيريو

إلى أقصاه

وهو ستيريو

من النوع الممتاز.

كل الجيران

يسمعون بوب ديلان

مجانا.

وأنا أسمعه مجانا

أكثر من الكل

لأني أسكن في الزقاق

المقابل لمنزلهما

أسمع ديلان حين أتبرز

أسمع ديلان حين أمارس الحب

وحتى حين أحاول أن أغفو.

أراهما أحيانا

في الخارج على الرصيف

يشِعّان شبابا

مرتبينِ

حين يخرجان ليشتريا

أكلا

وورقا للمرحاض

هما أحد الأزواج

الأكثر سحرا

بالجوار.

هذه القصيدة من ديوان “الحب كلب ملعون من الجحيم”

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

من تشيزاري بافيزي إلى كارلو بينيلي.

 

cesare-pavese-1024x768
5/8/1928 من تشيزاري بافيزي إلى كارلو بينيلي.
ينصح تشيزاري بافيزي صديقه وتلميذه كارلو بينيلي، الكاتب الطموح القادم من عائلة ارستوقراطية، حول مزايا العامية، اندثار القافية، وأهمية الفردانية.
تورين 4-5/ آب من عام 1928.
إذن فالسيد الشاب الوقور شعر بالإهانة عندما وجد نفسه وقد وصف بواحد من تلك التعابير المبتذلة المستقاة من لهجة شعبية! مثل هذه اللغة تنعش، وترفع الروح المعنوية. حتى الأطفال يسرعون في تعلم العامية حالما يمكنهم قول “بابا”، ” ماما” و “لا”. وفيما يتعلق بهذا سأذكرك بقليل من المرح الذي عشناه مونفيرني وأنا الشتاء الماضي.
يحز في أنفسنا أن العديد من الكلمات الشائعة محظورة في مجتمع مهذب، وأنه من السهولة القاتلة بالنسبة لأي كان أن يقع في الفخ بين الحين والآخر. ولهذا لدينا فكرة تجميع قائمة من مثل هذه المصطلحات غير اللائقة وإلصاقها في أي مكان ممكن على الجدران حيث يمكن للناس رؤيتها، ومن الأفضل جدران الشوارع، لكن أيضا في الصفوف المدرسية، المقاهي، قاعات الاجتماعات والمراحيض العامة حيث يتمكن الجميع من رؤية ما هو مسموح وما هو غير مسموح في لمحة. ( ألا تتفق معي بأن دراسة المصطلحات الشائعة يجب أن يتم تضمينها في أي منهج مدرسي؟)
اللغة المتكلفة في رسالتك(basso profundo ، مع دواسة) تجعل من الواضح للعين المجردة أنه ليس لديك نية في الأخذ بنصيحتي. تماماً كما قد تقول لكاهن اعترافك
” لن أفعل ذلك ثانية”، ولذا فإن هذا الغفران سيمنحك تفويضاً لفعل ما هو أسوأ في المرة القادمة.
علي السعي في كل ما أقول لك كي أكون ” ناقداً أدبياً” في أضيق الحدود الممكنة، بالرغم من أني أظن بأن ذلك هو مجالي الحقيقي.
لتبدأ بها، ومن ثم، أنت تملك “شخصية” مميزة. جو عائلتك برمته متسلط كثيراً ( ليس بأي شكل عدائي)، ذلك أني بنفسي، مع أني دخيل و ابن ريف، استسلمت له تقريباً. منزلك منزل ساحر، وكل شيء فيه منظم بشكل جيد: ترتيب المطبخ ومسائل التعليم، الاحتفالات الدينية و خدمات البريد، المتع الفنية و الوسائل الكهربائية. الفردانية تختفي في عائلتك. سأراهن حتى أن ذنوبهم تقليدية.
لطالما فكرت بأن عائلتك يمكنها إنتاج أفراداً أذكياء، وحتى فنانين إذا ما شئت، لكن أولاً وأخيراً هم من عائلة بينيلي. أخيك توليو مثال واضح على هذا، وأنت نفسك أظهرت لي بأن عائلتك ربما تتضمن حمقى، بلهاء، مغفلين و محتالين، كلهم أحرار
( كما يمكن أن يكون حراً أي شخص هذه الأيام) ليتبعوا طريقهم الخاص في الحياة. باختصار، لتفعل أي شيء مفيد عليك أن تظهر ككارلو، وليس كعضو في عائلة بينيلي فحسب.
عضو نموذجي في مثل هكذا عائلة يستمد منها فقط الأخلاق الأرستوقراطية، هواء متكبر وتحفظ جليل. بالنسبة للبقية هو مستغرق في نفسه بالكامل، يرعى ” مزاجاً فنياً” ليس له أي علاقة بالثقافة. هذه ” الانطباعات” التي أرسلتها لي لديها قيمة حقيقة ضئيلة أو معدومة. إنها مفككة، غير مدروسة و مهملة، غير آخذة بالاعتبار القارئ أو أي شيء آخر. ومع ذلك، من ناحية لهذا السبب ومن ناحية أخرى لأنها حميمة جداً و كاشفة، فقد قالت لي الكثير.
لقد أظهرت لي دون قصد منك حقيقة أبهجتني إلى حد كبير. كنت ضد الشعر الحر برمته عندما تناقشنا فيه، الشتاء الماضي، بينما أخبرتك بأن الحياة تجري كما هي الآن، لا يمكن للمرء أن يكتب على القافية كما أنه لا يستطيع ارتداء شعر مستعار أو يحمل سيفاً أو حتى خنجر.
الآن أنت نفسك، تكتب بدون أي ادعاء لأسلوب أدبي لكن ببساطة لإرضاء هوى في نفسك( وهذا هو الطريق الوحيد لتكون صادقاً وتعكس روح عصرنا الحالي)، أنت لم تفكر أبداً حتى بأن تصب الفكرة في قالب موزون . بدلاً من ذلك، سمحت لكلماتك بأن تخلق إيقاعها الخاص. تذكر، كان للوزن كامل الحق بالوجود عندما كان الشعر يتلى بمرافقة الموسيقى، لكن القافية لم تكن أبداً أي شيء سوى أداة نمطية خادعة للانحطاط.
لا أنصحك بكتابة الشعر في الوقت الحاضر، لأن بعض الناس يعتبرونه تحريضاً على الفساد. لكن، من وجهة نظري، أقول لك فقط أن تفكر بنفسك و تبدأ بالعمل، افعل شيئاً، أي شيء في المطلق، أي عمل لديك القدرة والجرأة على الإقدام عليه. اكتب لي ما يحلو لك، لكن تذكر أن عليك القراءة كثيراً وابقني على اطلاع بالكتب التي تختارها.

basso profundo: فرع من فروع الصوت الـ bass في أدنى درجات الصوت.
مع دواسة، (with pedal ) مصطلح موسيقي.
من تشيزاري بافيزي: رسائل مختارة 1924-1950.
النص الأصلي بالانجليزية هنا:
http://theamericanreader.com/5-august-1928-cesare-pavese-to-carlo-pinelli/

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

البرتو مانغويل يبحث في الاسباب التي تدفع الى حب الكتاب

alberto-manguel-2-3-4-5-6-7-8-9-10
احترف الكاتب الارجنتيني البرتو مانغويل الكتابة عن القراءة. فبعد ثلاثيته (تاريخ القراءة) و(المكتبة في الليل) و(يوميات القراءة)، أصدر اخيرا كتابا من القطع الصغير عنوانه (مع بورخيس)، وفيه يروي سيرة امتهانه القراءة للكاتب والشاعر الكبير الكفيف. تُرجمت كتب مانغويل الى أكثر من 24 لغة، وصدرت بالعرببة عن (دار الساقي) و(دار المدى) بطبعات متعددة. ومؤخرا صدرت الطبعة الاولى من (مع بورخيس) بالعربية عن دار الساقي بترجمة أحمد م. الأحمد.
في كتابه (تاريخ القراءة) يبحث مانغويل في الاسباب التي تدفع الى حب الكتاب على مدى العصور، مستلهماً تجربة كبار الكتاب والمفكرين اضافة الى تجربته الشخصية. اعتبر النقاد هذا الكتاب رسالة في حب القراءة. وبعضهم اوجزه بكلمتين: شغف القراءة ومتعتها. فهو يعرض رواية مذهلة للسفر عبر العصور والأمكنة. كل مرحلة شكلت لمانغويل فرصة للانعطاف، للزيارات، للتأمل العميق وللنكات الممتعة. يتساءل مانغويل: مَن السيد؟ الكاتب أم القارئ؟ ويخلص الى أن تاريخ القراءة هو تاريخ فردي لكل قارئ مع الكتب. اما تاريخ الكاتب فيبدأ من قرائه وان أتوا متأخرين وليس بالضروة من الكتاب الأول. ترجم الكتاب لأكثر من 35 لغة ونال في فرنسا جائزة مديسيس للكتاب عام 1988.
أما (المكتبة في الليل) فهو كتاب معرفي حول المكتبة، لا يخلو من ومضات كوميدية. يوصي مانغويل بضرورة الاهتمام بالمكتبة سواء كانت مؤلفة من بضعة كتب ام من آلاف الكتب، سواء كانت عقلية (كما لدى بورخيس) ام مؤسساتية (بدوام ونظام عمل).
يتناول الكتاب شكل المكتبة وترتيبها وهويتها بحيث تشجّع على القراءة وتسهّل الوصول الى الكتب، كاشفاً عن شغف مزمن بالمكتبة، حيث كان يحلم ان يصبح أمين مكتبة. حلم تأخر تحقيقه حتى بلغ السادسة والخمسين. بالنسبة لمانغويل تذهب المكتبة مذهب الوطن، هي دواء للروح وطريقة للخلود. بل ان فعل القراءة هو أحد أشكال المقاومة للزمن.
كتاب (يوميات القراءة) اقرب الى دفتر مذكرات حميمي يدوّن فيه الكاتب الارجنتيني انطباعاته عن الحياة اليومية وقراءاته لاثني عشر مؤلفاً من الأدب الكلاسيكي. في ما يشبه التحدي أعاد مانغويل قراءة كتاب مميز كل شهر على مدى سنة اثناء زيارته لمدينته بوينس ايرس: كاساريس، ويلز، كبلنغ، شاتوبريان، دويل، غوته، كينيث غراهام، سرفانتس الخ. وهي مؤلفات ظلّ صداها يتردد مع حوادث معاصرة وتضيء على علاقته الشخصية بالعالم الراهن. يقول مانغويل (القراءة هي حالة تواطؤ بين الكاتب والقارئ. بل اكثر من ذلك: تدعونا القراءة الى نقاش مظلل بالمتعة، قبل أن تحولنا جذريا، دافعة بنا الى تجاوز انفسنا).
الكتاب الصادر مؤخراً بالعربية عن دار الساقي بعنوان (مع بورخيس) يروي فيه مانغويل ظروف لقائه في عام 1964 باحد أعظم كتاب عصره: خورخي لويس بورخيس. كان في السادسة عشرة، شابا يافعاً، طالبا في الثانوية، وموظفا في مكتبة بغماليون (الأدبية) في بوينس آيرس. كل مساء اخذ يقصد بورخيس الذي كان حينها مديراً للمكتبة الوطنية القريبة، ويختار الكتب والقراء الذين يتلونها له. كان نظره قد شح فاعتاد الاستعانة بأشخاص يقرأون له المؤلفات بالرغم من انه يحفظ بعضها عن ظهر قلب. ألبرتو مانغويل كان أحد هؤلاء القارئين قبل أن يصبح بدوره أحد الوجوه البارزة في الأدب العالمي.
في كتابه (مع بورخيس) يعود مانغويل بضع خطوات الى الوراء مستعيداً صورة (معلمه) وذكرياته معه اثناء القراءة له. (لم أكن مدركاً بأنني كنت أقرأ لأحد العباقرة لأربع مرات في الأسبوع.. حتى ذلك الحين، كان الجميع يحثني لأصبح مهندساً أو محامياً، قبل أن يأتي أحدهم ليعلمني اللغة التي أحتاجها).
لقّن بورخيس قارئه الوثوق بالحدس، بالمصادفات، وبالمتعة. والأهم من ذلك، علمه بأن جوهر الحقيقة يكمن في الأدب، وليس في مظاهر العالم الزائفة. (أهّلني لأن أدرك بأنه ليس ثمة رؤية أحادية للأشياء: الجيد في جانب والسيئ في آخر، كما يحاولون ان يفهمونا اليوم، وانما تأمل وحيرة. وأنه ليس الزاماً على الكاتب ان يختار معسكره.
 بخلاف ذلك عليه ان يثبت أن الكثير من الحقائق يمكن أن تتعايش معا. نحن مدينون له باكتشاف هذا، وبهذا المعنى، بورخيس هو بداية ونهاية كل شيء، مفتاح أساسي لفك تشفير العالم اليوم).عن نقاشاته مع بورخيس يقول مانغويل انها اقتصرت تقريباً على الادب (كانت أقرب الى مونولج.. كنتُ الجدار الذي يرمي عليه كرة أفكاره. يغوص في أعماق النصوص، يقابلها، يختلق مراجع وهمية، يستكشف المعاني الخفية أو المتناقضة فيها.
أثبت لي ان الكتاب لا وجود له إلا من خلال قرائه.. بالنسبة له، كانت السياسة أكثر الأشياء رثاثة في العالم فيما الأدب هو العلاج الامضى للدكتاتوريات.. لم يكن ليبوح بشيء الا مواربة ومن خلال النقاشات الأدبية، لأن حياته، بل روحه نفسها كانت في مكتبته).
مناقشات تتناول الكتب، اكتشاف الكتّاب الذين لم يكن مانغويل قد قرأ لهم. والافكار التي لم تكن في باله ابدا، او أنه كان يقاربها بطريقة متذبذبة، نصف بدهية، اخذت تلمع وتشع بروعتها في صوت بورخيس. لم يدون مانغويل ملاحظات في تلك الأمسيات (كنت أشعر بالامتلاء فحسب).
يتناوب في كتاب (مع بورخيس) صوتان: جزء روائي يكتنز ذكريات عامة وتأملات حول القراءة. وجزء (موارب) يترك للذاكرة التقاط تفاصيل المشهد: كيف كان يدخل على بورخيس، كيف يجلس ليقرأ، كيف يرتدي بورخيس عباءة عوليس العصرية متجاوزاً عماه.. (أعماله، تأسيس أسطورته، صداقاته الأدبية). لا تفوت مانغويل الاشارة الى عبقرية لغة بورخيس الادبية، بما تمثله من مرحلة رئيسية في تطور الكتابة. عبقرية ولدت من عمله مترجما وقارئا، ومن ادخاله أساليب نحوية خارجية أغنت لغته الأم.
مانغويل يرد مجد الأدب العالمي الى بورخيس لاسيما في بوينس آيرس، (مركز العالم الميتافيزيقي)، سواء في الأعمال التي تبرر الكتابة نفسها أم في الحياة الحقيقية في حي عائلته. بالرغم من ان شعوراً لازم مانغويل بكونه الأداة التي استخدمها بورخيس للتعويض عن عماه وبأنه كان (أحدا) في متناول يد بورخيس، الا ان المتعة اللامتناهية في المشاركة بتطوير شيء على قدر من السمو أنساه هذا الدور.
 (رغما عنه، غيّر بورخيس إلى الأبد مفهوم الأدب، وبالتالي، مفهوم تاريخ الأدب. قضيته الوحيدة كانت الأدب. ما من كاتب في هذا القرن اسهم بهذا القدر في تغيير علاقتنا بالأدب) يقول مانغويل.
المصدر : جريدة الفجر
نشرت تحت تصنيف غير مصنف

غادر العالم تاركاً صورة طفل يسقي شجرة ميتة

tumblr_m94fxfk2ed1rug28ko1_1280

ترجمة: أمين صالح

(في هذه المقالة، تسرد ليلا ألكسندر جاريت، مترجمة ورفيقة السينمائي الروسي العظيم أندريه تاركوفسكي، انطباعاتها عنه، وعن اللحظات الحميمة التي اختبرتها في حضوره المشع قبل أن يغادر عالمنا).

13 ديسمبر

عدنا لتونا من المستشفى حيث خضع تاركوفسكي لفحوصات عديدة من دون أن يقرّر الأطباء شيئاً، أو يصدروا الحكم النهائي، لكن تاركوفسكي كان يهجس بخطورة الأمر، وأن المسألة تتجاوز في الخطورة الالتهاب الرئوي أو مرض السل. «اعتدت أن أتفاءل بالرقم 13»، غمغم تاركوفسكي مبتسماً في كآبة وقنوط».

لكن يبدو أن الحظ قد خذله هذه المرّة.

منفى الروح

كتب مؤلف الدراما الأغريقية يوريبيدس:»ليس هناك على الأرض محنة أشدّ من فقدان المرء لموطنه».

تلك المحنة أصبحت جزءاً من منفى تاركوفسكي. لقد صرّح مراراً بأن الأجانب عاجزون عن فهمه. لكنه اعترف بتواضع أنه بدوره كان عاجزاً عن فهم القيم الأوروبية الغربية.

«أحياناً أنسى بأنني الغريب الأجنبي وليسوا هم».. يقول هذا وهو يطلق ضحكة خافتة لا تخلو من حزن وانقباض، فيما يشدّ شاربه الكث.

كان يحب أن يستشهد بكلام نيتشه: «ليتني أستبدل كل سعادة الغرب بسر الحزن الروسي». المفارقة أنه خلال أربع سنوات فقط في الغرب (من 1982 إلى 1986) نجح تاركوفسكي، على نحو خلاق، في إبداع فيلمين (نوستالجيا والقربان)، وفيلم وثائقي (وقت للسفر)، بالإضافة إلى مسرحية «بوريس جودونوف»، كما نشر كتابه في السينما «النحت في الزمن». بينما في روسيا، وخلال عشرين سنة، لم يستطع أن يحقق غير خمسة أفلام، وأخرج مسرحية واحدة هي «هاملت».

المثقل بالندم

اليوم، من الصعب تخيّل أن فناناً روسياً أراد أن يعمل في الخارج، فاضطر منذ عشر سنوات إلى ترك فرد عزيز من أسرته (ابنه أندريوشا) كرهينة، لضمان عودته إلى السلطة المركزية.

كل تلك السنوات في إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا، السويد.. عاشها تاركوفسكي في خوف: أن لا يرى ابنه أندريوشا مرة أخرى. كان ذلك يشكّل رعباً يومياً. كم كان محزناً، بشكل مدمّر، النظر إلى وجهه الشاحب بعد مكالماته الهاتفية، اليومية تقريباً، مع ابنه في موسكو، وحتى مع كلبه.

كم شعرت بالعجز والاحباط حين جعلني تاركوفسكي أستمع إلى أنين كلبه، في الطرف الآخر من الخط، فيما كان يصيح بمزيج من البهجة واليأس: «كلبي لا يزال يتذكرني. لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا لا أستطيع أن أعيش مع ابني؟ لم أر أندريوشا منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأنا أحبه أكثر من أي مخلوق في العالم».

وراء كل الألقاب الفخرية والشهرة، يعيش رجل معقّد جداً، مثقل بالشكوك والندم. باستمرار كانت تزعجه فكرة أنه سبّب التعاسة للعديد من الأفراد الذين تركهم في روسيا.

«الكثير من الديون غير المدفوعة».. وغالباً ما كان يقول: «لو أستطيع فقط أن أمحو من ذاكرتي الألم الذي سبّبته للأشخاص الذين أحبهم».

كان مثقلاً بالإحساس بالذنب لأنه ترك ابنه الأكبر أرسيني وأهمله، معيداً بذلك تاريخ طفولته الخاصة المحرومة من الأب.

عندما شبّ تاركوفسكي أقسم بأنه لن يدع ابناً له يكبر بعيداً عن أبيه. ابنه الأصغر (والذي سماه ألكساندر تيّمناً بجده) لم يره على الإطلاق.

الإغواء الخلاق

في أكتوبر 1984 كنت أعمل كمترجمة لفيلم «القربان». ذهبنا – أنا وتاركوفسكي ومدير الانتاج السويدي – إلى لندن، حيث تم الاتفاق مع القناة الرابعة (التلفزيون البريطاني) على الدخول كطرف مموّل بعد انسحاب المنتجين اليابانيين. والقناة الرابعة اشترطت مشاركة ممثل أو ممثلة من بريطانيا.

الممثل الذي كان من المفترض أن يؤدي دور الطبيب كان غير مناسب بسبب صغر سنه، فكان علينا أن نختار ممثلاً آخر. (في الواقع، أخضع تاركوفسكي نفسه لتجربة الأداء لهذا الدور، ولا بد أن معهد الفيلم السويدي يحتفظ بنسخة من هذا الشريط).

أما بخصوص دور أديليد، الزوجة الهستيرية، فقد يأسنا من العثور على ممثلة تصلح للدور، إلى أن تعرّفنا على الممثلة البريطانية سوزان فليتوود. لقد دخلت سوزان وكانت تبدو مشعّة ورشيقة ومتحمسة.. امرأة واثقة من نفسها ومتحكمة.

كان أمراً مثيراً مراقبة فعل الإغواء المتبادل.. والخلاّق. كان واضحاً أن تاركوفسكي فخور بهذا الاكتشاف وهو يقدّمها إلى السويديين، فخور بموهبة سوزان وتفانيها وطبيعتها الاحترافية، وحتى بظرفها وسخريتها اللاذعة.

سوزان لم تتذمر أبداً من الطقس، أو من إهدار تاركوفسكي للوقت وهو يختبر برك المياه الناشئة عن تجمع الأمطار، أو يعيد ترتيب الأحجار ناسياً تماماً ممثليه المتجمدين.

دور أديليد كان يشكّل تحدياً بالغاً للممثلة سوزان فليتوود. كان عليها أن تؤدي دور الزوجة المسكونة بالهواجس، التي لا تراعي مشاعر الآخرين أو ظروفهم، مع ذلك لا يمكن لأحد أن يقاومها.

ذات مرّة، وكنا نشاهد المشهد المروّع للزوجة وقد انتابتها نوبة هستيرية، صاح تاركوفسكي: «هذا شيء خارق! كيف عرفت؟! كيف عرفت سوزان ذلك؟»

من الواضح أن هذا المشهد كان يذكّره بشيء شخصي وموجع بعمق.

في 29 سبتمبر 1995، توفت سوزان فليتوود. لقد علمت بمرضها بعد عرض فيلم «القربان» بفترة قصيرة. ولا أحد، غير عائلتها، كان يعلم بأنها مريضة.

النعمة الإلهية

غالباً ما أعود بذاكرتي إلى ساحل جوتلاند، إلى رحلاتنا المنتظمة بالدراجات الهوائية مع تاركوفسكي، إلى أحاديثنا، مناقشاتنا، السباحة، قطف التوت وجمع الحصى. كانت طاقة تاركوفسكي المتشعبة تستدعي محاورين يثيرونه ويحفزونه ويلهمونه. وكان يتعيّن عليّ أن أكون يقظة باستمرار في حضوره.

ذات مرّة قال لي بأنه سيقتل نفسه إذا تثاءبت امرأة في حضوره. حتى لو قال ذلك كمزحة، فإنه يكشف عن حالات التطرف في شخصيته. لقد قال بأنه نادراً ما يشعر بالاطمئنان والراحة والابتهاج كما حدث في ذلك الصيف السويدي أثناء تحقيق فيلمه «القربان».

كان يومياً يجعل الفريق الفني بأكمله يستغرقون في الضحك بدعاباته ونكاته.. ربما كان ذلك تخفيفاً لحدّة المرض، أو ربما عطيّة إلهية قبل الخاتمة المأساوية.

نشوة الحب

النسخة الأولى لفيلم «القربان» كان بعنوان «الساحرة»، حيث الساحرة تشفي البطل من مرض السرطان. لفترة طويلة كان تاركوفسكي يتساءل كيف بإمكانه أن يصور مشهد الحب بين الكسندر والساحرة..

«أعرف مخرجاً واحداً فقط نجح تقريباً في التعبير عن نشوة الحب. هل تعرفين من أعني؟».. سألني على نحو غامض، ثم أجاب نفسه: «لقد فعلت ذلك في فيلم المرآة. الحب معجزة، إنه يتجاوز جاذبية العالم المادي. العشاق يجب أن يرتفعوا ويسبحوا في الجو لفرط خفّتهم».

الحياة بوصفها حلماً

فيلم «القربان» كان يهجس بالكارثة. قبل عرضه في مهرجان كان بفترة قصيرة، انتشر رعب شيرنوبل (في 26 أبريل 1986) فوق أرجاء أوروبا كلها. النقاد وجدوا في التزامن أو التطابق شيئاً خارقاً.

عندما عملت في ما بعد في المسرح الدرامي الملكي في استوكهولم، التقيت بإنجمار بيرجمان عدة مرات. ولم أستطع منع نفسي من الكلام عن تاركوفسكي وكيف أنه كان يرغب في الالتقاء به.

بعد فترة قصيرة كتب بيرجمان ثناءً رائعاً، معبّراً عن احترامه وتقديره لتاركوفسكي، حيث قال: «تاركوفسكي، في نظري، هو الأعظم. هو الذي ابتكر لغة جديدة مخلصة لطبيعة الفيلم حيث تأسر الحياة بوصفها انعكاساً، الحياة بوصفها حلماً».

المليء بالتناقض

ذات مرة، قال تاركوفسكي: «أنا أشبه إنسان ليوناردو.. المصلوب في دائرة الحياة». التناقض ملازم لشخصية تاركوفسكي. يمكن أن يزعم بأن الأحلام مجرد تجليات فيزيائية لدماغه، وفي الدقيقة التالية يزعم بأن الأحلام أثّرت على حياته بأسرها. وهو يعتبر نفسه مؤمناً حقيقياً وفي الوقت نفسه يبحث بنهم عن السحري والخفي. وهو يحتقر ثقافة الوجبات السريعة الأميركية لكن بوسعه أن يتحدث لساعات عن الفيلم الأميركي The Terminator.

إن موقف تاركوفسكي من النساء يتسم أيضاً بالتناقض الظاهري. هو يشعر تجاههن بالحب والحنو، بالشفقة تقريباً. ضعفهن وهشاشتهن تحرّك مشاعره، لكنه لا يميل إلى الراكضات وراء المهنة، الحاملات حقائب يد مصنوعة من جلد التمساح.

إنه ينجذب إلى النساء اللواتي يتحكمن في مصيرهن. وهو يتحدث طويلاً عن أمه وحياتها الشاقة وموقفها الرزين من المعاناة والألم.

كان يتحدث وهو لا يعلم أن المرض الغادر الذي سلب حياة أمه بدأ يتسلّل إلى جسمه ليسلب حياته أيضاً.

الصورة الأخيرة

كان تاركوفسكي يقول بأنه دائماً يتماهى مع الألم لا السعادة.

حياته وأفلامه تتعاشق في درب قدري.

لو اتبع تاركوفسكي خطى بطله واقترب من الساحرة بدلاً من العودة إلى بيته «المتهدم»، وإلى «الجو السام السائد في الأسرة وتأثيره المميت»، فلربما كانت هناك نهاية مختلفة.

نحن لن نعرف أبداً.

تاركوفسكي اختار الحياة- التضحية. لقد كان الرجل المصلوب في دائرة الحياة. لكن ما هو مهم، أنه غادر هذا العالم تاركاً الأمل، تاركاً صورة طفل يسقي شجرة ميتة.

فخور بموهبة «سوزان»

في أكتوبر 1984 كنت أعمل كمترجمة لفيلم «القربان». ذهبنا – أنا وتاركوفسكي ومدير الإنتاج السويدي – إلى لندن، حيث تم الاتفاق مع القناة الرابعة (التلفزيون البريطاني) على الدخول كطرف مموّل بعد انسحاب المنتجين اليابانيين. والقناة الرابعة اشترطت مشاركة ممثل أو ممثلة من بريطانيا.

الممثل الذي كان من المفترض أن يؤدي دور الطبيب كان غير مناسب بسبب صغر سنه، فكان علينا أن نختار ممثلاً آخر. (في الواقع، أخضع تاركوفسكي نفسه لتجربة الأداء لهذا الدور، ولا بد أن معهد الفيلم السويدي يحتفظ بنسخة من هذا الشريط).

أما بخصوص دور أديليد، الزوجة الهستيرية، فقد يئسنا من العثور على ممثلة تصلح للدور، إلى أن تعرّفنا على الممثلة البريطانية سوزان فليتوود. لقد دخلت سوزان وكانت تبدو مشعّة ورشيقة ومتحمسة.. امرأة واثقة من نفسها ومتحكمة.

كان أمراً مثيراً مراقبة فعل الإغواء المتبادل.. والخلاّق. كان واضحاً أن تاركوفسكي فخور بهذا الاكتشاف وهو يقدّمها إلى السويديين، فخور بموهبة سوزان وتفانيها وطبيعتها الاحترافية، وحتى بظرفها وسخريتها اللاذعة.

الحياة بوصفها حلماً

كتب إنجمار بيرجمان ثناءً رائعاً، معبّراً عن احترامه وتقديره لتاركوفسكي، حيث قال: «تاركوفسكي، في نظري، هو الأعظم. هو الذي ابتكر لغة جديدة مخلصة لطبيعة الفيلم، حيث تأسر الحياة بوصفها انعكاساً، الحياة بوصفها حلماً»

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

أحد القراء يكتب!

arnst

 

 

 


أحد القراء يكتب


 إرنست همنغواي

عام 1933

جلست على الطاولة في غرفة النوم ،صحيفة مطوية أمامها ،توقفت ترقب من
النافذة تساقط الثلوج على السطوح و ذوبانها حيث تسقط.

كتبت تلك الرسالة ، 
الكتابة مٌنسابه ولا جدوى لشطبِ أو إعادة كتابة أي شيء

————————-
رونوك – ولاية فيرجينيا 

6 فبراير 1933

عزيزي الطبيب


اسمح لي أن أكتب لك لبعض النصائح الهامة جداً ، هناك قرار سأتخذه ، ولا أعلم بمن أثق
، ولا أجرؤ على طرحه ومشاركته مع والدي – لهذا جئت و كتبت لك سعياً  
 ، فقط حتى لا أٌجبر بأن أراك ، أستطيع الوثوق بك .

 الآن هذه هي الحالة

 تزوجت
رجل يخدم في الولايات المتحدة في عام 1929 والذي في نفس العام بٌعث إلى الصين
شنغهاي .

مكث هناك لثلاث سنوات – وعاد إلى وطنه – و قد سرح من الخدمة قبل بضعة أشهر ، ذهب
إلى منزل والدته في هيلينا ، أركنساس ، حين كتب لي بأن أعود إلى المدينة ، عدت و وجدته

تحت برنامج من الحٌقن الصحية منظمة ، وبطبيعة الحال سألته! ، و فهمت بأنه يتعالج لشيء ما يدعى
“سيفيليوس “*( مرض الزهري) هل تعرف ماذا أقصد ؟

قُل لي الآن هل سأكون بآمان أكثر من آي وقت مضى للعيش معه؟  – لم أقترب منه فور وصوله
إلى الصين حتى الآن! ، أكد لي بأنه سيكون بخير بعد أن ينهي الطبيب العلاج معه .لكن

هل تظن هذا صحيح – أحياناً أصغي لوالدي حين يتحدث عن المصابين” أحيانا نصلي لموتهم لأن يصبحوا
ضحية لهذا الداء – أصدق والدي لكنني أريد أكثر بأن أصدق زوجي – أرجوك …، أرجوك …قل لي
ماذا أفعل – لدي فتاة الآن ، ولدت عندما كان أبيها في الصين .

أشكرك و أثق تماماً بنصيحتك.


 وقعت باسمها
ربما هو من المفترض بأن يخبرني ما العمل المناسب للقيام به ، قالت لنفسها.
ربما هو يمكنه بأن يخبرني .

في صورته بالورقة  ..كان يبدو بأنهُ يعرف ، يبدو ذكياً ، حسناً!

كل يوم نخبر شخصًا ما بما يجدر فعله ، لابد أنها يعرف ما العمل ، أريد أن أقوم بكل ما هو صحيح
، مر وقت طويل ، إنهٌ وقت طويل ، وقد كان آنذاك وقتٍ طويل .
يسوع المسيح ، قد مر وقت طويل ، كان مرغماً بالذهاب أينما أرادوه ، وأنا أدرك ذلك، لكن لا
أعرف ما الذي فعله حتى يصيبه ، أوه و لا أبالي كيف
أصابة ،لكن أرجو المسيح بأن لا يصاب ابدًا،يبدو لي بأنهُ لم يفعل شيء ليصيبه ،
لا أعرف ما العمل .أتمنى من المسيح بأن لا يصيبه أي نوعاً من الداء ، لا أعرف لماذا….
تصيبنا الأمراض.