نشرت تحت تصنيف غير مصنف

للكاتب جدول زمني أيضاً

ترجمة : علي زينAuthor Tim Parks

إنه أداءٌ، يجب ألا ننسى ذلك مطلقًا، فمهما كان كم التفكير والبحث قبل الكتابة, ومهما كان كم التحرير والتصحيح بعدها, فإن الكتابة الفعلية هي أداءٌ، ثمة تلك اللحظة التي يجب عليك فيها القيام بها، لذا عليك كتابة الإيقاعات الصوتية التي تبحث عنها، وعليك إيجاد التتابع المناسب للتفاصيل والأحداث والوصف والحوار، فإذا لم تقم بكل شيءٍ على النحو الصحيح فلن ينجح أي قدر من العبث في إنقاذ الموقف.

ولذلك فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه الكاتب أثناء تخطيط يوم الكتابة هي كيف يمكنه الوصول إلى “حالة التركيز الشديد على العمل”، وكيف يمكنه الوصول إلى قمة الأداء مهما قصرت مدته؟ للرياضي جدول زمني للتدريب، فتاريخ الفعالية والمسابقة محفور في ذاكرته، عدا الحماس في الاستاد المليء بالجماهير, والذي سيؤدي بدوره إلى إطلاق أفضل ما بداخله، وللممثل نص أيضاً بالإضافة إلى البروفات, وكذلك وهج المسرح الذي يغمره بالإضاءة عند حاجته لذلك، أمّا الكاتب فليس لديه شيء. ولهذا نجد جميع تلك الطقوس البسيطة والمجنونة التي نسمع عنها: مثل استخدام قلم رصاص من النوع المتوسط (4 إيتش) ودفتر ملاحظات من نوع مولسكاين، وضرورة الكتابة في مكانٍ محددٍ, وفي غرفةٍ محددةٍ ,وفي وقتٍ محددٍ بالضبط في اليوم، واحتساء نوعٍ محددٍ من الشاي، وتدخين نوعٍ محددٍ من السجائر، وجميع تلك المحاولات اليائسة لاستعطاف الإلهام وتحقيق التلاقي بين ما هو عادي وما هو إبداعي.

كانت المشكلة في بداياتي في الثمانينيات من القرن العشرين هي الخواء التام، فزوجتي كانت تذهب للعمل في الثامنة، وتعود في السادسة والنصف، وكنَّا نسكن في منطقة “ويليسدن” شمال غرب لندن، حيث خدمات التدفئة باهظة الثمن، مما جعلني ألُفُّ نفسي بالبطانية, وأضع عند قدمي زجاجة مياه ساخنة، وكنت أكتب وأنطق ما كتبته بطريقةٍ مريعةٍ، وكنت أكتب ثانيةً بخط اليد، وأخرج لشراء القليل من السلع، وأحيانًا أذهب إلى حمام السباحة, وأشعر بالذنب لأني أخذت وقتًا للاستراحة بينما كانت زوجتي تعمل، ولكن لم تكن ثمة دار نشر تقبل نشر أعمالي على أية حالٍ، لكنني لم أيأس، ولو كان ذلك من قبيل الحاجة إلى القسوة مع الذات، وبكل تأكيد كانت هناك فكرة ما في مهدها: شيءٌ ما أسعى وراءه بكل إيمان، إلى أن تحقق ما أسعى وراءه فجأةً في نهاية الأمر، ولعل ذلك كان يحدث قبل عودة زوجتي إلى البيت بنصف ساعة. حيث كانت ثمة أفكار عفوية, أفكار تخرج مني دون تخطيط, ولكنها مشوقة، عندها كنت أدون تلك الأفكار بسرعة وعلى نحوٍ محموم، فمن الرائع حقًا حدوث ذلك الكم الهائل من الكتابة الذي يمكن للكاتب خلقه خلال نصف ساعة وكله ثقة بالذات.

بعدها كانت تظهر مشكلة معاكسة: مقاطعة أكثر من اللازم، ومواصلة أكثر من اللازم، مثلاً: التعامل مع الأطفال (وإظهار الحب لهم)، وطلبات المقالات، وطلبات الترجمة، والهاتف والفاكس وأخيرًا البريد الإلكتروني والإنترنت، وهما الأكثر تدميرًا، فأصبحت الآن أداة الكتابة هي أيضًا أشد الأدوات تشتيتًا للانتباه، فهي تصدر الرنين والصفير، وتحتوي على لمبات تحذير وامضة، بالإضافة إلى تشغيل الموسيقى والفيديو، إننا نعرف أن الروائية الإنجليزية “جين أوستن” كانت تعمل في صالون مزدحم وسط ثرثرة العائلة والأصدقاء، ولكنها لم يكن لديها دفتر ملاحظات يمكنه إظهار أفضل الأهداف في مباريات الأمس, وعرض المدح والإهانات الواردة من لوس انجلوس وملبورن مثل هذه الملاحظة: “السيد المحترم/ باركس، في الطبعة الثانية من كتاب “Italian Ways” (عادات إيطالية)، ص. 45، زعمت على نحوٍ خاطئٍ أن…”

فهذا هو روتيني إذًا، أو هو ببساطة الأسلوب الذي ابتكرته لتحقيق فترة مثمرة ـــ فإن لم تكن يوميًا فكثيرًا ـــ لأنه أكثر مرونة من الروتين، وكثيرًا بما يكفي.

أكتب بخط اليد، لكن…ابدأ كل يوم بكتابة ما كتبته باليد في اليوم السابق على الحاسوب، وهذا ما يجعلني أهدأ، وفي الوقت ذاته تعرضك هذه الطريقة للقليل من الملهيات الحاسوبية أثناء ذلك، فلا يجب عليك أن تشعر بأنك تعاقب ذاتك، فأنت لست زاهدًا ولا قديسًا، أنت رجل يؤدي وظيفته فحسب، وفي الجانب الآخر من المنضدة تجلس رفيقتك تترجم، فثمة جو من المرح في المكان، وليس ثمة شعور بالمعاناة.

في بعض الأحيان تستغرق تلك العملية كل الوقت المتاح لديك، وفي بعض الأيام يكون عليك أخذ إجازة من أجل التدريس، فلن تكتب شيئًا جديدًا، ولكن إذا سارت الأمور على ما يرام ستكون قد انتهيت من التدريس في الحادية عشرة تقريبًا، وعندها ستترك الكمبيوتر, وتترك رفيقتك, وتأخذ كوبًا من القهوة وتذهب إلى الطاولة في الغرفة الإضافية حيث توجد كراسة ملاحظات في انتظارك وقلم حبر على أتم الاستعداد، أنت تجلس الآن أمام صفحة بيضاء، ولكن بداخلك ذلك الزخم الناتج عن الارتماء في أحضان ذلك الإيقاع الذي يميز العالم الذي تعيش فيه، وإذا حالفك الحظ يمكنك البدء من تلك النقطة، إن جرّة القلم مشجعة للغاية، فالخط المائل إلى الأمام, وتدفق خط اليد سيذكرنا دائمًا بمن نحن وما المزاج الذي نحن فيه، وعلى مر العديد من السنوات تعلمت عدم كتابة أي شيء على نحوٍ آلي، ولكن بالانتظار والتأمل, والتفكير الطويل والتدبر حتى يبدأ الأداء من تلقاء نفسه, مثل زفرة قادمة وعلى نحوٍ غير متوقع من أعماق البطن.

المصدر:

https://www.theguardian.com/books/2017/apr/15/my-writing-day-tim-parks

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

هاروكي موراكامي – السير في كوبه

هاروكي موراكامي

Murakami

السير في كوبه

ترجمة : محمد نجيب

كوبة* KOBE : مدينة يابانية ضربها الزلزال عام 1995

ضرب أوساكا زلزال بقوة 6.1 ريختر . في عام 1997 يرتحل هاروكي موراكامي على قدميه من مركز مدينة كوبه لموطن طفولته في أطراف المدينة ليرى التغيير الذي أحدثه الزلزال ببلدته . وجد معالم غريبة لكن وجد أيضاً آثار لذاته و وجد الصدى الدائم للعنف

 

 

1

في مايو عام 1997 . عامان بعد الزلزال العنيف الذي ضرب كوبه , خطرت ببالي فكرة أن أسير بمفردي في روية من نيشينومايا إلى سانوميا في وسط مدينة كوبه . تصادف بقائي في كيوتو في ذلك الوقت من أجل العمل , فمضيت إلى نيشينومايا . على الخريطة , المسافة من هناك إلى كوبه حوالي خمسة عشر كيلو متر . ليست مسافة قصيرة بأي شكل لكن ليست مسافة مرهقة أيضاً , بالإضافة لذلك أنا  سائر واثق الخطى .

ولدت في كيوتو لكن سرعان ما انتقلت عائلتي لشوكوجاوا , حي في نيشينومايا ثم سرعان ما انتقلنا ثانية , مقتربين أكثر من كوبه , إلى آشيا حيث قضيت جل سنين مراهقتي . مدرستي الثانوية كانت تقع في التلال فوق المدينة لذا كان من الطبيعي أن وسط المدينة في كوبه كانت المكان الذي أتوجه إليه كي أستمتع بوقتي , بالتحديد حول سانوميا . أصبحت فتى هانشين – كان نموذجي , يشير المصطلح للمنطقة الواقعة بين أوساكا و كوبه . في ذلك الوقت و ربما الآن أيضاً , كان مكاناً رائعاً للنشأة فيه .مكان هادئ و مسالم يمنحك شعوراً بالاسترخاء و يتميز بإطلالته على المحيط , و الجبال و مدينة كبيرة بالجوار . أحببت الذهاب إلى الحفلات , والبحث عن الكتب الرخيصة في متاجر الكتب المستعملة, والتسكع في مقاهي الجاز و الاستمتاع بأفلام الموجة الجديدة التي أنتجتها نقابة مسرح الفن[1] . الموضة المفضلة لي في ذلك الوقت ؟ جاكيت فانز بكل تأكيد .

لكن بعد ذلك انتقلت لطوكيو من أجل الالتحاق بالجامعة . تزوجت و بدأت العمل هناك و بالكاد كنت أعود لهذه البقعة الصغيرة بين أوساكا و كوبه . كانت هنالك أوقات أعود فيها بالتأكيد إلى هناك لكن بمجرد أن أنهي عملي , كنت دائماً ما أقفز مباشرة في القطار السريع عائداً إلى طوكيو . كنت منشغلاً دائماً و كنت أقضي معظم الوقت مسافراً . و هنالك بعض الأسباب الشخصية أيضاً . يشعر بعض الناس بقوة تجذبهم دائماً للعودة لبلدتهم الأم بينما يشعر أخرون بأنهم لن يستطيعوا العودة أبداً . أحياناً يبدو الأمر كما لو أن القدر هو من يقسم البشر إلى هاتين المجموعتين , و لا يتعلق الأمر إلا قليلاً بمدى قوة مشاعرك نحو هذا المكان . أحببت الأمر أو لا , بدا أنني أنتمي للمجموعة الثانية .

لسنوات عاش والداي في آشيا لكن عندما ضرب زلزال هانشين المنطقة في يناير 1995 , دُمر بيتهما بشكل يستحيل معه البقاء فيه لذا سرعان ما أنتقلا لكيوتو . لذا باستثناء الذكريات التي أختزنها من أجل نفسي ( كنزي الغالي ) , لم يبق هنالك اتصال مادي يربط بيني و بين منطقة هانشين – كان . حرفياً لم تعد بلدتي الأم بعد الآن . انتابني شعور عميق بالخسارة بسبب تلك الحقيقة كما لو أن محور ذكرياتي يتشقق داخلي بصوت خافت لكن لا يزال مسموعاً . كان شعوراً جسدياً .ربما لهذا السبب أردت أن أسير هناك بيقظة وانتباه بحثاً عن أي شئ يمكنني اكتشافه . ربما أردت أن أرى بنفسي كيف ستبدو البلدة التي فقدت كل الروابط الواضحة التي تربطني بها , لي الآن . كم سأكتشف من ظل ماضيّ ( أو ظل الظل ) هناك ؟ أردت أن أرى تأثير الزلزال على البلدة التي نشأت فيها .

زرت كوبه عدة مرات بعد الزلزال , و كنت مصدوماً حقاً من مدى الدمار الذي حل بالمكان . لكن الآن بعد نحو عامين , بدت البلدة و قد لملمت من شتات نفسها , و أردت أن أرى بأم عينيّ التغيرات التي شهدتها المدينة – ماذا سرق هذا العدوان الغاشم من البلدة و ماذا خلف ورائه . لابد من وجود بقايا ما , لا تزال تربطني بها , هكذا فكرت .

ترجلت من القطار في محطة نيشينومايا , لابساً حذاء مشي مطاطي , و حاملاً على كتفيّ حقيبة ظهر تحوي دفتر تدوين و كاميرا صغيرة . بدأت أمشي بإيقاع بطيء باتجاه الغرب . كان الجو مشرقاً و مشمساً فارتديت نظارتي الشمسية . أول مكان مررت به هو السوق قرب المخرج الغربي للمحطة . في المدرسةالإبتدائية , كثيراً ما قدت دراجتي إلى هناك كي اشتري أشياء . مكتبة المدينة قريبة من هنا أيضاً , حيث كنت أقضي وقت فراغي هناك و تصفحت كل كتاب لليافعين وقعت يداي عليه . هنالك أيضاً محل للأعمال اليدوية كنت أبتاع منه الألعاب البلاستيكية . لذا أعاد إلي هذا المكان فيضاً من الذكريات . لم أت لهنا منذ مدة طويلة و السوق قد تغير تماماً بشكل يصعب علي تعرفه . ما مدى التغير الذي سببه التغيير الطبيعي الذي يطرأ على الأشياء عبر الزمن و ما مدى التغيير الذي فرضه الدمار المادي الذي سببه الزلزال , لا يمكنني حقاً التمييز . رغم أن الندوب التي خلفها الزلزال كانت واضحة للعيان . في مكان الأبنية المهدمة , تبعثرت الأراضي الخاوية في المنطقة مثل أسنان كثيرة مفقودة , بينها متاجر مبنية بشكل مؤقت كما لو كانت تربطها ببعضها البعض .نمت الحشائش في الأراضي الخاوية المحاطة بالحبال . يملأ الطريق الأسفلتي تشققات خلفها الحدث المشؤوم . كانت دلائل الدمار الفظيع في كل مكان كما لو كانت المنطقة أطلال مكان قديم .

مقارنة بحي كوبه التجاري الذي ركز عليه العالم و تم إعادة بنائه بسرعة بعد الزلزال , الفراغات الشاسعة هنا اجتاحتني كشئ ثقيل و كئيب مصحوبة بعمق هادئ . من المؤكد أن ذلك الدمار ليس مقتصراً على سوق نيشينومايا . لابد من وجود أماكن كثيرة حول كوبه لا تزال تحمل نفس الجروح و الندبات لكنها تكاد تكون منسية .

بعد حي التسوق و عبر الشارع الرئيسي مزار إبيسو[2] . مزار كبير جداً مبني من أخشاب سميكة . عندما كنت طفلا صغيرا , أحببت أن ألعب هنا و آلمني أن أرى الندبات الواضحة في نفس المكان الآن . معظم مصابيح الإنارة الحجرية الممتدة بطول طريق هانشين السريع كان ينقصها الفوانيس العلوية التي تغطيها . كانت مبعثرة على الأرض أسفلها مثل رؤوس قطعها سيف حاد . أما قواعد المصابيح فقد تحولت لصف من قطع حجرية لا معنى و لا هدف منها , ساكنة كرموز في حلم .

الجسر الحجري القديم الذي يعبر فوق البركة حيث كنت أصطاد الجمبري و أنا طفل ( باستخدام أسلوب بسيط . أربط خيط حول زجاجة فارغة ,  ثم أضع بودرة رخوة كطعم ثم أنزل الزجاجة إلى الماء فيدخل الجمبري لداخل الزجاجة و حينها أقوم بالسحب . ) قد انهار و بقي كذلك .كان الماء في البركة أسوداً وموحلاً و سلاحف ذات أعمار مختلفة ترقد متمددة فوق صخور جافة تتشمس , بينما رؤوسها دون أدنى شك خالية من أي أفكار . آثار الدمار في كل مكان كما لو أن المنطقة أطلال عتيقة . فقط الأخشاب كانت كما أتذكرها من أيام طفولتي صامدة في مواجهة الزمن .

جلست على أرضية المزار تحت أشعة شمس أوائل الصيف , و حدقت من جديد فيما حولي , محاولاً  التأقلم مع ما أراه . أمتص المشهد و أقبله على أنه شئ طبيعي بقدر الإمكان ذهنياً و داخلياً . حاولت تذكر كيف كنت في الماضي . لكن استغرقني ذلك وقتاً طويلاً كما يمكنك أن تتخيل .

_______________

تم إنشائها في الثمانينيات و اهتمت بإنتاج الأفلام اليابانية المستقلة .[1]

إله في الديانة اليابانية [2]

 

 

2

مشيت من نيشينومايا إلى شوكوجاوا . لم يحل الظهر بعد , لكن الجو كان مشمساً لدرجة أنني قد بدأت أتعرق . لم أحتج لخريطة كي تخبرني بشكل عام أين أنا لكن لم أكن أملك ذاكرة للشوارع نفسها . لابد أنني سرت في تلك الشوارع مئات المرات لكن الآن ذاكرتي بيضاء تماماً . لماذا لا أستطيع تذكر الشوارع ؟ أمر غريب . شعرت بحيرة شديدة كما لو أنني عدت للمنزل فوجدت الآثاث و قد تم استبداله . سرعان ما أتضح السبب لي . الأماكن التي كانت أراضي خاوية لم تعد كذلك و الأماكن التي كانت مشغولة لم تعد كذلك – مثل صور نيجاتيف و صور حقيقية قد حلت محل بعضها البعض . في معظم الحالات , الأراضي الخاوية صارت بيوتاً بينما البيوت القديمة قد دمرها الزلزال . يتضافر تأثير هذه الصور –قبل و بعد – لتضيف لعملية الطمس الزائفة لذكرياتي عن البلدة في الماضي .

البيت القديم الذي كنت أعيش فيه قرب شوكاجاوا قد اختفى و حل محله صف من المنازل . و الأرض التي كانت مدرستي الثانوية مبنية عليها قد امتلاءت بمساكن مؤقتة تم تشيدها لإيواء ضحايا الزلزال . حيث كنت و أصدقاؤي نلعب البيسبول , كان ناجو الزلزال المقيميين في تلك الملاجأ قد علقوا غسيلهم و وضعوا الكنب في الهواء الطلق في مساحة تبدو الآن شديدة التكدس .

حاولت عبثاً أن أعثر على آثار الماضي لكن بالكاد وجدت شيئاً منه . لا يزال الماء ينساب في النهر صافياً و نقياً كما كان دائما . انتابني شعوراً غريباً حين رأيت كيف صارت ضفة النهر محاطة الآن بالأسمنت . سرت لفترة في اتجاه البحر قبل أن أتوقف عند مطعم سوشي . كان بعد ظهر يوم أحد و كانوا مشغولين بإعداد الطلبات . المساعد الشاب الذي خرج لتسليم طلبات للبيوت , لم يعد قبل وقت طويل و كان مالك المحل مصراً على تلقي كل الاتصالات الهاتفية . مشهد معتاد تراه في أي مكان في اليابان . انتظرت قدوم طلبي , بينما احتسي البيرة و أبقي عيناً على التلفاز . كان محافظ ولاية هيوغو يتحدث مع أحدهم في برنامج عن سير عمليات إعادة البناء بعد الزلزال . أحاول الآن تذكر ما قاله بالضبط لكن عبثاً لا يمكنني تذكر كلمة واحدة .

عندما كنت طفلاً , كنت أتسلق إلى ضفاف النهر حيث يندفع تيار الماء أمامي مباشرة دون أي عائق يعوق مجال بصري . أعتدت أن أسبح هناك في الصيف . أحببت المحيط و أحببت السباحة . كنت أذهب للصيد أيضاً و أصطحب كلبي للمشئ هناك كل يوم . أحياناً كنت أحب مجرد الجلوس دون أن أفعل أي شئ . و أحياناً أخرى كنت أتسلل خلسة من المنزل ليلاً و أذهب للبحر مع أصدقائي لنجمع الحطب و نشعل النار . أحببت رائحة البحر , و زئيره البعيد و كل ما يجلبه معه . لكن الآن لم يعد هنالك بحر . لقد هدموا الجبال و ألقوا بكل التراب في البحر بواسطة شاحنات و أحزمة ناقلة حتى ملئوا البحر و سدوه .كون الجبال و البحر قريبين جداً , كانت تلك المنطقة مثالية لهذا النوع من أعمال البناء . انتشرت مجتمعات سكنية صغيرة في مكان الجبال المهدمة و بنفس الطريقة برزت مجتمعات سكنية جديدة مكان البحر . حدث كل هذا بعد انتقالي لطوكيو أثناء عصر النمو السريع لليابان عندما كانت البلاد في خضم إزدهار عمراني واسع النطاق .

أمتلك الآن بيتاً في بلدة على ساحل البحر في ولاية كاناجاوا قرب طوكيو حيث أتنقل باستمرار بينه و بين طوكيو . لسوء الحظ , أو دعني أقول لسوء الحظ الشديد , هذه البلدة على ساحل البحر تذكرني أكثر ببلدتي الأم أكثر مما تذكرني بلدتي الأم الآن . تحوي المنطقة جبال خضراء و شاطئ رائع للسباحة . أريد أن أتمتع بتلك الأشياء بقدر الإمكان لأن بمجرد أن يتلاشى مشهد طبيعي فأنه يتلاشى للأبد . بمجرد أن يُطلق جماح العنف البشري , لا يمكن إيقافه أو إصلاح إثاره المدمرة .

بعد ضفاف النهر ,تم ملأ المساحة التي كانت منتجع كوري على الساحل , بالماء فصارت خليجاً أو بركة صغيرة مريحة . كان راكبو القوارب الشراعية هناك , يحاولون قصار جهدهم الإبحار مع الريح . مباشرة جهة الغرب , حيث كان شاطئ آشيا , تقف عمارات شاهقة الارتفاع ككتل صخرية من المونوليث[3] مجردة من أي معالم .

على الشاطئ , الأسر التي قادت سياراتها  الستيشن واغن و الميني فان إلى هناك , تستخدم خزانات البروبان ( الغاز ) الصغيرة للشواء . يشوون لحماً و سمكاً و خضراوات و الدخان الأبيض يتصاعد في صمت إلى السماء في هذا الأحد السعيد . بالكاد توجد غيوم في السماء . كان تابلوه مثالي ليوم من أيام مايو .مع ذلك , بينما أجلس هنالك على الضفة الأسمنتية و أحدق حيث كان البحر الحقيقي في الماضي , كل شئ هنا يشبه إطار عجلة يتسرب منها الهواء ببطء , و بهدوء تفقد واقعيتها .

في قلب هذا المشهد الوديع , من الصعب إنكار آثار العنف .هكذا صدمني الأمر . جزء من بقايا العنف تقبع مختبئة أسفل أقدامنا و أجزاء أخرى مخبئة داخلنا . أحداها مجاز للأخر . أو ربما يمكن لأحداهما ان يحل محل الآخر , كلاهما يرقد هنا نائمين مثل زوج من الحيوانات يراودهما نفس الحلم .

***

أجتزت نهر صغير و ذهبت إلى آشيا . عبرت أمام مدرستي الثانوية القديمة , ثم أجتزت البيت الذي كنت أعيش فيه و وصلت لمحطة قطار آشيا . أعلنت لافتة في المحطة عن مباراة في الساعة الثانية مساء في ذلك اليوم في أستاد كوشين في أوساكا بين فريقي البيسبول تايجرز هانشين و ياكولت سوالوز .  عندما وقعت عيناي عليها , انتابتني رغبة مفاجئة للذهاب . أجريت تغييرات سريعة في خططي و قفزت في القطار . كانت المباراة قد بدأت للتو ,لذا إذا ذهبت الآن , هكذا فكرت فسأكون هناك في الوقت المناسب لمتابعة الشوط الثالث . يمكنني متابعة المشي غداً .

تغير ملعب كوشين قليلاً منذ كنت صبياً . كما لو كنت قد تعثرت في دوامة زمنية , شعرت بإحساس نوستالجي بعدم الانتماء – طريقة غريبة لصياغة مشاعري , أعترف بذلك . من الأشياء القليلة التي تغيرت : غياب الباعة المتجولين الذين يحملون على أكتافهم صفائح الكالبس   المنقطة , و يبيعون شراب اللبن المُخمر . (يبدو أنه لم يعد هنالك الكثير من البشر في العالم الذين لا يزالون يشربون الكالبس . ) و لوحة النتائج التي صارت ألكترونية الآن . ( و يصعب رؤيتها أثناء النهار ) . لكن لون عشب الملعب الأخضر لم يتغير , و مشجعي هانشين لا يزالوا صاخبين كما هو معروف عنهم . قد تأتي و تذهب الزلازل و الحروب و القرون لكن مشجعي هانشين أبديون .

كانت المباراة منافسة بين الراميين كاواجيري و تاكاتسو و انتهت بفوز هانشين بنتيجة 1-0 . قد تعتقد أن فارق النقطة الواحدة يعني أنها كانت مباراة مثيرة لكنها لم تكن بأي شكل من الأشكال . كانت مباراة خالية من أي لحظة مميزة . لأعبر عن الأمر بوضوح أكبر , كانت مباراة لا تستحق المشاهدة . خاصة بالنسبة للمتفرجين في الملعب . بينما تشتد الشمس , زاد عطشنا بشدة . تناولت بعض البيرة الباردة و نعست في مكاني في المدرجات . عندما استيقظت , كنت قد نسيت تماماً أين أنا . ( بحق الجحيم أين أنا ؟ تساءلت ) . ظلال الأضواء الكاشفة كانت تميل باتجاهي , مقترباة مني . تكاد تصل إلي .

_______________________________________________

 مونوليث : معلم جيويوجي يتكون من صخرة ضخمة .[3]

 

3

نزلت في فندق صغير حديث الإنشاء في كوبه . معظم النزلاء مجموعات من النساء .أنا متأكد أن بإمكانك تخيل نوع الفندق الذي أتحدث عنه . في الصباح التالي استيقظت في السادسة و استقليت قطاراً قبل ساعة الذروة الصباحية إلى محطة آشياجاوا و بدأت من جديد جولتي القصيرة مشياً على الأقدام . على عكس اليوم  السابق , كانت السماء ملبدة بالغيوم و الهواء بارد بعض الشئ . تقرير الطقس في الجريدة كان يتوقع بيقين هطول المطر بعد الظهر . ( و بكل تأكيد كانوا صائبين في توقعهم . في المساء , كنت مبللاً تماماً . ) في الجريدة الصباحية التي اشتريتها من محطة سانوميا كان هنالك أخباراً جديدة عن اعتداء على شابتين في بلدة سوما الجديدة ( مكان جديد بُني عن طريق قطع جانب من قمم الجبال , لم أسمع عنه من قبل في حياتي ) . أحداهما قد ماتت . كانت الشرطة تطلق على الحادثة ” هجوماً عشوائياً , و لا يملكون أي أدلة تقودهم للجاني بينما المواطنون الذين يملكون أطفالا صغارا , مرعوبون .كان ذلك قبل مقتل جون هاس , طفل في الحادية عشرة  في كوبه بعد عدة أيام . علي أيه حال , كان هجوماً مرعباً و فظيعاً يستهدف أطفال المدرسة الإبتدائية . نادراً ما أقرأ الجريدة و لم أكن قد سمعت حتى بهذا الهجوم . أتذكر إحساسي بنبرة إقرارية جافة في أسلوب السرد لكن لا تخلو من عمق و غرابة مختبئة بين سطور المقالة .

بينما أطوي الصحيفة , خطرت فجأة ببالي فكرة : رجل يسير في الأرجاء  بمفرده في وضح النهار في يوم عمل قد يبدو مثيراً للشكوك . ظل هذا العنف المتجدد عمّق أكثر من إحساسي بأني عنصر دخيل هنا . كما لو كنت ضيفاً غير مرغوب فيه يسير متخبطاً في مكان لا ينتمي إليه .

سرت بمحاذاة طريق في التلال حيث تمتد قضبان السكة الحديد . أخذت انعطافات قليلة في طريقي نحو الغرب و في غضون ثلاثين دقيقة كنت أدخل لآشيا . آشيا بلدة طويلة و ضيقة تمتد شمالاً و جنوباً . امش قليلاً في اتجاه الشرق أو الغرب لتجد نفسك قد غادرتها . على جانبي الطريق هنالك أراضي خالية خلفها الزلزال و قليل من البيوت المهجورة و قد مالت لأحدى الجانبين .

تختلف التربة في منطقة هانشين – كان عنها في طوكيو . فهي منطقة جبلية رملية لذا الأرض فيها ملساء و بيضاء مما يجعل الأراضي الخالية أكثر بروزاً للعيان . كانت المنطقة مغطاة بحشائش الصيف الخضراء مما جعل التناقض في الألوان أكثر وضوحاً أيضاً . تصورت ندبة جراحية ضخمة على جلد شخص عزيز علي , صورة جعلت ألماً جسدياً حاداً كطعنة يسري داخلي , ألم غير مقيد بزمن أو مكان .

بطبيعة الحال لم تقتصر المنطقة على الأراضي الخالية المغطاة بالحشائش فقط . مررت بعدة مواقع بناء . يمكنني أن أتخيل أنه في أقل من عام سيكون هنالك صف من منازل حديثة البناء هنا , كثيرة جداً لدرجة أنني لن أتعرف على المكان . سيلمع قرميد الأسطح الجديدة تحت أشعة الشمس . بحلول ذلك الوقت ربما لن يبقى أي شئ مشترك بين المشهد هنا و بيني كإنسان . ( غالباً لن يبقى ) . يقف بيننا حاجز قهري فرضته آلة تدميرية قاهرة اسمها الزلزال . حدقت لأعلى نحو السماء في هذا الجو الصباحي الغائم قليلاً و فكرت في هذه الأرض التي جعلتني الشخص الذي أنا عليه الآن و فكرت في الشخص الذي صنعته هذه الأرض , في كل الأشياء التي لا نملك أي سيطرة عليها .

***

 

عندما وصلت لمحطة أوكاموتو المحطة التالية لآشيا , فكرت في الجلوس قليلاً على مقهى – أي مكان سيفي بالغرض – و أطلب فطورا تقليدياً . لم أكل أي شئ طوال النهار . لكن لم أجد أي مقهى مفتوحاً بعد . لم تكن تشبه البلدة التي في ذاكرتي . أشتريت مكرها بسكويت كالوري ميت من أحدى متاجر لوسون على جانب الطريق ثم جلست على دكة حديقة و أخذت أكل في صمت , و أبلع البسكويت مع القهوة . أنتهزت الوقت كي أدون ملاحظات عن الأشياء التي رأيتها في رحلتي حتى الآن .

بعد استراحة قصيرة . أخرجت نسخة من رواية همنجواي ” الشمس تشرق أيضاً ” من جيبي و تابعت القراءة من حيث وقفت . قرأت الرواية من قبل في المدرسة الثانوية و كنت قد بدأت قرائتها ثانية في سريري بالفندق بالأمس و أسرتني القصة تماماً . أتساءل لماذا لم أدرك من قبل كم هي رواية عظيمة . إدراكي لذلك منحني شعوراً غريباً . لابد أن عقلي كان في مكان أخر حين قرأتها أول مرة .

لم أجد مكاناً للأفطار في المحطة التالية  أيضاً لذا مشيت بتثاقل بمحاذاة قضبان السكة الحديد , و أنا مستغرقاً في أحلامي عن فنجان قهوة ساخن و شرائح توست سميكة . كالسابق , وجدت نفسي أمر بعدد من الأراض الخالية و مواقع البناء . أنزلقت على الطريق بجواري عدة سيارات مرسيدس بينز سيدان كلاس : إي , تقل الأطفال للمدرسة أو المحطة , كما أتصور . لا يعلو السيارات خدشاً أو بقعة واحدة . مثل رموز بلا معنى و زمن يمضي دون هدف , كلها لا صلة لها بالزلزال أو العنف , على الأغلب .

أمام محطة روكو , أعطيت لنفسي امتيازاً صغيراً فدخلت لمطعم ماكدونالز و طلبت سندوتش ماك مافن بالبيض ( ب 360 ين ) و تمكنت أخيراً من إسكات جوعي الذي كان يتنامي داخلي كزئير بحر . قررت أخذ أسترحة لمدة نصف ساعة . كان الوقت الآن هو التاسعة صباحاً . عندما دخلت لماكدونالز عند التاسعة صباحاً  , شعرت كما لو أنني داخل واقع متخيل ضخم خلقه المكان أو كاني جزء من عقل باطني جمعي [4] . لكن في الحقيقة كنت محاطاً بواقعي أنا . للأفضل أو الأسوء , كانت ذاتي قد وصلت مؤقتاً لطريق مسدود , و لم تعد تملك مكاناً تذهب إليه .

 

***

لأني قطعت كل هذه المسافة , قررت أن أصعد المنحدر الذي يقود إلى مدرستي الثانوية القديمة . بدأ شريط خفيف من العرق في التكون فوق جبهتي . في الثانوية كنت استقل دائماً حافلة مزدحمة للمدرسة لكن الآن أمشي في نفس الطريق بمفردي .

في ساحة اللعب الشاسعة المساحة الذي تم شقه في منحدرات الجبال, كانت الطالبات يلعبن كرة اليد كجزء من حصة الرياضة . كان هنالك هدوء خارق للطبيعة يخيم على المكان ما عدا صيحات الفتيات التي تعلو من حين لأخر . كان المكان ساكناً تماماً لدرجة أنني شعرت أنني تعثرت و سقطت في فراغ من نوع ما . فراغ ليس من المفترض أن أدخله .ما سر هذا الصمت المطبق ؟

حدقت في ميناء كوبه الذي يتوهج بضوء شاحب بعيداً في الأسفل , و أستمعت بإنصات أملاً في التقاط بعض أصداء من الماضي لكن لا شئ أتى إلي . فقط أصوات الصمت .  هذا كل شئ . لكن ماذا بيد الإنسان أن يفعله ؟ نتحدث عن أشياء حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاماً . أكثر من ثلاثين عاماً .

شئ واحد يمكنني قوله بكل يقين : كلما كبُر الإنسان , كلما صار أكثر وحدة . ينطبق ذلك على الجميع دون استثناء .لكن ربما هذا ليس شيئاً سيئاً . ما أعنيه هو : من منظور ما , حيواتنا لا شئ سوى سلسلة من مراحل تساعدنا على التعود على الوحدة . و من هذا المنطلق , فلا سبب للشكوى . بالإضافة لذلك حتى لو أردنا أن نشكو , فمن سنشكو له على أية حال ؟!

***

_________________________________

[4] مصطلح يطلق على جزء من العقل الباطن للإنسان مستمد من خبراته و تفاعله مع بيئته .

 

 

 

4

Marina District Collapse

نهضت و غادرت المدرسة الثانوية و بدأت بفتور في هبوط المنحدر الطويل ( كان التعب قد بدأ يحل بي  . ) . تابعت المشي دون راحة حتى بلغت محطة شين كوبه , المحطة التي يتوقف فيها القطار السريع .من هنا يمكنني الوصول لوجهتي, سانوميا في رحلة واحدة سريعة .

كان لدي متسع من الوقت لذا بدافع الفضول دخلت فندق أورينتال كوبه الجديد , فندق عملاق تم افتتاحه حديثاً قرب المحطة . غصت في أريكة في بهو القهوة و تناولت أول فنجان قهوة مقبول اليوم . أنزلت حقيبة الظهر و خلعت النظارة الشمسية و أخذت نفساً عميقاً و مددت ساقي أمامي كي أمنحها بعض الراحة . شعرت برغبة في التبول فذهبت لدورة المياه و أفرغت مثانتي لأول مرة منذ مغادرتي الفندق في الصباح الباكر . عدت للجلوس في مكاني و طلبت أعادة ملء فنجاني بالقهوة و تأملت المكان حولي .كان الفندق واسعاً بشكل مخيف, مختلف اختلافاً شاسعاً عن فندق أورينتال كوبه القديم قرب الميناء (فندق جميل مساحته مريحة تم إغلاقه بسبب الزلزال . ) وصف هذا الفندق الجديد بأنه مهجور أقرب للحقيقة من وصفه بالاتساع . كان مثل هرم دون عدد كاف من المومياوات . لا أريد أن أنقد المكان نقداً لاذعاً , لكنه ليس مكاناً أود المكوث فيه .

بعد شهور قليلة حدث تبادل لإطلاق النار في نفس البهو الذي جلست فيه . قُتل شخصان . بكل تأكيد لم أملك أي فكرة عن حدوث شئ كهذا في ذلك المكان .لكن تصادف مروري بالمكان في فجوة زمنية سبقت العنف الآتي . سمها صدفة لكن مع ذلك لا يقلل ذلك من شعوري بالغرابة . مثل الماضي , فأن الحاضر و المستقبل يومضان ذهاباً و أياباً بسرعة خاطفة على معبر فوقي .

لماذا نتعرض لمثل هذا العنف العميق و المستمر ؟

بعد أربعة شهور من رحلتي القصيرة تلك , بينما أجلس على مكتبي و أكتب هذه الكلمات , لم أستطع منع نفسي من التساؤل . حتى لو نحيت ما حدث في منطقة كوبه جانباً , أشعر كأن فعل واحد من العنف مُقدر له ( واقعياً أو مجازياً )  كي يقود مباشرة لفعل عنف أخر . هل هنالك حتمية مُولدة لتلك الدائرة المفرغة من العنف ؟ أم أنها الصدفة و حسب , و لا شئ أخر ؟

حدث زلزال هانشين أثناء وجودي في أمريكا ثم بعد ذلك بشهرين حدث هجوم غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو . وجدت هذا بمثابة سلسلة متصلة من الأحداث .

في ذلك الصيف عدت لليابان و سرعان ما أنخرطت في أجراء حوارات مع الناجين من هجوم السارين . بعدها بسنة نشرت كتابي ” تحت الأرض ” . هدفي من هذا الكتاب , ما أردت الكتابة عنه – ما أردت أنا أن أعرف أكثر عنه – هو العنف في مجتمعنا الذي يقبع مختبئاً تحتنا مباشرة . عن العنف الموجود هناك كاحتمال خامل , احتمال قد ينفجر في أي لحظة في صورة عنف , كل هذه الأشياء التي نتناسى وجودها . لهذا لم أختر محاورة من يدعوا أنهم ضحية في الهجوم بل الضحايا الحقيقيون .

أثناء سيري الصامت طوال يومين من نيشينوما إلى كوبه , ظلت تلك الأفكار تدور في رأسي . بينما أمشي خلال الظل الذي تركه الزلزال , ظللت أسأل نفسي : ما المغزي من هجوم السارين في مترو الأنفاق ؟ في نفس الوقت بينما أمضي مخترقاً ظل هجوم السارين : ما الهدف من زلزال هانشين ؟ بالنسبة لي لم يكن الحدثان منفصلين و غير مرتبطين . كشف اللثام عن أحداهما قد يساعد في كشف اللثام عن الأخر . كانت هذه مسألة مرتبطة مادياً و نفسياً في آن واحد . بمعنى أخر الجانب النفسي كان مرآة للجانب المادي و العكس . و علي أن أخلق بنفسي ممراً خاص بي يربط بين الجانبين .

يمكنني أن أضيف سؤالاً أخراً  أكثر  خطورة لمجموعة الأسئلة تلك : ماذا يمكنني أن أفعل بخصوص هذا العنف ؟

 

***

آسف لقولي هذا , لكنني لم أعثر بعد على أجابة واضحة و منطقية لأسئلتي . لم أصل لأي نهاية محددة . كل ما يمكنني فعله حتى هذه النقطة هو أنه من خلال كلماتي الخالية من اليقين أن أرسم بأمانة الطريق الحقيقي الذي قادتني إليه أفكاري ( و تحديقي و ساقاي ) . أتمني أن تتفهم هذا . في النهاية أنا أنتمي لنوعية البشر التي يمكنها إحراز تقدم فقط بتحريك سيقانها و تحريك جسمها , من خلال عملية مادية بطيئة خطوة بخطوة في خط ينحرف باستمرار .يستغرق الأمر وقتاً . وقتاً طويلاً على نحو بائس . أتمنى فقط ألا يكون طويلاً للغاية .

وصلت أخيراً لسانوميا ثانية . بحلول هذا الوقت بدأت تفوح مني رائحة كريهة .لم تكن مسافة طويلة , لكنها أطول من مشيك الصباحي المعتاد . في حجرة الفندق أخذت حماماً ساخناً . جففت شعري و تجرعت زجاجة باردة من المياه المعدنية من الثلاجة . أخذت ثياباً نظيفة من حقيبتي . قميص بولو أزرق غامق و معطف رياضي أزرق من القطن و بنطلون شينوز . كانت ساقاي لا تزالان متورمتين قليلاً لكن لم يكن بإمكاني فعل شئ بخصوص ذلك . تماماً كما لم يمكنني انتزاع تلك الأسئلة المُبهمة التي تقبع ثقيلة و غير مُجابة داخل رأسي .

لم يكن هنالك أي شئ معين أريد فعله لذا ذهبت لمشاهدة فيلم شدني إليه, من بطولة توم كروز . لم يكن فيلماً مؤثراً لكنه لم يكن سيئاً جداً أيضاً . أسترخيت في مكاني و تركت الوقت يمضي . مرت ساعتان من حياتي –ليست بصورة مؤثرة لكن ليست بصورة سيئة أيضاً .

كان الليل يقترب بينما أخرج من السينما . سرت باتجاه التلال نحو مطعم صغير . جلست على منضدة و طلبت بيتزا مأكولات بحرية و بيرة . كنت الزبون الوحيد الموجود بمفرده . ربما كان هذا  نابع من خيالي فقط لكن بدا الجميع سواي سعيدين حقاً . بدا الأزواج راضيين بينما تقهقه مجموعة من الرجال و النساء بصخب . بعض الأيام تكون هكذا .

كان على بيتزا المأكولات البحرية التي جلبوها لي ورقة صغيرة كُتب عليها : هذه البيتزا التي أنت على وشك الاستمتاع بتناولها هي البيتزا 958,816 التي يعدها مطعمنا . لم أستطع استيعاب الأمر . ما الرسالة التي يجب أن أفهمها من تلك الملحوظة ؟ عندما كنت صغيراً كنت معتاداً على الحضور إلى هنا مع حبيبتي , نشرب بيرة مثلجة و نأكل بيتزة مخبوزة حديثاً تحمل نفس الورقة التي تشير لرقم ما . كنا نتحدث عن مستقبلنا , و كل توقعاتنا وقتها لم يتحقق و لو توقع واحد منها . لكن كان هذا منذ وقت طويل جداً . وقت كان لا يزال هنالك بحر هنا , وقت كان فيه جبال . لا يعني أنه لا يوجد هنا بحر أو جبال . بالتأكيد يوجد . لكن ما أتحدث عنه هو بحر مختلف و جبال مختلفة . مختلف عما هو موجود الآن .

بينما أحتسي بيرتي الثانية , فتحت نسختي من ” الشمس تشرق أيضاً “و تابعت القراءة  . قصة منسية عن جيل ضائع . سرعان ما أندمجت مع عالم الشخصيات .

عندما غادرت المطعم أخيراً , كانت تمطر كما توقعت النشرة الجوية . تبللت . تبللت بشكل مذري , وصل الماء حتى عظامي . لم يعد هنالك داع لشراء شمسية .

 

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

الرسالة – إلينا بونياتوسكا أَمُور

الرّسالة

Image result for Elena Poniatowska

إلينا بونياتوسكا أَمُور (المكسيك) *

ترجمها: توفيق البوركي (المغرب)

مراجعة: منار الصّلتية (سلطنة عمان) 

 

 

جئتُ، يا مارتين، ولم تكن موجودًا. جلستُ على درجة سلّم منزلك مستندة إلى الباب وأفكّر أنّه في مكان ما من المدينة، وعبر موجة هواءٍ عابرة، عليك أنْ تشعر بي هنا. ها هي حديقتك الصغيرة؛ حيث شجرة الميموزا تتدلى إلى الخارج فيكسر الأطفال، حين مرورهم، الأغصان التي تطالها أيديهم…أرى أزهارًا، زُرعتْ في الأرض وحول السّور، مستقيمة ومتجهّمة، ولها أوراق كَنِصَال السّيوف. زرقاء في لون البحر، على هيئة جنود؛ إنها أكثر جدّية وأكثر وقارًا. أنت أيضًا جنديّ، تسير على درب الحياة: واحد، اثنان، واحد، اثنان… كل شيء في حديقتك صلب، مثلك، وفيه من القوّة ما يوحي بالثّقة.

أنا هنا أقف مقابل جدار بيتك، هكذا مثلما أكون أحيانا مستندة إلى جدار ظهرك. الشّمس أيضًا تسلّط أشعّتها على زجاج النوافذ وشيئًا فشيئًا تضعُف لأنّ الوقت صار متأخرًّا. السماء المُحمرّة وهبت الدّفء لزهرة العسل فصار شذاها أكثر نفاذًا من ذي قبل. إنّه المساء والنهار سيرحل. تمرّ جارتك، ولا أدري إن كانت قد رأتني. ستذهب لريّ قطعة حديقتها. أتذكّرُ أنها كانت تحضر لك الحساء عندما تمرض وابنتها تحقنك بالإبر…

أفكّر فيك بتمهل، كما لو أني أرسمك داخلي لتبقى هناك منقوشًا. أود لو كنت متيقّنة من أنّني سأراك غدًا وبعد غد ودائمًا في متواليّة من الأيّام لا تنقطع؛ أن أستطيع النّظر إليك ببطء رغم أنّني أعرف كلّ زاوية من تقاسيم وجهك، فما بيننا لم يكن قطّ مؤقتا أو مجرد صُدفة.

أنحني على ورقة وأكتب لك كل هذا وأفكر الآن في شارع حيث تمشي حاثّا الخطى بصرامة، كما اعتدت أن تفعل؛ في شارع من تلك الشوارع حيث أتخيلك دائمًا: دونثيليس، والخامس من فبراير أو فينوستيانو كارانثا، وعلى رصيف من تلك الأرصفة الكئيبة والرتيبة التي تحطمت فقط بسبب هيجان النّاس وتدافعهم وقت ركوبهم الشّاحنة. عليك أنْ تعلم في داخلك أنني أنتظرك، مثلما جئت لأقول لك، فقط، بأنني أحبّك وبما أنك لست هنا، فأنا أكتبه لك. لم أعد أستطيع الكتابة، لأن الشّمس غابت ولا أعلم إن كان ما أخطّه واضحًا. في الخارج مزيد من الأطفال يمرون عدوًا. وسيدة تحمل قِدْرًا تُنبِّه أحدهم بغضب: “لا تحرك يدي لأنني سأسكب الحليب…”

أترك هذا القلم، يا مارتين، وأترك الورقة المخططة وأترك ذراعيّ لتتدليّا، دونما فائدة، على امتداد جسدي وأنتظرك. أفكر كما لو أني أشتهي عناقك. أحيانًا أتمنى لو كنت عجوزًا لأن مرحلة الشباب تحمل في ذاتها تلك الحاجة الملّحة والجارفة لربط كلّ شيء بالحب.

ينبح كلب، ينبح بعدوانيّة، وأعتقد أن ساعة رحيلي قد حانت. بعد قليل ستأتي الجارة لتضيء أنوار بيتك؛ فهي تملك مفتاحه وستنير مصباح الغرفة المطلّة على الخارج لأنّ في هذا الحيّ تكثر الاعتداءات وتكثر السّرقات. يُسْرقُ الفقراء كثيرًا؛ الفقراء يسرقون بعضهم بعضًا… أتعلم، فمنذ طفولتي وأنا أجلس هكذا أنتظر، لطالما كنت ودودة وطيّعة لأنّني ما زلت أنتظرك. اعلمْ أن كلّ النّساء على قيد الانتظار.

ينتظرن الحياة المستقبليّة، وكل تلك الصّور التي نحتنها في وحدتهنّ، وكل تلك الغابة التي تسير نحوهن وذلك الوعد الكبير الذي هو الرّجل؛ الرمّانة التي ستتفتّح عمّا قريب عن حبّات حمراء برّاقة، رمّانة كفم مكتنز بألف فصّ.

لاحقًا بعد أن تصير تلك الساعات المتخيّلة ساعات حقيقيّة، عليها أن تكتسب وزنًا وحجمًا وصلابة. كلّنا –آه يا حبيبي-ممتلئين بصور داخلية، وممتلئين بمشاهد لم نعشها.

أرخى الليل أسْدافه ولم أعد أرى تقريبًا ما أخربشه على الورقة، لم أعد ألمح الحروف. وإن لم تفهم شيئًا في تلك المساحات البيضاء، وفي تلك الفراغات، املأها بكلمة: “أحبّك”. لا أدري إن كنت سأضع هذه الورقة أسفل الباب، لا أدري. لقد جعلتني أكن لك احترامًا خاصًّا… ربّما وأنا أغادر الآن، قد أعود لأطلب من جارتك أن تسلّمك الرّسالة: أنْ تخبرك أنّني قد جئت.

ـــــــــــــــــــــــــــ

*إلينا بونياتوسكا أَمُور:

كاتبة وصحفية مكسيكية-فرنسية من أصول بولندية، ولدت بباريس سنة 1932. وصلت إلى المكسيك في سن العاشرة فرارا من جحيم الحرب العالمية الثانية. لم تنل الجنسية المكسيكية إلا في العام 1969 نظرا لتنقلها بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت تتابع دراستها.

بدأت مسيرتها في عالم الصحافة سنة 1953 وهي المهنة التي لا زالت تمارسها إلى الآن. دافعت عن قضايا المرأة وانخرطت في صفوف الحركات اليسارية. وهو ما بدا جليّا في المواضيع التي عالجتها في أعمالها الأدبية.

حصلت على الجائزة الوطنية للصحافة في المكسيك سنة 1979، ومُنحت لها العديد من شواهد الدكتوراه الفخرية في المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية. وتبقى جائزة سيرفانتس للآداب التي نالتها سنة 2013 الأهم في مسيرتها وقد جاءت اعترافًا بمشوارها الأدبي اللامع، وإخلاصها النموذجي للصحافة والقائم على التزام راسخ بالتاريخ المعاصر. وهي رابع امرأة تنال هذا الشرف بعد كل من الشاعرة الاسبانية ماريا ثامبرانو (1988) والشاعرة الكوبية دولثي ماريا لويناس (1992)، ثم الأكاديمية والكاتبة الاسبانية آنا ماريا ماتوتي (2010).

من أعمالها: زهرة لِيس، حتى لا أراك، القطار يمر أولا، بائعة السحاب، ليلة تلالتيلولكو، نحبك يا خيسوسا…(المترجم).

 

**مترجم ومهتم بالآداب اللاتينية.

*** مترجمة عُمانية

تمت الترجمة بموافقة الكاتبة بتاريخ 10 أغسطس 2018

 

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

أيهما أقوى؟ أوجست سترندبرج

أيهما أقوى؟

مسرحية للكاتب السويدي: أوجست  سترندبرج. August Strindberg

ترجمها عن الإنجليزية: خلف سرحان القرشي.

الشخصيات:

  • السيدة (س): ممثلة متزوجة.
  • الآنسة (ص): ممثلة عزباء.
  • نادلة.

 

المشهد…. زاوية في مقهى للسيدات. بها طاولتان حديدتان صغيرتان، أريكة مخملية حمراء وبضع كراسي.

تدخل السيدة (س) ترتدي ملابس شتوية، وتحمل على ذراعها سلة يابانية الصنع.

 

الآنسة (ص) جالسة وأمامها زجاجة (بيرة)؛ نصف ممتلئة، تقرأ في صحيفة مصورة، ما لبثت أن استبدلتها بأخرى.

 

السيدة (س):

  • مساء الخير (ايميلي). أراك جالسة هنا وحيدة ليلة عيد الميلاد مثل عزباء فقيرة.

الآنسة (ص):

ترفع رأسها، تؤمي، وتعود تستأنف القراءة.

السيدة (س):

  • أتدرين؟ كم يسوؤني أن أراكِ بهذه الحال! وحيدة، في المقهى، ليلة عيد الميلاد. إزاء حالتك هذه، يتملكني نفس الشعور الذي انتابني ذات مرة، عندما حضرتُ حفلة زفاف في مطعم في (باريس)؛ كانت العروس جالسةً تقرأ في صحيفة مصورة، بينما العريس يلعب (البلياردو) مع الشهود!. وقلت لنفسي: ياللعجب! طالما البداية هذه فكيف ستكون النهاية؟ أيلعب (البلياردو) ليلة زفافه.!

الآنسة (ص) تهم أن تبدأ الكلام … وهي تقرأ  الجريدة).

تستأنف السيدة (س) الحديث:

  • أتدرين ماذا يعني هذا؟ أنهما ليسا متفاهمين!

(دخلت النادلة، وضعت كوبا من مشروب الشوكولاتة أمام السيدة (س)، وخرجت).

السيدة (س):

  • هل تعلمين، (ايميلي)؟… أعتقد أنه كان بوسعك أن تفعلي أفضل مما فعلت لتبقي عليه. أتذكرين، أنا أول من قال لك ” سامحيه”، أتذكرين ذلك؟ لو أخذت بنصيحتي لكنت الآن متزوجة وللديك بيت. أتتذكرين عيد الميلاد ذاك – عندما سافرتِ لزيارة أهل خطيبك في الريف – كيف كنت مبتهجة بالسعادة في الحياة المنزلية، وهممت حينها باعتزال اعتزال المسرح للأبد. نعم عزيزتي (ايميلي)، المنزل هو الأفضل، أفضل شيء، والمسرح تاليا، أما الأطفال فهم …. حسنا، لم تدركي ذلك.

الآنسة (ص):

(ترفع رأسها وتنظر لها بازدراء).

السيدة (س) ترتشف قليلا من مشروب الشوكولاتة، ومن ثم تفتح سلتها، وتظهر هدايا عيد الميلاد .

السيدة (س):

  • الآن سوف ترين ما الذي اشتريته لخنازيري الصغيرة! (أخرجت دمية). انظري إلى هذه. إنها لــ (ليزا)! هاه. أترين كيف تلف عينيها وتحرك رأسها. إيه! وهذا مسدس مفرقعات لـ “ماجا”. (حَمَلَتْهُ وصوبته باتجاه الآنسة (ص).

الآنسة (ص):

(صدرت عنها إيماءة فزع مباغت).

السيدة (س):

  • هل أفزعتك؟ هل تعتقدين أنني أود أن أطلق عليك، إيه؟ أأطلق على روحي؟ لو أنت أردتِ أن تطلقي علي، فلن يكون في الأمر مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، لأنني كنت بمثابة حجر عثرة في طريقك، وأعلم أنك لن تنسي ذلك بالرغم من أنني بريئة تماما. مازلت تعتقدين أنني تآمرت عليك وأخرجتك من مسرح (ستورا)، ولكن ذلك ليس صحيحا رغم أنك تعتقدينه. حسنا. لا يهم ما أقوله لك طالما أنك لا زلت تعتقدين أني فعلت ذلك. (أخرجت زوجا من الأحذية  المطرزة بزهور التيوليب):

 

 

 

 

 

  • وهذه لنصفي الآخر. لقد  طرزتهما له بنفسي. إنني لا أحتمل زهور التيوليب، ولكنه يريدها في كل شيء.

الآنسة (ص): تنظر بسخرية وبفضول).

السيدة (س):(تضع يدا في كل حذاء):

  • كم هي صغيرتان قدمي (بوب)! ماذا أيضا؟ يجب أن تري كم هي جميلة خطوته. لم يسبق لك رؤيته منتعلا حذاءه.

الآنسة (ص)( تضحك بصوت عال).

السيدة (س) تضع يديها في الحذاءين وتمشي بهما على الطاولة:

  • انظري (ايميلي) عندما يستبد به الغضب، يضربُ الأرض بقدمه هكذا ويصيح: “تبا! هؤلاء الخدم الملاعين لا يمكن أن يتعلموا أبدا كيف يعدون القهوة. هؤلاء المعاتيه لا يعرفون يزيتون فتيلة المصباح بشكل جيد”! وعندما يقرس البرد قدميه، يقول” أوه . كم هما باردتان!، تلك الغبية لم تشغل الدفاية”. وضعت الحذاءين فوق بعضهما.

الآنسة (ص): (تصيح ضاحكة).

السيدة (س):

  • وعندما يعود إلى المنزل، ويظل يبحث دون جدوى عن حذائه – الذي تكون (ماري) قد وضعته تحت الخزانة- .يظل يصرخ….!

أوه…… ، ولكنها خطيئة أن تجلس امرأة هنا وتسخر من زوجها بهذه الطريقة لا سيما وأنه رجل لطيف وطيب. كان ينبغي أن يكون لديك زوج مثله.

 

(ايميلي). ما الذي يضحكك؟ . إنه مخلص لي.

 

أوه. أتعلمين؟ أنا متأكدة مما سأقوله لَكِ. لأنه أخبرني بأنه -علامَ تضحكين؟- بأنه عندما كنت في سياحة في النرويج، أتت تلك الوقحة (فرديريك) إلى المنزل ، تحاول إغواءه. هل تتخيلين شيئا أكثر وقاحة من هذا. (لحظة صمت). كنت سأفقأ عينيها لو أتت لرؤيته وأنا في المنزل (لحظة صمت). من حسن الحظ أن (بوب) هو من أخبرني بالأمر ولم أعرفه عن طريق الشائعات. (لحظة صمت). ولكن هل تصدقين؟ (فرديريك) ليست الوحيدة! لا أدري لماذا؟ غير أن  النساء مغرمات بزوجي. لعلهن يعتقدن أن له نفوذا لإيصالهن للمجتمع المسرحي نظرا لعلاقاته مع الحكومة. من يدري؟ لعلك أنت أيضا ممن كن يركضن خلفه! لم أكن أثق كثيرا بك. ولكني الآن متأكدة من أنه لن يصدع رأسه بالتفكير فيك. ويظهر أنك تحقدين عليه في أعماقك.

 

(بعد لحظة صمت. نظرت كل منهما إلى الأخرى نظرة حيرى).

 

السيدة (س):

  • تعالي لزيارتنا هذا المساء (ايميلي)، واثبتي لنا أنك لست منزعجة منا، نعم لست منزعجة مني على الإطلاق….. لست أدري، … اعتقد أنه ليس عدلا أنني جعلت  منك عدوة لي. ربما بسبب إنني وقفت حجر عثرة في طريقك. أو….  حقيقة لا أدري ما الذي جعلني أفعل ذلك؟

(لحظة صمت). الآنسة (ص) تحملق في السيدة (س) بفضول).

السيدة (س) (تفكر بعمق، وتقول):

 

 

  • معرفتنا يبعضنا كانت غريبة. عندما رأيْتُكِ أول مرة تملكني خوف منك، نعم خفت منك كثيرا. لدرجة لم أجرؤ على أن أغفل عنك؛ كنت دائما أجد نفسي قريبة منك، متى وأينما تكونين. لم أجرؤ أن أجعل منك عدوة، ولهذا صادقتك. ظلَّ التنافر بيننا يلقي بظلاله عندما أتيت إلى منزلنا، لأني أرى زوجي يضيق بك ذرعا، أزعجني حقا هذا الأمر. بدت لي الأمور مشوهة حينها، وكأنني اعتمر ثوب المرض. عملت كل ما في وسعي لأجعله ودودا معك- ولكن دون نتيجة- إلى أن أعلنت خطوبتك. ومن ثم توطدت علاقة صداقة  قوية بينكما، ولهذا بدا الأمر لأول وهلة وكأنكما تتجرأن فقط على إبداء مشاعركما الحقيقة نحو بعضكما البعض عندما تكونا في مأمن – وكيف سارت الأمور لاحقاً..!
  • من الغريب أني لم أشعر بالغيرة!

أتذكرين في حفلة عيد الميلاد تلك ، عندما تقمصت  على المسرح دور (العرابة)، طلبت منه أن يُقَبِلُكِ. وفعل ذلك. وشَعَرْتِ باضطراب شديد،  أما أنا فكنت كمن لم يلحظ شيئا. لم أفكر بالأمر حتى الآن. وحتى الآن لم أعد  أفكر فيه. (ترفع صوتها فجأة)

  • لماذا أنت صامتة؟ لم تنبسي ببنت شفه طيلة كل هذا الوقت، وتركتني أواصل الحديث. هاأنت جالسة هناك. وقد استدرجت عيناك مني كل هذه الأفكار التي …. مثلك مثل عذراء في شرنقتها.  مجرد أفكار. لعلها مريبة. قولي لي بربك… لماذا فَسَخْتِ خطوبتك؟ لماذا لم تعودي تأتين لمنزلنا؟ مار أيك أن تأتي إلينا الليلة؟

الآنسة (ص)  (تبدو وكأنها على وشك الحديث.).

السيدة (س):

صه . لا تقولي شيئا. لست في حاجة للحديث. لقد فهمت كل شيء. إن ذلك بسبب… بسبب.. وبسبب! نعم . نعم. الآن كل الحسابات متساوية. ياللعار! هذا هو السبب. لن أجلس معك على نفس الطاولة… (نقلت أشياءها إلى طاولة أخرى). نعم. هذا هو السبب الذي من أجله توجب عليَّ أن أطرز له حذاءه بزهور (التيوليب).وهي المهمة التي أكرهها. لأنك أنت مغرمة بذلك النوع من الزهور. هذا هو السبب. – (ترمي بالحذاءين على الأرض)- وهذا هو السبب الذي جعلنا نذهب إلى بحيرة (مالارن) في الصيف، لأنك لا تحبين المياه المالحة؛ وهو السبب الذي لأجله أطلق زوجي على ابننا اسم (ايسكيل)، على اسم والدك؛ وهذا هو السبب الذي من أجله أرتدي نفس الألوان التي تحبين. واقرأ لنفس الكتاب الذين تقرئين لهم. وأكُلُ نفس الوجبات التي تفضلينها. وأشرب ما تحبين أنت شربه– الشوكولاتة مثلا- وهو السبب …- يا الهي كم هو مزعج عندما أفكر به –  كل شيء. كل شيء يأتي منك إليَّ، حتى مشاعرك، تتغلغل روحك في روحي، مثل دودة في تفاحة.، تأكل وتأكل وتسرف في الأكل حتى لم يعد يبق شيئا ماعدا القشرة وعليها  قليل من غبار أسود. حاولت عبثا أن أتحرر منك. لكني لم أستطع؛ إنك تتمددين كحية وتسحرينني بعينيك السوداويين . شعرت بذلك عندما رفعت جناحي اللذين فقط سحباني للأسفل. تمددت في الماء  بقدمين مربوطتين. وكل القوة التي ناضلت بها من أجل البقاء في الأعلى دفعتني للأسفل حتى غصت إلى القاع، حيث كنت هناك؛ تتمددين مثلك مثل سرطان بحر هائل يقبض عليَّ بمخالبه. وهذا أنا هنا الآن. إنني أكرهك، أكرهك، وأنت فقط جالسة هناك يخيم عليك الصمت. نعم. صامتة وغير مبالية؛ غير مبالية عما إذا كان ما يضيء السماء الآن بدرا جديدا أم قمرا ذاويا. غير مبالية عمّا إذا كان الناس يحتفلون بعيد الميلاد أم بعيد رأس السنة؟ غير مبالية عمّا إذا كان الآخرون سعداء أم تعساء؟… ومن غير أن يكون لك أي قدرة على أن تبغضي أحدا أو تحبيه؟ إنك دوما مستلقية مثل (لقلق) يقف على حفرة فأر. لا تستطيعين حتى شم رائحة فريستك وجندلتها، كل ما بوسعك فعله هو أن تستلقي منتظرة إياها. إنك تجلسين هنا في هذه الزاوية من المقهى ­– هل تعلمين إنهم بسببك يسمونها (مصيدة الفئران)؟ أنت هنا تقرئين الصحف لتري عما إذا حلّت بإحداهن شيئا من نوائب الدهر وعاديات الأيام! أنت هنا لتري عما إذا ما تلقت إحداهن خطاب تسريحها من المسرح! من يدري لعلك تجلسين هنا وتحسبين لضحيتك القادمة وتخمنين عدد فرص المكافأة مثلك مثل ربان أمام سفينة محطمة. أيها المسكينة (ايميلي)، رغم ذلك، أشفق عليك، لأني أعلم أنك تعيسة، تعيسة كجريح، وغاضبة لأنك قد جُرحت. أنا لست غاضبة منك، لا يهم ما الذي أريد أن أكُوُنَهُ في قادم أيامي…. لأنك أضعف مني. نعم كل ما عملته مع (بوب) لا يزعجني. وماذا يعني لي بعد كل هذا؟ وأي يفرق يصنعه كوني اكتسبت عادة شرب (الشوكولاتة) منك أو من شخص آخر  (ترشف ملعقة من مشروبها) طالما أن الشوكولاتة مفيدة للصحة؟ وما الفرق إذا كنتِ أنت من علمني كيف ألبس بتأنق؟ فذلك ما جعلني أبدو أكثر جاذبية في عيني زوجي.  لذا فشلت أنت ونجحت أنا. حسنا لننظر للمسألة وفق دلائل مؤكدة؛ فبالنسبة لزوجي، فأنت قد خسرتيه تماما. حتما أنك راهنت على أنني سوف أتركه يوما ما. وأفعل مثلما ما فعلت أنت مع خطيبك وأظل في حسرة مثل ما أنت فيه الآن، ولكن وكما ترين لم أفعل مثلك. نفذت طريقتي بهدوء ،ولم أنفذ رغبة شخص لا يهمني أمره.. ومن قال أنه يجب أن يقع  حافر كل منا على حافر الأخرى. ولماذا يتوجب علي  أن أخذ فقط ما الذي لا يريده آخر؟ لو أخذنا بجميع الاعتبارات، فإنني في النهاية أقوى منك. أنت لم تأخذي مني شيئا، ولكنك أعطيتني الكثير. والآن أبدو وكأنني لص، فما أن استيقظتِ من سباتك، حتى وجَدْتِني أمامك أَرْفُلُ في نعيم كل ما فقدتيه. ولعلمك فهذا ما كان يجب أن يكون، وهو نتيجة حتمية لأن الأشياء تفقد قيمتها وتصبح عقيمة بين يديك. أنك لا تستطيعين أن تحتفظين بحب رجل بمجرد التطريز له بزهور (التيوليب) وبمجرد أن تكني له فيضا من العواطف – ولكني أستطيع؟ أنت لا تتقنين مهارة الاستفادة من المؤلفين الذين تقرئين لهم، مثلما ما أفعل أنا. وليس لديك (ايسكيل) صغير لتدلليه، على الرغم من أن اسم أبيك (إيسكيل)!

لماذا أنت دائما صامتة. صامتة. صامتة؟ ظننت أن ذلك قوة،  ولكن ربما إنه ليس لديك شيئا لتقوليه!  وربما أنك لا تفكرين أبدا في أي شيء؟

(تنهض وتلتقط الحذاءين):

  • إنني ذاهبة الآن إلى المنزل وسآخذ معي الحذاءين المطرزين! أنك لست قادرة على أن تتعلمي من أحد، لا تستطيعين الانحناء ، ولهذا انكسرت مثلك مثل شجيرة قمح يابسة، أما أنا فلن انكسر مثلك! أشكرك (ايميلي) على كل الدروس الجيدة التي تعلمتها منك. أشكرك لأنك علمت زوجي كيف يحب. الآن أنا ذاهبة للمنزل لأحبه. (تخرج).

(النهاية).

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

الأمهات باعتبارهن صانعات للموت

 

download.jpg

الأمهات باعتبارهن صانعات للموت

للكاتبة: كلوديا داي – باريس ريفيو

ترجمة: أمينة الحسن

كتبت المسودة الأولى من روايتي (heartbreaker) في عشرة أيام من الجنون، من شهر أغسطس من العام ٢٠١٥م، حينها كان يغطي أذني اليسرى ضمادا بحجم قبضة اليد، يظهر في أسفله أثر قٌطُبِ زرقاء داكنة اللون. عظمي الركابي في الأذن والذي يعتبر أصغر عظم في جسم الكائن الحي، حيث يتم شحنه لتوجيه الصوت في الأذن الوسطى، قد تعطل.  لدي الان خطاف رقيق من التيتانيوم يرفرف في رأسي. وبطريقة خارقة أشبه بالمعجزة عاد سمعي.

اصطحب زوجي ابنينا في رحلة طويلة إلى كوخ صغير على الساحل الشرقي من كندا. ليس باستطاعتي حمل الأشياء الثقيلة ، و عليَ أن أحافظ على نبضات قلبي بمستوى منخفض ـ ولم يكن بإمكاني غسل شعري ثم  تسريحه في عقدة لامعة بالزيت في قمة رأسي. أغلقت هاتفي الخلوي ، و فصلت الهاتف الأرضي و الانترنت كذلك . هذه كانت خطتي بعيدة المنال . ألم يكن جونثان فرانزين يصب الاسمنت في منفذ الذاكرة الخاص به (USB) ، و يعمل في مكتب مستأجر، مفروش بالسجاد… مكتب كأنه فم جهنم! يعمل فيه حتى ينتهي. فأي شخص أمسى اليوم؟ نعم إنها الحرية.

 

لقد كان زوجي مدركا بأن رواية تنمو باضطرام داخلي. و الطريقة الوحيدة لكي أهدأ .. أن أكتبها ، و لكي أكتبها فإن السبيل الوحيد لذلك أن أكون وحيدة ، و لم أكن وحيدة خلال عقد من الزمن ، لأنني أم ، و لا يمكن للأم أن تكون بمفردها قط ، عندما تغسل ، عندما تنام ، عندما تسخط ، هي ليست بمفردها . هذا هو  ما يكون عليه حال الأمهات .  الأطفال يتعلقون في ملابسك ، يعصفونك بالأسئلة .  إنهم مثل النزاع المسلّح ، مثل الحب الجارف ، مثل نهاية العالم ،  يستحوذون على كل المساحة المتاحة فيك .

و أخيرا تم فحص سمعي أثناء حملي بطفلي الثاني ،

و قد لا أتمكن من سماع الكلمات الأولى المبكرة لإبني العزيز ( و سوف أعلم  قريبا أن مرضي هو ذاته الذي أصاب (بتهوفن) و (هوارد هيوز) ، قد تفاقم مع الحمل ). دخلت كابينة الاختبار، غرفة قاتمة من المقابض و الأسلاك ، و أُوصِد الباب الثقيل خلفي .جلست ثم وُضِعت سماعات الرأس الضيقة جدا على رأسي ، جمهوري كان شخص واحد ، أخصائية السمع، وكان لها وجه المبشرات، و قد أثقلته بالمكياج. نظرت ناحيتي من خلال الزجاج السميك. و كما أرشدتني، كنت أضغط على زر جهاز التحكم كلما سمعت نغمة أو كلمة . و يمكنني أن أقول بان هناك ثغرات كبيرة بين ضغطاتي، مقدارا كبيرا من الحياة يجري خارج تجربتي فيها ، الساعة على الحائط بدأت في العد التنازلي ، تخيلت غرف الإعدام للسجناء ، لسنوات عديدة من حياتي ، كما لو أن الصوت كان يعيش على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان . و في نقاشاتي مع الآخرين ، أتواصل بشكل جيد جدا بالإشارات ، أعرف تماما ما يعنيه ذلك ، يبدو أن هذه إشارة كافية لما أعانيه.

حين أكون في المنزل يمنحني الصمم تركيزا هائلا  ، و كأن لدي قدرة خارقة على الاستغراق التام . إنه يحيطني بخصوصية عميقة ، و لكن ما أن أصبحت أما ، فإن ذلك ليس أمومي  و أنا أتحمل مسئولية طفل ضعيف و غامض ، لأن صممي يشكل خطرا الآن ،  ( السيارات القادمة ) قالت أخصائية السمع ، و هي تومئ ناحية طفلي الذي تتدلى قدميه من الكرسي في الزاوية المقابلة لمكتبها ، لكنني لست بمفردي  كي أتمكن من  التعبير عن انزعاجي من كلامها . بعدما خرجت من كابينة الاختبار نظرت إليّ الاخصائية بشيء من الحب قائلة ” لا أعرف كيف تعاملتِ مع هذا الأمر كل تلك الفترة الطويلة، لابد وأنك مجْهدة ” كل ذلك فهمته من خلال قراءة الشفتين.

غادرت المبنى الأبيض الكائن في أحد الضواحي وبحوزتي مجموعة تجريبية من المساعِدات السمعية، وحينما أوصدت باب سيارتي، ذهلت من الصوت. أدرت المفتاح لتشغيل السيارة، فإذا بصوت المذياع يهدر، اندفعت ناحية زر التحكم بالصوت، كان الصوت أشبه بالهجوم: طائرة بلا طيّار، ثلاجة، خطوط كهرباء، حركة مرورية، كنت باستمرار أشعر بالدوار هنا، متأهبة للدخيل، وكان الصوت هو الدخيل بذاته، بعد أربعة أشهر انتزعت مساعدِات السمع من أذني وأنجبت طفلي الثاني في أقل من ثلاث ساعات، كنت بحاجة لأن أكون على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان. (بالمناسبة، إنه صبي) قالت لي القابلة بعدما عدت إلى الغرفة، إلى العالم! كان جسم الطفل حارا على صدري، لم أفكر أن أسأل عن شيء، كنت أريده، أريده فقط.

بعد خمس سنوات، ها أنا أعيش في جسد ذي سمع، لم أعد أعتمد على الأدوات الصغيرة التي أخفيها تحت المخبأ السميك في شعري، إنني أكتب ـ أكتب بسرعة الحيوان الملاحق من قبل حيوان أكبر منه، وذلك الحيوان الأكبر هو الوقت. ها كم مخططا عموديا لأم فنانة، الخط الأول يمثل الحجم المتزايد من التعبير والحاجة إليه، والخط الثاني يمثل سرعة تبدد الوقت.

أن تكتب فهذا بمثابة أن تكون في حوار مع نفسك، أن تحافظ على كينونتك، لذا تستطيع أن تكتشف سلسلة من الأفكار والمشاعر، إن العدو لهذه العملية هو الاقتحام. الأطفال. بكل ما فيهم من جمال ووطيش وعبقرية غريبة. يبدون كمقتحمين لمسار نيزك.

حين تصبح المرأة أما، تحدث بداخلها تغييرات عديدة، وكأنها واقعة تحت تأثير سحر، تفقد معها حريتها. في كتابها A Life’s Work تفترض (راشيل كوسك) أن الأم تنقسم في اللحظة التي تشاهد فيها إنسانا آخر يخرج من جسدها، حيث أن تلك اللحظة ذاتها، لا تعد فيها الأم قادرة على أن تصبح وحيدة، ولا تحقق الوحدة بداخلها. كتبت كوسك ” الولادة ليست مجرد ما يفصل النساء عن أنفسهن، بل إن عليهن أن يتفهمن التغيرات المتشكلة بداخلهن، شخص آخر يبقى حيا بعد الولادة في نطاق وعيهن ومستحوذا عليه، فحينما تكون الأم مع ذلك الشخص الآخر تكون ليست هي، وحينما تكون بدونه تكون ليست هي أيضا”.

 

إن العمليات الذهنية للأم، إدراكها، انحرافاتها، تشتتها، حبها لذاتها، يصبح كل ذلك مغمورا في روتين التربية. يندفع أمام دماغ الأم شريط بالأشياء التي يجب أن تتذكرها: الملعقة، ثوب السباحة، الحليب، التطعيمات، وقت الدخول ووقت المغادرة، ٣:١٥. هذه القائمة تعبّر عن الاهتمام. إنها شكل من أشكال الحب، أخبرتني امرأة حكيمة ذات مرة، أن الحب هو الشعور الذي تخلقينه لدى الآخر، الحب هو الشعور الذي تجعلين طفلك يحسه. إنك تنجزين مهام القائمة – القائمة لا تٌقهر، بل تبقى في تزايد مستمر.

 

في روايتها الأخيرة بعنوان (الأمومة) تناقش (شيلا هايتي) ما إذا كان يجب عليها أن تصبح أما، تطرح جميع الأسئلة الممكنة في سؤال واحد. وتتساءل في الثلة الأخير من الكتاب: لكم أتمنى أن أصبح كاتبة جيدة كفاية – أن أعبر فيما أكتبه عما قد يشعر به الإنسان – فإذا لم تكن لدي تجربة الأمومة؟ إذا لم تكن لدي تجربة فيما اعتبرته بشكل متزايد مؤخرا تجربة محورية في الحياة؟ بالنسبة لي فإن الجواب يعتبر منعطفا يشكل حياتي، إذن الجواب لا. يجلب الأطفال معهم الهدايا الغامضة، والمعلومات الجديدة، مع أولادي تمخضت كل مشاعري المستقرة والمضطربة. أخترت الولادة الطبيعية كي أجرب، لأنني أردت أن أعرف ماهي الولادة كي أكتب عنها بعدما نجوت منها.

أنا مثل (هايتي) ولكن على الضفة المقابلة للشاطئ، بالأمومة عملت على خدمة مهنتي الكتابية.

 

أن تكتب رواية فهذا يعني أن تزيح الستار عن ضائقة أو مناقشة أمر ما داخلها. وللقيام بأكثر أمر شخصي وبشكل أدبي – كتبت روايتي (heartbreaker) لأنني قبل عقد من الزمن، حينما كنت حاملا للمرة الأولى، دخل الموت في الحمل، كانت صدمة، وصدمة مريعة، أقحمت نفسها بقسوة داخلي، كان عليّ أن أقلبها بين يديّ مرارا وتكرار، اضطررت للتحديق فيها مليا، لأرى ما ستكشف عنه. ثم أصبحت الصدمة بحجم رواية!

لم ينذرني أحد بأن الموت يقدم مع قدوم أي طفل، سوف ينسل الموت إلى ذهنك، ويحيط بجسدك المتنامي، وبمجرد أن يغادره طفلك، يحيط به الموت أيضا. سيكون من الخطورة أن تحولين انتباهك بعيدا عن طفلك – هكذا يجعلك حضور الموت تشعرين.. لطالما أصبحت المحادثات التي أجريها مع أمهات جدد في حدود ضيقة لا تخرج عن هذه القائمة: البطانية، الحفاظات، والكريمات. كل محادثة أجريها تكون محادثة خاطئة ـ لم تهنئني أي أم لا أردفت: إن أكثر الأفكار سوداوية تستحوذ عليّ، وأنت؟

فكرت بيني وبين نفسي، من أجل ذلك لا تنام الأمهات. لأجل ذلك لا يشحن الأمهات بنظرهن بعيدا عن أطفالهن، حتى حين تكون مكسورة القلب، تعيد الأم نفسها إلى الحياة.

كنت أعرف أنني حاملا حين شممت رائحة احتراق الغراء الذي يربط الشرائط الخشبية ببعضها في غرفة النوم بشقتنا، حينما ذكرت هذه التفاصيل لأحد أصدقائنا لاحقا نظر إلى بطني المستدير قائلا: ذلك أشبه بوضع الفريسة والضحية، جسدك هكذا يجب أن يكون يقظا للأخطار الجديدة أو ما شابه.

كتبت روايتي في كل غرفة فارغة وجدتها ويكون فيها باب يمكنني قفله. كانت هذه الطريقة التي يمكنني بها إسكات تدفق الذكريات وأحاديث النفس. فتح لي الأصدقاء شققهم وأكواخهم، وغادرت أنا بيتي وعملت في كل مكان ستة أيام، ثمانية أيام، أي وقت أختلسه من حياتي. ثم أعود إلى ولديّ الطويلين، وغرف النوم التي بدت خربة! كتبت وكـأنني في سباق سرعة (المسافات القصيرة). إلى حد بعيد ك(جون براين) وهو يدخل غرفة في ( فندق ناشفيل) مع عشرة صناديق من أوراق مرصفة بكلمات الأغاني وثلاث قيثارات، وقيثارة الكلال (البرتغالية) ثم يغادر بعد ذلك بأسبوع وقد انتهى من تأليف ألبوم (شجرة الغفران). إنه يتوجب على المرء أن يحلم كما يحلم نجوم الروك.

وبالرغم من انهماكي، يظل لدي رابط إنساني بالمنزل، كنت أتصل كل ليلة وأستمع إلى صوت ولديّ السعيدين الوالهين، لتأكيد وجودهما، وبالتالي وجودي.

 

في كتابها ” The Perfect Nanny ” تأخذنا ليلى سليماني بالحديث عن الخوف من الموت حتى منتهاه. تبدأ روايتها بهذه الجملة المرعبة ” إن الطفل قد مات ” إن خوف الأم يتركز حول أطفالها. كما يتكشف لنا من تلك الكلمات الأربع الأولى القاسية، أن الأطفال يتعرضون للمخاطر حينما تكون الأم بعيدة عنهم.   ولقد استلهمت سليماني حكايتها من قضية المربية البريطانية( لويز وودوارد) البالغة من العمر تسعة عشر عاما، والتي اتهمت بقتل الطفل الذي ترعاه. وطوال فترة محاكمتها لم تكن كراهية عامة الناس موجهة( لوودوارد)، باعتبارها القاتلة، بل إلى أم الطفل العاملة! التي يُنظر إلى غيابها على أنه السلاح الحقيقي لقتله. ونقلت سليماني عن محامي (وودوارد)  ” إذا لم تكن تريد حدوث شيء لأطفالك فعليك أن تتولى رعايتهم بنفسك “. وعلى هذا الاتهام ردت سليماني قائلة: أعتقد أن ذلك أمر قاس للغاية، أن تقنع الناس بفكرة أن تعهد بغيرك لرعاية طفلك أمر سيء، إنها أداة لإقصاء النساء – حيث تنتهي هذه القضايا غالبا بـ ” حسن إذن على المرأة أن تبقى في المنزل “.

وترى الكاتبة (سامانثا هانت) الوجهين المشؤمين ” الأمومة والموت” كوجهين يشكلان العملة المعدنية النسوية.

 

إذا ما تصورنا بأن الموت كجزء من الحمل وتربية الطفل، فقد نتعامل مع النساء بصرامة أكثر، في مقابلتها في مجلة النيويوركر حول قصتها (قصة حب) تقول هانت: إن أكثر ما ينفرني ويغضبني من التمييز الجنسي هو الانتقائية، وتبسيط المرأة في علامات أنثوية محددة. حينما أصبحت أما لم يقل لي أحد ” لقد صنعت الموت، أنت تصنعين موت أطفالك ” في هذه الأثناء لم أستطع التفكير في أي شيء آخر، من المخيف أن نفكر بأن الأمهات صانعات للموت، لكن من المؤكد أن ذلك يمنحهن المزيد من القوة والتعقيد أكثر ما نرى عادة.

” الأمهات باعتبارهن صانعات للموت “صورة روجت لها الثقافة بطريقة  معاكسة بقوة . إن الحمل يشبه الاغتسال تحت ضوء الشمس، وضوء القمر، وتحت ضوء الله، فما هو أكثر جمالا من امرأة حبلى، وهي منجزة الوعد الخالص؟ عقلها مشرق ونقي بينما يتتبع الطفل البريء كتب العلوم الغريبة حول تشكل أظافر قدمه بداخلها.

تحتوي الكتب الأكثر شيوعا عن الحمل ذات الأغلفة المرسومة بالباستيل – مؤكدة على أفكار الأم المرسومة للباستيل، النساء اللواتي رسمن بخطوط باهتة في وضعيات مادونا على كرسي هزاز في ميدان حرب من قصص الخيال العلمي، فيه الوردي والأصفر والأزرق الباهتين. إن جسد المرأة الحامل يجب أن يعود بعد الولادة في أقرب وقت ممكن إلى أبعاده السابقة قبل الحمل، وهذا الوجوب ينطبق على عقلها أيضا. ويجب أن يتوقف أي ذكر للحادثة الصادمة والساحقة التي تملأ روح الأم الجديدة. يجب أن يتوقف أي ذكر للرواية التي تتوق لكتابتها. يجب أن يتوقف أي ذكر للموت.

رابط النص الأصلي :  

https://www.theparisreview.org/blog/2018/08/14/mothers-as-makers-of-death/