نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات، غير مصنف

نوافذ الحب لجون شتاينبك

هالة أسامة

ربما يشتهر جون شتاينبك الحاصل على جائزة نوبل بكتبه شرق عدن وعناقيد الغضب وفئران ورجال، ولكنه كان كذلك كاتبًا ذا إنتاجٍ غزيرٍ من الرسائل. يُعدّ كتاب ‹‹حياة شتاينبك من خلال رسائله›› سيرةً ذاتيةً بديلةً له تعرِض لحوالي 850 رسالة من رسائله الصادقة العاطفية لأسرته وأصدقائه ومحرره ومجموعةٍ من الشخصيات العامة المؤثرة.

من بين هذه المراسلات رسالة رائعة كتبها لابنه الأكبر توم عام 1958 ردًا على خطابه الأخير الذي يعترف فيه بوقوعه في غرام فتاةٍ تُدعَى سوزان في المدرسة الداخلية. تتسم كلمات شتاينبك بالحكمة والحنان والتفاؤل والذكاء بما يجعلها تُحفَر في قلب وعقل كل إنسان. وإليكم نص الرسالة:

نيويورك

10 نوفمبر 1958م

عزيزي توم

لقد تلقينا خطابك صباحًا، سأرد عليك من وجهة نظري وسترد إيلين بالطبع من وجهة نظرها.

أولًا: إذا كنت واقعًا في الغرام؛ فهذا أمر جيد، بل هو أفضل ما يمكن أن يحدث لأي شخصٍ، لا تسمح لأحد بالتقليل من شأنه.

ثانيًا: هناك عدة أنواع من الحب؛ أحدها أناني ولئيم وجشع ومغرور يستغل شعور الحب للإحساس بأهمية الذات، وهذا هو النوع القبيح المُحبِط. والآخر يفيض بكل ما هو جيد؛ يفيض بالطيبة والتفهم والاحترام؛ لا أعني فقط الآداب الاجتماعية ولكن الاحترام الأعمّ وهو الاعتراف بتفرُّد الشخص الآخر وقيمته. قد يجعلك النوع الأول من الحب مريضًا وضعيفًا، أما الثاني فسيمدّك بالقوة والشجاعة والخير والحكمة التي لم تعرف أنك تتمتع بها.

تقول أنه ليس حبًا طفوليًا، إذا كانت مشاعرك عميقةً للغاية فهو بالطبع ليس حبًا طفوليًا. ولكني لا أعتقد أنك كنت تسألني عن مشاعرك، لكنك أردت أن أساعدك لمعرفة ما عليك فعله، ويمكنني أن أقوم بذلك.

افتخر بمشاعرك وكن سعيدًا وممتنًا لها. ستكون موضوع حُبِّك الأفضل والأجمل، فحاول أن تكون مثلها.

إذا أحببت شخصًا ما فليس هناك ضرر من التصريح بذلك، ولكن عليك أن تتذكر أن بعض الناس يخجلون للغاية وأحيانًا عليك وضع ذلك في الاعتبار.

للفتيات طرقهنّ في معرفة شعورك أو الإحساس به، ولكنهنّ عادةً ما يحببن أن يسمعن تعبيرك عنه أيضًا.

قد يحدث في بعض الأحيان ألَّا يكون شعورك مُتبادلًا لسببٍ أو لآخر، ولكن هذا لا يجعل شعورك أقل قيمةً.

وأخيرًا، أعلم شعورك لأنني أشعر به، وأنا سعيد لشعورك به. سيُسعدنا لقاء سوزان، فهي مُرحَّبٌ بها جدًا، ولكن ستقوم إيلين بالترتيبات اللازمة لأن هذا تخصصها وستسعد بذلك، فهي تعرف الحُب أيضًا وربما قد تساعدك أكثر مما أفعل.

ولا تقلق بشأن الخسارة، إذا كان الأمر مناسبًا سيحدث، ولكن عليك ألّا تتسرع، والأمور الجيّدة لا تختفي.

مع حبي.

نشرت تحت تصنيف مقال

السويدي هاري مارتنسون… من التشرّد الى الشهرة

صاحب جائزة نوبل: السويدي هاري مارتنسون… من التشرّد الى الشهرة
بيان الكتبنشر في الشروق يوم 18 – 06 – 2005
ينتمي الكاتب السويدي هاري مارتنسون الى الشعراء أصلا وليس الى الروائيين ولكنه مع روايتين من صنف «الشوك يزهر» الصادرة عام 1935 و»الرحيل» الصادرة عام 1936، يمكن القول انه روائي من طراز متميز. امتازت كتاباته بالحديث عن عالم من الفقراء، ملون بكل ألوان طيوف الفقر والحرمان في عالم تتنازعه الحروب ويموت فيه الناس لأتفه الاسباب. ولد الكاتب السويدي هاري ادموند مارتنسون في 6 جوان عام 1904 في مدينة صغيرة بجنوب السويد. عاش طفولة بائسة بعد وفاة أبيه حيث اضطرت أمه الى الرحيل الى الولايات المتحدة بحثا عن الثروة. فتركت أبناءها خلفها وكأنها نسيتهم تماما.

كان هاري مقيما في ملجأ للعواجيز. وعرف في سن مبكرة العمل الشاق. وعانى من المتاعب مع السلطات. وحاول أن يعثر دوما على أمه التي هجرته وهو صغير السن. فسافر كثيرا وعرف العالم المتسع أمامه. والتشرد والضياع. وعند عودته الى السويد في عام 1929 كان قد تأهل كي يكون كاتبا وتزوج من امرأة تكبره سنا. لكنهما انفصلا بالطلاق في عام 1940 لاسباب ايديولوجية. وفي عام 1949 اختير عضوا بأكاديمية ستكهولم. ومات في 11 فيفري 19788 بعدما حصل على نوبل للآداب عام 1974.
يرى عدد كبير من النقاد أن أعمال مارتنسون تنقسم الى قسمين. الاول خاص بالنثر، والثاني خاص بالشعر. وهو في المقام الاول شاعر. ففي بداياته الادبية عام 1929، وفي كتابه «سفينة الشبح» ثم في «خمسة شباب» بدا أن نثره مكتوب كأنه الشعر…
وفي الفترة بين عامي 1932 و1933 كتب مارتنسون كتابين من النثر تحت عنوان «رحلات بلا هدف» و»وداعا للضجيج» وهو يرى ان السفر، مثلما مارسه بقوة البحار، هو الخروج بالرأس عبر حدود الجغرافيا، ومن أجل الانغماس في الاجساد، «نحن بعيدون عن المغامرات العاطفية وعن «بحار الجنوب» وكتب رحلات مارتنسون تسبح في أماكن مفقودة حيث لا يوجد شيء يمكن رؤيته. وفي أغلب الوقت فإننا لا نطأ فوق الارض» وذلك مثلما كتب الناقد بوكيه. فلم يكن الشاعر يبحث عن الاماكن، بل عن البشر. ولذا كان شاعرا له وجهة نظره في العالم.
كثيرا ما كانت هناك منافسة بين الشاعر، والكاتب النثري في داخل مارتنسون. وكان الشاعر يكسب دوما. ففي عام 1934 نشر ديوانه «طبيعة» وفيه حاول أن يقبض بيديه على الطبيعة.
وفي عام 1936 سجل سيرته الذاتية تحت عنوان «رحيل» والتي تعتبر من أجمل ما كتب في السير الذاتية. حيث تحدث عن رحيل أمه. والآلام التي تراكمت على ابنها الصغير تبعا لتلك الفعلة. ويتضمن الكتاب مشاهد مؤثرة منها دخول هاري الى ملجأ العواجيز لاول مرة. ثم يتحدث عن مرحلة النضج وممارسته للعديد من الاعمال. وانتهائه بالوصول الى البحر، كي يركب احدى السفن التي ستقله الى الولايات المتحدة من أجل البحث عن أمه.
وتتابعت كتب مارتنسون النثرية. ومنها «أفكار» عام 1937 و»وادي الصيف» عام 1938. ثم «سهولة وصعوبة» عام 1939. وفيها امتزجت الفلسفة بوصف الطبيعة. ثم تتابعت أعماله النثرية الاخرى ومنها «الجاكوار الضائع» عام 1941.
و»الواقع حتى الموت» وفي عام 1943 حضر مؤتمر الادباء في موسكو، وفيه ألقى كلمته التي اعتبر فيها ان الكاتب هو «مهندس الروح».
وقد نضجت قريحة الشاعر أثناء الحرب العالمية الثانية. وبدت في أشعاره وقدرته على التوغل في أعماق البشر، من خلال الحكمة، والسيطرة على ملذات الذات، من خلال ديوانه «اليزيه» المنشور عام 1945.
نشر مارتنسون روايته «طريق كلوكريك» في عام 1948، وفيها سيرة ذاتية أخرى حول سنوات التشرد. فالبطل بول يجوب مدن السويد وهو كتاب غني بالتجربة الانسانية، ففي مثل هذه الرحلات المتشردة يمكن للمرء أن يقابل كافة أجناس البشر، من أعماق المجتمع. ومثل هذه التجربة تعلم الانسان كيف يكون حرا، غير قلق على مكان نومه. ولا على طعامه الضائع.
وفي عام 1956 نشر ديوانه «انيارا» وهو أقرب الى الشعر المستقبلي، حيث تخيل صاروخا يضيع في الفضاء، ثم يتحث عن علاقة الانسان بالآلة، ويحذر من الدمار الذي ستلحقه القنابل الذرية بكوكب الارض.
وقد تتابعت دواوين مارتنسون ومنها «أعشاب التول» عام 1971 وهو آخر دواوينه.
تمثل رواية الشوك يزهر قصة طفولة هاري مارتنسون مطلع القرن العشرين في سويد فقيرة مختلفة عن الفردوس الاجتماعي الذي انتشرت صورته في السنوات الاخيرة حيث أولاف توماسون يعود الى تسمانيا بعد احدى عشرة سنة أمضاها في الترحال عاملا في جز صوف الاغنام، وكان يريد العودة نهائيا للاستقرار في وطنه وافتتح مؤسسة تجارية قريبة من بعض المناجم وازدهرت أعماله وأنجب عدة أبناء من هانا زوجته الجميلة الطامحة لحياة أكثر ثراء.
غير أن الامور تراجعت فجأة وضرب الفقر بعصاه أفراد الاسرة فعاد الأب للهجرة ليموت بيعدا واختارت هانا الرحيل الى كاليفورنيا بحثا عن الثروة تاركة أطفالها خلفها ومن بينهم مارتان الصغير الذي هو ذاته هاري مارتنسون، حيث يعيش يتيما وقد فقد حنان الأم ورعاية الأب وعطفه، فكان يخرج راكضا بحثا عن أمه معتقدا أنها في مكان قريب، لكن دون جدوى وقد قيض له آنذاك أن ترعاه أخته الكبرى التي فقدها ذات يوم بعدما سلم الى البلدية ليتحول من مارتان أولاف توماسون، الى مارتان ربيب البلدية.
ربيب البلدية مؤسسة للمعونة الاجتماعية في السويد، فقد كانت البلدية تتولى أمر الذين لم يكونوا يستطيعون إعالة أنفسهم كالايتام والعجائز، ولكنهم يضمنون نوعا ما، للذين كانوا يقبلون إيواءهم بأدنى النفقات. وكان هذا الالتزام يعقد لمدة سنة بين المزارع وبين الكنيسة، وهكذا يجد الطفل أو العجوز نفسه مرغما على العيش مع أسرة جديدة ومنزل جديد كل سنة، وقد كانت البلدية فيما يتعلق بالاطفال تحرص على أن يتابعوا تعليمهم وأن يتلقوا تربية جيدة.
مارتان ربيب البلدية كان واحدا من هؤلاء الاطفال وقد تنقل من مزرعة الى أخرى، ولكنه أمضى في مزرعتي تولين ونوردا أطول فترة ممكنة لانه لم يطق في المزارع الاخرى البقاء أكثر من أشهر قليلة يركض بعدها على الطرقات بحثا عن أمه المهاجرة الى كاليفورنيا.
في تلك المزارع كان مارتان شاهدا على حياة الفقر في السويد مطلع القرن العشرين، صحيح أنه كان ينال كفايته من الطعام وأيضا ينال قسطا من التعليم لكنه كان يضطر للعمل في المزارع حتى الارهاق مقابل تلك الضيافة وهي نوع من الاحسان تجاه المجتمع حيث أن الكنيسة تفرض هذا النمط من الاهتمام بالاطفال والعجائز.
كان مارتان قد بلغ العاشرة من عمره عندما كان يعمل خلف المنزل في تشذيب الارض وقد فاجأه عجل صغير، فطرده مارتان إلا أن العجل عاود العبث بما أنجزه مارتان فشعر الصبي بغضب شديد وضرب العجل برفشه مما أفضى الى موته، كان هذا أول رعب في حياة مارتان الذي سارع الى سحب العجل بعيدا ومن ثم حفر له حفرة عملاقة طمره فيها، وكان ذلك أول عمل يقوم به خارج حدود التربية والتعليم وعندما سئل مساء ذات اليوم اذا ما كان قد شاهد عجلا صغيرا قال انه لم يره، وقد تطوعت صبية أكبر منه قليلا تعيش بنفس الطريقة «ربيبة بلدية» بالقول لقد شاهدت بعض الغجر يعبرون في الانحاء فاعتقد الجميع أن الغجر قد سرقوا العجل.
تعلم مارتان كثيرا من الحياة في المزارع وحفظ كثيرا من الاسرار في الحقول ، وقد رافق عدة أشخاص في سنه جميعهم من الذين يعيشون بذات الطريقة لكن الصبي الذي بلغ منتصف الحادية عشرة من العمر تعلق بفتاة تدعى الآنسة تيرا في وقت كانت الشائعات تتناقل نبأ اكتساح وباء التيفوئيد للمنطقة، وكان من نصيب الآنسة تيرا أن يصيبها المرض الذي خطف شبابها ومن ثم خطف معه قلب مارتان الصبي اليافع الذي لم يعرف شيئا من ضروب السعادة، متنقلا من مزرعة الى أخرى ومن حياة الى حياة، لكن حبه الاول وتفتحه الاول وزهرته الاولى خطفها الموت وكان بينه وبين السعادة خصومة أزلية.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

رسالة من راعي الخنازير

للكاتب الانجليزي: جون وين

ترجمة :

حسن  الجوخ

 ليس من اللائق الآن أن يُدلل بـ (إيكي), فهو في سبيله أن يصبح صبيا, يستغني تماما عن الحمالات المطاطية التي تقترن عادة بفترة الطفولة.

الآن يدعى (إريك), وما كان هذا إلا أحد التغيرات التي تحدث بمرور الأيام, لم يكن تغيرا مزعجا, بالطبع لم تكن أمه تعني هذا النوع من التغيير حينما وعدته (لن يحدث أي تغيير).

كان كل شيء يسير كالمعتاد سوى غياب أبيه الذي حل محله (دونالد), كان (إريك) يعرف (دونالد), وشعر ـ في البداية ـ بارتياح لوجوده, برغم أن (إريك) كان يبدو قلقا حينما يأوي إلى فراشه ليلا, يفكر في الأمر بلا هدف, مجيء (دونالد) إلى منزلهم يعني ذهاب أبيه, لماذا يجب أن يكون ذلك?!, فالمنزل واسع, وليس له إخوة, حتى لو كان له, لما اعترض على مشاركتهم حجرة نومه مادام ذلك يوفر غرفة لأبيه.. لماذا يحدث ما يحدث?!

.. كانت هناك بالفعل غرفة شاغرة بالمنزل, لماذا يفعل الكبار كل شيء بمثل هذا السخف والجنون?!.. دائما يقولون له: (لا تكن سخيفا, وهم السخف نفسه, وبشكل غير مجد على الإطلاق, لا يضحكون, لا يغنون, فقط سخفاء وحزانى, يصعب فهم إيحاءاتهم, فإذا أعطوك شيئا يستحيل أن تعرف كيف تتقبله, فقد أحضر لي والدي قطارا منذ أسابيع قليلة, وعلّمني كيف أوصّل القضبان, وكان هذا يعني أنه سيبقى معنا, فأي شخص عاقل يشتري قطارا أو يركبه لابد أن يفهم أن ذلك إشارة للرحيل, حتى لو كان في صورة هدية.

كان (دونالد) يحسن بالفعل معاملة القطار ـ (إريك) نفسه يعترف بذلك ـ, فقد اشترى جسرا للقطار وعددا من العربات.. ربما كان ذلك يعني أن (دونالد) ـ هو الآخر ـ على وشك الرحيل, ولكن هذا الأمر لم يكن ممكنا بنفس الدرجة, فقد اعتادت الأم أن تكون قريبة من (دونالد) طوال الوقت, كانت تحتضنه من خاصرته, تود أن يظلا جزءا لا يتجزأ.

هو الآن لم يعد (إيكي), بل (إريك).. صار كبيرا.. ربما كان الخطأ خطأه, كل شيء بدا أمامه غريبا, لم يمارس حياته بما يتناسب وبناطيله الرمادية.. كان فعلا يخشى أشياء كثيرة ولا يسأل, متوهما ألا تكون إجاباتها بسيطة.. هل هو الخجل?.. ربما.

مثلا “راعي الخنازير” تُركت قضيته معلقة في ذهن الصبي إلى حد بعيد, ولم يشك واحد من الكبار أن راعي الخنازير يخشاه الصبي, ربما كان (إريك) نفسه سلبيا, لو أنه بدلا من أن يتجنب راعي الخنازير بكل ذلك الحرص خرج ونظر نظرة شجاعة, تاركا الباب الخلفي مفتوحا بحيث يمكنه الإسراع إلى الداخل حيث دفء الأمان لانتهت المشكلة في وقتها.

على كل ربما كان من الأفضل ألا يرى (إريك) راعي الخنازير إلا حينما يكبر.. وهاهوذا قد تجاوز السادسة, إلا أن راعي الخنازير كان حتى تلك اللحظة أحد الأمور المحيرة ـ في نظره ـ فكثيرا ما حدث نفسه: لم يطلب منه أحد أن يحترس من راعي الخنازير!.. لم يحذره أحد منه.. لابد أنه غير مؤذ, لأنه حين يقترب من شيء يؤذي مثل المرور في الشارع الرئيسي يجد الناس يسدون له النصيحة: (يجب أن تنظر جيدا إلى كلا الجانبين), إلا أن هؤلاء الناس أنفسهم عندما يصلون إلى راعي الخنازير فلا أحد يذكره بخير أو شر, تقول له أمه أحيانا: (أفسح دعني أر راعي الخنازير, سيصل حالا, ولم أنته بعد من أي شيء, حينئذ يثلج العمود الفقري في ظهر (إريك), ويظل ساكنا ينتظر, لأنه غالبا ما تكون كلماتها التالية: (إريك) خذ هذه القشور وأي شيء يجب التخلص منه إلى صندوق القمامة).

صندوق القمامة على بعد خمسين ياردة من الباب الخلفي الذي يشترك معهم فيه سكان آخرون من المنزلين المجاورين.. لا أحد منهم يخاف راعي الخنازير!.. ماذا كان موقفهم منه?.. لا يعرف بالضبط.. أكانوا يشعرون بالأسى نحو راعي الخنازير?, لأنه يأكل مواد بالية ومبللة من صندوق القمامة مثل أوراق الشاي وقشر البيض وما شابه ذلك.. ربما كان يطهو تلك المواد عندما يعود إلى بيته, ويجعلها مستساغة, بالتأكيد إن ما يأكله لا يبدو لطيفا, فحين ترفع غطاء الصندوق ترى كل شيء ملقى في قذارة, وأحيانا تصدر روائح كريهة جدا.. أراعي الخنازير فقير إلى هذا الحد?!.. أكان حزينا لحاله أم أنه كان راضيا?.. ماذا يشبه راعي الخنازير?.. قد يكون له عينان صغيرتان وأنف مفلطح, هل له أربعة أرجل?.. هل له يدان وقدمان كأي إنسان?.. فكر (إريك) في المسألة بهدوء, وهو مستلق على ظهره فوق سريره.. دلو راعي الخنازير له يد إذن فهو يحمله بيده كما يفعل أي إنسان, إذن فهو لا يسير على أربع, وإذا كان يسير على أربع يمكنه أن يحمل الدلو بفمه, ولكن هذا لايبدو قابلا للتصديق, لأنه إذا كان يسير على أربع فلا فرق بينه وبين الخنزير.. وإذا كان ذلك كذلك فيجب أن يسمى (الرجل الخنزير) بدلا من (راعي الخنازير).. بالتأكيد أن وصف الرجل يتضمن شيئا من ذلك, فقد كان طويلا, يرتدي زيا.. هل يستطيع التكلم?.. ربما بطريقة الخنازير, كيف يتسنى له أن يحدد للناس نوعية المخلفات التي يريد أن يضعوها في دلو?.. قطعا كان ذلك خطأ والدي, كان يمكنه أن يخبرني بكل ما يخص راعي الخنازير, ولكنه مع الأسف رحل.

بعدما تعب (إريك) من التفكير خلد إلى النوم.. وفي المنام رأى أباه وراعي الخنازير مسافرين معا في قطار, راحا بعيدا, صرخ (إريك) في يأس: (أبي حينما تعود لا تحضر معك راعي الخنازير, لا تحضره معك). حينئذ أسرعت أمه إلى حجرة نومه, راحت تقبله, وتفوح بالعطر كوردة, كانت نائمة وأيقظها صراخه, هدهدته, وجعلته يستغرق في النوم فترة أطول دون كوابيس.. ولكن في اليوم التالي عاودته تساؤلات.

لابد أن يذهب إلى المدرسة في الصباح, ويقضي المشاوير بعد الظهر.. آه تجمعت أمام (إريك) أشياء كثيرة في صورة راعي الخنازير.. وناوشه القلق بضع ليال حتى وصلت المسألة فجأة إلى حد الأزمة.

سُمح لـ (إريك) ـ مرة واحدة ـ بأن يُحضر قطاره إلى حجرة العشاء بعد تناول الشاي, لأن في هذه الحجرة مدفأة جعلت الحجرة أكثر دفئا من التي تعود اللعب فيها.. كانت حجرة العشاء دافئة مضيئة, والسجادة المفرودة أمام المدفأة ناعمة سميكة, ومناسبة تماما لمد قضبان القطار.. و(دونالد) قد عاد إلى المنزل, وجلس على مقعد الأب يقرأ في الجريدة ويدخن سيجارة غير عابىء بشيء, والأم في المطبخ تنظف الأواني, وكلا البابين مفتوحان بحيث يمكن لـ (دونالد) والأم أن يتبادلا الحديث, فقط طرقة قصيرة تفصل بينهما, شيء واحد في هذا كله راق (إريك) وأسعده أنه راح يوصل أجزاء القضبان, وينظر إلى القاطرة سعيدا, وهي تقف في عظمة منتظرة العربات لتجرها وتدور بها بسرعة فائقة.. ولكن أثناء نومه يكون بعيدا كل البعد عن أية سعادة.

في تلك اللحظة نادته أمه: (إريك.. مِن فضلك خذ هذه القمامة إلى راعي الخنازير حالا, فيداي مشغولتان في عجينة الكعك, سأدعك تنظف حوض العجين عندما تعود).. ظل ساكنا للحظة, وعموده الفقري يثلج, تمنى لو لم يسمعها, لكن (دونالد) صوب إليه نظراته وقال: (اذهب يا رجل يا عجوز.. إنك طبعا لا تمانع), قال (إريك): سأفعل حين يأتي راعي الخنازير) ثم حادث نفسه في صمت: بالتأكيد سأتخلص من ذلك الشيء الغائر في أعماقي, الخوف من مواجهة راعي الخنازير.. علق (دونالد) بعد برهة الصمت دون أن يعرف بالطبع مادار في خاطر (إريك): (حسنا), وعاد ينظر في جريدته.. آه.. لماذا قال (دونالد) حسنا?!, أيريده حقا أن يواجه راعي الخنازير?! بهدوء غريب سأل (إريك) نفسه: (ولماذا لا ترفض قدماي التحرك).. دخل المطبخ, قالت أمه مشيرة إلى حامل من الورق المقوى ذي لون بني ممتلىء بقشور البطاطس وناتج الكحت: (ها هوذا, خذه), أخذه (إريك), فتح الباب الخلفي, وأسرع الخطى نحو دلو القمامة.. وجد ضوءا, يستطيع أن يرفع الغطاء, يلقي بالمخلفات, ويعود بسرعة في وقت لا يستغرق في العد من (1) إلى (10), عد بصوت عال: 1ـ 2ـ 3ـ 4ـ 5ـ 6.. توقف فجأة, فدلو القمامة غير موجود في مكانه, دقق النظر برغم أن الضوء لم يكن خافتا, فتأكد أن الدلو غير موجود, وأن راعي الخنازير نفسه اختفى.

استأنف العد: 7ـ 8ـ 9ـ 10 , كانت خطواته خفيفة, عاد بسرعة إلى المنزل, حيث الدفء والضوء وقطاره الذي ينتظره.. قال: (راعي الخنازير ذهب يا أمي) عبست الأم, ويداها تتحركان في حوض العجين, قالت: (نعم!, لقد سمعته من لحظة قصيرة).. قال (إريك) بأدب: (ذهب يا أمي, ذهب), ووضع الحامل الورقي مطرحه في المطبخ بهدوء.. ولكن الأم واصلت كلامها مخاطبة (إريك): (إذا تحريت البحث فسوف تلحق به, أريد أن تكون هذه المخلفات بعيدة عن المنزل والطريق العام, الحق به حالا.), وقف (إريك) ساهما أمام باب المطبخ, قالت الأم بخشونة وجدية: (هيا الحق به!), هذه الأم الصغيرة تعرف بالضبط متى تكون حازمة, أكملت كلامها بنفس الخشونة والجدية: (على أي حال لا يمكن أن يكون بَعُد كثيرا..).

وقبل أن تنهي الأم كلامها كان (إريك) خارج الباب يجري.. هذا الأسلوب يعرفه جيدا, نفس الأسلوب الذي يتبعه حينما يذهب إلى ماء شديد البرودة, حتى لو كانت هذه هي النهاية.. حتى لو جذبه راعي الخنازير, وجره إلى كوخه, وهذا أسوأ ما يُحتمل.. جرى بسرعة في ظلام مزقته بقع الضوء.. كان المنظر الخلفي لراعي الخنازير طِبق ما تخيله إلى حد بعيد, يمشي مشية بطيئة متأرجحا, كتفاه ممتلئتان, قبعة بالية مضغوطة فوق رأسه تخفي أذنيه, والدلو في يده.. كان بليدا في سيره كما لو كان مرهقا, ربما كان ذلك مجرد دهاء, لأنه كان يسرع الخطى عندما يرى صبيا أو سيدة تحمل مخلفات.

توقف (إريك) وفتح فمه مناديا راعي الخنازير, لكنه حينما حاول ـ أول مرة ـ لم تصدر إلا ذبذبات صوتية قصيرة مهزوزة مثل هبات ريح خفيفة, وقلبه راح يدق مثل طرقعات بمب الأطفال في الأعياد, وكان من الصعب أن يسمع أي شيء إلا بالكاد.. (يا سيد, يا راعي الخنازير), هذه المرة صدرت الكلمات واضحة مسموعة إلى حد ما.. الشبح العجوز المتأرجح توقف, استدار ونظر إليه, لم يستطع (إريك) أن يحدد بالضبط من أين توقف.. كان من الصعب عليه أن يعرف, وقد غاص كل شيء.. حتى خوفه في موجة كبيرة عفية من حب الاستطلاع.. راح (إريك) يتقدم نحو راعي الخنازير, ومع كل خطو يراه أكثر وضوحا.. وحين وصل وجده رجلا عاديا عجوزا.

ـ “مساء الخير يا بني, هل أحضرت قمامة للخنازير الكبيرة ?”.

أومأ “إريك” برأسه صامتا, وأبرز ما معه.. حادث (إريك) نفسه في صمت: أية خنازير كبيرة?, ماذا يقصد هذا الرجل?).. حط راعي الخنازير دلوه على الأرض, نعم له يدان عاديتان.. رفع الرجل غطاء الصندوق, فقدم (إريك) الحامل الورقي, أثناء ذلك لمست يد (إريك) يد راعي الخنازير فتفجر ينبوع من السعادة في نفس (إريك).. دحرج راعي الخنازير ناتج الكحت إلى دلوه, وناول (إريك) الحامل الورقي قائلا:

ـ “شكرا يا بني”

سأل (إريك) الرجل العجوز: (لمن هذه القمامة?), وبدا صوته كما لو كان له نبرات خاصة.. نهض راعي الخنازير مرتبكا, ثم ضحك بطريقة تشبه الغرغرة, أر, أد, أر, قال: (ليست لي, إذا كان هذا ما تقصده), أر, أر, أر.. غطى راعي الخنازير دلوه, وواصل كلامه: (إنها للخنازير الكبيرة التي تُربى للتسمين, هذا ما يحبونه, فقط ألا تكون قشور فاكهة, قشور الفواكه تسبب لها المغص, أحيانا أضع ملحوظة بشأن ما يجب أن يوضع في الدلو.. قال (إريك) ـ في نفسه ـ: (الآن فهمت لماذا يسمى (راعي الخنازير), طبعا لما لديه من خنازير يرعاها بهذه المهارة الفائقة.

ـ (تصبح على خير, شكرا.)

هكذا قال (إريك) لراعي الخنازير, وركض عائدا, يتناهى إلى أذنيه صوت راعي الخنازير, الرجل العجوز والعادي جدا يرد: (تصبح على خير يا بني).

حادث (إريك) نفسه: كيف فعلتها?!, تقدمت إلى الأمام غير قلق أو وجل مثلما أذهب إلى ماء شديد البرودة.. إنني بالفعل فعلتها.

كان (إريك) يبطىء من سيره كلما اقترب من البوابة.. راح يحادث نفسه بصوت مسموع: (لو كان لديك تساؤل, وأردت أن تعرف إجابته, وشعرت أنك لا تستطيع أن تسأله فإن السلوك الوحيد الذي يجب أن تسلكه بلا تردد هو أن تسأل, وعليك أن تنطلق بخطى مستقيمة نحو هدفك, مثلما ذهبت إلى راعي الخنازير).

لمع ضوء من خلال الباب الخارجي.. فتحه ودخل.. كانت أمه واقفة بجوار المنضدة, تكاد يداها تفرغان من عجينة الكعك.. أمرته أن يكحت الحوض والملعقة, ولكن كان هناك ما هو أكثر أهمية من كحت الحوض والملعقة يجب أن يحدث أولا.. اطمأن (إريك) أن الحامل الورقي في مكانه, وخطا نحو أمه متسائلا: (أمي لماذا لا يكون أبي معنا.. حتى في وجود (دونالد)?!, أقصد لماذا لا يقيم معنا هنا مثل (دونالد)?

ـ (نعم!, نعم يا عزيزي)?!

هكذا قالت الأم, وصمتت

وسرعان ما جاء صوت (دونالد):

ـ (ألم تسمعي ماذا قال (إريك) يا عزيزتي?).

ـ (بلى سمعت, (إريك) يسأل..)

أغلقت الصنبور, وجففت يديها ـ غير ملتفتة إلى (إريك) ـ مستأنفة كلامها:

(.. لماذا لا يمكننا إبقاء (جاك) معنا).

خيم صمت متحفز على المكان لحظة.. ثم قال (دونالد) بهدوء شديد وبصوت خافت لم يصل إلا إلى أذني (إريك):

ـ هذا سؤال صعب جدا يا (إريك).

قالت الأم محاولة تغيير مجرى الحديث:

ـ (حان الآن كحت حوض العجين يا (إريك), هيا يا كسول).

ولما وقف (إريك) ساهما شاردا حملته, وقبلته, حكت خدها بخده.. ثم قالت بصوت مرح حنون:

ـ (يا (إيكي), يا صغيري, يا مسكين)

وعندما أنزلته راح ينظف حوض العجين, واثقا من شيء واحد محدد, هو أن الكبار مجانين وسخفاء, وأنه يكرههم جميعا.