نشرت تحت تصنيف إنطباعات

ماركيز الكتابة و الترجمة

*** المحاور: ما شعورك تجاه استخدامي لآلة التسجيل في الحوار؟
ماركيز: المشكلة أنني في اللحظة التي أدرك فيها أن الحوار سيصبح مسجلا تتغير ردود افعالي، بالنسبة لي اتخذ دائما حالة الدفاع.
كصحفي، مازلت أعتقد أننا لم نتعلم بعد كيف نستخدم الة التسجيل. أفضل طريقة لإجراء الحوار في رايي هو أن نخوض محادثة طويلة دون وضع أي ملاحظات، ثم على المحاور أن يستذكر ويكتب انطباعه عن المحادثة، ولا يجب عليه بالضرورة استخدام الكلمات ذاتها، وهناك طريقة أخرى لفعلها وهي أن تأخذ بعض الملاحظات ثم تضع معها عبارات تحدث بها الشخص الذي اجريت معه الحوار، كنوع من الأمانة الصحفية، لأن الة التسجيل تتذكر كل شئ، حتى تلك اللحظات التي جعلت فيها من نفسك أحمقا. وهذا هو السبب الذي يجعلني واعيا لكل كلمة اتفوه بها حين أعلم أن حديثي سيجل، بينما أن تحدثت معي بطريقة عفوية ستكون اجاباتي أكثر انطلاقا وحرية.
*** المحاور: حسنا، جعلتني أشعر بالذنب لاستخدامي آلة التسجيل ولكني أصر على احتياجنا لها في حوار كهذا.
ماركيز: لا يهم، كان هدفي من حديثي السابق أن أضعك أنت في حالة الدفاع.
*** المحاور: كيف بدأت بالكتابة؟
ماركيز: بالرسم، برسم الكارتون. قبل تعلمي للقراءة أو الكتابة اعتدت أن ارسم الشخصيات الكارتونية في المدرسة والمنزل.
المضحك في الأمر انني عندما كنت في المرحلة الثانوية كان الجميع يعتقد بأنني كاتب برغم عدم كتابتي لأي عمل أدبي حينها، ولكن إن كان لأحد الطلاب تقريرا أو رسالة لم يستطع كتابتها، فالجميع يعلم أنني الرجل المناسب للمهمة.
عندما التحقت بالكلية كانت لدى خلفية أدبية جيدة، في جامعة بوجوتا بدأت بالتعرف على عدد من الاصدقاء والمعارف الذين كان لهم الفضل في تعريفي على مجموعة من الكتاب المعاصرين، في إحدي الليالي أعارني صديقي كتابا لفرانز كافكا. عدت إلى غرفتي وبدأت بقراءة كتابه “المسخ” صعقني أول سطر قرأته وكدت أسقط من على السرير، كنت مندهشا للغاية.. “بينما استيقظ جريجور سامسا في ذلك الصباح من كوابيسه، وجد نفسه وقد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة..” عندما قرأت هذا السطر فكرت وقلت: لا أعرف أحدا يسمح له أن يكتب بهذه الطريقة.. لو كنت أعرف لكنت بدأت الكتابة منذ زمن.
حينها شرعت في كتابة القصص القصيرة. كانت تلك القصص تستند على قراءاتي، لم أكن قد وجدت الرابط السحري بين الحياة والأدب.. وقد نالت كتاباتي حينها بعض التقدير ربما لأنه لم يكن أحد في كولومبيا يكتب بهذه الطريقة.. في ذلك الوقت كانت معظم حواراتها تدور حول حياة الريف والحياة الاجتماعية. أتذكر أنني أخبرت عندها أن قصصي كانت متأثرة جدا بجيمس جويس.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: هل تظن أن العديد من الكتاب الشبان يميلون لإنكار خبراتهم في الطفولة ويتجهون للكتابة المتأثرة بقراءاتهم كما فعلت أنت في بداياتك؟
ماركيز: لا في الغالب تتجه العملية بطريقة معاكسة، ولكن إن كان عليّ إسداء نصيحة لكاتب شاب فسأقول له أن يكتب عن شيء حدث له لطالما كان من السهل معرفة إن كان الكاتب يكتب عن شيء حدث له فعلا أو عن شيء قرأ عنه.
بابلو نيرودا لديه سطر رائع في إحدي قصائده يقول فيه: ” يالهي احمني من الابتكار عندما أغني”.. يدهشني دائما عندما تحصل أعمالي على الكثير من التقدير بسبب الخيال الذي استخدمه في كتابتها.. بينما الحقيقة أنه لا يوجد سطر واحد فيها لا يملك أساسا يصله بالواقع.. المشكلة أن الواقع الكاريبي يجسد أكثر الخيالات جموحا.
*** المحاور: هنالك خاصية صحفية في طريقتك التي تسرد بها الأحداث، على سبيل المثال عندما تصف حدثا خارقًا للعادة تميل للإسهاب في التفاصيل واستعراض الزمن دقيقة بدقيقة، بشكل يعطي للحدث حقيقته الخاصة به، فهل نستطيع القول إنها طريقة تعلمتها من كونك صحفيا؟
ماركيز: نعم هذه خدعة صحفية، وتستطيع تطبيقها أيضا على الأدب، على سبيل المثال عندما تقول إن هناك فيلا في السماء، لن يصدقك الناس، ولكن عندما تقول إن هناك 425 فيلا في السماء قد يصدقك الناس.. “مئة عام من العزلة مليئة بخدع كهذه.. إنها الطريقة ذاتها التي كانت تستخدمها جدتي.. أتذكر جيدًا تلك القصة عن البطل المحاط بالفراشات الصفراء.. عندما كنت صبيا كان رجل صيانة الكهرباء يأتي إلى منزلنا.. أصابني الفضول تجاهه لأنه كان يرتدي حزاما يقيه من الصعقات الكهربائية.
كانت جدتي إنه في كل مرة يأتي هذا الرجل إلى المنزل، لا يغادر إلا وهو محاط بالفراشات صفراء اللون، لن يصدقني أحد.
عندما كنت أكتب عن رحلة “ريميدوس الجميلة إلى الفردوس” استغرقني الأمر الكثير من الوقت لأجعل هذا قابلا للتصديق.
في يوم ذهبت إلى الحديقة ورأيت امرأة كانت تأتي إلى منزلنا لإنهاء أعمال الغسيل، وكانت تضع ملاءات السرير في الخارج لتجف بينما الرياح تعصف.. كانت المرأة تتحدث مع الرياح وتقنعها بألا تأخذ الملاءات بعيدا. اكتشفت حينها أنني إن استخدمت الملاءات مع ريميدوس الجميلة فسأنجح في جعلها تصعد.. هكذا فعلتها، وصدقني الجميع.. مشكلة كل كاتب هي قدرته على إقناع القراء.. أي كاتب بإمكانه أن يكتب أي شئ طالما أنه نجح في جعله قابلا للتصديق.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: ما رأيك في النقاد الذين يحاولون وضعك في قالب أو تصنيف معين؟
ماركيز: النقاد بالنسبة لي هم أكبر مثال على مشكلة المثقفين.
أولا لديهم نظريات تحدد الطريقة التي يجب أن يكتب بها الجميع.. ثم تبدأ محاولاتهم لوضع الكاتب داخل هذه النظريات كي تناسبه مقاساتها الضيقة.. وان لم تناسبه هذه المقاسات يحاولون إدخاله فيها بالقوة.. أنا أجبت فقط عن هذا السؤال لأنك طرحته. في الحقيقة لا أملك أي رغبة في معرفة آراء النقاد عني، ولم أقرأ لأي ناقد كتب عن أعمالي منذ زمن.. لقد نصبوا أنفسهم وسطاء بين الكاتب وقارئه.. ولطالما حاولت أن اكون كاتبا واضحا ودقيقا كي أصل إلى القارئ دون الحاجة إلى النقد.
*** المحاور: وما موقفك من المترجمين؟
ماركيز: لدى تقدير كبير أكنه للمترجمين، عدا أولئك الذين يستخدمون الحواشي، لأنهم يحاولون باستمرار شرح شيء لم يقصده الكاتب من الأساس. الترجمة عمل صعب جدا ولا يحصل أصحابه على التقدير الكافي ولا حتى على المال.. الترجمة الجيدة هي دائما إعادة خلق للنصوص في لغة أخرى، لهذا السبب أقدر كثيرا جورج راباسا. ترجمت كتبي إلى احدي وعشرين لغة، وراباسا كان المترجم الوحيد الذي لم يطلب مني أي توضيح ليقوم بكتابته عن الترجمة، أظن أنه قام باعادة خلق عملي كاملا في اللغة الانجليزية، هنالك أجزاء من الصعب جدا ترجمتها حرفيا، ولكن على رغم هذا يبقى الاثر الذي يشعر به القارئ حين يقوم المترجم باعادة الكتابة من جديد.
لذلك قلت سابقا إنني اقدر المترجمين كثيرا لانهم يتبعون غرائزهم على عكس المثقفين.وعلاوة على ذلك لا يحصلون على القدر الذين يستحقونه من المال ولا ينظرون إلى عملهم على أنه له قيمةادبية تستحق التقدير.هنالك عدد من الكتب التي اتمني ترجمتها للاسبانية ولكنها كثيرة وسيتطلب الأمر مني جهدا مماثلا للجهد الذي بذلته في كتابة كل كتبي ولن احصل على قدر كافي من المال لسد جوعي أن فعلت ذلك.
جابو تجاهل النقد..
*** المحاور: وهل تعتقد أن شهرة الكاتب مدمرة له؟ ولماذا؟
ماركيز: نعم بالطبع.لأنها تجتاح حياتك الخاصة، إنها تأخذ وقتك الذي كنت تقضيه مع الاصدقاء ووقتك الذي كنت تكتب فيه. إنها تميل لفصلك عن العالم الحقيقي، الكاتب المشهور الذي يؤيد أن يستمر بالكتابة عليه أن يدافع عن نفسه باستمرار ضد الشهرة. لا أحب أن اقول هذا لأنه يصعب تصديقه لكني كنت لكتبي أن تنشر بعد وفاتي كي لا اضطر لخوض هذه التجربة الطويلة مع الشهرة. في حالتي الفائدة الوحيدة التي حصلت عليها من الشهرة هي استفادتي منها بطريقة سياسية. أما ماعدا ذلك فلا أشعر بالراحة أبدا. المشكلة أنك تصبح مشهورا طوال اليوم ولا يمكنك أن تقول “حسنا لن اصبح مشهورا حتى الغد” أو تضغط على زر ما وتقول: “لن اصبح مشهورا هنا أو الآن”.
*** المحاور: هل لديك اشياء طمحت لتحقيقها أو ندمت عليها خلال مسيرتك ككاتب؟
ماركيز: أظن أن إجابتي تشبه تلك السابقة التي تحدثت فيها عن الشهرة، سالوني قبل ايام عن مدي رغبتي في الحصول على جائزة نوبل، ولكني أظن أن هذا الشيء سيكون كارثيا بالنسبة لي، سأكون مهتما حتما في استحقاقها ولكن أن أنالها؟.. سيكون هذا سيئًا لأن مشكلة الشهرة ستصبح أكثر تعقيدا، إن أكثر ما أندم عليه في هذه الحياة هو عدم حصولي على ابنة.
*** المحاور: هل هناك أية مشاريع جديدة تقوم بإخفائها عنا؟
ماركيز: انا مقتنع تماما أنني ساقوم بكتابة أعظم كتاب في حياتي ولكني لا أعرف كيف ولا متي، عندما يمر بي شعور مماثل سأجلس بهدوء وأنتظره كي أقبض عليه حين يمر بي ثانية.
إعداد : أحمد صوان – نهى مذكور

أضف تعليق