نشرت تحت تصنيف غير مصنف

بول أوستر متأملاً في الأدب وبعض وجوهه

البُعد التأملي جزء أساس في عمل الكاتب الأميركي بول أوستر، ووسيلة لقول نفسه من خلال نصٍّ كامل أو شذرات متفرّقة تتنقل من كتاب إلى آخر وتشكّل مجتمعةً حالاً من القراءة المتجددة للذات. تأمّلٌ بدأه في «أختراع العزلة» (1982) وتابعه في «يوميات شتائية» (2012) و»نزهات في الفضاء الداخلي» (2013)، وهي نصوص – مرايا سرد فيها اختبارات مؤسسة من سنّي الطفولة والمراهقة قادته إلى ما هو عليه اليوم.

«غليوم أوبِّن»، الذي صدر حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، يندرج في هذا السياق، علماً أن هذا الكتاب لم ينجزه أوستر، وبالتالي لا وجود له في الإنكليزية لكونه يتألف من 14 نصاً أخذت الدار المذكورة بنفسها مبادرة جَمْعِها، وتتراوح بين بحوث ومداخلات ومقدّمات وحوارات صدرت في مجلات أميركية وفرنسية مختلفة، ويحيّي الكاتب فيها مجموعة من المبدعين الذين لعب لقاؤه بهم أو بأعمالهم دوراً حاسماً في مساره ككاتب. مبدعون أميركيون مثل ناتاناييل هاثورن وإدغار ألان بو وجورج أوبّن وجو برينارد وجيم جارموش، وأيضاً فرنسيون مثل جورج بيريك وألان روب غريّيه وجاك دوبان وأندريه دو بوشي، من دون أن ننسى الإرلندي صامويل بيكيت.

تحيات يوجّهها أوستر في كل مرة لواحد من هؤلاء من خلال توقفٍ عند تفصيل أو مجموعة تفاصيل صغيرة ومثيرة في حياته أو عمله قادرة على قول حقيقته، وأيضاً بعضٍ من حقيقة أوستر بالذات. فمن الشاعر الأميركي أوبِّن، الذي كان صديقاً حميماً للكاتب، يستحضر الأخير لقاءه الأول به، وتحديداً الحالة التي فتح أوبِّن فيها باب منزله له لأول مرة، إذ «كان يرتدي قفّازين من كاوتشوك زهري تعلوهما رغوة الصابون» لأنه كان يغسل الأواني. وضعية متواضعة تبعد كل البعد من «تلك التي ننتظرها عادةً من شاعر كبير لطالما أثار إعجابنا».

والمفاجأة ذاتها كانت في انتظار أوستر لدى لقائه للمرة الأولى مع روب غريّيه خلال برنامج أدبي. فبدلاً من الكاتب البولشفي المعروف بقسوته وعنف مداخلاته، تعرّف أوستر إلى إنسان حار ولطيف أضحكه بحسّه الفكاهي العالي طوال السهرة التي أمضاها معه بعد البرنامج، وإلى روائي شغوف مثله بالفن السابع.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى دو بوشي الذي لم يعرف أوستر فيه، طوال فترة علاقتهما في باريس، ذلك الرجل القاسي والبارد والصعب، كما يصوّره كثيرون، بل شاعراً في غاية اللطف منحه صداقته فوراً ومن دون مقابل، على رغم اختلاف عمريهما، وتناقش معه بصراحة في كل المواضيع التي تهمّه خلال نزهات طويلة في شوارع باريس، وكان وراء اكتشاف أوستر كتّاباً وشعراء كثراً تأثّر بهم، مثل بول سيلان والشعراء الروس ولورا ريدينغ وجيمس ميريل.

وفي ما يتعلّق بالشاعر دوبان الذي ربطته به علاقة صداقة حميمة خلال إقامته في فرنسا، وترجم بعض قصائده إلى الإنجليزية، يستحضر أوستر خصوصاً كرم الشاعر الكبير تجاهه الذي تجسّد بفتحه أبواباً كثيرة له في باريس وبابتكاره مشاريع خيالية فقط لمساعدته مادياً، وبإيوائه في منزله حين كان في أمسّ الحاجة إلى ذلك.

وبينما نستخلص من النص الذي نقرأه في الكتاب حول إدغار ألان بو صورة لهذا العملاق تختلف كلياً عن الكليشيه المتداول حوله كـ «كاتب فرنسي كتب باللغة الإنكليزية»، صورة يظهر فيها كرائد الأدب الأميركي المستقل، مثل والت ويتمان، يلخّص نص «بطاقات بريدية إلى جورج بيريك» بطريقة دقيقة جوهر فن هذا الكاتب الذي يجمع بطريقة نادرة بين «براءة وامتلاء». ويقصد أوستر بـ «البراءة» تلك النقاوة المطلقة في النيات، وبـ «الامتلاء» ذلك الإيمان الكلي بالمخيّلة.

ومن مواطنه، الفنان التشكيلي جو برينارد الذي خطفه مرض الإيدز عام 1994، يستحضر أوستر عمله الأدبي الفذّ «أتذكّر» الذي أوحى إلى بيريك بالكتاب الذي يحمل العنوان نفسه، واستعان برينارد لكتابته بصيغة سحرية تتكرر على طول النص وتسمح لجميع قرّائه بالتماثل به. كتاب يسرّ أوستر لنا بأنه قرأه مرات عديدة، وفي كل مرة منحه الانطباع بـ «نصٍّ جديد وغريب ومدهش يتعذّر استهلاكه».

وفي نهاية الكتاب، نطالع نصّاً لصاحب «ثلاثية نيويورك» رصده للقاء جمعه بصامويل بيكيت في مقهى «كلوزري دي ليلا» الشهير في باريس، وبدا فيه هذا العملاق مرتبكاً ومشكّكاً بقيمة بعض نصوصه، وخصوصاً بروايته «ميرسييه وكامييه»، قبل أن يقول له بلهجته الإرلندية الرقيقة، بعد أن حاول عبثاً لفت انتباه النادل: «لا نظرة في العالم يصعب الإمساك بها أكثر من نظرة النادل».

يبقى أن نشير إلى أن أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في الشهادات القيّمة والشخصية التي يمنحنا أوستر إياها حول الوجوه الأدبية والفنية المذكورة، ومن خلال ذلك، حول السلطة الموحّدة للفن، بل أيضاً في تلك الصفحات المنيرة التي يتحدث فيها عن علاقته الشخصية بالأدب وعمله ككاتب وشغفه بسيرورة الكتابة وليس فقط بنتيجتها، وبالتالي بأهمية الطريقة التي يكتب فيها وركائزها، أي الدفاتر التي تعلو صفحاتها مربّعات صغيرة ويعتبرها «بيوتاً للكلمات وأمكنة سرّية للفكر وتحليل الذات»، وخصوصاً قلم الحبر أو الرصاص الذي يرى فيه «أداةً بدائية تمنح الانطباع بأن الكلمات تخرج من جسدنا فنرصّع بها الصفحة».

تكمن قيمة الكتاب أيضاً في الرسالة التي يسيّرها أوستر في كل نصوصه، ومفادها بأنه، على رغم التدمير الذي يلحق بالثقافة على يد صناعة الترفيه واللهو، ستبقى دائماً تلك الحاجة إلى القصص، إلى الكلمات، لدى البشر: «لا قيمة للأرقام حين يتعلق الأمر بالكتب، يقول الكاتب في أحد هذه النصوص».

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الأميركي جاك كيرواك و هوس الكتابة

أنطوان جوكي

لفترة طويلة، نظر قرّاء الأدب في العالم إلى جاك كيرواك (1922 – 1969) ككاتب رواية وحيدة، «على الطريق»، وكشخص جسّد عصراً ذهبياً في بلده، زمن جيل الـ «بيت» وأدبه. ولكن تدريجاً تعدّلت صورته واكتملت، فتبيّن أن هذا العملاق لم يسعَ فقط إلى ابتكار لغة أميركية جديدة في كتبه – الغزيرة – بل كرّس أيضاً وقتاً طويلاً لوضع سيرة ذاتية شاملة لا يعادلها، في طبيعتها وحجمها وغناها، سوى تلك التي أنجزها كلّ من مواطنه توماس وُلف، ونموذجه مارسيل بروست، ومعلّمه لوي فردينان سيلين.

سيرة كيرواك الذاتية سديمٌ يشمل معظم أعماله الأدبية، بما في ذلك رواياته الثلاث عشرة (ما خلا روايته الأخيرة «صورة» التي سرد فيها قصة فتى أسوَد)، أي منذ «البلدة والمدينة» (1950) حتى «غرور دوليوز» (1968). «على الطريق» التي كتبها بين عامَي 1947 و1951 هي العمل الثاني من هذه السيرة، ويمكن حتى اعتبارها العمل الأول نظراً إلى أن «البلدة والمدينة»، على رغم تضمّنها كل المواضيع التي قاربها الشاعر لاحقاً، جاءت قبل ابتكاره أسلوبه المميّز.

لكن مشروع السيرة الذاتية لدى كيرواك لا ينحصر في أعماله الروائية، بل يشمل أيضاً الرسائل الغزيرة التي تبادلها مع صديقيه نيل كاسادي وألان غينسبرغ، وتشكّل مادّة جوهرية لفهم مسيرته وأدب جيل الـ «بيت» عموماً. ويشمل أيضاً المدوّنات اليومية التي ثابر على كتابتها حتى وفاته وصدرت أخيراً الترجمة الفرنسية للجزء الأول منها في مجلد ضخم عن دار «غاليمار» الباريسية، بعد عشر سنوات على صدوره في نيويورك داخل صمتٍ مطبق!

ما نعرفه عن هذه المدوّنات هو أنها تملأ 52 دفتراً وتشكّل مختبراً لعمل كيرواك الأدبي. ونظراً إلى مادتها الهجينة، وبالتالي صعوبة العثور على قالب أدبي لنشرها بالكامل، اختار الناشر الأميركي (دوغلاس برينكلي) لإصدار المجلد المذكور الغرف من الدفاتر الأولى (1947 – 1954) التي يظهر كيرواك فيها كشاب كان لا يزال يحلم بعمله الأدبي ويبحث عن الأسلوب الأكثر ملاءمة لترجمة رؤاه، شابٌ كان يعرف جيداً أيّ موسيقى يريد إسماعها في كتابه الأول، لكنه لم يكن يتحكّم بعد بالـ «آلة» المناسبة لعزفها.

 

هوس الكتابة

وبسرعة، يتبيّن لنا أيضاً أن هذا الشاعر الذي لطالما تخيّلناه كشخصٍ انشغل بعيش حياته أكثر منه بتشييد صرحه الأدبي، كان في الواقع مهووساً بعمله الكتابي ومدركاً لما يريد إنجازه، يعيش الكتابة كحالة تزهّدٍ، ويحصي عدد الكلمات التي كان يكتبها كل يوم، ويشعر بالذنب حين كان يمضي يوماً من دون أن يكتب. وبالتالي، نشاهد في هذا المجلّد عملية ولادة صوته الفريد الذي مدح النقاد حرّيته من دون أن يدركوا بأنه نتج من عملٍ دؤوب ومُضنٍ تخلله تشطيبٌ كثير وعودة متكرّرة إلى الوراء، وتشكّل مدوّنات كيرواك اليومية مرآةً له ونواته الحميمة.

مضمون هذا المجلد، الذي يقع في نحو 600 صفحة، قسّمه الناشر الأميركي إلى جزءين. في الجزء الأول (حزيران- يونيو 1947 – نيسان- أبريل 1950)، نطّلع على حياة كيرواك في نيويورك في شكلٍ يومي، وعلى سيرورة كتابته «البلدة والمدينة» وانطلاقه في كتابة «على الطريق»، ونقرأ ملاحظات شخصية لا تحصى حول مراجع أدبية كثيرة (دوستويفسكي، جويس، كونراد، مارك تواين، سيلين، زولا…)، وتأملات في الوضع الصعب للفنان أو الكاتب في عالمنا، وبالتالي في فائدة العيش داخل هذا العالم أو الانسحاب منه، وذلك ضمن لغة مباشَرة وصريحة لا تخلو من الفظاظة والعنف والشتائم.

وقد نشعر أحياناً بثقلٍ في هذا الجزء نظراً إلى هاجس كيرواك الثابت ربط قدَره بالأسماء الأدبية الكبرى، وإلى هذيانه الصوفي وعذاباته، لكن ما أن نستسلم لإيقاع نصوصه المحموم حتى يتجلى لنا جانباً آخر فيها يجعل منها شهادة يومية على صراعه الحاد مع ذاته والعالم.

 

محاسبة الذات

وفعلاً، حين لم يكن كيرواك جالساً خلف الطاولة للكتابة وإحصاء كلماته، كان يتردد على نوادي الجاز ويمضي لياليه مع أصدقائه في الشرب والنقاش ومحاسبة الذات لقله إنتاجه: «ما زلتُ مريضاً، لكني كتبتُ 500 كلمة، كلمات نهائية، وفي أحد الأيام سأغادر عالم أصدقائي التعيس والكابوسي الذي يجعلني مريضاً أكثر فأكثر. قرفٌ، قرفٌ ثابت حين أراهم، وسعادة حين لا أراهم» (التاسع من آذار – مارس 1948). ومنذ تلك الفترة، كان قارئاً نهماً يضع لنفسه برنامجاً صارماً للقراءة: «أخذتُ كتباً من المكتبة – تولستوي، تواين، زاين غراي ومجلداً يتضمن كتابات في السيرة الذاتية، من سان أوغستان إلى روسو، مروراً بهنري أدامس» (31 آب – أغسطس 1948).

ومن هذه القراءات، يتّضح لنا أن إعجابه كان يذهب إلى الكتّاب الأجانب أكثر منه إلى الكتّاب الأميركيين، وفي مقدّمهم دوستويفسكي: «أعتقد بأن عظمة دوستويفسكي تكمن في اعترافه بالحب البشري. (…) دوستويفسكي، بالنسبة إليّ، سفير المسيح، والإنجيل الحديث» (آذار 1950). أما سيلين فكان يرى فيه معلّماً في كتابة السيرة الذاتية روائياً ومبتكِر لغة: «كنت أقرأ رواية «النصّاب الكبير» لميلفيل حين خسفتها فجأةً وكلياً من ذهني رواية سيلين «موتٌ بالاقتراض». أتذكّر الآن أنني كنتُ في منتصف «النصّاب الكبير». لا أحتاج إلى برهان آخر لمعرفة أن سيلين يظلّل ميلفيل، بكل علوّه. سيلين ليس الفنان والشاعر الذي هو ميلفيل، لكنه يغرقه بالفيض الصافي لحَمِيّته المأسوية» (30 تشرين الثاني – نوفمبر 1948).

في الجزء الثاني من المجلد الذي يحمل عنوان «مطرٌ وأنهار» (1949 – 1954)، نرافق كيرواك في ترحاله داخل أميركا ونتآلف مع التجارب التي اكتنزها ومنحته مادة «على الطريق». وبالتالي، نقرأ هذا الجزء كيوميات سفرٍ، أو كقصيدة طويلة موضوعها الطريق والمناظر الطبيعية وتنوّع أميركا، فنرى فيه مسودّةً أولى للرواية التي منحت كيرواك شهرته، وفضاءً اختبر فيه تلك الكتابة الفريدة بإيقاعها وتنفّسها وترقيمها، وبالتالي دليلاً على أن «على الطريق» لم تحلّ عليه فجأة فكتبها في شكلٍ آلي، بل جاءت نتيجة تحضير وتأمّل كبيرين.

وتحضر في هذا الجزء كل المواضيع الكبرى لرواياته: شبح والده، أميركا، الليل، وخصوصاً الآخر الذي يتجلى في رغبته، على مرّ لقاءاته، في أن يكون مكسيكياً، كوبياً، مومساً أو قديساً، أسوَد مستوهَماً تسيل إيقاعات موسيقى الجاز في عروقه، باختصار، في أن يكون أي شخص إلا جاك كيرواك. وتحضر أيضاً كتابته بكل مميزاتها، أي بصراخها وتكرار كلماتها والتلاعب في إيقاع الأفعال والجُمل الصاعقة. كتابة مارسها بشغفٍ أكيد، وسمحت له بتجنّب الاكتئاب الذي عاني منه («مللٌ/ الحياة لا تكفي»)، وأيضاً برسم توبوغرافيا وطنه الذهنية والمشهدية وبسرد قصة هذا الوطن الحديثة وخرافته.

باختصار، مجلّد في غاية الأهمية يجعلنا نأمل بأن لا يلقى ما تبقّى من مدوّنات كيرواك اليومية مصير يوميات مواطنه مارك تواين التي لا تختلف عنها كثيراً، بطبيعتها الهجينة ومضمونها، والتي لم تصدر إلا بعد نحو قرنٍ من وفاته.

إعداد :

أنطوان جوكي

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

ألبرتو مانغويل عن المكتبة كسلطة وميثولوجيا ووطن ونسيان

إعداد : ولي راشد

 

ألبرتو مانغويل المقيم بين رتل كتبه الآيلة إلى الإزدياد بإطراد، وألبرتو مانغويل الشغوف والمتمتّع بتبديد نفسه وسط الأكداس الكثيفة، وألبرتو مانغويل جامع العناوين المختلفة منذ نصف قرن. يطلّ الكاتب والمترجم الأرجنتيني – الكندي مانغويل في سماته الجامعة تلك في مؤلف يستعيده غارقا في حبّ المكتبات على مرّ العصور، كأحد صنوف الحب المُكتسبة.

في مقدمة “المكتبة في الليل” الصادر لدى “دار الساقي” منقولا إلى العربية عن الإنكليزية، يقرّ مانغويل بأنه وفي شبابه وبينما حلم أصدقاؤه بالهندسة والحقوق وسواهما حلم هو بأن يصبح موظّفا في مكتبة. وفي حين منعه التراخي والشغف بالسفر من تحقيق ذلك على ما يضيف، ها هو وفي عامه السادس بعد الخمسين – “السن التي يقال عندها بزهوّ ان الحياة الحقيقة ستبدأ”، وفق دوستويفسكي في “الأبله”- يعود أدراجه إلى مثاله الأعلى القديم.
وإذا كان مانغويل جمع في سن السابعة أو الثامنة وفي غرفته “مكتبة اسكندرية” صغيرة حوت ما يقرب مائة عنوان، فهو واصل في سنين رشده تجواله في فلك الكتب، قادماً الى مطارح التجارب الحسيّة حيث يتبدى الملموس في علاقة الكاتب- الكتاب، محوريّاً. يتحدث مانغويل عن قراءات تتغلغل في كل عضلة منه لحدّ انه يحمل الى نومه، حين يقرر إطفاء ضوء المكتبة، أصوات وخلجات الكِتاب الذي يكون أطبقه للتو.
يجعل مانغويل من المكتبة مملكته الخاصة البعيدة عن تلك العمومية والإلكترونية، وفي مسار تلقف بيئة مرصوفة بالعناوين، يعود مانغويل الى “مكتبة الإسكندرية” التي بناها ملوك البطالمة في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد لكي يتاح إتّباع تعاليم أرسطو على نحو أفضل. يتمهّل عند مكتبة كانت مجمعاً للكلّ وكشفت “عن خيال جديد فاق بالطموح والإمكانات كل المكتبات القائمة آنذاك”. مكتبة على حدة نقش فوق رفوفها “انه مكان شفاء الروح”. فأي تعبير أجمل أو أكثر صدقا؟

لا يخفي مانغويل تشكيكه بمنجزات زمننا الفاقد في رأيه للأحلام الملحمية – الأحلام التي استعضنا عنها بالأحلام السلبية بوهمُ الخلود الذي ابتدعته التكنولوجيا. يصف المكتبة الإلكترونية بالوهميّة ولا يبدي رأفة حيالها مُشككاً في عالميتها. يشير إلى الشبكة العنكوبتية المدّعية انها صوت للجميع في حين انها بحر مجهول (يستعير تعبير Mare Incognitum اللاتيني من رسّامي الخرائط في إِشارتهم إلى المناطق غير المعروفة) يَخدعُ المسافرين بإغواء الإكتشاف.

يمرّ مانغويل بالحُجة الزائفة التي تدعو إلى الاستنساخ الالكتروني بسبب الانقراض الحتمي للورق، ويكتب في هذا الصدد “كل من استخدم كمبيوترا يعلم كم هو سهل أن يفقد المرء نصا على الشاشة، أن يصادف قرصا تقليديا أو آخر ليزريّا تالفا. أن يحدث دمار في القرص الصلب هو الجانب الآخر لكل الإغواء”. يعللّ كلامه باقتباس كلام مدير برنامج محفوظات السجلات الاكترونية في ادارة السجلات والأرشيف القومي للولايات المتحدة الأميركية، حول ان ديمومة المواد الالكترونية “مشكلة عالمية لأكبر الحكومات وأكبر الوكالات وصولا إلى الأفراد”. في عرف مانغويل ان مجتمعنا اللاورقيّ كما يعرفُه بيل غيتس، هو مجتمع بلا تاريخ، من حيث أن كل ما على الشبكة العنكوبتية “هو معاصر بصورة لحظيّة”.
في النصّ نحن في محاذاة المكتبة في تصوراتها المختلفة، كميثولوجيا أو مكان أو ظلّ أو شكل، أو المكتبة كمصادفة انطلاقا من كلام امبرتو إيكو الراغب في مكتبة تغدو كمثل أكشاك الكتب المستعملة، مكانا للعثور على اللقى. هناك المكتبة كجزيرة أيضا في الإستناد إلى كلام فرنسوا مورياك بأن “كل طاعن في السنّ هو كروزو”.

في فصل المكتبة كترتيب يورد مانغويل ان كل تنظيم هو اعتباطي في المحصلة وان المكتبات العامة تتّبع أساليب تتراءى غريبة أحيانا، كأن يجري ادراج اسم الكاتب ستاندال تحت حرف “ب” الذي يدل على إسمه الحقيقي بايل، أو أن يجري تصنيف النساء تحت “شؤون علميّة متنوعة”، بعد السحر وقبل المصارعة. ونجد في السياق عينه في مكتبة الكونغرس فئات طريفة من قبيل “أبحاث الموز” و”الأبواط والأحذية” و”المجارير: أعمال متنوعة”.
يستبقي مانغويل أيضا “المكتبة كسلطة” ليجزم انه يستحيل إنكار كل ما يرد في الكتب التي تضفي هيبة موحية بالإلهام المكلّل بالخشية. نمرّ على هذا النحو بالرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي طلب عضوية الأكاديمية الفرنسية ونالها من طريق رواية رومنسية يصفها مانغويل بالهزيلة وجاءت بعنوان “الممر”.

في زمن التحوّلات العربية المُفزعة حيث التحامل على الإرث بات عملة سائدة وسائغة أيضا، نرصد مانغويل يكتب وكأنه يصف حالنا عن أدب الأميركيتين الأصلييين الذي بالكاد وصلنا منه شيء، وعن المكسيك وأميركا الوسطى حيث تم تدمير المكتبات العظيمة ودور التوثيق لشعوب ما قبل كولومبوس بشكل منهجي “بغية تجريد تلك الشعوب من الهوية”.
في “المكتبة في الليل”، صورٌ كثيرة توثّق بصرياً مآل النص على نسق كليشيه لإحدى “المكتبات المحمولة على الحمير” في المناطق القروية الكولومبية، أو بطاقة بريدية تظهر مكتبة كوزيت في ممفيس، او صورة لنهب المكتبة الوطنية والوثائق الحكومية في بغداد فضلا عن أخرى لبورخيس تظهره في مكتبة بوينوس آيرس الوطنية حيث عمل مديرا خلال ثمانية عشر عاما وحيث احتفل بجميع أعياد ميلاده تقريبا.
والحال ان المراهق مانغويل شكل عينيّ الكاتب الأرجنتيني الضرير، خلال أربع سنوات. إنضم مانغويل على ما يروي في كتابه المحتفي بجودة الأدب الحي “في رفقة بورخيس”، الى مجموعة نالت شرف القراءة والتدوين لأحد اكثر قارئي العالم نهماً. تقاسم مانغويل مع آخرين قطعاً من ذاكرة فرغت عيناها من الضوء لتلتمع أدباً.

في منطق ألبرتو مانغول المكتبة هي عالم الفرص وهي الوطن والبقاء والنسيان حتى. يذكُر ان مكتبته حوت على نصف يتذكّره من الكتب ونصف آخر منها نسيه. وحين يسأله الزوار إذا كان طالع كل المحتويات، يأتي جوابه انه بالتأكيد فتح كلّ كِتاب منها. ليزيد انه ليس من الضروري قراءة المكتبة بكلّيتها لكي تكون مفيدة ذلك ان “القارىء ينتفع من التوازن العادل بين المعرفة والجهل وبين التذكّر والنسيان”.
لا يمكن شخصا يعيش في صحبة الكتب أن لا يجد ضالته في نص مانغويل. لا يمكن قارئاّ حَقاً أن يتجنّب التورط في المغامرة وأن يحصّن نفسه ضد الشعور بمتعة الرحلة.

roula.rached@annahar.com.lb
Twitter: @Roula_Rached77

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الناجي من مذبحة الحرب العالمية الثانية

ربيع جابر

هذا كاتب لا نجد اسمه في قوائم مكاتب المراهنات· لا تذكر وكالات الأنباء اسم الكاتب التشيكي إيفان كليما عند ذكر المرشحين لنوبل الآداب· كليما ليس حصاناً· الناجي من مذبحة الحرب العالمية الثانية اكتشف قوّة الأدب وهو يقرأ ديكنز وتولستوي في معسكر اعتقال· هذه الولادة الثانية يسجلها خيالياً في أكثر من رواية· حتى الساعة لم تدخل روايات كليما إلى المكتبة العربية· إذا تذكرته الأكاديمية السويدية ستكون مفاجأة·

صاحب ”حب وقاذورات” و”القاضي يُحاكم” لا يعرف شهرة مواطنه ميلان كونديرا في الغرب· لكنه مثله شاهد على أزمنة صعبة وعلى أنظمة قاسية تخنق الإنسان· لعل أدبه أبلغ أثراً في النفس· وصفه لعلاقات الحب لا يشبه أحداً· حواره الدائم مع أدب كافكا دليل آخر على كلاسيكيته· النزعة الإنسانية العميقة تحكم رؤيته إلى العالم· في ”حب وقاذورات” يمنحنا رواية غير عادية· كان يكتب لئلا يموت وهو قاعد وحيداً وكان ممنوعاً من النشر وبينما يكتب في براغ اكتشف مرة أخرى ما عرفه تولستوي وهو يكتب: قوّة الأدب لا نهائية· وسرّها في روح الإنسان التي تقاوم· الإنسان ضعيف وهشّ لكنه يريد أن يبقى· كيف ظلّ بريمو ليفي حيّاً؟ كيف لم يقتله الجوع والذلّ وتوحش جلاده؟ العالم مملوء أماكن جميلة وأماكن قاتلة· الجنّة تجاور جهنم وأحياناً نحيا في المكانين معاً بانقلاب الدقائق أو الأمزجة· ماذا يصنع كاتب مُنع من الكتابة وعُزل في بيته؟ هل يواصل الكتابة سرّاً؟ أي أهمية لهذه المأساة الصغيرة بين مآسٍ أخرى كثيرة؟ ما قيمة هذه الحياة الواحدة المفردة في بلد مضروب بالاستبداد؟
هناك توازٍ بين سيرة إيفان كليما وسيرة غاو كسينغيان· ”حب وقاذورات” (1986) ليست ”جبل الروح” (1990)، لكن هناك مقاطع في الكتابين تتشابه أسلوبياً على نحو غريب· كأن نبرة واحدة تروي ما يُروى في المقاطع المذكورة· كيف حدث هذا؟ صعب الحديث عن أثر لأحد الكاتبين في الآخر· يجوز التفكير في احتمال أبسط (أبسط؟) وأقرب إلى المنطق: أنتجت ظروف تاريخية محددة في مكانين متباعدين على الأطلس صوتين يتشابهان في لحظات محددة· كأن نظرة واحدة تغلف الأشياء في تلك الساعة· كليما (في براغ) وكسينغيان (في بكين ثم هارباً إلى باريس) يتشابهان ولا يتشابهان· هل قرأ كسينغيان ”حب وقاذورات”’ بينما يكتب ”جبل الروح”؟ هذا السؤال غير مهمّ وغير ضروري· لا قيمة له· يشبه أن نسأل أغوتا كريستوفف (لكنها ماتت) هل قرأت ”نهاية العالم وبلاد العجائب”، أو أن نسأل هاروكي موراكامي هل قرأ ”الدفتر” أو ”الدليل” أو ”الكذبة الثالثة”؟ يتحوّل كليما إلى كانس طرقات لئلا يبقى محجوزاً في البيت ومحاصراً بصمت كامل يهدد سلامته النفسية· مثل تشايكوفسكي تغلب على أحزانه بقوة إرادته وحسب· يحوي العالم زوايا مرعبة· أبناء العالم الثالث لا تعطى لهم فرصة لنسيان ذلك· أوروبا الشرقية كانت (على نحو ما) عالماً ثالثاً·· أين هي الآن؟ في هذا الجانب من الكوكب دول كثيرة ورثت أوروبا الشرقية· رمزياً· مع اختلاف التجربة·· الأمكنة المقفلة· المساحة المعزولة· السور المسحور الذي يلف الدولة· آلة الدعاية الرسمية التي تكذبب بلا توقف وتصنع للمواطن عالمه الفظيع الخانق: ”أنت في أفضل مكان في العالم (تقريباً، وأخلاقياً على الأقل)، ولا تصدق أي شيء آخر غير هذا”· الفقر والأمية والتخلف· احتقار من هم تحتك· هل يمكن تبسيط الحياة إلى هذه الدرجة؟ هل تتحوّل دول كاملة إلى معتقلات؟ هذا غير ممكن· وأقرب إلى الخيال العلمي· لعله استعارة· العمل يحرر؟ الثورات تفضي إلى حياة أفضل؟ هل الأسوأ خلفنا أم أمامنا؟ لا يريد الإنسان أن يقضي تحت الدعس· ليس بهيمة· يطلب حياة أفضل· كرامته ولقمة العيش وما هو أحسن لأولاده· أحياناً يمكن أن يهدر دمه في سبيل عالم خيالي ينتظره (أو لا ينتظره) في المستقبل· يهدر أثمن ما يملك: حياته· وجوده في هذا العالم· هل يهم موته أحداً في تلك البلاد البعيدة؟ بلاد تشبه الخيال· وبلاد حقيقية· جثث تملأ شوارع· برادات تتبقع بالدم· في هذه الأثناء يتسلى العالم بأخبار القتلى· الأرقام والبيانات· جحيم دانتي· ماذا يفعل إنسان أمام وحش يسحقه وهو يبتسم؟ ماذا يكون هذا الجهاز الجهنمي الذي يقبل القتل (التدمير) كأنه شربة ماء؟ لا يحلل كليما آلة القتل ولا يشرّح هيكل السلطة وعمى السلطة وجنون السلطة· يبدأ من قصص شخصية· من ناس عرضة للتحطم· عرضة للعقاب· وجريمتهم عدم القبول بما كتبت الدولة لهم· ناس عرضة للنفي خارج الوجود· للرمي في الأقبية أو خارج الحياة· لم تعد أوروبا الشرقية مسألة الآن· جدار برلين إشارة إلى عالم قديم· خيالي· هل فقدت روايات كليما قيمتها؟ زال العالمم حيث كُتبت· خسرت قيمتها؟ الأدب الحقيقي يستمد طاقته من الأعماق· مرور الزمن لا يسرق جوهره· ولاا اندثار البلدان· براغ ما زالت براغ· حتى إذا زالت تبقى محفوظة في كتاب· أين نحيا الآن؟ داخل أي جدار؟ يحوي العالم زوايا مرعبة· في زاوية مظلمة في براغ جلس كليما على مرّ سنوات وكتب من أجل أن يبقى (من أجل أن يتأكد أنه موجود) رواياته· ماذا يعني أن يكون أحدنا موجوداً؟

هي رواية عن النصف الثاني من القرن العشرين في براغ. نصف قرن من السنين، في حوادثها الكبرى ونظام العيش والقيم والتربية الاخلاقية والعاطفية والعائلية، تحضر حضوراً روائياً في حياة الشخصيات وعلاقاتها وتكوينها ومصائرها الدرامية، عبر مونولوغات داخلية تطلقها الشخصيات الثلاث الأساسية في صيغة المتكلم المفرد، كأنها في محاكمة شخصية منفردة، شاقة وقاسية لنفسها وافعالها وسيرتها، وللعالم والوجود.

ثلاث شخصيات اساسية تحاول كل منها، فيما هي تروي حوادث حياتها وعلاقاتها الراهنة، الجواب عن سؤال وجودي دائم: لماذا انا هكذا؟ لماذا اعيش حياتي على هذا النحو؟ ما الذي ادى الى ان اعيشها على هذه الصورة؟ هل أستمر في عيشها هكذا، ولماذا؟ مادة الجواب هي الوقائع اليومية الحية، السير الشخصية والعائلية، مرويّة على نحو متقطع في مونولوغات متشعبة كمتاهة. لكن ليس هدف الروائي من هذا كله الوصول الى اجوبة، بل على العكس تماما: عدم الوصول، واستغراق الشخصيات في اكتشاف ذواتها وسبر اغوارها الخفية أو المظلمة، واستنطاق العوامل التكوينية التي تصدر عنها افعالها ومشاعرها وعواطفها وقيمها الاخلاقية، اي كينونتها الشخصية ومصيرها. في هذا المعنى ليست “لا قديسون ولا ملائكة” رواية حوادث خارجية، بل هي رواية حوادث مسرحها الزمن الوجودي والوقائع في حياة الأشخاص وعلاقاتهم. اي التاريخ الشخصي، بل الميكرو تاريخ في حياتهم الشخصية. فكل منهم ينكبُّ انكباباً مضنياً على التأريخ النفسي، وشبه الفلسفي لحياته الشخصية وكينونته. مادة هذا التأريخ الحياة العائلية وحوادثها ومنعطفاتها، الزمن الاجتماعي العام وحوادثه الكبرى: النازية، الستالينية، الشيوعية، ومآسيها المروّعة المطمورة في حيوات الافراد وعائلاتهم وعلاقاتهم.
هذا ما يحمل القارئ على التأني في قراءته الرواية، لأنها ليست من الروايات القابلة لقراءة تقوم على تتبع الحوادث وتسلسلها وتوالدها على نحو خيطي. انها رواية داخلية، كلما تقدمت فيها تباطأت في القراءة، متمنياً أن تطول، فلا تبلغ نهايتها. لذا تجد نفسك راغبا في اعادة القراءة والتمهل والتمعن في ما تقرأ، بل التوقف المفاجئ عن القراءة، لتسرح ساهماً متأملاً مفكراً، كما في أحلام يقظةٍ ذهنية، مستعيداً لحظات ومواقف وحوادث من حياتك الشخصية، ومن حياة اشخاص تعرفهم، مفكراً في مصائرهم ومصائر المجتمعات التي صدروا عنها.
تحضر الأزمنة الاجتماعية التاريخية في الرواية (النازية والستالينية)، بوصفها عوامل تكوينية في الشخصيات الروائية وعلاقاتها وسيرها ومصائرها الشخصية. وهي غالبا ما تحيل على أزمنة اجتماعية تاريخية عربية ولبنانية ماضية وحاضرة. كأن تفكر وتحدس مثلاً، في أثر الحروب في لبنان، في مصائر اجيال واشخاص عاشوها، وفي مصائر اجيال اخرى واشخاص آخرين ورثوا آثارها عن اهلهم. او ان تفكر تفكيراً حدسياً في آثار الحرب السورية الراهنة في تكوين أجيال سورية بعد عقد أو عقدين من السنين.
ليست الإحالات والمحاكاة الخارجية او البرانية للاجتماع والتاريخ ما يشكل الحقيقة الروائية وعصب الفن الروائي في عمل كليما الروائي الذي لا يكفّ القص فيه عن ارغامنا على تعليق القراءة، كي نستغرق في تأمل ذهني حدسي بالمصير الانساني، بمصائرنا الشخصية، بمآسي مجتمعاتنا وتواريخها، بما تركته المآسي التاريخية في التكوين والمصائر الفردية والجماعية من آثار لا تمحى، او يصعب محوها في اعمارنا وفي اعمار اجيال قادمة. في هذا المعنى يروي كليما الميكرو تاريخ، كما يتجلى في حياة الافراد، لتكون روايته هذه سجلاً لتأريخ حيّ طويل الأمد للاجتماع في بلده، أو سجلاً لتاريخ الحقب الطويلة المترسب في حيوات الأفراد وعلائقهم ومصائرهم الوجودية، على غرار ما ارّخ كبير المؤرخين الفرنسيين الراحل فرنان بروديل، للبنى العميقة شبه الثابتة او الساكنة للحضارات والمجتمعات في اعماله الرائدة.

الوقائع وسؤالها الفلسفي
كريستيانا، الشخصية الرئيسية أو المحورية، تفتح الرواية على النحو الآتي: “قتلتُ زوجي الليلة الماضية. استخدمتُ مثقبَ أسنان لثقب جمجمته. انتظرتُ لأرى حمامة تخرج من رأسه، لكن خرج بدلاً منها غراب أسود كبير. استيقظتُ مرهقة، أو على نحو أكثر دقة بلا شهية للحياة. (…) هل شعرت للحظة بشهية مفعمة للحياة؟ لا أظن، (…) تعيش طويلاً جداً كأنك تتوقع شيئاً ما. اليوم السبت، لديّ متسع من الوقت لكي احلم واحزن. ازحف خارج سريري المفرد. (…) وضعتُ نباتاً مطاطاً مكان نصف الفراش الآخر. لا يسعك عناق نبات مطاط، ولا يسعه ملاطفتك. لكنه لن يصاحب احداً غيرك”.
عن كارل الذي تصرّ طوال الرواية على تسميته “زوجي الاول والسابق والأخير”، تقول: “لا أكرهه، بل ارثي له. فهو أكثر وحدة مني، وبداخل جسده مرض مميت يقرضه (في مصح لمرضى السرطان). لكن أليس في دواخلنا جميعاً شيء ما يقرضنا. (…) كنت دائما أتساءل لماذا أحيا؟ لم يعطني والداي إجابة واضحة أبداً. خمّنت أنهما أيضاً لا يعرفان. لكن من الذي يعرف؟ ما إن تولد، عليك أن تعيش. لا، هذا ليس حقيقياً. في امكانك الانتحار في أي وقت، مثل جدي انطونين، أو عمتي فيندا، أو فرجينيا وولف (…). كنت لأود الانتحار لولا كرهي للجثث (…) لماذا يجب على من يحبونني أن يتعاملوا مع جثتي؟ سيضطرون لذلك يوماً على أية حال”.
هذه الأسطر من مطلع الرواية، ليست سوى عينة نموذجية تتكرر في رواية الحوادث المتناسلة على النحو نفسه، كلما تقدمنا في قراءة الفصول والصفحات. وهي تبيّن كيف يبني كليما جملته الروائية على نحو أخاذ: الواقعة واستنطاقها والتأمل فيها، ووصلها مباشرة بالزمن الوجودي والكينوني للشخصية، وصلاً محكماً ودقيقاً، حسيّاً وبسيطاً في ظاهره، لكنه شديد التركيب في حقيقته، وفي تنقيبه المستمر في الوعي واللاوعي عن ركائز التربية الأخلاقية والعاطفية للراوي بضمير المتكلم المفرد. من كل حادثة تُروى يولد سؤال فلسفي مداره حياة الكائن البشري. وهو سؤال مرتد، يولد عضوياً من الوقائع الحية المعيشة، من دون إقحام خارجي. كأننا إزاء فلسفة حسيّة للوجود الشخصي أو الفردي: لماذا أتألم، لماذا تألمت، ولماذا يتألم البشر؟
حين تستنتج كريستيانا، في خضم تمرد ابنتها المراهقة المشاكسة عليها، أن الإبنة، جانا، “تريد أن تعيش حياتها بطريقتها” أو على هواها، سرعان ما تتساءل: “ماذا يعني أن تعيش بطريقتك في عالم يغصُّ بمليارات من البشر؟”، ومليارات من طرائق العيش. تقرر مرة ان البشر يؤذون، لأنهم “يرغبون في تركِ شيء ما خلفهم”. لهذا “يمكننا أن نقتل أيضاَ (…) أو على الأقل هذا ما يفعله الرجال في جميع أنحاء العالم (…) بابا (مثلا) ظن أنه يزرع جنَّة عدن جديدة (الاشتراكية الشيوعية)، مع ذلك نسي أن الحب هو التربة التي تنمو فيها الحياة. لكن البستاني الرئيس (ستالين وحزبه) أوصى بالكراهية، لذلك ساهم أبي في تمهيد ساحة إعدام بدلاً من زرع جنينة”. في المقبرة بعد دفن والدها، تقرر: “على كل منا أن يتكيَّف مع قدره (…) وفي هذا قدرٌ من العدل، وليس لنا أن نتدخل فيه”.

اللامبالاة هي الحل
تبلغ الرواية ذروتها في محاكمة الماضي، حين يتسلم الشاب جان دور الراوي. فهو يعمل في مؤسسة أبحاث تعنى بتسجيل جرائم النظام الشيوعي وتوثيقها. النظام نفسه “دمّر شباب” والده، إذ سجنه 9 سنوات. يذهب جان لاستجواب رجل في الثمانين يقيم في دار للعجزة، وعمل في نهاية اربعينات القرن العشرين، محققاً في جهاز امن الدولة الستاليني. في أثناء الاستجواب لا ينكر العجوز أنه عمل محققاً. يسأله جان عن أسماء الذين حقق معهم، فيجيب: “أتظن أنك بعد مرور 50 عاماً من الآن، ستتذكر ما تفعله الآن معي؟ أنك مثلا جئت لترى رجلا عجوزاً في دار قديمة للمسنين” لتحقق معه وتسأله عن أسماء أشخاص حقق معهم قبل 50 سنة؟! يتلو عليه جان أسماء من أدينوا بسبب تهم لفّقها العجوز حين كان شاباً، لكن العجوز يجيب: “هؤلاء”، لا أتذكر حتى أسماءهم، ثم يتابع: “من المؤسف أنني لن أكون هنا بعد مرور 50 عاما لأرى إن كنتَ ستتذكر اسمي بعد كل هذا الوقت؟”.
بعد مدة يذهب جان في رحلة إلى مخيم جبلي مع أصدقائه. هناك “مع مرور كل دقيقة – يقول – أشعر انني أبتعد شيئاً فشيئاً عن الحياة التي كنت أعيشها. (…) ذهني صفا، وصار بامكاني أن أرى الخطوط العريضة لكل ما مضى من حياتي (…): عملي (في توثيق الجرائم الماضية) يسمِّم نفسيَّتي. يجبرني على الاهتمام بالتعاملات الخسيسة للماضي. (…) ينتابني شعور بأنه – مثلما في سدوم – لن يوجد في المدينة عشرة رجال عادلين”. أخيراً يقرر: “الحقيقة ان الطريقة الوحيدة للبقاء هي اللامبالاة بالأشياء التي نكرهها والتي تزعجنا في البشر والعالم”. هكذا وصل جان إلى النتيجة نفسها التي وصلت إليها كريستيانا في المقبرة بعد دفن والدها. هنا يلتقي كليما مع مواطنه القديم الروائي ميلان كونديرا الذي “أنكر” تشيكيته أو تخلّى عنها، تخليه عن الكتابة بلغته الأم، وتبنى الجنسية الفرنسية والكتابة بالفرنسية، بعدما كان كتب إحدى أجمل رواياته بالتشيكية، “كتاب الضحك والنسيان”. هذان الضحك والنسيان رأى أنهما الدواء الشافي من الماضي ومآسيه. كأن الروائيين يعلنان بعبثية: ما لنا والماضي ومآسيه، ما دمنا لا نقوى على تغيير واقعة واحدة من وقائعه ووقائعها.
ملاحظة أخيرة: على رغم الأخطاء اللغوية والنحوية، يبدو أن إيمان حرز الله بذلت جهداً استثنائياً في ترجمة الرواية، في زمن ندرة الترجمات الجيدة.

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

هل تعرف الأدب العَبَثي؟ رواية “مالون يموت” تشرح لك!

هل تعرف الأدب العَبَثي؟ رواية "مالون يموت" تشرح لك! 4

 

يبدأ الكاتب القصة بهذه العبارات: “سيدركني الموت قريباً بصرف النظر عن أي شيء”، لترى نفسك أمام شخصية غريبة عليك وعلى نفسها، تحاول أن تقص القصص منتظرة الموت.. قصصاً ليست جميلة أو قبيحة ولا يوجد فيها أي انفعال، قصص بلا حياة مثل راويها.

هنا أنت تقرأ للكاتب الأيرلندي صاحب الضحكة العدمية صموئيل بيكيت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1969، الكاتب العبثي الذي رمى كل أنواع السرد المتعارف عليها ليكتب بأسلوبه الخاص ويسمعنا الأصوات الداخلية في أعماق الإنسان.

يعتبر بيكيت من أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين، وكان مصدر إلهام للكثير من الكتاب، اشتهر بعمله المسرحي الذي صنع ضجة كبيرة “في انتظار غودو”، وهو عمل يتحدث عن رجلين مشردين ينتظران شخصاً ما أو شيئاً اسمه غودو. ما يميز هذه المسرحية أن لغة بيكيت كانت بسيطة والحوارات عميقة، لن نتحدث عن هذه المسرحية لكنها لا تزال حتى الآن واحدة من الرموز الأكثر سحراً وجمالاً، ومن المحتمل أن هذا العمل جذب العديد من القراء لروايات صموئيل بيكيت، بالإضافة إلى عدد لا بأس به أصابته خيبة أمل كبيرة بسبب تدميره للشكل الأدبي المعتاد.

malone dies

“مالون يموت” هي رواية بيكيت الثانية، وإذا كانت هذه المرة الأولى التي تقرأ فيها لبيكيت ربما سوف تشعر بالملل كثيراً وترمي هذا الكتاب بعيداً عنك، أو ربما تستمتع بقصصه غير المترابطة مع بعضها والتي لا تحتوي أي أحداث مهمة، لذا حاول أن تبدأ بعمله المسرحي انتظار غودو.

في هذه الرواية لا تنتظر من الكاتب أن تصل في النهاية إلى شيء ولا تتوقع منه شيئاً أيضاً، هذا هو الأدب العبثي وهو أدب صعب، لذا لا تحاول أن تجهد عقلك لفهم ماذا يحدث بل استمتع بالكلمات التي يقولها وتخيل نفسك تجلس أمام تلك الشخصية لتحاول سماع القصص وتفهم ماذا يحدث على أرض الواقع، حاول أن تكون هذا الإنسان الذي وجد نفسه في غرفة لا يعرف كيف أو متى أو ربما لا يتذكر أي شيء.

هذا الشخص الذي يحاول أن يسرد لنا عن نفسه وعن ماضيه ويحاول أن يقص بعض القصص من أجل أن يسلي نفسه وهو ينتظر الموت، يحكي ثلاث قصص؛ قصة عن رجل وقصة عن امرأة وقصة عن شيء ما ربما يكون هذا الشيء حجر، وهي قصص عادية جداً، قصص لا تشعرك بشيء لكن كلماتها قوية ورصينة، وربما ستشعر بالممل لأنه كما ذكرنا أن قصصه لن تعطينا أي انطباع أو أي نوع من أنواع الانفعال.

مالون يموت

عندما تستمع لمالون وهو الشخص الذي يحكي القصص منتظراً الموت تصل إلى مرحلة تجد فيها أن القصة التي يرويها لا مغزى لها، يضعك أمام متاهة غريبة يتحدث قليلاً عن نفسه، لينتقل إلى قصة سامبو الذي لا يعرف من أين أتى هذا الشخص، ومن ثم يترك هذه القصة وينتقل إلى القصة الثانية التي قرر أن يقصها لنا أو ربما يريد أن يقص لنا القصة الثالثة التي تتحدث عن الحجر، جميع القصص التي يرويها يختلقها من عقله ويشعرك أن تلك القصص لا معنى لها حتى هو نفسه لا معنى له.

يجب على القارئ أن يعرف قبل أن يبدأ أنه يقرأ أدب العبث، حيث يخرج فيها هنا بيكيت عن المألوف في الكتابة، فلن تجد الحبكة ولن تجد السرد الروائي المعتاد، بل ينتقل بك من قصة إلى أخرى ومن ثم يتحدث عن نفسه ليعود إلى قصة أخرى. سوف ترى ثلاث شخصيات لا تعرف إن كانوا نفس الشخص أم هم شخصيات مختلفة، ومن ثم سوف تتفاجأ في نهاية القصة لأنك لم تفهم ما هي النهاية أو تحاول أن تقنع نفسك أنك فهمت النهاية.

الخلاصة أنك هنا أمام كابوس حقيقي! أنت أمام رجل يختلق القصص والحكاية لكيلا يشعر بالملل وهو في انتظار الموت. وأثناء رواية القصص الأسماء تتغير، الأرقام تطمس، ربما يتكلم عن نفس الشخص أو أنهم أشخاص مختلفين، أو هو يتحدث عن نفسه. وفي النهاية يصبح في قصصه أكثر عنفاً، مزدحماً، يشعر بالهلوسة، فتخيل معي عن ماذا سيحدثك هذا الشخص وحاول أن تستمع إلى قصص مالون التي لا تملك أي حياة.

1964, New York, New York, USA --- Samuel Beckett on the set of his movie, , looking at a fish through a magnifying glass. --- Image by © Steve Schapiro/Corbis

اقتباسات

# لقد ولدت جاداً كما يولد البعض مصاباً بالسفلس، وبجدية كافحت لأن أكون جاداً أكثر. أن أعيش وأبدع. أعرف ما أعنيه، ولكن عند كل محاولة جديدة أفقد عقلي، أهرب إلى ظلالي كما يهرب المرء إلى معبد، أو إلى معمله حيث لا يستطيع أن يعيش ويقاسي رؤية الآخرين يعيشون.

# أرى الحياة دون أن أعرف ما هي. حاولت أن أعيش دون أن أعرف ما أفعله أو أحاول أن أفعله. وعشت على الرغم من ذلك، دون أن أعرف.

أنا مدفون في العالم، أعرف أنني سأجد مكاني يوماً ما هناك، فالعالم القديم يعزلني منتصراً، أنا سعيد بذلك، عرفت أنني سأكون سعيداً يوماً ما. لكني لست حكيماً، فالحكمة تتطلب أن أنطلق الآن. في هذه اللحظة من السعادة، لكن ما الذي أفعله بدل ذلك؟ أعود ثانية إلى الضوء والحقول، وأتشوق إلي الحب وإلى سماء تموج بسحب صغيرة بيضاء خفيفة كشرائح الثلج، إلى حياة لم أستطع أن أعيشها، بسبب أخطائي طبعاً، وكبريائي وتفاهتي. لا أعتقد ذلك. الوحوش في المرعى، والشمس تدفئ الصخور وتلمعها، أترك سعادتي وأعود إلى جنس البشر الذين يجيئون ويروحون بأوزارهم.

أستطيع أن أميز بين الأصوات الخارجية. أوراق الشجر، تأوه الجذوع، الأغصان، حتى الأعشاب، كل شجرة لها صيحتها الخاصة، ولا تتشابه شجرتان همسهما.

الكلمات والصور تعربد مسرعة في رأسي وتندمج فتختلط مع أنفاسي، وحين أخرج أنفاسي تملأ الغرفة بضجيجها، مع أن صدري لا يتحرك إلا كطفل نائم.

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

وودي ألن والحياة

مقابلة مع وودي الن

SACVEIT

– السيد “ألن “، هل تؤمن بأن السّعادة في الحَياة مُمِكنة؟
– هذِه نظرتِي، وكانت دَائَماً نظرتِي للحَيَاة، نَظَرة مُحبَطَة جِدًا. لقد كانَت دائِمًا هَكذا مُنذ أنّْ كُنت صَغِير؛ ولم تَتَغير للأسوأ بِسَبَب تقدم العُمر أو أي شيء اخَرَ. اشعرُ بأنهَا مُحبطة، قَاسِيـة، كابوسية، تَجَربة لا مَعَنى لَهَا. والطريقة الوَحِيدة لتكون سَعِيد هِي أن تكذب وتخدع نفسك!
– أعتقد أنه من المُمكن القول، أن أغلبَ النّاس لنْ تُخَالِف الرأي؟
.
-لكنْ أنا لستُ أول شَخَص يَقول هَذا حَتّى الأشخاص الأكثر فَطَانة. لقد قَالَهَا نِيتشيه، وقالها فرُويد. وقالها يُوجِين أونيٌل. الشَّخَص يَجب أنّْ يَخَدع نَفَسه ليَعِيش. إذا نَظرتّ للحّياة بِصدق ووضوح، سَوَف لن تُطِيقها، إنها مُغَامَرة مُحَبطة للغاية، وسوف تَعَترف بِذلك فِي النِهَاية.
– من الصّعب تَخيّـل “وودي ألن “ يَعِيشُ حَيَاة صَعَبة …
– لقد كنتُ مَحَظُوظ جِدًا، جَعَلتُ من مَوهِبتي حَيَاة انتاجِية مُثمرة، ولكنِ لستُ جَيدَ فِي أيّ شيء أخر، لستُ جَيَد في تَخَطِي الحَيَاة، حتى ابَسَط الأمور. هُناك أشياء تبدو كلعب العِيال للناس ويَصَعبُ عَليَ القِيام بها
– هل تَسَتطِيع إعطائي مِثال؟
– مثل تفّقد حَجّز طائِرة او فُندق، عَلَاقاتِي مَع الناس الأخُرى، الذهّاب للمشِي، تَبَديل الاشياء في متجر…إنني اعمل على نَفَس الألة الكاتبة مُند أنّ كنتُ في السَادِسة عَشر مِن عُمري-ولا تزال تبدو جديدة. كل أفلامي كتبتُها على تِلك الألة، لكنِ حَتىّ الآنّ لا أزال عَاجز عن تغيير شريط الألوان بنفسي، احيانًا. يأتي وقت حِين أدعو الناس للعشاء فقّط حتى يُستبدلوا شريط الالوان، هذا مأسّاوي!
– ألا تثق بوجود أشياء جَيَدة فِي الحياة؟
– الحَيَاة مَليئة باللحظات الجَيَدة، الفوز في اليَانَصِيب، رؤية امرأة جَمِيـلة، عَشاء رائع-ولكن الأمَر كله مَأساوي. أنِها واحَــة غَنِية، خُذ على سَبِيل المِثال فيلم برغمان، (الخاتم السابع). هذا الفيلم مأساوي جدًا، ولكن هُناك لحظة عِندما يَجَلسُ البَطل مَع الأطفال ويشربُ الحَلِيب ويأكل الفراولة البِرية. ولكن تِلك اللحظة تَخَتفِي بِسرعة ويَعُود للوجود كما كان عليه.
– هل انت مُتشائم بِنفس هذا القدر مَعَ ” الحُب “؟
– هذا الامر يَعَتمدُ عَلى الحَظ أكثر مِمَا تتخيل، الناسّ يقولون لو أردَتَ الحُصّول عَلىَ عَلاقة جَيدة، عَليك العَمَل عَلى هَذا. ولكنك لا تَسَمع هذا الكلام على شيء اخر تُحبه، مِثل الإبِحَار أو كرة القدم، لن تقول: عَليّ العَمَل عَلىّ هَذا. فقط تحبُ ذلك الشيء. لا تَسَّتطيع العَمَل على علاقة؛ لمْ تُسيطر عليها. يَجَبُ عليك أن تكون مَحَظوظ وأن تَعِيش حَيَاتك. وإذا لم تكنّ مَحظوظ عَليك الاستعداد لمراحل مِن التعذيب. لهذا كل العلاقات تبدو صّعبة وفِيها مراحل مِن الألم. النَّاس تبقى مَعًا مِن أجَلَ الحِفَاظ على الوجّود، لا يَملِكون الطَاقة الكافِية. لأنهم يَخَافُون من البَقَاء وحِيدين، أو مِن إنِجاب الصِغار.
– هل يستطيع الرجل أن يُحب امرأتان فِي نَفَس الوقت؟
– أكثر مِن اثنين (ضحكات) اعتقدُ انَه يَستطِيع! لهَذَا فالرومانسية صَعبة ومُؤلِمة جِداً، ومُعقدة أيضًا. يُمكن أن تكون مَعَ زوجتِك، زَوَاجَ سَعَيد جدًا، تم تَلتقِي بامرأة اخرى وتُحبها، ولكِنَك تُحب زوجتك، أيضًا… وتُحب الأخرى في ذات الوقت… أو مِن المُمكن أن تلتقِي الامرأة الأخرى التي أحببتها برجل أخر فتُحبه وتُحبك أنت أيضًا. وبَعَد ذلِك تلتقي بشخص اخر، ويُصبح هُناك ثلاثة اشخاص في حَيَاتِك. (ضحكات) لِمَاذا إذًا نُحِب شَخَصًا واحدًا؟
– الأمور تبدو شائِكة بالإنصاتَ إلى نَصائِحك.
– من المُهم أن تُسيطر على نَفَسك لانّ الحَيَاة تُصّبحُ أكثر تَعَقِيداً إذًا لمْ تَفَعل، لكن الدوافع غالبًا مَا تكونُ عِند الناس. البَعَض يَقول انّ المُجتمع يَجَب أن يكون أكثر انفتاحاً. وهذا لا يَعَمل أيضًا. انه مَوقِف خَسَّاران فِي الحَالتِين، إذا اتبعتّ المَرأة الأخُرى أنه مَوقف خَاسَر ايضًا وهَذا ليس جَيَد لعلاقتك ولا حتى لزواجك. حتى لو كان زواجك مُنفتِح ومَسَمُوح لك بهذا، هذا ليس جَيَد ايضًا. لا توجد طريقة، فِي النهاية حقًا، لن تكون سعيدًا إلا إذا كُنت مَحَظوظ!
– هل سَبَق لكّ ان بَكِيت؟
– ابكِي فِي السينما دائمًا. تقريبًا هو المَكان الوَحِيد الذي أبكِي فيه باستمرار، لأني اعُانِي من مشكلة في البُكاء. أثَنَاء عَمَلي فِي “ هانا وأخواتها Hannah and her sisters ” كان هُناك مَشَهد حيث كان يفترض أن أبكِي، وقد جربوا كل شيء، ولكنه كان مستحيل. رشوا أشياءً عليّ عيناي ولكنِ لم أبكِى، لكن في السينما أذرف الدموع. مِثل السحــر، شهدتُ نِهاية “ سارق الدرجات ” او “ اضواء المدينة ”. انه المكان الوحِيد، ليس حتى في المَسَارح وتقريبًا ليس حَتى فِي الحياة!
– كُنت تمثل في اغلب أفلامك، ولكن في السنوات الأخيرة أصبحتّ لا تظهر إلا نادرًا، لِماذا؟
– فقط لأنه لا يُوجد جُزء جيَّد، لِسّنَواتَ لعبتُ دَوَر البُطولة فِي الافلام الرومانسِية وبَعَدها لم يَعد بإمكاني القِيام بذلك. لأنني صِرت كبيـر. ولا اجّد مُتعة في لعبّ دَوَر الرَّجل الذي لا يَحصلُ على فتاة جَمِيلة. انه مُحبط تَخَّيل القِيام بِصُنع أفلام من بطولة “ سكارلت جوهانسن” أو “ ناوومي واتز” والرجَال الاخرين يحصُلون عليهنّْ وانَا فَقط المُخرج. أنا ذلك الرَجَل الكبير الذي يكون مُخرج العمل. لا أحبُ هَدَا. أحبُ ان أكون الشخص الذي يجلس معهنّ على طاولة المطعم، انظر لأعينهن وأكذب عليهن. إذا لم أستطع فعل هذا لنّ يكون منّ المُسلي ان أمثل في اي فيلم.
– ما هو رأيك حَوَل التقدم في السن؟
– أجَدهُ صَفقة خَسِيسة، لا يوجد ايّ مُميزات بأن تَكون كبِير. لا تَصَّبح أكثر ذكاء، ولا أكثر حِكمة، ولا أكثر نُضِج، ولا تُصِبح ألطف، لا شيء جَيَد يَحَدثّ. ظَهرك يُؤلمك، يُصِيبَك عُسرٌ في الهَضَم، والبَصّر لا يعود جَيَد، وتحتاجُ لجِهَاز يُسَاعِدك علىّ السَّمع. انه أمَرَ سيء أنّ تُصِبح كبير وسَوَف أنصَّحك بأنّ لا تَفَعل إذا كان بِإمَكِانك الابتَعَاد عنه. فليس هُنَاك أيّ خَاصِيات رومانسية.
– هل سوف تَتَوقف عن صُنع الافلام؟
– بكِل بَسَاطَة أنَا أحبُ العمَّل. أين يُمكنني تَطَوير طُموحاتِي؟ كـفنان، تَسَعى دائمًا نَحَو إنجَاز عَمَل عَظِيم ولكنِ يبدو كأنك لن تَصَل لِذلك أبدًا. تُصَّور الفِيلم، والنتِيجة مِن المُمكِن دائمًا ان تكونّ افضـل. وتجرب مَرَة اخرى، تفشل مَرة أخرى، بطريقة ما أجَدَ هذا مُمتِع للغاية. لن تخسر تَركِيزك عن هَدَفك ابدًا. أنا لا أقوم بعملي مِن أجَلَ الحصُول عَلىَ النُقود أو لتَحطِيم أرَقَام فِي شُباك التذاكر. بِكل بَسَاطة انا أجرب الأشياء. مَاذَا سَيَحصّل لو حَقَقتُ الكَمَال فِي عَمَلِي، مَاذَا سوف أفعل بعد ذلك؟
اجريت هذه المقابلة بتاريخ 20 يوليو 2012 و نشرت علي موقع the talks.
لقراءة النص الأصلي:http://the-talks.com/interview/woody-allen