نشرت تحت تصنيف غير مصنف

10 نصائح عن أسلوب الكتابة من نيتشه

10 نصائح عن أسلوب الكتابة من نيتشه

كتابة: سارة شهيد

____________________

فريدريش فيلهيلم نيتشه (1844-1900) فيلسوف وشاعر ألماني. كان من أبرز الممهّدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميزاً. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول المبادئ الأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضاً. عموماً بلغة ألمانية بارعة. يُعدّ من بين الفلاسفة الأكثر شيوعاً وتداولاً بين القراء.

تحت عنوان “نحو تعليم الأسلوب الفني” قامت (لو أندرياس سالومي) بنشر النصائح العشرة للكتابة والتي أرسلها (نيتشه) لها كوصايا، حيث قام بكتابتها ضمن سلسلة من الرسائل لتقوم (سالومي) بنشرها بعد حوالي عشرين عاماً.
يقول (نيتشه) في نصائحه:
  1. الحياة هي أهم ضرورة يجب أخذها بالحسبان، فالكتابة نمط حياة يجب أن يحيا.
  2. يجب أن يكون أسلوب الكتابة ملائماً للجمهور الذي تود مخاطبته (حسب قانون العلاقة المتبادلة).
  3. يجب على الكاتب أولاً أن يحدد بدقة ما الذي سيقوله وما الذي سيقدمه، وذلك قبل أن يبدأ بالكتابة. ففي هذه الحالة يجب أن تكون الكتابة أشبه بعملية محاكاة.
  4. بما أن الكاتب يفتقد للأساليب التي يجب عليه امتلاكها كمتحدث أو محاور، فيتوجب عليه أن يستخدم في نموذجه العام نوعاً معبراً من التقديم الضروري، فالنسخة المكتوبة ستكون أكثر ضعفاً.
  5. إن غنى النص بالإيماءات يعكس مدى غنى الحياة. حيث يجب على المرء أن يتعلم ضرورة الإحساس بكل شيء تماماً مثل الإيماءات أو الإشارات، وذلك مثل ما يتعلق بطول الجملة، موضع علامات الترقيم، اختيار الكلمات، مواضع التوقف وتسلسل الحوارات.
  6. كن حذراً عند استخدام النقاط. فالأشخاص الذين يتمتعون بنفس طويل أثناء التحدث هم المخولون باستخدام تلك النقاط. فمعظم الأشخاص يرون أن تلك النقاط هي شكل من أشكال التكلّف أو التصنّع.
  7. إن أسلوب الكتابة يجب أن يقدم ما يعتقد به الكاتب بفكرة معينة، ولا يجب عليه تقديم ما يفكر به فقط بل ما يشعر به أيضاً.
  8. كلما كانت الحقيقة التي يريد أن يقدمها الكاتب أكثر تجريداً، وجب عليه أن يقوم بإغواء الحواس أولاً.
  9. إن الاستراتيجية التي يستخدمها كاتب النثر الجيد تتألف من عملية اختيار وسائله التي تجعله يقترب من الشعر دون الوصول إليه.
  10. إن حرمان القارئ من أكثر الاعتراضات وضوحاً ليس بالأسلوب الذكي أو الجيد. فالأسلوب الذكي يقتضي ترك القارئ ليعبر بمفرده عن جوهر الحكمة لدينا.
نشرت تحت تصنيف غير مصنف

المكتبة الكونية – كورد لاسيفستر

 

library

 


المكتبة الكونيّة

كورد لاسفيتز- كاتب ألمانيّ

ترجمة من الانجليزية: يونس بن عمارة.

قال البرفسور ولهاوزن “تعالَ، واجلس هنا يا ماكس”.

“وتوقف عن النبش في مكتبي، لأني أؤكد لك أن لا شيء هناك يمكن أن تنشره في مجلتك”

سار ماكس بوركل نحو طاولة غرفة المعيشة وجلس ببطء، ومد يده ليأخذ كوب البيرة. “حسنا، نخبك أيها الولد الكبير، سعيد أنني هنا الآن مرة أخرى. ولكن بغض النظر عمّا ستقوله، فإنك ستكتب لي شيئًا.”

“للأسف ليس لدي أي أفكار جيدة الآن. أضف إلى ذلك أن الكثير من الأشياء المبتذلة كُتبت ولسوء الحظ فإنها طبعت أيضًا”.

“ليس عليك أن تخبر بهذا محررك المزعج، فالقضية الأساسية ما هي فعلا تلك الكتابات المبتذلة؟ الكتّاب وجمهورهم لا يتفقون أبدا على تعريفها. ونفس الأمر بالنسبة للمحررين والمراجعين. والآن فإن عطلتي لثلاثة أسابيع قد بدأت للتوّ. وفي غضون ذلك فإن مساعدي سيبدأ بالقلق”

“أحيانا أتسائل” قالت السيدة ولهاوزن “كيف أنك لا زلت تستطيع ايجاد شيء جديد للمطبعة لأني أعتقد أنه في هذا الزمن أن كل شيء يمكن التعبير عنه بالحروف -عمليّا- قد تم تجريبه بالفعل”.

“أعتقد ذلك، ولكن يبدو أن العقل البشري لا ينضب”

“أنت تعني في التكرار”

“حسنا، نعم” اعترف بوركل ” لكن حتى عندما يقومون بذلك للتعبير عن أفكار جديدة؟”

“نفس الشيء” قال البرفسور ولهاوزن متأملا: “يستطيع المرء أن يعبّر عبر الحروف المطبوعة عن أي شيء يمكن أن يُقدّم للإنسانية، سواءً أكان معلومة تاريخية أو فهما علميًّا لقوانين الطبيعة أو خيالا شعريا وقوة بلاغة أو حتى تعاليم الحكمة، شريطة أن تكون قابلة للتعبير عنها بالكلمات بطبيعة الحال. على أية حال، كُتبنا تحفظ وتنشر نتائج الفكر. لكن عدد التركيبات الممكنة التي يمكن توليفها من عدد محدد من الحروف هو عدد منتهٍ لهذا كل الكتابات الممكنة ينبغي أن تكون قابلة للطباعة في عدد منتهٍ من المجلدات”.

“صديقي العزيز”، قال بوركل “أنت تتكلم الآن كعالم رياضيات أكثر من كونك فيلسوفًا. كيف يمكن أن تكون كل الكتابات الممكنة بما فيها تلك المستقبلية في عدد منتهٍ من الكتب؟”

“سأشرح لك في لحظات كيف يمكن لعدد كبير من المجلدات أن تكوّن ‘المكتبة الكونيّة’ “. واستدار إلى ابنته وقال “من فضلك.. هلا ناولتني ورقة وقلم رصاص من مكتبي؟”

“وهاتِ أيضا جدول اللوغاريثم” أضاف بوركل بجفاف.

“ليس مهما، ليس مهما على الإطلاق” قال البروفسور. “لكن صديقنا الأديب لديه الكلمة الأولى أنا أسأل: لو كنا مقتصدين واستبعدنا كافة الأنواع المختلفة من الخطوط الطباعية وكتبنا فقط لقارئ متخيّل والذي سيكون مستعدا لأن يتخلى عن بعض العقبات الطباعية ومهتم فقط بالمعنى..”

“لا يوجد مثل هذا القارئ”. قال بوركل بصرامة.

“لقد قلتُ ‘قارئا متخيلا’ كم حرفا مختلفا يحتاجها المرء لأجل أن يكتب أدبًا عاما؟”

“حسنا” قال بوركل “دعنا نحسب أولا الحروف الكبيرة والصغيرة للأبجدية اللاتينية، وعلامات الترقيم العادية، والمسافة التي تجعل الكلمات منفصلة. وهكذا لن يكون العدد كبيرا جدا. لكن عندما نأتي للأعمال العلمية فتلك قصّة أخرى. لا سيما أنتم معشر علماء الرياضيات لديكم عدد كبير جدا من الرموز”

“والتي يمكن أن تعوّض بالاتفاق برموز صغيرة مثل a1، a2، a3 وa1، a2، a3 ستضيف فقط مرتين عشرة أحرف. وبإمكان المرء حتى أن يستعمل هذا النظام لكتابة كلمات من لغات لا تستعمل الأبجدية اللاتينية”

“حسنا ربما يستطيع قارئك المتخيل أو بتعبير أفضل قارئك المثاليّ أن يتساهل مع هذا أيضًا. وفي ظل هذه الظروف يمكننا ربما أن نعبّر عن أي شيء، دعنا نقول، بمئة حرف مختلف”

“حسنا، حسنا والآن كم تريد أن يكون حجم كل مجلد؟”

“أعتقد أن المرء يمكن أن يستنفد موضوعا بشكل جيدا جدا في كتاب من خمسمئة صفحة” “لنفترض أن هناك أربعين سطرا في كل صفحة وخمسون حرفا في كل سطر سيكون لدينا أربعون ضرب خمسين ضرب خمسمئة حرف لكل مجلد وهو…قم بحسابه من فضلك”

“مليون” قال البرفسور. “لذلك، إذا أخذنا هذه الحروف المئة وكررناها بترتيب مختلف كل مرة ما يكفي لملء مجلد والذي يمكنه أن يسع مليون حرف سنحصل على قطعة أدبية من نوعٍ ما. والآن في حال طبعنا كل التوليفات المحتملة ميكانيكيا سنحصل في نهاية المطاف على كل الكتب التي كُتبت في الماضي أو تلك التي ستكتب في المستقبل”

ربّت بوركل على كتف صديقه وقال: “هل تعرف؟ سأستثمر في هذا المشروع فورا فهذا سيمدني بكل المجلدات المستقبلية لمجلّتي ولن أضطر إلى قراءة المخطوطات بعد الآن. هذا، أمر رائع لكل من المحرر والناشر: نستبعد المؤلف من صناعة النشر ككل! ونستبدل الكاتب بآلة طباعة أوتوماتيكية! انتصارٌ ساحق للتكنولوجيا!”

“ماذا؟” قالت السيدة ولهاوزن “هل تقول أن كل شيء موجود في هذه المكتبة؟ الأعمال الكاملة لغوته؟ الكتاب المقدس؟ أعمال جميع الفلاسفة القدماء؟”

“نعم مع كل الصيغ المختلفة للتعبير التي لم يفكر فيها أحد بعد، ستجدين الأعمال المفقودة لتاسيتس وترجماتها بكل اللغات الحية والميتة. أضف إلى ذلك كل أعمالي وأعمال صديقي بوركل المستقبلية، وكل الخطب المنسية والتي لم تُلقى بعد في جميع البرلمانات والنسخة الرسمية للإعلان العالمي للسلام وتاريخ الحروب الآتية وجميع الكتابات التي قمنا بكتابتها في المدرسة والجامعة”.

“أتمنى لو كان لدي هذا المجلد عندما كنت في الجامعة” قالت السيدة ولهاوزن “أو أنه سيكون في عدة مجلدات؟”

“الأرجح، عدة مجلدات. لا تنسي أن المسافة بين الكلمات تعد حرفا طباعيًّا أيضا. يمكن أن يحتوى كتاب ما على سطر واحد وكل ما عداه سيكون فارغا. من ناحية أخرى، حتى أطول الأعمال يمكن أن تستوعبها هذه المكتبة لأنها إن ضاقت عن مجلد واحد يمكنها أن تتوالى على امتداد عدة مجلدات”

“لا، شكراً. فالعثور على شيء بهذه الطريقة سيكون عملا مرهقًا”.

“نعم هذه احدى الصعوبات” قال البروفسور ولهاوزن مع ابتسامة راضية وهو يتأمل الدخان المتصاعد من سيجاره. “للوهلة الأولى سيظن المرء أن الأمر هيّن بالنظر إلى حقيقة أن المكتبة لا بد وأنها تحتوي على دليلها وفهرسها الخاص بها”

“جميل!”

“المشكلة تكمن في العثور على هذا الفهرس. وعلاوة على ذلك، حتى لو عثرت على مجلد الفهرس فلن يفيدك في شيء لأن محتويات المكتبة الكونيّة ليست مفهرسة بشكل صحيح فقط لكن مفهرسة أيضا بكل طريقة خاطئة ممكنة”

“هذا مروّع! ولكنه صحيح للأسف”.

“نعم، سيكون هناك عدد كبير من الصعوبات. دعونا نقول أننا أخذنا المجلد الأول من المكتبة الكونيّة. صفحته الأولى فارغة نفس الشيء مع الصفحة الثانية والثالثة والرابعة وهكذا خلال كل الخمسمئة صفحة الأخرى فهذا هو إذًا المجلد الذي كُررت فيه “المسافة” مليون مرة. ”

قالت السيدة ولهاوزن: “على الأقل لا يحتوي هذا المجلد على أي هراء”

“بالكاد يمكن أن يمثّل هذا عزاءً لكننا سنأخذ المجلد الثاني أيضا ونجده فارغا حتى الصفحة 500 في نهاية السطر 40 منها نجد حرف ‘a’ صغيرا ووحيدا نفس الشيء في المجلد الثالث، لكننا نجد فيه أن حرف ‘a’ قد صعد درجة من ثم سيتحرك حرف ‘a’ ببطء شيئا فشيئا خلال المليون مجلد الأولى حتى يصل إلى المكان الأول في الصفحة الأولى في السطر الأول في المجلد الأول من المليون الثانية. تستمر الأمور بهذه الطريقة خلال المئة مليون مجلد الأولى حتى يعبر كل حرف من المئة حرف وحيدا من آخر مكان إلى أوله في المجلدات. ونفس الشيء يحصل مع ‘aa’ أو أي حرفين آخرين. يمكن أن يحتوي أحد المجلدات على مليون نقطة وآخر على مليون علامة استفهام”

“حسنا” قال بوركل “من المفترض أن من السهل أن نتعرف على هذه المجلدات ونستبعدها”.

“ربما، لكن الصعوبة الأشد لمّا تأتي بعد، ستواجهك هذه الصعوبة عندما تعثر على مجلد يبدو أنه يحمل معنى ما لنفترض أنك تريد أن تنعش ذاكرتك عن فقرة قرأتها في فاوست لغوته ونجحت في العثور على مجلد يتضمن البداية الصحيحة لكن وبينما أنت تمضي في القراءة لصفحة أو اثنتين تظهر أحرف “aaaaaa” وتستمر بالتكرار لبقية صفحات الكتاب. أو أنك تجد جدولا للوغاريثمات لكنك لا تستطيع التحقق أيُّ منها صحيح. تذكر أن المكتبة الكونية تحتوي كل شيء صحيح لكنها تحتوي أيضا على كل شيء ليس كذلك. لا تستطيع أيضا أن تثق في عناوين الفصول يمكن أن يبدأ مجلد ما بكلمات تقول “تاريخ حرب الثلاثين عامًا” من ثَم تقرأ:

“بعد زفاف الأمير بلوشر بملكة الداهومي الذي تم الاحتفال به في ثيرموبيلاي” هل فهمت ما أقصده؟ بالطبع لن يندهش أحد لو كتب مؤلف ما أشد الكتابات هراء لأنها ستكون أيضا ضمن المكتبة الكونيّة ستكون هذه الكتابات تحت سطر “من تأليف” فلان لكنها أيضا ستكون في مجلد آخر تحت سطر “من تأليف” وليام شكسبير وتحت اسم أي مؤلف محتمل آخر. ستعثر على أحد مجلداته حيث تجد بعد كل جملة أن هذا (كلام فراغ) وفي مجلد آخر ستجد بعد نفس الجمل أن هذه (هي الحكمة الخالصة)”.

“لقد اكتفيت” قال بوركل. “بمجرد أن بدأتَ الحديث عرفت أن الأمر سيكون حكاية طويلة مبالغ فيها. لن أستثمر في مكتبتك الكونيّة، من المستحيل أن تستخلص الحقيقة من البهتان والمعنى من الهراء. فلو أنني وجدت عدة ملايين من المجلدات التي تدعي أنها التاريخ الحقيقي لألمانيا خلال القرن العشرين وكل هذه المجلدات تنقض بعضها بعضا، سيكون من الأفضل لي أن أقرأ الأعمال الأصلية للمؤرخين”

“هذا ذكاء منك!، وإلا لكنت ستتكبد عبئا مستحيلاً لكني لم أكن أحكي لك قصة مبالغًا فيها كما تقول. فأنا لم أدعيّ أنك تستطيع استخدام المكتبة الكونية، كل ما قلته أنه من الممكن أن نعرف بالضبط كم مجلدا يلزم أن يكون في مكتبة كونية تحتوي على جميع الكتب الممكنة”

“تابع حساباتك” قالت السيدة ولهاوزن “من السهل أن نرى أن هذه الورقة الفارغة تزعجك”

“لا أحتاجها” قال البرفسور “لأنني أستطيع حسابها في ذهني، كل ما يتعين علينا فعله أن نعرف بدقة كيف نُنتج كتب هذه المكتبة. أولا نضع أمامنا كل حرف من الحروف المئة التي لدينا. ثم نضيف لكل منها كل حرف من حروفنا المئة وهكذا نحصل على مئة مضروبا في مئة مجموعة تحتوي كل منها على حرفين.

بإضافة المجموعة الثالثة من حروفنا المئة نحصل على 100*100*100 من المجموعات التي تحتوي كل منها على ثلاثة حروف وهكذا دواليك. وبما أن لدينا مليون موضع محتمل في كل مجلد فإن العدد الاجمالي للمجلدات هو مئة مرفوعة إلى القوة مليون. والآن بما أن المئة هي مربع العشرة. سنحصل على نفس الرقم إذا كتبناه على شكل عشرة مرفوعة إلى القوة 2 مليون. وهذا ما يمثل ببساطة رقم 1 يتبعه اثنين مليون صفر. ها هو 10^2.000.000”.

قالت السيدة ولهاوزن: “يمكنك أن تسهل الأمر على نفسك ..لماذا لا تكتبه على الورقة بالطريقة العادية؟”

“لا أستطيع ذلك سيتطلب مني ذلك أسبوعين على الأقل دون احتساب وقت الأكل والنوم ولو أنك طبعت هذا الرقم سيكون أكثر قليلا من ميلين طولاَ”.

“ما هو اسم هذا الرقم؟” قالت الابنة وهي تريد أن تعرف.

“ليس لديه اسم لا نملك حتى طريقة يمكننا أن نأمل من خلالها فهم أو ادراك هذا الرقم، إنه رقم هائل جدا على الرغم من أنه منتهٍ”

“ماذا لو حاولنا التعبير عنه بالتريليونات؟” سأل بوركل.

“العدد الرياضي تريليون هو رقم كبير فعلا فهو واحد يليه 18 صفرًا لكنك إن عبرت عن عدد المجلدات بالتريليونات ستحصل على رقم من 1,999,982 صفر بدلا من مليوني صفر. هذا لا يساعد فهو رقم عصّي على الفهم مثل الآخر. لكن، انتظروا لحظة”.

خربش البرفسور بضع أرقام على الورقة.

“كنت أعرف أنه سيفعل ذلك!” قالت السيدة ولهاوزن بكثير من الرضا.

“تمّت” أعلن زوجها قائلا: “لقد افترضت أن كل مجلد سيكون بسُمك سنتمترين وأن المكتبة كلها ستكون مرتبة في صف واحد طويل. كم سيكون طول هذا الصف في ظنك؟”

“أنا أعرف” قالت الابنة. “هل تريد مني أن أقول؟”

“تفضلّي”.

“ضعف مجموع عدد السنتيمترات لكل المجلدات”

“برافو، يا عزيزتي. صحيح تماما. الآن دعونا نلقي على هذا نظرة أقرب تعرفون أن سرعة الضوء تساوي بالوحدات المترية: 300,000 كيلومتر في الثانية، والتي تصبح خلال سنة حوالي 10.000 مليون كم والذي يساوي 1.000.000.000.000.000.000 سنتيمتر، وهو ما يمثل عددك الحسابي تريليون يا بوركل. فإذا كان باستطاعة أمين مكتبتنا التحرك بسرعة الضوء سيتطلب منه الأمر سنتين كي يمر على تريليون مجلد. للانتقال من طرف المكتبة إلى طرفها الآخر بسرعة الضوء سيتطلب ذلك ضعف عدد السنوات بعدد ما يوجد من تريليونات المجلدات في المكتبة لقد حصلنا على هذا الرقم من قبل وأشعر أن لا شيء سيُظهر بوضوح كامل كيف أنه من المستحيل أن ندرك معنى الرقم 10^2.000.000 على الرغم من أنه -وأنا أكرر هذا الآن- رقمٌ منتهٍ”.

قال بوركل: “بعد إذن السيدات، لديّ سؤال أخير” وأضاف “أعتقد أنك حسبت حجم مكتبة لا يسعها الكون”.

“سنرى ذلك الآن” أجاب البرفسور وهو يأخذ قلم الرصاص “حسنا لنفرض أنك رتبت المكتبة في صناديق بحجم 1000 مجلد لكل صندوق، كل صندوق بمساحة واحد متر مكعب بالضبط. فكل الفضاء حتى أبعد المجرات اللَولَبيَّة المعروفة لن يسع المكتبة الكونيّة وفي الحقيقة ستحتاج إلى هذا الحجم من الفضاء من حين لآخر لأن عدد الأكوان الموضبّة سيكون رقما من ستين صفرًا فقط أقل من الرقم الذي يمثل عدد المجلدات. بغض النظر عن مدى مثابرتنا في محاولة تصور ذلك، فسينتهي بنا الأمر للفشل”

قال “لطالما تصورته عددا لانهائيًا” بركل.

“لا، وهذه هي المسألة هذا الرقم ليس رقما لانهائيًا. بل هو رقم منتهٍ وخصائصه الحسابية لا يتطرق إليها الشك، ما يثير الدهشة أنه بإمكاننا أن نكتب على قطعة ورقة صغيرة جدا عدد المجلدات التي تضمّ كل الكتابات الممكنة الأمر الذي يبدو لأول وهلة أنه لا نهائي. ولكن حتى إذا حاولنا أن نتصوره على سبيل المثال أن نحاول أن نعثر على مجلد معيّن فإننا سندرك أننا لا نستطيع تصوّر ما إذا كنا سنقرأ أفكار منطقية وواضحة أم لا”

“حسنا” قال بوركل أخيرا “الصدفة تعبث لكنّ العقل يخلق، ولهذا السبب ستكتب لنا غدا كل ما أمتعتنا به الليلة وبهذه الطريقة سوف أحصل على مقال لمجلتي يمكنني أن أحمله معي”.

“حسنا سأكتب هذا المقال من أجلك. لكنني أقول لك الآن أن قرائك سيستنتجون أن هذا المقال مقتبس من أحد المجلدات الهامشيّة للمكتبة الكونيّة”.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

ستيوارت ميل، في حديث عن المُتع الدنيا والعليا

ستيوارت ميل، في حديث عن المُتع الدنيا والعليا

كتابة: آلاء سلمان

_________________

جون ستيوارت مل (1806-1873) هو فيلسوف واقتصادي بريطاني. في كتابه الشهير (النفعية)، والذي يُعد أساسًا لفهم النظرية الأخلاقية المعاصرة، تحدث عن الكائن الحي، والمتعة، فيقول:

لا نزاع حول الحقيقة المفيدة أن الكائن الذي قدرات تمتعه منخفضة، له الحظ الأعظم بتحقيقها وإشباعها بشكل كامل. والكائن ذو القدرات العالية سيشعر، وبشكل دائم، بأن أي سعادة يتمكن من طلبها هي ناقصة، كما هو تركيب العالم. غير أنه غير قادر على أن يتعلم وأن يتحمل عيوبه وشوائبه، إذا أمكن تحملها، وهي لن تجعله يحسد الكائن الذي ليس واعيًا بالعيوب والشوائب، فالأفضل أن يكون إنسانًا مستاءً وغير راض لا خنزيرًا راضيًا. الأفضل أن يكون سقراط المستاء ولا يكون مغفلاً راضيًا. وإذا كان للمغفل أو الخنزير رأي مختلف، فمرد ذلك أنهما لا يعرفان سوى ناحيتهم من المسألة. أما الطرف الآخر فهو، بالمقارنة معهم، يعرف الناحيتين.

وقد يُعترض بالقول، إن كثيرين قادرين على اللذات العليا وقد يؤجلونها أحيانًا من أجل الدنيا. غير أن هذا يتسق مع تقدير كامل للعلو الحقيقي للذات العليا. وغالبًا مايختار الناس، لعيب في الشخصية، الخير القريب، بالرغم من معرفتهم أنه الأقل قيمة. وهذا لا يحصل عندما يكون الخيار بين لذتي جسديتين بأقل مما يحصل عند الخيار بين لذة جسدية ولذة عقلية. فهم يسعون وراء الانغماسات الحسية لحد الأذية بصحتهم، مع وعيهم الكامل بأن الصحة هي الخير الأعظم.

ويكمل بعد ذلك فيقول:

وقد يُعترض باعتراض إضافي بالقول، إن الكثيرين الذين يبدأون بحماس شبابي لكل شيء نبيل، يغرقون مع تقدم الزمن في الكسل والأنانية. غير أني لا أظن أن أولائك الذين يمرون بذلك التغيير العام يختارون طوعيًا الوصف الأدنى للذات بدلاً من الوصف الأعلى لها. وأعتقد أنهم قبلوا تكريس أنفسهم، حصريًا، لإحداهما، ذلك أنهم صاروا عاجزين عن الآخر. فالقدرة على المشاعر النبيلة هي عند معظم الطبيعيات كنبته سريعة العطب، وقتلها سهل، ولا يكون ذلك مقتصرًا على المؤثرات المعادية، وإنما للحاجة إلى التغذية والإعالة وهي تموت بسرعة عند أكثرية الشبان، إذا كانت الوظائف التي وضعهم فيها مركزهم في الحياة، والمجتمع الذين رموا فيه غير صالحين للحفاظ على تلك القدرة العليا على التمرين. فالبشر يفقدون مطامحهم العليا حالما يفقدون ميولهم الفكرية، لعدم وجود وقت أو فرصة لديهم للانغماس فيها، ويكرسون نفوسهم للذات الدنيا، ولا يكون ذلك لأنهم يفضلونها عن قصد، وإنما لأنها تكون الوحيدة المتاحة لهم، أو لأنها الوحيدة التي لم يبق لهم سواها ليتمتعوا بها.

 

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

التعايش مع الثقافات عند تودوروف

التعايش مع الثقافات عند تودوروف

كتابة: هاجر العبيد

___________

تزفيتان تودوروف فيلسوف فرنسي-بلغاري، مواليد ١٩٣٩، يكتب عن النظرية الأدبية، تاريخ الفكر، ونظرية الثقافة.

في كتاب (تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية) و الذي نشرته مجلة الدوحة في عددها 82، أغسطس 2014م من ترجمة محمد الجرطي.
و هو تأملات عن كتب تودوروف و مقالاتٍ منه و حوارات معه.
قال في مقالةٍ مُعنْوَنة “بالتعايش مع ثقافات مختلفة”:

كل جماعة إنسانيّة تمتلك ثقافة؛ إنها الاسم الذي يُطلق على مجموع خصائص الحياة الاجتماعية، على طرق العيش و التفكير الجماعيَّين، على أشكال و أساليب تنظيم الوقت و الفضاء, الشيء الذي يتضمَّن اللغة, الدين, البنى الأسريّة، طرق بناء المنازل، الأدوات، طرق تناول الطعام أو ارتداء الملابس. بالإضافة إلى ذلك, إن أعضاء الجماعة، مهما كانت أبعادهم, فإنهم يستبطنون هذه السّمات في شكل تمثيلات. توجد الثقافة – إذاَ – على مستويين مترابطين بشكل وثيق: مستوى الممارسة الخاصّة بجماعة مّا، ومستوى الصورة التي تتركها هذه الممارسات في أذهان أعضاء الجماعة.

كل فرد متعدِّد الثقافة:

إن الكائن البشريّ، و هنا تكمن إحدى خصائصه الأكثر بروزاً، يولد ليس فقط في حضن الطبيعة بل، أيضاً ودوماً و بالضرورة في حضن الثقافة.
تبقى السّمة الأولى لهويّة ثقافية ما أنها مفروضة على الطفل عوض أن يتمّ اختيارها من طرفه. يجيء الطفل إلى العالم، يجد نفسه منغمساً في ثقافة جماعة سابقة على ولادته. الواقعة الأكثر جلاءً، بل – ربما – الأكثر حسماً، هي أننا نولد بالضرورة في حضن اللغة, اللغة التي يتكلّمها آباؤنا أو الأشخاص الذين يتكفّلون برعايتنا. لن يكون بمقدور الطفل أن يتجنّب تبنّي اللغة. و الحالة هذه, فاللغة ليست أداة محايدة.

إن اللغة مشبعة و متشرّبة لأفكار، لسلوكيات و لأحكام متوارثة من الماضي. تقوم اللغة بتقطيع الواقع بطريقة خاصّة، و تنقل إلينا – بطريقة خفيّة- رؤية للعالم.
تظهر بجلاء – أيضاً – السمة الثانية للانتماء الثقافي لكل فرد؛ ذلك أننا لانملك هويّة ثقافية واحدة, بل هويات متعدِّدة قادرة على الاندماج أو الظهور في شكل مجموعات متقاطعة.

على سبيل المثال، ينحدر الفرنسي دوماً من منطقة ما – لنفترض أنه من منطقة بروتون – و من ناحية أخرى، يتقاسم العديد من السّمات مع كل الأوروبيين. و من ثمّ يسهم – في الآن نفسه – في الثقافة البريتونية و الفرنسية و الأوروبية. من جهة أخرى، فداخل كل كيان جغرافي واحد، تبفى الطبقات الاجتماعية الثقافية متعددة.
هناك ثقافة المراهقين، و ثقافة المتقاعدين، ثقافة الأطباء، و ثقافة مكنّسي الشوارع، ثقافة النساء، وثقافة الرجال، ثقافة الأغنياء، وثقافة الفقراء، مثل هذا الفرد يتعرّف إلى نفسه في لثقافة المتوسطية (ماله علاثة بالشعوب القاطنة حول البحر الأبيض المتوسط)، و المسيحية، و الأوروبية: معايير جغرافية و دينية و سياسية واحدة. لكن – وهذا أمر جوهري- هذه الهويّات الثقافية المحتلفة لاتتوافق فيما بينها، ولاتشكل أوطاناً واضحة الحدود تتطابق بداخلها هذه المكوّنات المتعددة.

يبقى كل فرد متعدّد الثقافة. لاتُشبه ثفافته جزيرة متجانسة، بل تبدو كنتيجة لقرائن متشابكة.

كل الثقافات خلاسية:

الثقافة المشتركة، ثقافة جماعة إنسانية مّا، ليست مختلفة في هذا الصدد. إن ثقافة بلد كفرنسا تبقى في الواقع مجموعة معقّدة و منسوجة من ثقافات خاصّة، تلك الثقافات التي يتعرّف فيها الفرد إلى نفسه: ثقافات المناطق و المهن, الأعمار، والجنسين، الأوضاع الاجتماعية و التوجّهات الروحية. فضلاً عن هذا، كل ثقافة يُسميا الاتصال مع جيرانها. فأصل ثقافة ما يكون دوماً حاضراً في الثقافات السالقة: في التلاقي بين العديد من الثقافات ذات الأبعاد متناهية الصغر، أو في تفكّك ثقافة أكثر انتشاراً، أو في التفاعل مع ثقافة مجاورة. لا يمكن أبداً الولوج إلى حياة إنسانية سابقة على ظهور الثقافة. و لسبب وجيه:
تبقى الخصائص “ الثقافية ” حاضرة بالفعل، عند حيوانات أخرى، خصوصاً عند الرئيسات (رتبة من الثدييات منها البشرية و القردية)، لا وجود لثقافات خالصة أو ثقافات ممزوجة، فجميع الثقافات مخلوطة (إما “هجينة” أو “خلاسية “)

ثقافة سكونية هي ثقافة ميتة:

هنا إلى الخاصية الثالثة المميزة للثقافة: تبقى الثقافة – بالضرورة – متغيّرة و قابلة للتحول. جميع الثقافات تتغير وتتحول، حتى لو كان من المؤكد أن الثقافات المسمّاة “تقليدية” تبقى أقلّ استعداداً و أقلّ استجابة من الثقافات المسماة “حديثة“. هذه التغييرات أو هذه التحولات لها دواعٍ متعددة. بما أن كل ثقافة تفرز ثقافات أخرى، أو تتقاطع مع ثقافات أخرى، فإن مكوناتها المختلفة تشكّل توازناً غير مستقرّ، على سبيل المثال، منح حق التصويت للنساء في فرنسا غام 1944، سمح للنساء بالمشاركة في نشاط الحياة العامة للبلد، و من ثم طرأ تحوّل في الهوية الثقافية الفرنسية. و بالمثل حين تمّ منح المرأة، بعد مرور 23 سنة على حق التصويت، الحق في منع الحمل أو في الإنجاب، أحدث هذا الأمر طفرة جديدة في الثقافة الفرنسية. لو لم يكن لزاماً على الهوية الثقافية أن تتغيّر، لما استطاعت فرنسا أن تصبح بلداً مسيحياً في مرحلة أولى، ثم بلداً علمانياً في مرحلة ثانية. بالإضافة إلى هذه التفاعلات الداخلية، هناك أيضاً اتصالات خارجية مع ثقافات قريبة أو بعيدة أحدثت، بدورها, تعديلات في منحى الهويّة. قبل أن تؤثر الثقافة الأوروبية في ثقافات العالم الأخرى. فإنها تشرَّبت، من قبل تأثيرات الثقافة المصرية، ثقافة بلاد مابين النهرين، الثقافة الفارسية، والهندية و الصينية وهلمّ جرّاً.

ثم يُضيف:

إذا كان يتعيّن علينا الأخذ بعين الاعتبار هذه السمات الأخيرة للثقافة، تعدّدها و تنوّعها، فإننا نرى كم تبقى هذه الاستعارات الأكثر شبوعاً و المستخدمة في مكان الثقافة استعارات مربكة. نقول – على سبيل المثال- عن كائن بشري إنه “ مجتثّ من جذوره “، و نرثي لحاله، لكن هذه المماثلة للإنسان مع النبات غير شرعية؛ فالإنسان يتميّز بحركيّته لثقافة واحدة؛ فالثقافات لاتتمتّع بماهيّة أو ” روح ” رغم ماكُتب من صفحات جميلة في هذا الصدد، كما نتحدث عن “بقاء” لثقافة ما، معنى المحافظة عليها بقاُ للأصل. غير أن الثقافة التي لاتتغيّر هي على وجه التحديد، ثقافة ميّتة.
إن مصطلح لغة ميّتة هو مصطلح أكثر دقّة وحصافة. اللاتينيّة لغة ميتة، لا لأننا عاجزون عن استعمالها، بل لأن تلك اللغة لم تعد قادرة على التغيير. ليس هناك ماهو أكثر بداهة و أكثر شيوعاً من اختفاء حالة سابقة للثقافة وتعويضها بحالة جديدة.

يجب أن نميّز الآن، الهوية الثقافية عن شكلين آخرين للهويّة الجماعية: الانتماء المدني أو الوطني من جهة، والالتزام بالقيم الأخلاقية و السياسية من جهة أخرى. لا أحد منا سيكون بمقدوره أن يغيّر طفولته، حتى لو رغب في ذلك، حتى لو طُلب منه ذلك بإلحاح، بالمقابل، سيكون بمقدورنا أن نغيّر الولاء الوطني دون أن نعاني، بالضرورة، من جرّاء ذلك. لا يمكن للمرء أن يختار ثقافته الأصلية، لكن بإمكان المرء أن يختار أن يكون مواطناً لهذا البلد عوض ذلك البلد الآخر. إن اكتساب ثقافة جديدة – كما يعرف كل المهاجرين – يتطلّب سنوات عديدة، و إن كان هذا الاكتساب في الأساس لايتوقف أبداً، اكتساب مواطنية جديدة فد يحدث بين عشيّة وضحاها بفعل قوّة مرسوم ما. الدولة ليست “ثقافة” شبيهة بحالة الناس، إنها كيات إداري وسياسي له حدود قائمة من قبل، و يضمّ طبعاً أفراداً حاملين لثقافات عديدة، بما أننا نجد داخل هذا الكيان؛ الرجال و النساء، الشباب و الشيوخ، يمارسون كل المهن وفي أوضاع مختلفة، ينحدرون من مناطق ودول متعددة، ويتكلمون لغات متعددة، ويمارسون ديانات مختلفة ويراعون عادات متنوّعة.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

الكاتبة الألمانية الفائزة بنوبل 2009 التي بدأت بالكتابة حين فقدت عملها كمترجمة

 

hearta

ترجمة و تقديم:

مؤنس مفتاح

 

 

تتحدث الأديبة ‘هيرتا مولر’ الحاصلة على جائزة نوبل’للآداب في هذا الحوارعن قصائدها وعن قوة وفشل الكلمات. لقد ترعرعت ‘هيرتا ميلر’ في قرية رومانية تنتمي إلى منطقة ‘ِبنات’.
استقر هناك منذ قرون خلت مهاجرون احتفظوا بلهجتهم وتقاليدهم الألمانية، كما سادت في المنطقة قواعد ‘التعايش معا’ دائما وبالتالي صارت الكلمات البسيطة ك: القرية و البلدة و الميدان والأب محددة لأسلوب ‘هيرتا مولر’ الكاتبة لاحقا، كما كان هناك بالطبع ما يسمى ب ‘الوجود’ في ظل الديكتاتورية الشيوعية والفاشية في الماضي حددتها توترات داخلية عميقة،ومن ثمَّ قامت’هيرتا مولر’في كتابها الأول’الأراضي المنخفضة’ الصادر سنة 1982 بتصوير حياة القرية كما ظلت ‘الضغوط في عالم الشمولية’ موضوعا لها وقد استنسخت تلك الكلمات لغويا أيضا فجمعت عبارات بسيطة وعملية وقدمتها في عناوين بعض الروايات مثل: ‘قلب الحيوان’ (1994) و ‘أرجوحة النفس’ (2009. أصدرت مؤخرا ديوانا بعنوان ‘أبي يُهاتف الذباب’ و هوعبارة عن قصائد شعرية معتمدة على فن ‘الكولاج’ و قد اختارت فيه الكلمات بتمعن شديد و دقة متناهية.
جريدة شبيغل: سيدة ‘مولر’، إن الذي يتصفح كتابكِ الجديد، يجد أمَامَهُ ملاحظاتٍ مبتزة وكلماتٍ ملتصقة و متقطعة وهذا بالنسبة لكاتبة حاصلة على جائزة نوبل أمرغيرعادي و لا اعتيادي، فلماذا فعلتِ ذلك؟
هيرتا مولر: لا، لا أظن ذلك. أعتقد أنني لم أبتز أي شخص أبدا. إن الابتزاز شيء رهيب، إلا أن ابتزاز الدولة و الابتزاز في العلاقات يظلان الأسوأ على الإطلاق. لا يبدو لي ما تقولينه صحيحا عندما أفكر في فن’الكولاج’، أنا أقوم بربط هذا الفن أكثر بالمنشورات، فهناك حيث نشأتُ في رومانيا، في ‘الديكتاتورية’، لم يكن ممكنا كتابة المنشورات بالآلات الكاتبة لأنها ببساطة مسجلة عند الشرطة أي أن لديهم قائمة بتلك الالات.
جريدة شبيغل: إن الأدباء يضايقون أنفسهم بتعريف الجنس الأدبي، عندما يأتون للتحدث عن الفن ‘الكولاج’ الخاص بهم: واحد يتحدث عن ‘صور القصيدة’ و الآخر يتحدث عن ‘القصص القصيرة’ أو ‘قصائد النثر’. أيّ تعريفٍ تفضلين أنتِ سيدة ‘مولر’؟
جريدة شبيغل: بالنسبة لي فن ‘الكولاج’ طريقة للكتابة ولا شئ آخر. بدأت منذ سنوات عديدة بإعطاء بطاقات للأصدقاء بكلمات ملصقة عليها، لقد كان دائما معي مقص صغير يُطوى وعندما أقرأ المجلات على متن الطائرة وتُعجبني كلمة ما، أقوم بقطعها. ثم بعد ذلك أدركتُ كم هو ضخم عدد الكلمات المبحوث عنها، وقد واصلت نفس العملية في المنزل أو في المطبخ على لوحة التقطيع حتى أتمكن من حمل الكلمات بعيدا عند تناولي للطعام وجدير بالذكرهنا أن الكلمات تحمل طابعا توسعيا فهي تصبح دائما أكثرو أكثر.
جريدة شبيغل: هل يمكننا الحديث هنا عن إدمان ‘الكلمة’؟
هيرتا مولر: نعم بالفعل إنه أمر لا يصدق! لا أستطيع فعل شيء اخر عند القراءة سوى البحث عن الكلمات، وأنا أقوم بالقطع كذلك من جريدتكم ‘ شبيغل’ فهي جريدة غنية بالمصطلحات. أنا أقرأ غالبا في سريري ليلا، فأضع في بعض الأحيان المجلات جانبا و لكنني للأسف لا أعثر بعد ذلك على الكلمة المقصودة، و هذا الخوف لازال لا يتركني إلى يومنا هذا لأنني أعتقد أن هذه الكلمة لن أجدها أبدا مرة أخرى فهناك عندي بعض الكلمات مكررة 20 مرة، فأنا أهدف من خلال هذا التكرار أن أُثبت لهذه الكلمة أنني لن أتركك تذهبين بعد الان.
جريدة شبيغل: متى بدأتِ تفعلين ذلك؟
هيرتا مولر: حصل هذا منذ فترة طويلة، فقد قُدمت لي في مطلع التسعينات منحة دراسية من ‘ فيلا ماسيمو’ و آنذاك كنت أعيش في روما، فقمت حينها بملء كل الدرج بالكلمات المقطوعة وقد تواجدت هناك عاملة تنظيف تحصل على المال من الإدارة و كنت لا أريدها أن تنظف الدرج لذلك عقدنا اتفاقا أُن تشرب القهوة بدل التنظيف وبهذا تبقى كلماتي حيث هي موجودة، إن حجمها كبير بالفعل لدرجة أنني لم أستطع استيعابها.
جريدة شبيغل: هل تريدين حِفظ و إِنقاذ الكلمات؟
هيرتا مولر: ربما، فمن المؤكد أن هناك علاقة مع خلفيتي. لقد كانت الأمور في رومانيا قاتمة وحبر الطابعة سيء و رائحته قوية فإذا قرأ المرء شيئا صارت أصابعه سوداء. وكانت المفردات أيضا في هذه الجرائد رتيبة تماما و قد وُجدت هذه القتامة والملل في العقل أيضا، ولكن عندما جئت إلى ألمانيا سنة 1987 أضحى كل شيء فجأة ملونا. هذه الألوان كثيرة! لدرجة أنها أصابت عيناي بالأذى. كنت أفكر في المجلات قائلة :’يا إلهي، كم هو جميل هذا الورق وهل سيتم طرح هذه الخطوط والصور في القمامة!’، لهذا السبب أردت أن أفعل بها شيئا.
جريدة شبيغل: جميل، في غرفة عملكِ هنا في برلين نجد كومة هائلة من المجلات. من أين حصلتِ عليها؟
هيرتا مولر: إن الناس هنا في المنزل يضعون على عتبة بيتي المجلات التي لا يريدونها. وهناك دائما إعلانات في الأكشاك عن وجود مجلات غير مرغوب بها أما بالنسبة لجريدة ‘شبيغل’ فقد قمت بالاشتراك فيها …
جريدة شبيغل: … هذا عمل نموذجي …
هيرتا مولر: )… (هذه طريقة تفانٍ قديمة. لقد تعلمت هذه العادة في رومانيا من معهد ‘غوته’ إلا أنني كنت مرغمة على رمي المجلات أيضا وهذا أمرصعب بالنسبة لي لأنها دائما ما كانت تتضمنُ بداخلها كلمات جديدة.
جريدة شبيغل: يبدو بيتك أنيقا، ولكن المجلات توجد مبعثرة و بصورة عشوائية، كما أنها تأخذ مساحة نصف غرفة. لماذا تسمحين لنفسك بفعل ذلك؟
هيرتا مولر: لأنه أمر لطيف جدا عدم إخفاء المؤلفات. ففي رومانيا، كنت ملزمة بإخفاء كل شيء عن جهاز المخابرات.
جريدة شبيغل: ما هو الفرق بين التأليف بالكلمات المقصوصة و كتابة الروايات؟
هيرتا مولر: إن إلصاق الكلمات عملية ذات معنى، فالكلمات تمتلك الاستطاعة والقدرة على فعل كل شيء. أنا اخد دائما الكلمات المعتادة فقط وعندما أضعها معا، ينشأ ما هو جديد، ويبدأ في اللمعان. إنها ليست مثل النثر الذي يبقى مع الإنسان لمدة ثلاث أو أربع سنوات فقط، كما أن هذا النثر يجعلني دائما في خدمته و ليس العكس. أما الفن التصويري فهو قصيرو يجب تضمينه في بطاقة وأعرف أنني في غضون أسبوع سأكمله، لأن الكلمات موجودة بالفعللدرجة أن اعتقادي يذهب في بعض الأحيان في اتجاه أنني لست ‘أنا’ من يكتب، كما أن القافية تقذفكِ حيث لا يمكنكِ الوصول. إن القافية أشبه بمحرك صغير يدفع الكل.
جريدة شبيغل: إن شعر الفن التصويري غالبا ما يكون مضحكا، في رواياتك أخفقت في خلق الفكاهة. لماذا؟
هيرتا مولر: في كتبي الأخرى المتعلقة بالدكتاتورية لا أتحمل فعل ذلك. إن الفكاهة ليست سوى جزء مني ومن شخصيتي مع الأصدقاء. وأسترجع شيئا مهما عن الفن التصويري، إذ يمكنني من خلاله التطرق للمواضيع المظلمة بشكل مختلف.
جريدة شبيغل: إن الفكاهة تنشأ من من خلال مزج الكلمات، إنك تستفيدين من ميل الألمان إلى الكلمات المركبة.
هيرتا مولر: نعم، هذا الشيء الأكثر جمالا في اللغة الألمانية: الكلمات المركبة. في اللغات الرومانية، هناك في كثير من الأحيان حرف الجرفقط.
جريدة شبيغل: لقد نشأت في أقلية ألمانية تتحدث اللهجات، مما يعني أنه يمكنكِ التكلم باللغة الألمانية الكلاسيكية والرومانية وكذلك اللهجات وسؤالي هما: هل اللغة الألمانية مناسبة للشعر؟
هيرتا مولر: لا، ليس بالضرورة اللغة الألمانية. فقد كنت دائما أعاني مشاكل مع النصب، ولهذا السبب يجب على المرء المحاولة عدة مرات من أجل الوصول للعبارات الصحيحة. لم تكن اللهجة معقدة وهذا ما أعتبره جميلا وذو معنى.لو كنت أتستطيع لذهبت فورا إلى طريقة الخطاب المباشر لأن اللغة تبقى بهذه الطريقة قريبة.
جريدة شبيغل: ألهذا السبب تتجنبين الكلمات الأجنبية؟
هيرتا مولر: أنا لا أحب المصطلحات المجردة في مؤلفاتي. فلن أكتب أبدا مصطلح ‘الديكتاتور’ مثلا.
جريدة شبيغل: إن شخصية ‘الديكتاتور’ تظهر جليا في الفن التصويري. لقد كانت الرومانية بالنسبة لك لغة القوة، فهل أثر ذلك على علاقتكِ بها؟
هيرتا مولر: لا، لا أظن ذلك، لقد تحدثت كثيرا مع أناس عاديين وعمال في المصانع. كان عمري 15سنة عندما تعلمت اللغة الرومانية وهو السن الذي أتقنت فيها اللغة الرومانية، لقد كان ذلك أمرا ممتعا، لاأستطيع أن أقول خلاف ذلك. إن اللغة اليومية الرومانية هي الأجمل، إنها مبتذلة ولكنها ليست أبدا وقحة. تحصل اللغة المبتذلة على الحنان، فهي تُنشئ نوعا من ‘عدم وجود وسيط’ بين الناس وهذا أمر لا تستطيعه اللغة الألمانية. لقد نمت اللغة الرومانية في فكري لأنني غادرت رومانيا عندما بلغت 34 سنة.
جريدة شبيغل: إنك تستخدمين في بعض الأحيان اسم المؤنث لكلمات لها في اللغة الألمانية صفة المذكر،هل توافقينن الرأي؟.
هيرتا مولر: نعم،هذا صحيح، و السبب في ذلك كون بعض الكلمات باللغة الرومانية تقبل جنسين مختلفين أي أن تكون مذكرا و مؤنثا. إن مصطلح ‘الشتاء’ في اللغة الرومانية يعني ‘المرأة’، وبدون وعي مني، استعملته ذات مرة كمصطلح ‘مرأة’ في اللغة الألمانية.،وأنا أعلم أنني أقصد فصل الشتاء الروماني. إن هذا هو الشيء الجنوني في اللغات، فالمصطلح يبين النظرلشيء ما، إن مصطلح ‘الوردة’ في اللغة الرومانية مذكروزهرة ال’زنبق’ أيضا، كل هذا ينتج صورة مختلفة.
جريدة شبيغل: إن لديكِ لغة حية في الفن التصويري، كما أنكِ تضيفين علاوة على ذلك دائما صورا صغيرة ملصقة. هل ترين نفسك فنانة تصويرية؟
هيرتا مولر: لا، ليس الأمر كذلك، بل هي الحِرفية ، والذي يعجبني في هذا الفن هو: القص واللصق و تعديل الصور. لقد أرادت أمي أن أصبح خياطة فكانت ترسلني عند عمة لي لديها ورشة عمل، وما زلت لحد الان بإمكاني خياطة العراوي، وقد عملت عند خياطة في المدينة، فكنت أرى ما كان معلقا في المتاجر من فساتين قبيحا، مما دفعني لشراء قماش بالمتر كانت الخياطة تخيط لي منه البلوزات والفساتين والسراويل.
جريدة شبيغل: إذن هل يمكن أن نفهم أن جمال الكلمات والملابس مهم بالنسبة إليك؟
هيرتا مولر: نعم، دائما. لم يكن لدي في رومانيا سوى الخوف والأوساخ فقط وقد كنت متزينة على نحو رائع عندما كنت أذهب للاستجواب وعندما لا أتمكن من فعل ذلك، أعرفُ أنني لست على ما يرام حقا. عندما جئت إلى ألمانيا في الثمانينات، كانت الحركات النسائية تدعو النساء إلى ضرورة عدم وضع الماكياج وقد عارضتهن الرأي: ليس لديكن أية فكرة عن سبب وضع الماكياج، إن له علاقة مع الحفاظ على الذات ومع الخوف أيضا، إنكم لا تعرفون عن ماذا تتحدثون.
جريدة شبيغل: هل هناك كلمات تبدو لطيفة ولكنها لا تحمل رنة جيدة للأذن؟
هيرتا مولر: جوابي هو: لا. إن التأليف هو السمع أيضا. أنا أقرأ كل شيء أكتبه بصوت عال، فإذا كان لا يُسمع بشكل جيدا فأعرف أن ثمة شيء خطأ. يجب أن تكون اللغة المكتوبة دائما شفهية أيضا و ما يقرأه المرء بهدوء يجب أن يُسمع بشكل جيد في العقل.
جريدة شبيغل: أنت تجمعين الكلمات، ولكن لم يسبق لكِ أن صرحت بحبكِ للغة ما. لماذا هذا الأمر؟
هيرتا مولر: لا أستطيع تحمل قول الكُتّاب بأن الكتب أطفالهم. لا أود أن أبنِي علاقةُ يمكنها أن تؤذيني. لا، اللغة من منظوري شيء يأتي من الخارج، يُمكنها أن تفعل كل شيء و لكنني لا أثق بها أيضا، هذه اللغة ليست موجودة إلا لذاتها وهي تعمل بالتوازي مع ما حدث في الواقع فقط.
جريدة شبيغل: هل لا تثقين باللغة لأنها يُمكن أن تتحالف مع الإكراه و الإلزام؟
هيرتا مولر: يُمكن للغة التحالف مع كل شيء. يمكنها أن تقتل أيضا وتنقد في حالة الاعتماد على الكلمة المناسبة و الصحيحة. لايمكنني أنا أقول أبدا جملة: ‘أنا لا أحب اللغة’ ،بطبيعة الحال لا يمكن ذلك، فأنا أرصدها وأريد أن أرى ما تتضمنه من معاني.
جريدة شبيغل: أنتِ عندما مُنحت جائزة ‘نوبل’، قُلت: ‘إن الكتابة بالنسبة لي إحساس داخلي لا أستطيع كبحه’. كيف يمكن ذلك، إذا كنت تقولين بأنكِ لا تثقين في اللغة؟
هيرتا مولر: إنها ليست اللغة نفسها، إن العمل بها الذي يجعلني أتوقف. إن الإنسان لا يعمل فقط لكسب لقمة العيش، ففي الوقت الذي نعمل فيه نكون آنذاك لسنا حاضرين بكامل وعينا، لذلك فنحن نساوي ما نقوم به وهذا الأمر يريحنا. إن الإنسان يتحرر أثناء العمل من نفسه والكتابة تُفضي إلى الطريق الواحد، أظن أن كل عمل أدبي يجعل المرء مهووسا به و يُعرف بنفسه من خلاله، وهذا ما جعلني شغوفة باللغة، ولكن هذا ليس له أي علاقة باللغة كلغة ولكن أكثر بالحياة. أريد أن أقول في كتبي، ماذا يحدث في الحياة، فاللغة مجرد أداة.
جريدة شبيغل: كتبكِ لديها علاقة قوية بكِ. لماذا تقولين أن الكتابة تقودك بعيدا عنك؟
هيرتا مولر: لا، لم أقصد ذلك، فالأمر يتعلق بعدم الشعور بالذات في تلك اللحظة، عندما أكتب فلدي ما أقوم به، فالوقت يملأ نفسه ويمضي.
جريدة شبيغل: لقد بدأتِ بالكتابة عندما فقدت وظيفتك كمترجمة في أحد المصانع، هل هذا صحيح؟.
هيرتا مولر: نعم، اجتمع آنذاك كثير من الأمور،فقد توفي والدي في تلك الفترة أيضا. وقد كانت علاقتي سيئة مع والدَيّ و خاصة أبي ‘النازي’ وكان هذا سبب شاجرنا الدائم وعلى أي حال أعتقد أنه أمر يدعو للأسف كون العلاقة مع الأباء ليست على ما يرام. لم يكن بمقدور أبي معرفة أنهُ سيموت والسبب في ذلك راجع إلى الفجوة المخيفة بين آماله وحالته، لقد جعلني مضطربة وبلا حول ولا قوة.
شكل أبي نقطة تحول محورية في حياتي ولكن هذه الطفولة والقرية التي أتيت منها أيضا توجدان الآن ورائي و بلا رجعة فقد أصبحت فجأة كل هذه الأحداث شيئا واضحا لي، لذلك فأن الا أكتب عن هذه القرية المنعزلة وعن الوقت المتوقف إلا قليلا.
جريدة شبيغل: هل هكذا نتج كتابك الأول ‘الأراضي المنخفضة’، الذي أشاد به النقاد؟.
هيرتا مولر: لم أفكر في ذلك الوقت أن أكتب الأدب، ولكني أردتُ أن أوضح شيئا. نعم، فكتابتي مدفوعة ٌوموجهةٌ من خلال الخوف الذي انتابني من الشرطة السرية. لقد أخد المسؤولون في المصنع مني مكتبي ولكن لا أحد ألغى عقدي. فقد كنت أعلمُ أنني مُلزمة بعدم السقوط في الخطأ فلم أرغب في إعطائهم حجة لطردي، لذلك كنت أحضر إلى المصنع من الساعة السادسة و النصف صباحا حتى الساعة الخامسة مساء. ولم يكن عندي مكان أذهب إليه لذا كنت أجلس على الدرج. لقد كان يخالجني الكثير من اليأس من كل تلك الافتراءات التي نشرتها المخابرات عني، فقد كان العمال يستهجنوني بالصفير لأنني كنت جاسوسة و قد اعتقدت أن لا أحد الآن يصدقني ولكن كنت أؤمن في قرارة نفسي أن العالم سيلتفت إليّ.
جريدة شبيغل: وهل قامت الكلمات بإنقاذك على الدرج؟.
هيرتا مولر: لقد نظرت إلى الدرج. لقد كان للخوف عيون كبيرة و صارت الأمور غريبة ولأنها غريبة فإذا شاهدها المرء عن كثب انشغل بها. إن العمل أمر مساعد، فلكي يتمكن المرء من الابتعاد عن نفسه يمكنه أن ينشغل بالكلمات. وقد انشغلت مثلا بالكلمات الواصفة للآلات في المصنع ومن المثير للاهتمام هنا أن الأشياء تصبح في اللغة التقنية في كثير من الأحيان حية.
جريدة شبيغل: يوجد للنباتات في كتابك الشهير ‘أرجوحة النفس’ حضور كبير جدا، هذا من وحي القصة و القصة مرتبطة بمصير الشاعر’ أوسكار باستيور’ المتوفي سنة 2006، والذي قدِم إلى المعسكر السوفييتي عندما كان شابا وأكل العشب من الجوع، لقد قص لك عن المعسكرومن خلال ما سمعت تمكنتِ من تأليف روايتكِ. سؤالي هنا: عندما جعلتِ شخصيات روايتك الرئيسية تأكل النباتات، هل كنت بذلك تعطين تقريرا عن طفولتك؟
هيرتا مولر: لا، ليس النباتات فقط و لكن السجناء أكلوا في الواقع كل شيء، حتى القمامة. ولكن النباتات وأسماؤها لم تأت من قصص ‘أوسكار باستيور’ لأنه لم يكن لديه علاقة مع النباتات كما أنه لم يتمكن حتى وصفها. لقد قال تحدث ‘أوسكار باستيور’ دائما عن الخزامى، لكنني كنت أعرف أن المعسكر موجود في البادية، فخاطبته قائلة ‘أوسكار’ هناك لا تنمو الخزامى. لذلك ذهبنا هناك معا، لكي أستطيع اختيار الكلمات المناسبة وعندما وصلنا رأيت أنها لم تكن خزامى بل نبتة ‘البيقية المعنقدة’.
جريدة شبيغل: هل زرعتِ الخزامى في قبره الواقع بالقرب من منزلك ؟.
هيرتا مولر: نعم، لقد زرعت الخزامى وإكليل الجبل.
جريدة شبيغل: أنت دقيقة جدا في اختيار الكلمات، كما أنك تربطينها في رواياتك في كثير من الأحيان مع سياقات لا يتوقعها القارئ مثل كلمة ‘الحنين إلى الوطن’ في رواية ‘أرجوحة النفس’، فعندما عاد السجين الذي أصيب في المعسكر إلى أرض الوطن أحس بحنين إلى المعسكر. وقد كان هذا للقارئ أمرا غير متوقع ولا يحتمل.
هيرتا مولر: إن الأمر كذلك بالنسبة لي أيضا. لقد روى ‘أوسكار باستيور’ أنه يحس بحنين إلى الوطن، و لم أفهم ما كان يقصده. و قد رافقته سنة 2004 إلى أوكرانيا و قد كان هناك للمرة الأولى منذ الإفراج عنه ولكنني اعتقدت أنه سوف ييأس ولكنه كان سعيدا. فقد قال: أنا أغذي روحي، كانت هذه مفردات لم يستخدمها أبدا معي، لم يكن متعبا وأكل بوحشية مثل المجنون. لقد قمت في الليلة الأولى بالبكاء فقط، لأنني اعتبرت هذه الوضعية كلها غير معقولة، فيما بعد علمت أنه حتى’خورخي سيمبرون’ الذي اعتقل في شبابه في معسكر ‘بوخنفالد’ قال أن هذا المعسكر هو بيته وهذا أمر رهيب.
جريدة شبيغل: كيف تفسرينَ ذلك؟
هيرتا مولر: إنه التخريب، شيء يحبه الإنسان ولكن لا يحتمله.إن عالم المعسكر كان منظما بالطريقة الأكثر رهبة ولكنه منظم بالفعل.
جريدة شبيغل: لقد ظهرت روايتك ‘أرجوحة النفس’ سنة 2009 وحصلت بها على جائزة نوبل للآداب، وانتشر بعد سنة من ذلك خبر تسجيل ‘أوسكار باستيور’ مع الاستخبارات الرومانية. لم يكن أحد على عِلم بذلك مما أسال الكثير من المداد في الصحافة. وفقا للبحث الراهن عن ‘باستيور’ فقد ثبت أنه كان عميلا سريا ولكنه قدم في الواقع تقارير قليلة. ما هو شعوركِ نحوهُ اليوم؟
هيرتا مولر: صُدمت بطبيعة الحال عندما سمعت هذا الخبرولكن صديقي ‘إرنست فيشنر’ قرأ 7000 صفحة من ملفات البحث أي من كافة ملفات الأشخاص الذين قد يكون’أوسكار باستيور’ تجسس لحسابهم. لقد كان مخبرا مابين سنة 1961 و 1968. لقد وجدنا له ستة تقاريرسابقة ومعظمها غيرمؤذ فهناك أناس قد كتبوا عشر تقارير في الأسبوع، لقد تم إجبار ‘أوسكار باستيور’ في هذه المسألة والحقيقة أنهم وجدوا بعض قصائده عن المعسكر وتم وصفها بأنها تدعو إلى التحريض ضد السوفييت، فتم سجنه بهذه التهمة.كما أنه لو لم يوقع على التعهد بالعمل معهم لكانوا ألقوا القبض عليه وتم حبسه مرة ثانية وقد كان لا يستطيع تحمل ذلك مجددا.
جريدة شبيغل: أنتِ دائما واضحة عندما يتعلق الأمر بالدكتاتورية وعملائها. والآن، عندما تعلق الأمر بتورط أحد الأصدقاء، صار موقفكِ مغايرا، كيف تفسرين ذلك؟.
هيرتا مولر: لا أتراجع عن أي موقف. لقد كان رجل استخبارات ولكنني أريد أن أظل إنسانة في أحكامي ونحن نعلم أن هناك أنواع عديدة من المخبرين. هناك نوع ليس لديّ تجاههم مليمترمن الشفقة والحديث هنا عن أولئك الذين يحررون طوعا تقارير كل يوم وكل أسبوع. كانت هناك في بعض المقالات عن ‘أوسكار باستيور’ شماتة و أنا أعتقد أن هذا تصرف ليس مناسبا ويؤدي أيضا إلى العدم. و بهذه الطريقة لا يمكننا الاقتراب من الأمور و الحقائق.

جريدة شبيغل: نكون سعداء في السياسة إذا تمكنا من التعبير عن أنفسنا بحرية، حرية التعبير هي جوهر الديمقراطية. كيف تفسرين أن الدول التي كانت قادرة على تطوير الديمقراطية منذ الاضطرابات في أوروبا الشرقية رومانيا و روسيا و أوكرانيا و المجر – هي الآن بصدد الاستغناء عن هذا المكسب مرة أخرى؟
هيرتا مولر: يمكن وصف ما تفعله الحكومة الديمقراطية الاجتماعية في بوخارست بالوقاحة. في الواقع، هناك بقايا للحزب الشيوعي يريد أن يحمي الحكام الفاسدين في صفوفهم، بالإضافة إلى ذلك يتم تقويض سيادة القانون لكي يسيطر جنود الحزب على المؤسسات الهامة. إن الزمن يرجع إلى الوراء فكل طرف يريد أن يقرر كل شيء وحده. إن محاولات التلاعب في عدد الناخبين المؤهلين للمشاركة في الاستفتاء للتصويت عل الرئيس وتهديد القضاة الدستورية ليست سوى غيض من فيض من هذه القطعة المارقة، لا تمثل البلاد لهؤلاء أي شيء. لقد كانت المجر درسا، هناك رأوا كيف يلغي الفرد الديمقراطية والمخيف أنهم شباب. يبلغ ‘فيكتور بونتا’ رئيس الوزراء الجديد 39 سنة وقد جعله ‘تشاوشيسكو’ اشتراكيا، كما أن أطروحة دكتوراه منقولة إلى حد كبير أي أنه يتزين بشهادة جامعية وهمية أيضا، إن الغش جزء من الوعي.
جريدة شبيغل: لقد عدتِ إلى ألمانيا سنة 1987 أي قبل سنتين ونصف قبل تنفيذ حكم الإعدام ضد الديكتاتورالروماني ‘نيكولاي تشاوتشيسكو’، بعد ذلك حصلت على عدة جوائز أدبية. ما هو المصطلح الذي من شأنه وصف هذا التغيير في حياتك؟ الحظ السعيد؟
هيرتا مولر: لقد تغيرت الأمور دائما نحو الأفضل منذ قدومي إلى ألمانيا. كنت أعيش من الكتابة لم أكن أتصوركل هذا الخير، أتذكر انذاك حين وصلت كنت صغيرة ومكسورة و كل ما معي حقيبة فقط، أنا في ألمانيا دائما قادرة على العمل وهذا ما أحتاجه داخليا، هذه هو الحظ السعيد، أليس كذلك؟
جريدة شبيغل: هل ستكون هذه هي مادة روايتكِ المقبلة؟
هيرتا مولر: لا أحد يعرف، و أنا ‘لا أحد’.
جريدة شبيغل: ‘سيدة مولر’شكرا لكِ على هذا اللقاء.

(*) حاورتها ‘سوزان ميلر’ في برلين
رابط الصفحة: http://www.spiegel.de/spiegel/print/d-87908042.html

الكاتبة الألمانية ‘هيرتا مولر’ الحائزة على جائزة نوبل للآداب سنة 2009

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

نيتشه يضع وصفته للروائي الجيد . كتابة : آلاء بن سلمان

فريدريش فيلهيلم نيتشه (1844-1900) فيلسوف وشاعر ألماني. كان من أبرز الممهّدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميزاً. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول المبادئ الأخلاقية والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية منها والمثالية الألمانية. وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضاً. عموماً بلغة ألمانية بارعة. يُعدّ من بين الفلاسفة الأكثر شيوعاً وتداولاً بين القراء. في كتابه (إنساني مفرط في إنسانيته)، كتب وصفة للروائيين لكي يكونوا جيدين فيما يكتبون. يقول فيها:

الوصفة كي تصبح روائيًا جيدًا … من السهل قولها ، ولكن شق غمارها يستلزم مزايا يعتاد المرء على التقليل من شأنها حين يقول: “لا أملك موهبة كافية”. كل ما على المرء فعله هو وضع مئة مخطط تقريبًا للروايات، من دون أن تكون أطول من صفحتين ولكن ينبغي أن تكون دقيقة إلى درجة أن تكون كل كلمة فيها ضرورية ؛ وينبغي على المرء تدوين ملاحظاتٍ يوميًا إلى أن يتوصل إلى معرفة كيفية إعطائها الصيغة الأشد إثمارًا وفعالية؛ ولابد أن يكون المرء جادًا بلا كلل في جمع وتوصيف الأنماط والشخصيات البشرية؛
وعلى المرء، قبل أي شيء آخر أن يروي أمورًا للآخرين وينصت إلى آخرين يروون، مبقيًا عينيه وأذنيه مشرعة على الأثر الذي تتركه تلك التفاصيل على الحاضرين؛ وعلى المرء أن يسافر مثل رسام المناظر الطبيعية ومصمم الأزياء … ويجب على المرء أخيرًا ، تأمل دوافع الأفعال البشرية، وأن لا يترفع عن أي تفصيل بشأنها، وأن يكون جامعًا لتلك الأشياء ليلاً نهارًا. ولابد أن يتابع المرء هذا التمرين متعدد الجوانب قرابة عشر سنوات؛ وما سيتم إبداعه في تلك الورشة حينئذٍ … سيكون ملائمًا لإخراجه إلى العالم.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

ميلان كوندير والولع بالكاتبة

ميلان كونديرا والولع بالكتابة

كتابة : أحمد بادغيش

_______________

ميلان كونديرا – روائي وفيلسوف تشيكي لديه العديد من الروايات العالمية المشهورة مثل “كائن لا تحتمل خفته“- يتحدث في كتابه “كتاب الضحك والنسيان” عن الولع بالكتابة حيث يقول:

منذ زمن ليس بالبعيد، عبرت باريس على متن سيارة أجرة كان سائقها ثرثارًا. لم يكن يستطيع النوم ليلًا، لأنه يعاني من سهاد مزمن أصيب به أيام الحرب. كان بحارًا، غرقت سفينته، فسبح ثلاثة أيام وثلاث ليال إلى أن انتُشِل. قضى شهورًا عديدة بين الحياة والموت شفي بعدها، لكنه أصيب بالسهاد.

قال باسمًا : خلّفت ورائي الثلث من حياتي، وهو الذي أكبرك به.

سألته : وماذا عساك تفعل بهذا الثلث الزائد ؟

أجابني : أكتب.

فوددت أن أعرف ماذا يكتب. كان يكتب حياته. حكاية رجل سبح لمدة ثلاثة أيام في البحر، وصارع الموت، وفقد النوم، لكنه حافظ على رغبته في الحياة.

– أتكتب ذلك لأولادك ؟ يوميات للعائلة ؟

ابتسم بمرارة وقال : لأولادي ؟ هذا لا يهمهم. هو مجرد كتاب أكتبه هكذا. أعتقد أنه قد يساعد كثير من الناس.

هذه المحادثة مع سائق سيارة الأجرة جعلتني أكتشف فجأة جوهر النشاط الذي يمارسه الكاتب. نحن نؤلف الكتب لأن أبناءنا لا يهتمون بنا. نخاطب عالمًا مجهولًا  لأن زوجاتنا تغلقن آذانهن عندما نكلمهن.

ستعترضون عليّ بأن سائق الأجرة مهووس بالكتابة عن نفسه وليس بكاتب. لذا يجدر الشروع يتدقيق المفاهيم. فالمرأة التي تكتب لعشيقها أربع رسائل في اليوم ليست مولعة بالكتابة، إنها بالأحرى ولهانة. أما صديقي الذي ينسخ رسائله الأنيقة بغرض نشرها ذات يوم، فمهووس بالكتابة. ذلك أن هوس الكتابة Graphomanie ليس هو الرغبة في كتابة الرسائل أو اليوميات أو مذكرات الأسرة (أي الكتابة للنفس وللأقربين)، بل هو تأليف الكتب (أي الكتابة لجمهور مجهول). بهذا المعنى يكون ولع سائق الأجرة هو نفسه ولع (غوته). وما يميّز واحدهما عن الآخر ليس اختلاف الولع، بل النتيجة المختلفة لهذا الولع.

فالولع بالكتابة (عادة تأليف الكتب) يصبح بالضرورة وباء حين تتحقق في المجتمع ثلاثة شروط أساسية :

١. مستوى عالٍ من الرفاهية العامة تسمح للناس بالتفرغ لنشاط غير ذي جدوى.

٢. درجة عالية من تفتت الحياة الاجتماعية، ومن ثمة درجة عالية من عزلة الأفراد.

٣. خلو الحياة الداخلية للأمة من التغيرات الكبرى (ومن هذا المنظور، يبدو لي ذا دلالة كون النسبة المئوية لعدد الكتّاب في فرنسا أعلى بواحد وعشرين مرة منه في إسرائيل. ).

غير أن النتيجة قد تنعكس على العلة من خلال صدمة مرتدة. فالعزلة العامة قد تولد الهوس بالكتابة، وهوس الكتابة المعمّم يدوره يقوّي العزلة ويفاقمها. ذلك أن اختراع الآلة الطابعة مكّن الناس قديمًا من أن يفهم بعضهم بعضًا. أما في عصر هوس الكتابة الكوني، فقد اكتسب تأليف الكتب معنىً مناقضًا : كل واحد يحيط نفسه بكلماته الخاصة كما لو كان يحتمي بجدار من المرايا لا ينفذ منه أي صوت من الخارج.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

شروط المثقف عند أنطون تشيخوف

شروط المثقف عند أنطون تشيخوف

كتابة : فاطمة باسلامة

___________________

أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860-1904) هو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، يصفه البعض بأنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. تم تجميع عدد من رسائله العائلية في كتاب يحمل اسم (رسائل إلى العائلة)، يرد فيه (تشيخوف) في رسالة إلى أخيه (نيكولاي) حين أرسل إليه يشتكي بأن الناس لا يفهمونه، فقال له:

إن الناس يفهمونك جيداً، وإذا لم تفهم نفسك، فذلك ليس خطأهم.

ثم خلال الرسالة يحاول (تشيخوف) أن يشرح له أن هذا بسبب أمر واحد وهو الإخفاق الوحيد في نظره فقال:

لديك إخفاق واحد، ويعود إليه زيف وضعك، وتعاستك واضطراب أمعائك. ويتمثل هذا الإخفاق في افتقارك التام للثقافة. سامحني، من فضلك، لكن-كماتعرف- للحياة شروطها. فمن أجل أن تعيش نرتاحاً بين المتعلمين، ولتتمكن من معايشتهم بسعادة، يجب أن تحوز قدراً محدداً من الثقافة. إن الموهبة لتدخلك في مثل هذه الدائرة، فأنت تنتمي إليها، لكن، يتم سحبك بعيداً عنها للتأرجح بين المثقفين والمستأجرين.

ومن ثم يبدأ تشيخوف بوضع شروط يجب أن يستوفيها المثقفين في ٨ نقاط وهي :

١) احترم الجانب الإنساني في الشخصية، ولهذا السبب هم دائماً ودودون، دمثون، ومستعدون للعطاء. إنهم لا يتشاجرون بسبب مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي، وإذا عاشوا مع أحد لا يعدون ذلك منحة منهم، ويرحلون دون أن يقولوا “ليس بوسع أحد أن يعيش معك”، إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم المقدد والنكات ووجود غرباء في منزلهم.

٢) يتعاطفون، ليس فقط مع المتسوليين والقطط. وتتفطر قلوبهم لما يرونه أو لا يرونه. إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما، ولدفع نفقات الإخوة في الجامعة، ولشراء الملابس لأمهاتهم.

٣) إنهم يحترمون ممتلكات الآخرين، ولهذا يسددون ماعليهم من ديون.

٤) إنهم مخلصون، ويخشون الكذب كما تخشى النار. إنهم لا يكذبون حتى ولو في الأشياء الصغيرة. فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدني بالنسبة للمتحدث. لا يتظاهرون، بل لا يتغير سلوكهم في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمدون الاستعراض أمام رفاقهم الأقل منزلة. لا يثرثرون. ولا يثقلون على الآخرين بثقتهم بأنفسهم. واحتراماً منهم للآخرين، فإنهم يميلون إلى الصمت أكثر من الكلام.

٥) لا يحطون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة الآخرين. ولا يلعبون على شغاف قلوب الآخرين، ليجعلوهم يتنهدون ويستحوذون عليهم. ولا يقولون “يساء فهمي” أو “لقد أصبحت شخصاً من الدرجة الثانية”، لأن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف.
هم لا يعانون من الخيلاء والغرور. ولا يحفلون بتلك الماسات الزائفة (أقصد المشهورين)، ولا يأنفون من مصافحة السكير، وينصتون إلى صيحات إعجاب مشاهد مشتت في معرض للصور الفتوغرافية، ويترددون كثيراً إلى الحانات.

٦) وإذا أبرموا صفقة متواضعة، فإنهم لا يتباهون كما لو كانوا عقدوا صفقة بمئة روبيل، ولا يعطون لأنفسهم أولوية على الآخرين. إن الموهوب الحقيقي دائماً مايحافظ-دوماً- على اندماجه بين الجموع، وبعيداً قدر المستطاع عن الإعلان، وحتى كرايلوف، قال- سابقاً- إن البرميل الفارغ يصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل الممتلئ.

٧) إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها، ويضحون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخيلاء. إنهم فخورون بموهبتهم، وبالإضافة إلى ذلك من الصعب إرضاؤهم.

٨) ينمون الحس الجمالي داخلهم. ولايستطيعون الذهاب إلى النوم بملابسهم، ولايتحملون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات، أو تنفس هواء فاسد، أو السير على أرض عليها بصاق، أو أن يطهوا وجباتهم في موقد زيتي. ويسعون قدر استطاعاتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسمو بها. وليس مايرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش، ولايطلبون المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية. إنهم يرغبون،- خاصة الفنانيين منهم- بالأناقة، والإنسانية، والاحتواء، والأمومة. إنهم لايشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل، ولايتشممون رفوف الخزانات، لأنهم ليسوا خنازير، ويعلمون أنهم ليسوا كذلك. ويتناولون الشراب-فقط- عندما يكونوا غير مرتبطين بعمل أو في عطلة.

ثم بعد ذلك يعقب (تشيخوف) قائلاً:

لا يكفي على المثقف أن يقرأ “أوراق بيكويك” أو أن يحفظ منولوجاً من “فاوست”، فإن مايحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

الأشجار ومعنى الإنتماء والحياة

الأشجار ومعنى الإنتماء والحياة.

كتابة : فاطمة باسلامة .

_______________

هرمان هيسه (1877-1962) هو كاتب وشاعر وروائي سويسري، حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1946.

في ترجمة حصرية لمقالة المدونة الشهيرة (ماريا بوبوفا)، حملت عنوان “هرمان هيسه وماذا تعلمنا الأشجار في معنى الإنتماء والحياة“، تقول (ماريا):

أستيقظت هذا الصباح لأكتشف أن أحد الشجيرات قد نبتت في وسط المدينة التي أسكنها، اخترقت الصعوبات لتمتد وتكبر وتتفرع وسط طوب المدينة وخرساناتها، صارت أشبه بحديقة، وكل مقومات نموها هي تربة صغيرة لا تصلح لتكون أساساً لهذا العيش. اندهشت لهذا الحدث الاستثنائي وقلت: يالهذه المعجزة، هي رسالة فحواها تقول أننا لا يجب أن ننتظر أذناً من الحياة لنعيشها.

هذا الحدث غير المعهود ذكرني بنص للعظيم هرمان هيسه كنت قد قرأته في كتابه : (الأشجار: تأملات وقصائد).

يقول هيسه: “بالنسبة لي، الأشجار عادة ماتكون المبشر أو الواعظ صاحب النظرة المخترقة للمألوف والنظرة البعيدة.

أقدس الأشجار حين تعيش وسط القبائل وفي الغابات والبساتين، وأقدسها أكثر حين تقف وحدها صامدة، وتعيش بمفردها، تشبه في ذلك الإنسان الوحيد. ليس في طبعها أن تكون كناسك خسر ذاته ونفسه وبقي وحيداً بضعف، بل تقف وحيدة كأولئك العظماء، والجنود الأقوياء، أمثال نيتشه و بيتهوفن.

في عالمها تحدث حفيفاً وخشخشة في أعلى مستويات أغصانها ارتفاعاً، كما أن في جذورها تلقى راحتها حيث عمقها اللانهائي. هي لا تخسر نفسها حيث تكون فتلك الأغصان والجذور تصارع وتناضل في حياتها لأجل شيء واحد فقط وهو أن تعيش ضمن قوانينها الخاصة، وأن تبني ذاتها على شكلها الذي تريد، لتكون مثالا لنفسها.

لاشيء أكثر قداسة ولا شيء أكثر مثالية من شجرة جميلة قوية. في اللحظة التي تقطع فيها تلك الشجرة فإن جرحها يتكشف عارياً لأشعة الشمس، حيث يقرأ تاريخها المرسوم في جذعها كحلقات مستديرة بضوء نوراني، جروحها، نضالها، معاناتها، وأسقامها، وسعادتها وكل حقائقها محفورة على هذا الجذع بكل السنوات الضيقة والفاخرة، وبصمودها أمام الهجمات والعواصف والكوارث.

إن المزارعين الشباب يعرفون جيداً أن أجود أنواع الخشب الذي تكون حلقاته ضيقة والذي ينمو ويكبر في أعالي الجبال حيث أنه كلما  وجدت تلك الأشجار وحيدة في مناطق نائية وخطيرة فإنها تكون أقوى وأكثر مثالية.

إن الأشجار معابد للذين يجيدون الحديث معها، ويجيدون الإصغاء إليها، هي تعلمهم الحقيقة. فالأشجار لاتدعي أنها ابنة الدين أو التعاليم، هي تعظ وتبشر خلال قانون الحياة القديمة دون أن تعترض للتفاصيل.

قالت شجرة: في داخلي يختبئ جوهر الحياة، البريق، الفكرة، أنا حياة ممتدة للحياة الأبدية. إن كثرة المحاولة والمخاطر الفريدة والمختلفة أخذتني للأبدية كأم. هي فريدة من نوعها كأنها أوردة ممتدة في داخلي، هي فريدة لحد أن تكون موجودة في ندبات أصغر الأوراق في أغصاني، هذا ما شكل الأبدية في تفاصيلي الخاصة الصغيرة.

قالت شجرة: أثق بقوتي، لا أعرف أي شيء عن أبائي، لا أعرف أي شيء عن ألف طفل أنجبته للربيع، أعيش بأسراري حتى النهاية، أثق بأن الخالق في داخلي. أثق بأن عملي مقدس، ولهذا أثق بأني أعيش.

في تلك الأوقات التي نصاب فيها بالمحن، حين نكون عاجزين للدرجة التي نشعر فيها أننا لن نصمد في وجه الحياة أكثر يجب أن نقف أمام شجرة، لأنها دائماً تحاول أن تقول لنا شيئا مثل : حاول البقاء، اصمد أكثر، بل أنظر إلي واصغي جيداً، الحياة ليست بتلك السهولة ولكنها أيضاً ليست بالصعوبة التي نظن، ماتمر به مجرد أفكار متطفلة، فالوطن ربما ليس حيث أنت وربما لن يكون في مكان آخر، لأن الوطن يجب أن يكون في داخلك وإلا لن يكون أبداً.

في الليل وحين أسمع الصوت الهارب من أوراق الشجر الناتجة عن حركة الرياح أصاب بشعور في قلبي كبكاء المشتاق. إذا استمع أحد ما لذلك الصمت فترة طويلة فإنه سيكشف عن معناه، هو ليس سبيلاً للهرب من المعاناة عالرغم من أنه يبدو كذلك، هو حنين إلى الوطن الأم، للحياة القديمة حيث أنه ليس دليلاً على استعارات جديدة للحياة. هو الطريق المؤدي للوطن، هو الخطوة لولادة جديدة، وربما خطوة للموت، وكل أرض وإن كانت أشبه بقبر فإنها في النهاية ستكون الأم التي تلدنا من جديد.

الأشجار لا تصدر صوتاً في المساءات التي نقف فيها قبالتها محملين بأفكارنا الطفلة كأن صمتها إنصات: للأشجار أفكار ممتدة بعمق جذورها وبطول أغصانها، لهذا فإن لديها نفس طويل لسبب أن حياتها تتعدى طول حياتنا، فالأشجار أكثر حكمة منا ونحن لا نستجيب لحكمتها لأننا نصم أذاننا عنها. لكن من يأخذ فرصة الإستماع إلى الأشجار فإن الإيجاز والتسرع الطفولي للأفكار سيحقق بهجة لاتشبه شيء آخر.

الذي يستمع للأشجار بتفكر وفهم لن يتمنى أن يصبح شجرة، بل سيبلغ مرحلة التقبل لنفسه كما هو، لأن نفسه هي الوطن وهي السعادة.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

في معنى الصداقة | رسائل من أوستر إلى كوتزي والعكس | ترجمة أسامة منزلجي

معنى الصداقة | رسائل من أوستر إلى كوتزي والعكس | ترجمة أسامة منزلجي

تموز 14-15، 2008

عزيزي بول

كنتُ أفكر في الصداقات، كيف تنشأ، ولماذا تدوم – أو بعضها – طويلاً، بل أطول من الارتباطات العاطفية التي تُعتَبَر أحياناً (خطأً) تقليداً باهتاً لها. كنت أوشك أنْ أكتب إليك رسالة حول هذا كله، بدءاً بملاحظة قِلَّة ما كُتِبَ عن هذا الموضوع، إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى أهمية الصداقات في الحياة الاجتماعية، ومدى أهميتها بالنسبة إلينا، خاصة في عهد الطفولة.

لكنني تساءلت عما إذا كان هذا صحيحاً حقاً. لذلك وقبل أنْ أجلس لأكتب انطلقتُ إلى المكتبة لأُجري بحثاً سريعاً. وانظرْ ماذا وجدت، لقد كنتُ على خطأ تام. ففهرس المكتبة يحتوي قائمة بكل الكتب التي تتناول هذا الموضوع، كثيراً من الكتب، والعديد منها حديث العهد. ولكن عندما اتخذتُ خطوة أخرى وألقيتُ نظرة على تلك الكتب، استعدتُ شيئاً من احترامي لذاتي. لقد كنتُ على صواب، أو على شيء من صواب، فقبل كل شيء، إنَّ ما كان لدى الكتب لتقوله عن الصداقة ليس بذي بال، في معظمه. يبدو أنَّ الصداقة تبقى لغزاً: نحن نعلم أنها هامة، أما السبب في أنَّ الناس يُصبحون أصدقاء ويبقون أصدقاء فمجرد تخمين.

(ماذا أعني عندما أقول إنَّ ما كُتِبَ ليس بذي بال؟ قارن بين الصداقة والحب. هناك مئات الأشياء الهامة التي يمكن أنْ نقولها عن الحب. على سبيل المثال، يقع الرجال في حب النساء اللائي يُذكّرنهم بأمهاتهن، أو بالأحرى، يُذكّرنهم ولا يُذكّرنهم بأمهاتهم، اللواتي لسن أمهاتهم في الوقت نفسه. أصحيح هذا؟ ربما، وربما لا. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً. والآن لننتقل إلى الصداقة. مَنْ ينتقي الرجال ليكونوا أصدقاء لهم؟ رجالاً آخرين من السن نفسها تقريباً، والاهتمامات المتشابهة، الكتب مثلاً. أصحيح هذا؟ ربما. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً لا )

دعني أضع في قائمة بضع ملاحظات عن الصداقة، مُنتقاة من زياراتي التي قمتُ بها إلى المكتبة، ووجدتُ أنها حقاً مُثيرة للاهتمام.

مادة. يقول أرسطو (في كتاب “الأخلاق”، الفصل الثامن): لا يمكن عقد صداقة مع شيء غير حيّ. طبعاً لا! ومَنْ قال إنَّ هذا ممكن؟ لكنه أمر مُثير للاهتمام مع ذلك: إنَّ المرء يُدرك فجأة من أين استمدت الفلسفة اللغوية الحديثة إلهامها. قبل ألفين ومائتي عام كان أرسطو يُبيِّن أنَّ ما يبدو أشبه بمُسلَّمات فلسفية قد لا يكون أكثر من قواعد في النحو. وفي جُملة “أنا صديق لفلان”، يجب أنْ يكون فلان اسماً لكائن حيّ.

مادة. يمكن للمرء أنْ يتخذ أصدقاء من دون أنْ يرغب في رؤيتهم، كما يقول تشارلز لامب. هذا صحيح؛ ومُثيرٌ للاهتمام أيضاً – إنها طريقة أخرى لا تشبه فيها مشاعر الصداقة العلاقات الجنسية.

مادة. إنَّ الأصدقاء، أو على الأقلّ الأصدقاء من الذكور في الغرب، لا يبوح أحدهم بمشاعره للآخر. قارن هذا بثرثرة العشاق. حتى الآن، الأمر لا يُثير الكثير من الاهتمام. ومع ذلك عندما يموت صديق، كم يفيض الحزن: “واأسفاه، لقد فات الأوان!” (كما قال مونتاني عن ” الشِعر”، وميلتون عن الملك إدوارد) (سؤال: هل الحب ثرثار لأنَّ الرغبة متناقضة بطبيعتها – شكسبير في ” السوناتات ” – بينما الصداقة صموتة لأنها صريحة، بلا تناقُض؟)

ختاماً، ملاحظة من كريستوفر تيتجنز (1) في “نهاية الاستعراض” عمل فورد مادوكس فورد: حول أنَّ الرجل يضاجع امرأة لكي يتمكن من التحدث معها. المعنى الضمني: أنَّ تحويل امرأة إلى خليلة ما هو إلا خطوة أولى؛ الخطوة الثانية، تحويلها إلى صديقة، وهذه هي الخطوة الهامة؛ ولكن أن يكون صديقاً لامرأة لم يُضاجعها فهذا أمر مُستحيل عملياً لأنَّ هناك الكثير مما لم يُقل بينهما.

من الصعب جداً قول أي شيء يُثير الاهتمام عن الصداقة، إذن لا بد من التعمُّق: وهذا، خلافاً للحب أو للسياسة، اللذَين ليسا كما يبدوان، فإنَّ الصداقة هي ما تبدو عليه. الصداقة شفّافة.

إنَّ الأفكار الأشدّ إثارة للاهتمام حول الصداقة تأتي من العالم القديم. لماذا؟ لأنَّ الناس في العصور القديمة لم يعتبروا الموقف الفلسفي موقفاً شكوكياً متأصّلاً، ولذلك لم يُسلِّموا بأنَّ على الصداقة أنْ تكون غير ما تبدو عليه، أو على العكس خلِصوا إلى أنه إذا كانت الصداقة هي ما تبدو عليه، فلا يمكن أنْ تكون موضوعاً فلسفياً مناسباً.

مع خالص أمنياتي

جون

_______________________________

بروكلن

29 تموز، 2008

عزيزي جون

لقد قلّبتُ الكثير من الأفكار في هذه القضية على مرّ السنين. ولا أستطيع أنْ أقول إنني كوّنتُ موقفاً متناسقاً من الصداقة، ولكن رداً على رسالتك (التي أثارت دوامة من الأفكار والذكريات داخلي)، لعل اللحظة قد حانت لكي أحاول.

أولاً، سوف أقتصر على صداقة الذكور، الصداقة بين الرجال، الصداقة بين الفتية.

1) نعم، هناك صداقات شفّافة وليست متناقضة (ولأستخدم تعبيرك)، ولكن حسب تجربتي ليست عديدة. لعلّ لهذا صِلة بتعبير آخر استخدمته: “صموتة”. أنت على صواب بقولك إنَّ الأصدقاء من الذكور (في الغرب على الأقلّ) لا يميلون إلى “الإفصاح عن مشاعر كل منهم نحو الآخر”. سوف أتقدّم خطوة أخرى بعد هذا وأُضيف: إنَّ الرجال لا يميلون إلى الإفصاح عن مشاعرهم، نقطة. وإذا لم تكن تعلم ما هي حقيقة مشاعر صديقك، أو مشاعره، أو لماذا يشعر هكذا، فهل تستطيع بصدق أنْ تقول إنك تعرف صديقك؟ ومع ذلك فالصداقات تدوم، حتى إلى عقود، في هذه المنطقة الغامضة من اللا معرفة.

على الأقلّ ثلاث من رواياتي تناقشُ مباشرة مسألة صداقة الذكور، هي بصورة ما قصص عن صداقة الذكور – الغرفة المُقفلة، الليفياثان و ليلة النبوءة – وفي كل حالة، تُصبح تلك الأرض المُقفِرة من اللامعرفة التي تقف عائقاً بين الأصدقاء مسرحاً تمثَّل عليها الدراما.

مثال من الحياة. على امتداد السنوات الخمس والعشرين الفائتة، أحد أشدّ أصدقائي قُرباً مني – لعله الصديق الأقرب إليّ من الذكور في عهد رشدي – هو أقلّ مَنْ عرفت من الناس ثرثرة. إنه أكبر مني سناً (بأحد عشر عاماً)، ولكن بيننا الكثير من القواسم المشتركة: فكلانا كاتب، وكلانا ممسوس بصورة حمقاء بالألعاب الرياضية، وكلانا متزوج منذ مدة طويلة من امرأتين رائعتين، وأيضاً، والأهمّ والأصعب على التعريف، ثمة شعور معيَّن مُشترك غير مُباح حول كيف ينبغي على الإنسان أنْ يعيش – أخلاقيات الرجولة. ومع ذلك، على الرغم من حبي لهذا الشخص، ورغبتي في أنْ أنزع قميصي عني لأُعطيه إياه في وقت الشِدّة، إلا أنَّ أحاديثنا كلها تقريباً من دون استثناء بليدة وتافهة، بل مبتذلة تماماً. نحن نتواصل بإصدار أصوات نخر قصيرة، تعود في أصلها إلى لغة اختزال لا يفهمها الغرباء. أما بالنسبة إلى عملنا (الذي هو القوة الدافعة في حياة كلينا)، فنادراً ما نأتي على ذِكره.

ولكي أُبيِّن مدى تحفُّظ هذا الرجل، إليك أُمثولة صغيرة. قبل بضع سنوات، كانت إحدى رواياته توشك أنْ تصدر وهي تحت الطبع. فأخبرته عن مدى تلهّفي إلى قراءتها (أحياناً يُرسل كل منا للآخر المخطوطات النهائية، وأحياناً كنا ننتظر صدور الألواح الطباعية)، فقال إنني سأتلقّى نسخة في القريب العاجل. ووصلت الألواح الطباعية بالبريد في الأسبوع التالي. فتحتُ اللفافة، ورحتُ أتصفّح الكتاب على عجل، فاكتشفت أنه مُهدى إليّ(2) . تأثّرتُ، طبعاً، بل في الحقيقة كان تأثّري عميقاً – لكنَّ المهم هو أنَّ صديقي لم ينطق بأية كلمة عن ذلك. ولا حتى بأدنى إشارة، ولا حتى بأصغر أصغر طرفة عين، لا شيء.

ماذا أحاول أنْ أقول؟ إنني أعرف هذا الرجل ولا أعرفه. إنه صديقي، أعزّ الأصدقاء، على الرغم من هذه اللا معرفة. لو أنه خرج غداً وسرقَ مصرفاً، لصُدِمت. من ناحية أخرى، لو أنّه تناهى إلى عِلمي أنه خان زوجته، وأنَّ لديه عشيقة صغيرة السن يُخفيها في شقّة في مكان ما، لأُصِبتُ بخيبة أمل، ولكن لم أكُنْ لأُصدَم. إنَّ كل شيء ممكن، والرجال يحتفظون بأسرار، حتى عن أقرب الأصدقاء إليهم. وفي حالة خيانة صديقي لزوجته، كنتُ سأشعر بخيبة الأمل (لأنه خذل زوجته، وأنا شديد الكَلف بها)، لكنني كنتُ سأتأذّى (لأنه لم يأتمني على سرّه، مما سيعني أنَّ صداقتنا ليست متينة كما كنتُ أعتقد)

(خطرت لي فكرة مفاجئة. إنَّ أفضل الصداقات وأطولها أمداً يقوم على أساس الإعجاب. هذا هو الأساس المتين الذي يربط بين شخصَين ردحاً طويلاً من الزمن. إنكَ تُعجَب بشخص لأعماله، لِما هو عليه، لأسلوبه في شقّ طريقه في العالم. وإعجابك يدعمه في نظرك، يجعله نبيلاً، يرفعه إلى مكانة تفوق في رأيك مكانتك. وإذا كان ذلك الشخص يُبادلك الإعجاب – وبالتالي يدعمك، ويجعلك نبيلاً، ويرفعك إلى مكانة يعتقد أنها أعلى من مكانته – فأنت إذن في وضع راقٍ جداً. كلاكما يُعطي أكثر مما يأخذ، وكلاكما يأخذ أكثر مما يُعطي، في عملية التبادل هذه، تزدهر الصداقة. وأقتبس من ” دفاتر ” جوبير(3) (1809): ” عليه ليس فقط أنْ يُهذِّب أصدقاءه، بل أنْ يُهذِّب صداقاته داخل نفسه. يجب أنْ يُحافظ عليها، ويعتني بها، ويرويها”، ومن الجدير يقول جوبير “إننا دائماً نخسر صداقة الذين يخسرون احترامنا”)

2) الفِتية. إنَّ عهد الطفولة هو الفترة الأشدّ كثافة في حياتنا لأنَّ مُعظم ما نفعل في أثنائها نفعله للمرة الأولى. وهنا ليس لديّ أقدّمه إلا ذِكرى، ولكن يبدو أنَّ تلك الذِكرى تُبرِز القيمة القُصوى التي نضعها على الصداقة ونحن صغار، بل صِغار جداً. كنتُ في الخامسة من العمر. دخل بيلي صديقي الأول إلى حياتي بطُرُق لا أتذكّرها الآن. أتذكّره شخصية غريبة ومرحة تحمل آراءً قوية وصاحبة موهبة متطورة جداً في الخبث (وهي صِفة أفتقرُ إليها بدرجة مرعبة). كانت لديه إعاقة حادة في الكلام، وعندما يتكلَّم تخرج الكلمات منه شديدة التشوُّه، والإعاقة ويتكثّف اللعاب في فمه، بحيث لا يفهم أحد ما قال – ما عدا بول الصغير، الذي كان يقوم بعمل مُترجمه. وكان مُعظم وقتنا نقضيه في التجوال في ضواحي “نيو جرزي” المجاورة نبحث عن حيوانات صغيرة نافقة – غالباً من الطيور، ولكن مع ضفدع أو سنجاب مُخطَّط بين حين وآخر – ونقوم بدفن الجثث في مسكب للزهور على طول جانب منزلنا. نُقيم شعائر رصينة، ونصنع صلبانَ خشبية، ونمنَع الضحك. كان بيلي يكره الفتيات، رافضاً أنْ يملأ صفحات دفاترنا الملوّنة التي تبيِّن صوراً لفتيات، ولأنَّ لونه المُفضّل هو الأخضر، كان مُقتنعاً بأنَّ الدم الذي يجري في عروق دميته الدب أخضر اللون. هذا هو بيلي. ثم، عندما بلغنا السادسة والنصف من العمر أو السابعة، انتقل هو وعائلته إلى بلدة أخرى. وتحطم قلبي، وتبع ذلك أسابيع إذا لم أقُل شهور من الاشتياق إلى صديق الغائب. وأخيراً، لانَ قلب أمي وسمحتْ لي أنْ أُجري المكالمة المُكلِفة لمنزل بيلي الجديد. وقد امَّحى محتوى مكالمتنا من ذاكرتي، لكنني أتذكّر مشاعري بقوةِ حيويةِ تذكّري لِما تناولت على مائدة الإفطار في صباح هذا اليوم. شعرتُ بما سأُسمّيه لاحقاً شعور مُراهِق عندما تحدثتُ عبر الهاتف مع الفتاة التي وقعتُ في حبّها.

لقد ميَّزتَ في رسالتك بين الصداقة والحب. عندما نكون صِغاراً جداً، قبل أنْ تبدأ حياتنا الجنسية، لا يكون هناك فرق. الصداقة والحب شيء واحد.

3) الصداقة والحب ليسا شيئاً واحداً. كالرجال والنساء. كالفرق بين الزواج والصداقة. مُقتَطَف أخير من جوبير بتاريخ (1801): ” لا تنتقِ لك زوجةً أيّ امرأة لن تنتقيها كصديقة إنْ كانت رجلاً ”

أعتقدُ أنها تركيبة سخيفة (كيف يمكن لامرأة أنْ تكون رجلاً؟)، لكنَّ الفكرة وصلتْ، وفي جوهرها ليست بعيدة عن ملاحظتك حول قصة “نهاية استعراض” لفورد مادوكس فورد والتوكيد الغريب، والعجيب على أنَّ “يأوي المرء إلى السرير مع امرأة لكي يتمكّن من التحدُّث معها”

إنَّ الزواج هو قبل أي شيء حديث، وإذا لم يتوصّل الزوج والزوجة إلى طريقة ليُصبحا صديقَين، فليس للزواج فرصة للاستمرار. والصداقة هي عنصر أساسي في الزواج، لكنَّ الزواج نقاشٌ مفتوح ودائم التجدُّد، عمل متواصل لا يتوقف، مطلبٌ مستمر لبلوغ عمق آخر من أعماق الشريك ولإعادة ابتكار الذات في صِلتها بالآخر، في حين أنَّ الصداقة نقيّة وبسيطة (أي، الصداقة خارج رباط الزواج)، وتنحو إلى أنْ تكون أكثر جموداً، وتهذيباً، وسطحيّة. إننا نتوقُ إلى الصداقة لأننا كائنات اجتماعية، نولد من كائنات أخرى ويُقدَّر لنا أنْ نعيش بين كائنات أخرى حتى مماتنا، ومع ذلك فكِّر في المشاجرات التي تتفجّر أحياناً في أفضل الزيجات، الاختلافات العنيفة في الرأي، والمهانات الحادة، والأبواب التي تُصفَع والفخّار الذي يُكسَر، وسرعان ما يفهم المرء أنَّ مثل ذلك الأسلوب لن يراه في عالم الصداقة المُحتشِم واللائق. الصداقة هي حُسن سلوك، ورقّة، وثبات في الشعور. والأصدقاء الذين يتبادلون الصراخ نادراً ما يبقون أصدقاء. أما الأزواج والزوجات الذين يتبادلون الصراخ يبقون في المعتاد أزواجاً – وسعداء في زواجهم.

هل يمكن أنْ يُصبح الرجال والنساء أصدقاء؟ أعتقد ذلك. طالما أنه لا يوجد انجذاب جسديّ عند كلا الطرفين. فحالما يدخل الجنس في المعادلة، تنهار الرهانات كلها.

4) يجب أنْ تستمر. ولكن يجب مناقشة جوانب أخرى من الصداقة أيضاً: أولاً، الصداقة التي تذوي وتموت؛ ثانياً، الصداقات بين أناس لا تجمعهم بالضرورة اهتمامات مشتركة (صداقات العمل، صداقات عهد الدراسة، صداقات زمن الحرب)؛ ثالثاً، حلقات الصداقة المُتحدة في المركز: الحميمة في الجوهر، الصداقات الأقلّ حميمية لكنها مرغوبة أكثر، والأصدقاء الذين يعيشون بعيداً، وعلاقات التعارف الممتعة، وإلى آخره؛ رابعاً، كل النقاط الأخرى التي وردتْ في رسالتك لم أتطرّق إليها.

مع أحرّ الأفكار من نيويورك الحارة

بول

—————————-

1 – كريستوفر تيتجنز هو بطل سلسلة من أربع روايات عنوانها ” نهاية الاستعراض ” للشاعر والروائي الإنكليزي فورد مادوكس فورد ، وتحكي عن الآثار النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى على البريطانيين . – المترجم

2 – الكاتب المُشار إليه هنا هو دون ديليلو الذي أهدى كتابه ” كوزموبوليس ” إلى بول أوستر . (لجدير بالذكر أنَّ هذه الرواية سوف تصدر عن دار المدى في المستقبل المنظور) . – المترجم

3 – جوزيف جوبير (1754 – 1824) : فيلسوف فرنسي ارتبط اسمه مع كبار فلاسفة عصره . في أثناء حياته لم ينشر إلا القليل ، وفضّل أنْ يُسجل أفكاره في دفاتر أصبح عددها هائلاً عند موته . وبعد موته قام صديقه شاتوبريان بتوزيع تلك الدفاتر ونال صاحبها الشهرة الواسعة بسببها . الجدير بالذكر أنَّ بول أوستر نفسه قام بترجمة تلك الدفاتر إلى الإنكليزية تحت عنوان ” دفاتر جوزيف جوبير ” في عام 2005 . – المترجم

____________________________________

من مراسلات بول أوستر وج. م كويتزي “هنا والآن: رسائل 2008 – 2011” الصادر عن “فايبر آند فايبر” 2013

 

المصدر : مجلة أوكسحين