نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

سور الصين العظيم – كافكا

sour

سور الصين العظيم

 

قصة قصيرة بقلم:  فرانز كافكا

 

ترجمة: خليفه دسوقـي

 

كان العمل لإنشاء  سور الصين العظيم قد انتهى في أقصى ركنه الشمالي بعد أن كان قد امتد علي طول قطاعين من الجنوب الشرقي  والجنوب الغربي ليلتحما بعده  في ذلك الركن. وكان مبدأ الإنشاء المتقطع قد طُبق على مستوى أصغر من ِقبل كلا جيشي البناء العظيمين، الشرقي و الغربي. وكان العمل يتم كما يلي :

يتم تشكيل فرقة من حوالي العشرون عاملاً يناط بها إنجاز جزء من السور بطول خمسمائة يارده، بينما تكون مجموعة مماثلة منهمكه في بناء طول مماثل من السور ليقابل الجزء الأول. وعند انتهاء  عمل الوصلة فإن البناء لن يبدء مرة أخرى حيث انتهت هذه الياردات الألف، وبدلاً من ذلك فإن مجموعتي العمل تلك تنقلان لتبدآ البناء في  منطقة أخرى.  ومن البديهي أنه وبهذه الطريقة لا بد وأن تبقى ثغرات كبيرة لا يتم إغلاقها إلاّ تدريجياً  وجزءاً بعد جزء  ، بل وإن  بعضها لم يتم ذلك فيها إطلاقاً إلاّ بعد الإعلان الرسمي لانتهاء بناء السور. وفي الواقع، يقال أن هناك فجوات لم يتم إغلاقها إطلاقاً ، وربما كانت هذه أسطورة من الأساطير التي أثارها بناء السور والتي لا يمكن التحقق منها بواسطة فرد من الأفراد يحكُم على ذلك رأي العين  وخاصة لو أُخذ طول السور في الإعتبار. ورب قائل، بعد نظرة أولى، أنه كان من الأجدى ، في جميع الأحوال، لو أن بناء السور

 تم بطريقة متصلة ، علي الأقل في ما بين الجزئين الرئيسيين، أولم يكن الهدف من بناء السور كما كان معلوماً ومعلناً بصفة شاملة هو أن يكون حماية لنا من شعوب الشمال؟ فكيف إذن يمكن لسور أن يحمي إن لم يكن صرحاً متصلاً ؟ أوليس لمثل هذا السور أن يعجز عن الحماية إضافة على أن ما يوجد منه نفسه يبقى معرضاً لخطر مستمر، فكتـل السور القائمة في المناطق المهجورة يمكن تدميرها بسهوله، وخاصة أن تلك القبائل التي أقـلـقـتها عمليات التشييد كانت تـتـنـقل وتبدل مواقع

مخيماتها بصورة مذهلة ، كأسراب الجراد تماماً،ً وعلى هذا فإنه من الممكن أنه كان لديها نظرة عامه عن تقدم البناء أفضل مما كان لدينا نحن البناؤون. ومع ذلك فإنه من المحتمل أنه لم يكن هناك طريقة أخرى لإنجاز البناء . ولفهم ذلك علينا الأخذ بالأعتبارات التالية: كان على السور أن يكون حماية لقرون طويلة  و بناءاً على ذلك فإن  أكثر التصميمات دقة في البناء ، وتطبيق كل حكم المعمارفي كل العصور وعند حميع الشعوب مع الإحساس المتواصل بالمسؤولية لدى كل بنّاء ، كل هذه كانت لوازم مسبقة لا يمكن الإستغناء عنها من أجل هذا العمل. صحيح أنه قد استـُخدم عمال بالأجر اليومي من بين الجهله من العامة، رجال ونساء وأطفال، أدوا أعمالهم مقابل أجر في مهمات ذات طبيعة يدوية صرفة ولكن الإشراف كان يتطلب، حتى على العمال الذين يعملون لأربعة أيام، خبيراً ضليعاً في فن البناء، رجلاً يمكنه الإحساس بكل فؤاده والنفاذ فيما يتضمنه العمل، وكلما كانت المهمة أرقى كلما كانت المسؤلية أكثر ثقلاً كذلك.  ومن الناحية العملية فإنه كان من اللازم الحصول على مثل هؤلاء الرجال، حتى وإن لم يكونوا بنفس الوفرة التي كان يمكن لأعمال البناء أن تمتصها  بالرغم من أعدادهم الكبيرة. وأما بالنسبة للعمل فإنه لم يُباشر فيه بدون روية، فقبل خمسون عاماً من وضع الحجر الأول رُسّـِم فن المعمار، وفن البناء منه خاصة،  كأهم فرع من فروع المعرفة على كل امتداد ذلك الجزء من الصين الذي كان على السور أن يحيط به. وأما سائر الفنون الأخرى فإنها لم تحز على الإعتراف بها إلاّ فيما كان منها ذي علاقة بفن المعمار. وإنني  ما زلت أتذكر جيداً حين كنا أطفالاً صغاراً، ونحن لا نكاد نثق بأننا نقف على أقدامنا،  في حديقة معلمنا حين أخذنا في بناء ما يشبه السور من الرمل بناءاً على أمر منه، ثم أن المعلم استند بكامل طوله عليه وهو يثبت مئزره  فانهار السور طبعاً مما أدى بالمعلم لتوبيخنا بلهجة شديدة على عملنا الردئ فأخذنا،والدموع تملأ عيوننا، نعدوا في شتى  الإتجاهات نحو أباءنا.

 

كنت ذو طلع سعيد في ما يتعلق بنجاحي في الإختبار النهائي بالمدرسة الصغرى  وأنا في العشرين من عمري في ذات الوقت الذي بدأ فيه إنشاء السور. أقول ذو حظ سعيد لأن كثيرين من الذين نالوا أعلى الدرجات العلمية الممكنه قبلي ، لم يجدوا شيئاً يفعلونه سنة إثرأخرى فأخذوا يهيمون على وجوههم على غير هدي وهم يحملون في رؤسهم تصاميم معمارية رائعة وغرقوا في غياهب اليأس بالألوف.  غير أن الذين استُـخدِم منهم  للعمل في بناء السور كملاحظين في نهاية الأمر، وبالرغم من أن هذا ربما كان  من أقل الأعمال رتبة، فإنهم  كانوا حقاً أكفاء لأداء مهامهم.  كانوا بنائين دائمي التفكير في بناء السور، رجال أحسوا بأنهم جزء من السور منذ وضع أول حجر أساس على الأرض.  ومن الطبيعي أن بناؤن من هذا الطراز لم تكن لديهم الرغبة في انجاز عملهم على الوجه الأكمل فحسب، بل أنه لم يكن لديهم من الصبرمايكفي لرؤية السور قائماً تام الكمال. وأما عمال اليومية فلم يكن لديهم نفاذ الصبر هذا لأنه لم يكونوا ليرون سوى أجورهم. وأما كبار المشرفين والمشرفون المتوسطي الرتبة فإنه كان لهم مما يرونه من التقدم المتعدد الجوانب للسور ما كان يُـبْـقي  معنوياتهم مرتفعه.  وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى لتشجيع  المشرفين ذوي الرتب الدنيا، والذين كان من الواضح أنهم متـفوقون ثقافياً على مهماتهم التافهة تـفوقاً كبيراً. ومثالاً على ذلك فإنه لم يكن لينتظر منهم أن يضعوا الحجر فوق الحجر لشهور وربما لسنوات بلا انقطاع، في مناطق جبلية مهجورة  وعلى بعد  مئات الأميال من مواطنهم، أسرى للقنوط الملازم لمثل هذا العمل الشاق والذي لن ينتهي حتي في حياة أطول الناس عمراً ،  كل هذا كان يمكن أن يقذف بهم إلى مهاوي اليأس ويجعلهم، علاوة على ذلك، أقل قدرة على العمل. ولقد اعتـُمِد نظام العمل المتقطع في البناء لعين هذا السبب ، فخمسمائة ياردة يمكن إنجازها في حوالي خمسة سنوات وفيها يكون المشرفون على كل حال وحتماً مستـنـفـَذي القوى وفاقدو كل إيمان بأنفسهم وبالسور وبالعالم أيضاً. وعليه فإنه وأثناء الإحتفالات المقامه بمناسبة إتمام الألف يارده  وتكريمهم  فإنهم يرسلون بعيداً… بعيداً جداً حيث يمرون أثناء رحلتهم بقطاعات من السور تم بناءها، تقف شامخة هنا وهناك، ويمرون أثناء ذلك بمقر القيادة العليا حيث تقدم لهم أنواط الشرف ويرون ابتهاجات جيوش العمال الجديدة التي تمر بهم قادمة من أعماق الوطن، ويرون كذلك الغابات وهي تُقطَّع لاستعمالها  دعامات للسور والجبال تكحت وتُحول إلي حجارة فيه، ويستمعون للأناشيد تـُؤدَّى  في المقامات المقدسة حيث يصلي الأتقياء من أجل بناء السور، فكان كل هذا يخفف من حدة نفاذ صبرهم.

وفي مواطنهم ،حيث هدوء الحياة، يريحون أنفسهم هناك لبعض الوقت فـتـتجدد  قواهم. ولقد كان   الإصغاء والتصديق المتواضع الذي تقابل به  تقاريرهم، ،والإيمان الذي كان يكنّه مواطنيهم البسطاء المسالمين بحتمية إتمام السور يملأ قلوبهم بالحبور ، وكالأطفال المفعمين بالرجاء الأبدي  يودعون ذوييهم والرغبة في مزيد من سور الأمة قد أصبح هاجساً لا يقاوم، فيبدأون رحلتهم مبكرين أكثر مما يلزمهم فتصاحبهم  نصف القرية لمسافات بعيدة، وجماعات من الناس على كل الطرقات تلوح الألوية والأعلام. ولم يكن ليلاحظوا قبلاً كم هي بلادهم ثرية  وجميلة وجديرة بالحب.  كل مواطن كان أخاً من أجله يُبنى السور لحمايته وهذا الأخ، بدوره، سيكون مديناً له بالشكر طيلة حياته. الإتحاد !الإتحاد!  حلقة من الأخوة ..تياراً من الدم لم يعد محصوراً ضمن دورة ضيقة لجسم واحد بل  يتدفق عذوبة  ليعود أبداً من خلال الاعماق اللانهائيه للصين.  وهكذا إذن يمكن فهم نظام البناء المتقطع . غير أنه كانت توجد هناك أسباب أخرى بنفس الدرجة من الأهمية ، ويجب ألاّ  ينظر باستغراب لتوقفي عند هذه المسألة لوقت طويل لأنها أهم مشكلة في كامل عملية تشييد السور مهما بدت وكأنها ليست كذلك عند النظرة الأولى. وإذا كان علي أن أنقل أفكار ذلك العصر وأجعلها قابلة للفهم فإنه لن يكون بمقدوري الغوص في ذات هذه المسألة بما فيه الكفاية.

 

إذن يجب أن يقال أنه في تلك الأيام كان من النادر تحقيق أي شئ أقـل شأناً من عملية تشييد برج بابل مع أن الإستحسان الإلهي ، طبقاً للإعتبار الإنساني ، كان مخالفاً أشد المخالفة لذلك العمل. أقول هذا لأنه في الفترة المبكرة من البناء أخرج أحد المثقفين كتاباً تطرق فيه لمقارنة تعالج الموضوع كاملاً. وفي هذا الكتاب حاول المؤلف إثبات أن برج بابل فشل في الوصول لهدفه ليس للأسباب التي قُـدمت بدون استثناء ، أو لأنه في سياق الأسباب المعترف بها لم يتضمن أهمها كلها. وكانت براهينه مستمدة ليس فقط من التقارير والوثائق المكتوبة ، بل أنه أجرى بحوثاً ميدانية فاكتشف أن البرج  قد سقط ، وكان من المحتم أن يسقط ، نظراً لهشاشة أساسه. وفي ما يتصل بهذا فإن عصرنا على كل حال متفوق تـفوقـاً عظيماً على العصر القديم، وتقريباً فإن  كل رجل متعلم في عصرنا هوفي نفس الوقت  بناءًا محترفًا معصومًا في ما يخص وضع الأساسات. وعلى كل حال فإن هذا لم يكن ما يسعى مثقفنا  للبرهنة عليه ، بل أن ما كان يؤكده بالحجة، هو أن السور العظيم فقط هو الذي يمكن أن يزود ، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، الأساس المأمون لبرج بابل الجديد. إذن السور أولاً ثم البرج بعده. ولذا كان كتاب مثقفنا هذا في يد كل إنسان في ذلك الوقت، ولكنني اعترف أنني حتى يومنا هذا لم استطع أن أرى كيف تصور الكاتبُ ذلك البرجَ. كيف يمكن  للسور الذي لم يشكل حتى ولو دائرة ، بل ربع أو نصف دائرة، كيف إذن يمكن له أن يزود برجاً بالأساسات. من الواضح أن هذا غير ممكن إلاّ إذا قُـصد بذلك تحميله معنىً روحياً. وإذا كانت الحالة هي هذه فِلم إذن ُيْنشأ هذا السور المادي الملموس في كل الأحوال والذي كان ثمرة عمل العديد من البشر بطول حياتهم؟ ولماذا ، أيضاً، كانت هناك في الكتاب مخططات للبرج، بالرغم من أنه يجب الإعتراف هنا بأنها كانت مبهمة، ومقترحات مفصلة لتعبئة طاقات الشعب من أجل هذا العمل الجديد، الهائل.

 

كانت هناك في ذلك العصـر أفكار جامحة في أذهان الناس – ولم يكن كتاب مثـقـفنا هذا سوى  مثال لأحداها- ربما وبكل بساطة لأن الناس كانوا يريدون ضم قواهم لأقصى ما في استطاعتهم من مدى لإنجاز هدف فريد. إن الطبيعة الإنسانية، المتغيره جوهرياً وغير المستـقرة  كالغبار تماما،ً لا يمكنها أن تحتمل الكبح ، فإن ألزمت نفسها فإنها سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاقها بجنون بل وتمزق كل شئ إرباً، السور والوثاق وحتى ذاتها.

 

وهناك احتمال أن ذات هذه الإعتبارات والتي كانت تعمل ضد بناء السور على الإطلاق لم تكن غائـبة من حسبان القيادة العليا عند الأخذ بنظام البناء المتقطع ونحن – وعندما أقول نحن فإنني أتحدث باسم الكثيرين من الناس- نحن أنفسنا لم نكن نعلم حتى أنعمنا النظر في مراسيم القيادة العليا واكتشفنا أنه بدون هذه القيادة لم يكن ليكفي ما تعلمناه من كتبنا أو حتى من إدراكنا الإنساني لإنجاز المهمات المتواضعة التي أنيطت بنا في إطار الكل العظيم.

  وفي مكتب القيادة –  الذي لا يعلم أحد ممن سألتهم في ذلك الوقت أوالآن أين يكون أو حتى من يجلس فيه – في ذلك المكتب من الممكن للواحد منا أن يثــق أن كل الرغبات الإنسانية  تـتعاقب في دائرة، بينما تـتعاقب الأهداف والإنجازات في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذه تنعكس العوالم الإلهية الرائعة وتسقط على أيدي القادة  و هم يتـقصون مخططاتهم. ومن هنا فإن المراقب الفطن لا بد وأن يعتقد أن القيادة، إن كانت تريد ذلك بحق، فإنه كان بإمكانها التغلب على الصعوبات التي حالت دون الأخذ بنظام البناء المستمر.  وعليه فإنه لم يبقى إذن سوى الوصول إلى نتيجة تذهب إلى القول بأن القيادة قد اختارت نظام التشييد المتقطع هذا بصفة متعمدة. ولكن هذا نظام مجهد وبالتالي غير ملائم، مما يجعل النتيجة المتبقية هي أن القيادة إنما أرادت شيئاً غير ملائماً. نتيجة غريبة ! وإنها حقاً كذلك. غير أن هناك الشئ الكثير مما يقال  لدعم صحتها ، وربما كان مناقشة ذلك الآن مأموناً، ولكنه في تلك الأيام كان  الكثيرون من الناس، ومن بينهم أفضلهم، يعيشون وفق حكمة سرية تقول : ” حاول أن تفهم مراسيم القيادة العليا، ولكن لمدىً معين ، وبعدها تجنب الذهاب في تأملاتك إلى أبعد من ذلك. حكمة بليغة، تم تطويرها إلى حكمة أخرى تنص على تجنب المزيد من التأمل ولكن ليس لأن ذلك قد يكون ضاراً ، فليس هناك ما يؤكدأنه قد يكون كذلك، إضافة على أن ما هو ضار أو غير ضار ليس له دخل بالمسألة، وبدلاً من ذلك تأمل النهر في فصل الربيع وهو يرتـفع وينمو ويصبح أكثر قوة  ويغذي بوفرة أكبر، تلك التربة الممتدة على شاطئيه وهو يحافظ على مساره حتى يصل البحر حيث يُسْـتـقبل بترحاب كبير لكونه حليفاً يعتد به. وإلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا. وبعد هذا فإن النهر يفيض على شطـئانه ويفقد مساره وشكله ويبطئ من سرعة تياره ويحاول تجاهل مصيره بخلق بحور صغيره في الأرض الداخلية فيدمر الحقول، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يـبـقي على نفسه طويلاً في توسعه الجديد وعليه بدلاً من ذلك أن يجري عائداً إلى ما بين شاطـئـيه مرة أخرى ، بل وسوف يجف بائـساً في فصل الصيف الذي يلي هذا الفصل. وإلى هنا لا يمكنك متـابعة تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا.

 

والآن  وبالرغم من أن هذه الحكمة كان لها شأن وقوة غير عاديين خلال بناء السور فإنه في ما يتصل بمقالتي هذه ذات علاقة محدودة. إن مبحثي هذا تاريخي محض، ولم تعد موجودة تلك الومضات المضيئة من تلك السحابة الرعدية التي اختفت منذ وقت طويل،  وعليه فإنني ربما أجازف في البحث عن تفسير لنظام البناء المتقطع الذي قد يذهب لأبعد مما كان يرضي الناس في ذلك الوقت، علماً بأن الحدود التي تـَضْرِبها علي طاقتي  في التفكير ضيقة بما فيه الكفاية بينما اتساع الأرض المطلوب تجاوزها غير محدود.

 

ضد من كان السور العظيم يقف سداً؟  ضد شعوب الشمال.  إنني من جنوب شرق الصين، ولا يوجد هناك شعب شمالي يهددنا. نقرأ عنهم في كتب الأقدمين. والفظائع التي ارتكبوها طبقاً لطبائعهم تجعلنا نتـنهد في تعريشاتنا الهادئة. وتمثلات الفنان الصادقة تظهر لنا وجوههم الملعونة بأفواههم الفاغرة ذات الأسنان المدببة،  وعيونهم نصف المغلقة  وكأنها تبحث عن الضحية التي ستمزقها أسنانهم وتلتهمها. وعندما يجمح أطفالنا فإننا نريهم هذه الصور وفي الحال يقذفون بأنفسهم على أذرعنا وعيونهم تـقـطر دموعاً. وأكثر من هذا فإننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن أولئك الشماليين ولم تقع عيوننا عليهم وإن لزمنا قرانا فإننا لن نراهم أبداً حتى لو اتجهوا يقصدوننا على ظهور جيادهم المتوحشه- فالمسافة شاسعه ولن تـتـيح لهم أن يدركوننا فـتـنتهي رحلتهم هباءاً منثوراً.

 

لماذا إذن، إذا كان الأمر كذلك، تركنا مواطننا والنهر بجسوره ، وأمهاتنا ، وأباءنا، وزوجاتنا الدامعات وأطفالنا الذين يحتاجون لعنايتنا وغادرنا إلى مدينة بعيدة للتدرب هناك بينما ترحل أفكارنا لمسافات أبعد حيث السور في الشمال. لماذا؟ سؤال يطرح على القيادة . إن قادتنا يعرفوننا، وهم في خضم همومهم العملاقة يعرفون عنا وعن اهتماماتنا الصغيرة فيستحسنون أو يستهجنون صلوات المساء التي يتـلوها الأب وهو بين أفراد عائلته. وإذا ما سمح لي أن أعبر عن مثل هذه الأفكار بشأن القيادة العليا فإنني سوف أقول أنها قد وُِجدت منذ زمن قديم ولم تعقد إجتماعاً ، فلنقل، مثل تلك الإجتماعات التي يعقدها الماندرين (الموظفون الكبار في امبراطورية الصين القديم:المترجم)  حيث يدعون للإجتماع على عجل لمناقشة حلم جميل حلمه أحدهم ، وينفض الإجتماع بمثل السرعة التي عقد بها لتدق الطبول التي تُـخرِِج الناس من أسِرّتهم في نفس الليلة لتنفيذ ما تقرر حتى لو كان حفلة إضاءه تقام على شرف أحد الآلهة الذي قد يكون أظهر فضلاً  كبيراً  لوجهائهم ، ليسوقهم في اليوم التالي إلى ركن مظلم وهو يهوي بضربات الهراوة عليهم وقبل أن تخمد أضواء الألعاب النارية تقريباً. ومن الأحرى بي أن أقول أن القيادة العليا قد ُوُجِدت منذ الأزل وكذلك قرار بناء السور. غير مدركين هم، شعوب الشمال الغافلون ، الذين يظنون أنهم تسببوا في بناءه  وغير مدرك هو ذلك الإمبراطور الذي ظن أنه أصدر القرار ببناءه.  ولكننا نحن ، بناة السور ندرك أن الأمر لم يكن كذلك ولكننا نمسك عن التفوه به.

 

وفي أثناء ومنذ بدء بناء السور  أشغلت نفسي وحصرياً تقريباً، بدراسة علم الأجناس المقارن – وهناك مسائل محددة يمكن البحث فيها حتى النخاع- وكأنها هي الطريقة الوحيدة – واكتشفت أننا نحن الصينيين نمتلك مؤسسات شعبية وسياسـيـة فريدة في  وضوحها وأخرى فريدة في غموضها. والرغبة في تـقـصي هذه الظواهر، والأخيرة منها بوجه خاص، أثارت وما زالت تثير اهتمامي ، وبناء السور نفسه يتعلق جوهرياً بهذه المسائل.

 

وأما أعظم مؤسـساتنا الأكثر غموضاً فهي الإمبراطورية ذاتها.  ومن الطبيعي أن يكون هناك في بيكنج وفي البلاط الإمبراطوري بعض الوضوح في هذا الموضوع مع أن ذلك أكثر ما يكون وهماً منه حقيقة.  ويزعم أساتذة القانون السياسي والتاريخ في المدارس العليا أنهم يملكون المعرفة الدقيقة عن هذه الأمور وأنهم قادرون على نقل معرفتهم هذه إلى تلامذتهم- ومن المتوقع أنه كلما أخذنا في الهبوط درجات  إلى المدارس الأقل رتبة كلما وجدنا أن يقين الأساتذة  و طلبتهم في علمهم يـتـسرب من بين أيديهم لنرى السطحية تـناطح الجبال علواً حتى تبلغ عنان السماء وتتخذ لها محوراً من المفاهيم القليلة التي غرست في أذهان الناس لقرون….مفاهيم  ، رغم أنها لم تفقد شيئاً من حقيقتها الأزلية فإنه تبقى إلى الأبد غير مرئية في هذا الضباب من الإرتباك. ويبقى إن هذا السؤال بالضبط ، والخاص بالإمبراطورية،  هو في اعتقادي الذي يجب أن يوجه للشعب ليجيب عليه. أوليس الشعب هو السند النهائي للإمبراطورية!؟  وهنا علي أن أعترف بأنني إنما أتحدث عن مسقط رأسي فقط . وباسـتـثـناء آلهة الطـبـيعة  وطـقـوسها على مدى العام بكامله بتـناوباتها الجميله الغنـية ، فإنـنا لا نفكر إلاّ في الإمبـراطـور، ولكن، ليس الإمبراطـور الحالي؛ وكان حرياً بنا أن نفكر فيه لو كنا نعلم من يكون أو لو كنا نعلم أي شيئ محـدد عنه.  هذا حق – وهو الفضول الوحيد الذي يملؤنا-إننا نحاول دائماً الحصول على المعلومات  عن هذا الموضوع ، ولكن ، وحتى لو بدا الأمر غريـباً ، فإنه من المستحيل إكتـشاف أي شيئ سواء من الحُجّاج،  مع أنهم تجولوا  داخل الكثير من  بلادنا، أو حتى من الملاّحين الذين أبحروا ليس على أنهارنا الصغيرة فحسب بل وحتى على الأنهار المقدسة. صحيح أن الواحد منّا  يسمع الكثير جداً ولكن ليس من المستطاع جمع أي شيئ محدد.

 

إن وطننا أرض شاسعة جداً  وليس بمقدور أية أسطورة أن تفي حقها في ذلك بل إن السموات ذاتها بالكاد أن تكون ممتدة عليها ، وبيكينج نفسها ليست إلاّ نقطة عليه والقصر الإمبراطوري أقل من نقطــة .  والإمبراطور بما هو كذلك، أقوى وأعلى سلطـة من بين رتب الدنيا؛ إننا نقبل هذا ولكن الإمبراطور الحالي  رجل مثلنا، ومثلنا أيضا يضطجع علي سرير بحجم مبالغ فيه وربما كان من الممكن أن ذلك السرير جد ضيق وقصير، ومثلنا أيضاً يمد نفسه أحياناً وعندما يكون مرهقاً جداً فإنه يـتـثائب بفمه الرقيق القـَطْـع. ولكن كيف يمكننا أن  نعرف أي شئ عن ذلك – ونحن على بعد آلاف الأميال جنوباً وعند حدود مرتفعات التبت ؟ وإضافة علي ذلك فإن أية أنباء حتى إن  وصلتنا فإنها لن تصل إلاّ متأخرة جداً لدرجة أنه عند وصولها تكون قد أصبحت باليه قبل ذلك بزمن طويل. والإمبراطور محاط دائماً بحاشية من النبلاء  الغامضون الأذكياء الخبـثاء – الضغينة  في قناع من الخدم والأصدقاء- وكان هؤلاء يشكلون وزناً معاكساً للسلطة الإمبراطورية ويعملون دائماً على إطاحة الحاكم من موقعه باستعمال السهام المسمومة. والإمبراطورية خالدة لا تموت ولكن الإمبراطور يترنح ويهوي من عرشه ، نعم، سلالات ملكية بكاملها تغرق في نهاية الأمر وتـلفظ أنفاسها الأخيرة في حشرجة موت واحدة. وأما أفراد الشعب فإنهم لن يعرفوا عن هذه الصراعات والشدائد وكأنهم بلغوا متأخرين ،كغرباء في مدينة، يقفون في نهاية طريق جانبي يخنقه الإزدحام وهم يقضمون بسلام الطعام الذي أتوا به معهم بينما، بعيداً في المقدمة، في ساحة السوق، قلب المدينة، يجري إعدام حاكمهم.

 

وهناك اسطورة تصف هذا الموقف جيداً. وتمضي الأسطورة هكذا: إن الإمبراطور قد أرسل إليك رسالة أيها المواطن المتواضع، أيها الظل الحقير الذي يرتعد فرقاً وهو في أبعد الأبعاد من الشمس الإمبراطورية. إن الإمبراطور قد أرسل وهو على فراش موته رسالة إليك وحدك. أمر الرسول أن يركع بجانب السرير ثم همس بالرسالة له. ولقد كانت الرسالة من الأهمية بمكان أنه أمر الرسول أن يعيد همس الرسالة في أذنه، ثم بإيماءة من رأسه أكد صحتها. نعم ، أمام مشاهدي وفاته المجتمعون-  كانت قدأزيلت كل الجدران العائقة – وعلى الدرجات المفتوحة و الفسيحة العالية وقف في حلقة، أمراء الإمبراطورية العظماء- وأمام كل هؤلاء تسلّم الرسول الرسالة فبدأ رحلته مباشرة . كان رجلاً قوياً لا يكل، يدفع بيده اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرى ، ويشق طريقه بين الحشد ، فإذا  ما قابلته مقاومة ما فإنه يشير إلى صدره حيث يلمع رمز الشمس ، فيُسهّل له بأكثر مما لو كان لرجل آخر. ولكن الحشود كبيرة وأعدادها لا نهاية له.  لو استطاع الوصول للحقول المفتوحة فما كان أسرعه في الطيران، وفي الحال ، وبدون شك كنت لترحب أنت بطرقات قبضته على بابك. ولكنه بدلاً من ذلك فإنه يـبـدد طاقـته بلا طائل…..ما زال يشق طريقه في الغرف الداخلية ..ولن يستطيع أبداً الوصول إلى أخرها …وإذا وُفق في ذلك فلا فائدة ترجى من ذلك. هناك الساحات التي يجب ان يعبرها وبعدها هناك القصر الخارجي الثاني ، ومرة أخرى هناك الدرجات والساحات ثم قصر آخر….وهكذا لآلاف الأعوام . وإذا نجح أخيراً في الإندفاع والنفاذ من أقصى البوابات الخارجية – وهذا لن يحدث أبداً …أبداً- فإن العاصمه الإمبراطورية سوف تبـسط نفسها أمامه… مركز العالم محشوة بنفاياتها لدرجة الإنفجار ولا أحد يسـتطيع شق طريقه من هنا حتى لو كان يحمل رسالة من رجل ميت.

 

وهكذا، وبمثل هذا القنوط والرجاء، يتعلق شعبنا بالإمبراطور. إن شعبنا لا يعرف أي إمبراطور يحكمه وهناك شكوك حتى في ما يخص اسم الأسرة الملكية. وفي المدرسة يُدرّس الكثير عن هذه الأسرات مع تواريخ تعاقبها ولكن الشك الشامل المحيط بهذه المسألة كبير جداً بحيث يجر كثيرين من المثـقـفين للخوض فيه. وفي قريتنا يظن في الأباطره الذين ماتوا منذ زمن طويل وكانهم ما زالوا منصبين على عروشهم حتى أن أحد الذين لم يعودوا أحياء إلا في الأغاني قُـرِأ له مؤخراً بلاغ من  على المذبح بواسطة أحد الكهنة. معارك قديمة أصبحت تاريخاً منذ زمن طويل هي جديدة في حسباننا ورُب جار لأحدهم، أخذ بعدها يعدو  والبهجة تعلو وجهه، لينقل تلك الأخبار. وأزواج الإمبراطور المدللات المتعجرفات يـغويهن أفراد الحاشيه الماكرون ويلهبهن الجشع وتـسيطر عليهن شهواتهن الجامحة فيرتكبن رذائلهن مرة بعد المرة. وكلما أوغلن في الزمن كلما كانت الألوان التي يطوين فيه أعمالهن أكثر توهجاً ، وبصرخة جزع عالية تـسمع قريتنا في نهاية الأمر كيف أن إمبراطورة ما شربت دماء زوجها في فصل جفاف طويل قبل آلآف السنين.

 

هكذا إذن يتعامل أفراد شعبنا مع الأباطرة الراحلين، ويخلطون بين من يحكم الآن وأولئك الذين رحلوا.  وإذا حدث مرة، مرة واحدة في حياة رجل ما، أن أتى أحد رسميي الإمبراطورية أثناء جولة له في الأقاليم وتصادف أن نزل في قريـتـنا ثم أذاع بعض البلاغات باسم الدولة ،وفحص قوائم الضرائب ، وفتش مدارس الأطفال، وسأل الكاهن عن أعمالنا وشؤننا ، وبعد ذلك وقبل أن يصعد على كرسي محفته فإنه يلخص انطباعاته ويسهب في النصح على القرية المحتشدة أمامه، ثم تمر ابتـسامة على كل وجه ، ويختلسون النظرات فيما بينهم، وينحنون على أطفالهم حتى يتجنبوا انتباهة الموظف الإمبراطوري لهم، ثم يأخذون في التـفكير، ويسألون أنفسهم لماذا يتكلم عن رجل ميت هكذا وكأنه ما زال حياً؟. إن عاهله الذي يتحدث عنه قد مات منذ زمن طويل والأسرة قد امحت وبادت ولا بد أن هذا الموظف الرسمي يهزء بنا، ولكننا سوف نعالج هذا وكأننا لم نـتـنـبه له حتى لا نكدره ، ولكنه لن يكون لنا طاعة إلا لحاكمنا الحالي، لأن فعل  خلاف ذلك جريمة.  

 

ومن خلف محفة الموظف الرسمي المغادرة، يقوم بجبروته كحاكم للقرية ، رمز يُـبـجّـل عَرَضاً، يقوم من جرة حفظ رماد الموتى التي تـفـتـتت وأصبحت غباراً.

وبالمثل فإن شعبنا قليل التأثر بالثورات الداخلية والحروب المعاصرة ،  وإنني لأتذكر تلك الحادثة في صباي عندما اندلعت الثورة في الإقليم المجاورلنا- مع أنه بعيد عنا أيضاً بشكل ما. لم أعد أتذكر ما الذي تسـبب في تلك الثورة، ولم يعد ذلك الآن مهماً . فمسـبـبات الثورة موجودة هناك في أي وقت والناس هناك قابلون للإثارة. وعلى أية حال وفي يوم من الأيام جاء متسول إلى دار أبي وهو يحمل معه ورقة نشرها الثوار حين مروره بذلك الإقليم . ولقد تصادف أن كان ذلك اليوم يوم عيد وكانت غرف منزلنا مكتظة بالضـيوف فأخذ القسـيس الذي  كان يتوسط الجمع  بدراسة الورقة، وفجأة أخذ الكل في الضحك وفي خضم هذا الإرتباك تمزقت الورقة وطُرد المتسول، الذي كان قد أخذ، على كل  حال ، ما يكفيه من الصدقات قبل ذلك ، تلاحقه الضربات. وتفرق الضـيوف للإسـتـمتاع بذلك اليوم الجميل. لماذا؟ لقد كانت لهجة  ذلك الإقليم المجاور تختلف عن لهجتنا في بعض مظاهرها الجوهرية وهذا الإختلاف يحدث أيضاً في جزء معين من اسلوب كتابة الكلمات بما كان يمثل لدينا مظهراً عتيقاً  ، فلم يكد القسيس يكمل قراءة صفحتين فقط حتى كنا قد توصلنا لقرارنا. إن التاريخ القديم قدّم خبر أن الأحزان القديمة قد بَرُأت منذ زمن طويل. ومع أن بشاعة الحياة – أو هكذا يبدو لي عند التذكر- في الوقت الحاضر قدمت لنا كلمات ذلك المتسول بشكل لا يمكن نـقـضه، فإننا أخذنا نضحك ونهز رؤوسنا ثم رفضنا مواصلة الإصغاء. إن شعبنا مصاب بهاجس نفي الحاضر.

 

وإذا كان هناك من يسـتـنـتج أنه في الحقيقة ليس لدينا إمبراطور، فإنه لن يكون بعيداً عن إصابة الحقيقة. ومرة تلو الأخرى فإنه يجب تكرار:  أنه ربما لا يوجد هناك شعب أكثر ولاءاً للإمبراطور من شعبنا في الجنوب. ولكن الإمبراطور لم يستـمد الفائده من ولائنا لصالحه. وحقاً، فإن التـنين المقدس  يقف على ذلك العمود الصغير في أطراف قريـتـنا  وهومنذ بداية ذاكرة الإنسان  يزفر أنفاسه النارية من في اتجاه بيكينج رمزاً للولاء- ولكن بـيكينج  ذاتها أكثر غربة للناس في قريتـنا  من العالم الآخر. هل يعـقـل أن تكون هناك قرية تصطف بيوتها جنباً بجنب وتغطي مساحات تعادل كل الحقول التي يراها أحدنا من فوق تلالنا ولمسافات أبعد كثيرا .  وهل يمكن أن يكون هناك أناس مكدسون في هذه البـيوت وبينها ليلاً ونهاراً. ؟ إننا نجد تصوير ذلك أكثر عسراً من تصوير أن بيكينج وإمبراطورها كائن واحد، قل، سحابة تمر تحت الشمس على مدار الدهور.

 

والآن فإن اعتـناق مثل هذه الآراء إجمالاً إنما هو فوز بحياة حرة وغير مخـتـنـقه بشكل عام، وهي بأي حال من الأحوال ليست لا أخلاقية. ولم أكد  أجد في رحلاتي مثل هذه الأخلاقيات النقية التي تـتـمتع بها قريتي ومسقط رأسي مع أنها لم تتعرض لأي قانون عصري ولا تـنـكب إلأ على المواعظ  والتحذيرات التي تصل إلينا من أقدم العصور.

 

إنني أتجنب وأحذر التعميم فلا أؤكد أن الحال هي كذلك في العشرة آلاف قرية في إقليمنا وأقل من ذلك تأكيداً هو مايخص كل الخمسمائة إقليم في الصين. ومع ذلك فإنه ربما كان علي المجازفة بالقول بناءاَ على كل الذي كتب عن هذا الموضوع وقرأته، وبناءاً على ملاحظاتي أقول أن بناء السور خاصة بما أتاحه من وفرة في المادة الإنسانية قد قدمت سانحة لإنسان يتمتع بالمعقولية  لمسح وتقصي روح كل الأقاليم – وبناءاً على كل ذلك يمكنني أن أجازف وأؤكدأن الموقف السائد تجاه الإمبراطور يُظهر شيئاً متـناسقاً وشاملاً شمولاً أساسياً مع ذلك السائد في قريتـنا  .  وهنا لا أريد أن أصور هذا الموقف وكأنه فضيلة . وعلى العكس من ذلك فإنني أرى أن مسؤلية ذلك تقع على عاتق أقدم إمبراطورية على وجه الأرض وهي التي لم تنجح بعد في تطوير، أوأهملت تطوير، مؤسـسة الإمبراطورية بحيث تكتـسب دقة تـتـيح لها العمل والإمتداد مباشرة وبدون توقف حتى أقصى حدود الأرض ، وعلى كل حال هناك أيضاً شيئ من الضـعف في العقيدة  والقدرة على التخيل عند الشعب مما يمنعهم من انـتـشال الإمبراطورية من وهدة الركود في بيكينج وضمها إلى صـدورهم بكل حقائق حياتها الواضحة،  وهي لا تريد شيئاً أفضل من تلك اللمسة  والتي من بعدها تقضي أجلها.  وهكذا إذن فإن هذا الموقف ليس من الفضيلة في شيئ . والأكثر من هذا جدارة بالملاحظة هو أن هذا الضعف كان يجب أن يبدو وكأنه أحد المؤثرات العظمى التي توحد  شعبنا،  وحقاً، فإن الواحد منا إن أراد أن يذهب هذا المذهب ويعبرعنه  لقال أن هذا هو الأرضيه التي نعيش في كنفها . وإذا ما تهيئنا لتعيين عيب أساسي هنا فإن ذلك يعني ليس ضمائرنا فحسب ولكن ما هو أكثر سوءاً وأعني بذلك إرتعاش أقدامنا. ولهذا السـبـب فإنني لن أمضي أبعد من ذلك في هذه المرحلة من بحثي في هذه المـسـألة في هذا الوقت.

 

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

“حلم ساعة من الزمن”

“حلم ساعة من الزمن

كيت شوبان

same 

ترجمة : دلال الرمضان

 

 

نظراً لكون السيدة (ميلارد) كانت تعاني من اعتلال في القلب، فقد حرصوا على إخبارها بنبأ وفاة زوجها ببالغ اللطف. حيث تولت شقيقتها( جوزفين) تلك المهمة، إذ نقلت لها الخبر بعبارات متقطعة و تلميحات غامضة باحت بنصف ما تخفيه. أما (ريتشارد) صديق زوجها، فقد كان إلى جانبها أيضاً. وهو أول من تلقى نبأ الوفاة، إذ كان جالساً في مكتب الصحيفة عندما وردهم نبأ كارثة السكة الحديدية، حيث تصدر اسم (برنتلي ميلارد)  قائمة القتلى.

انتظر لبعض الوقت كي يتأكد من صحة الخبر، حتى وصلته برقية أخرى تؤكد ذلك. ثم سارع إلى منزل صديقه ليسبق أي أحد آخر يمكن أن ينقل هذا الخبر السيء بأقل قدر من الحرص و المراعاة لمشاعر الزوجة.

لم يكن وقع الخبر عليها كحاله مع غيرها من النساء اللاتي يعتريهن عجز تام عن تقبل أخبار كهذه. فقد انفجرت بالبكاء على الفور، ثم ارتمت بين ذراعي أختها دون سابق إنذار. وعندما انقضت عاصفة الحزن، سارعت بالذهاب إلى غرفتها بمفردها. ولم تكن ترغب بأن يتبعها أحد.

قبالة النافذة المفتوحة، كان هنالك كرسي مريح وفسيح، كانت قد غاصت فيه وهوت من فرط الإنهاك الذي استنزف جسدها، وبدا أنه امتد حتى وصل إلى روحها. كان بوسعها رؤية قمم الأشجار التي ترتجف معلنة استقبال الربيع الجديد في الساحة الممتدة أمام بيتها، ونسمات المطر العذبة تملأ الأجواء. أما في الشارع، فقد كان هنالك بائع متجول ينادي على بضاعته.

بالإضافة إلى التقاطها لصوت خافت لأنغام أغنية يرددها أحدهم من بعيد. ناهيك عن عدد لا حصر له من عصافير الدوري التي تغرد على حواف الأسطح.

بدت السماء في الجهة الغربية المقابلة لنافذتهاكبرك زرقاء مبعثرة بين  الغيوم التي تتلاقى و تتكدس فوق بعضها البعض. لقد جلست مسندة رأسها على متكأ الكرسي دون حراك، باستثناء شهقة خرجت من حنجرتها وهزتها كما يهتز طفل صغير بكى حتى غفا و استمر بالتنهد حتى في أحلامه.

 

لقد كانت شابة ذات ملامح هادئة ووجه جميل، تنم خطوطه عن قدرة على ضبط النفس وبعض  القوة. بيد أنه لم يكن في عينيها، الآن، سوى نظرة فاترة تحدق باتجاه إحدى تلك البرك الزرقاء في السماء. لم تكن مجرد نظرة خاطفة، بل كانت دلالة على إرجاء التفكير لبعض الوقت.

ثمة شيء ما آت إليها، وهي تترقبه بوجل شديد. ترى، ما هو هذا الشيء؟

لم تكن تعلم ماهيته ، فقد كان شيئاً رقيقاً و مراوغاً. لذا، تصعب تسميته. بيد أنها شعرت به يتسلل من السماء، متجهاً نحوها عبر الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الهواء.

ها قد بدأ صدرها يعلو ويهبط في اضطراب واضح. وها قد بدأت تدرك ماهية ذلك الشيء الذي يقترب ليتملكها. لقد كانت تحاول إبعاده عنها بإرادة واهنة، تماماً كيديها البيضاوين النحيلتين. وعندما أطلقت العنان لنفسها، هربت همسة صغيرة من بين شفتيها المنفرجتين قليلاً. لقد كررت العبارة بصوت خافت مرة تلو الأخرى.

حرة! حرة! حرة!

وسرعان ما تلاشت تلك النظرة الفارغة، و تلك المحفوفة بالرعب، من عينيها اللتين باتتا متقدتان و مشرقتان، ليتسارع نبضها وتحيل الدماء المتدفقة كل خلية في جسدها دافئة و مسترخية.

لم تتوقف عن التساؤل فيما إذا كان ذلك الشيء الذي استحوذ عليها هو مرح وحشي أم لا. لقد تمكن ذلك الشعور الجلي الرفيع من جعلها تتجاهل ذلك الأمر لعدم أهميته.

هي تدري أنها ستبكي مجدداً عندما ترى يدي زوجها الحنونتين الناعمتين يلفهما الموت، وذلك الوجه الذي لم يرمقها إلا بنظرات الحب، بات مزرقّاً و شاحباً وخال من الحياة.

بيد أنها رأت خلف ذلك المشهد القاتم، موكباً طويلاً من السنوات المقبلة التي تخصها وحدها، وها هي تفتح ذراعيها أمام تلك السنوات مرحبة بها. لن يكون هنالك من ستعيش لأجله في الايام المقبلة. ستحيا لأجل نفسها فقط.

لن يكون هناك أحد، مهما بلغ من قوة الإرادة، قادر على إخضاعها بذلك الإصرار الأعمى الذي يظن الرجال و النساء أن من حقهم أن يفرضوا من خلاله رغباتهم الخاصة على شريك حياتهم. و سواء كان ذلك الفعل بنية طيبة أم سيئة، فإنها في لحظة التنوير الخاطفة تلك،  لا تراه بعيداً عن مسمى الجريمة.

لقد أحبت زوجها في بعض الأحيان، كما لم تكن تطيقه في أحايين أخر. فما الذي يعينه ذلك؟

وما هي قيمة الحب، ذلك اللغز المحير، أمام امتلاك هذا القدر من تأكيد الذات الذي أدركت، للتو، أنه الدافع الأقوى للوجود.

لقد استمرت تهمس قائلة:

_ حرة! جسداً و روحاً!

في غضون ذلك، كانت (جوزفين) راكعة أمام باب الغرفة المغلق، وهي تقرب شفتيها من ثقب الباب متوسلة للدخول :

_افتحي الباب يا لويس. أتوسل إليكِ! افتحي الباب ! ستؤذين نفسك. ما الذي تفعلينه يا لويس؟ بحق السماء افتحي الباب. أرجوك!

لترد لويس:

_ اتركيني! لن أؤذي نفسي أبداً.

وكأنها كانت تحتسي إكسير الحياة عبر تلك النافذة المفتوحة.

لقد تمرد خيالها و أخذ يجوب أيامها المرتقبة. أيام الربيع، أيام الصيف، و كل الأيام  التي ستغدو ملكاً لها وحدها. دعت ربها أن يطيل في عمرها، وهي التي اقشعرت بالأمس من فكرة الحياة الطويلة.

وبعد إلحاح طويل من شقيقتها، نهضت وفتحت لها الباب. كانت هنالك نظرة انتصار محموم في عينيها، كما مشت بعلياء، عن غير قصد منها، كما تمشي إلهة النصر. إذ أمسكت بخصر شقيقتها  وأخذتا تنزلان الدرج. حيث كان (ريتشارد) ينتظرهما في الأسفل.

 

وبعدها، قام أحدهم بفتح الباب الخارجي مستخدماً المفتاح. لقد كان (برنتلي ميلارد) هو من دخل إلى المنزل، وقد بدا عليه إعياء السفر. كان يحمل حقيبته الصغيرة ومظلته بكل هدوء. يبدو أنه كان بعيداً عن مكان وقوع الحادث، كما بدا أنه لم يسمع بحدوثه البتة. لقد وقف بذهول امام صرخة ( جوزفين) الثاقبة، و حركة صديقه ( ريتشارد) السريعة ليحجبه عن مرأى زوجته.

بيد أنه تأخر كثيراً.

عندما جاء الأطباء لفحصها قالوا بأنها توفيت بسبب اعتلال في القلب. بسبب الفرح القاتل!

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

إعترافات قرد شيناغاوا

إعترافات قرد شيناغاوا

القاص / هاروكي موراكامي

ترجمة / يحيى الشريف

تحرير وتدقيق : سهام  سايح

savehurki

 

صادفتُ قردًا مسنًّا عند نُزل ضئيل الحجم ذو طراز ياباني في مدينة ذات ينابيع ساخنة  بمحافظة غونما قبل حوالي خمسة أعوام. كان نُزلاً ريفيًا بسيطًا  أو؛ بدرجة أكبر آيلاً للسقوط تقريبًا، صامدًا بشق الأنفس، حيث أمضيت هناك ليلة فحسب.

كنتُ مسافرًا، فأينما قادتني روحي ذهبت، وصلت الساعة السابعة مساءً عند المدينة ذات الينابيع الساخنة و نزلت من القطار. كان الخريف على وشك أن ينقضي، لم تبرح الشمس مكانها لبرهة من الزمن قبل أن تغيب، إذ غَشّى المكان عتمة زرقاء داكنة خاصة في المناطق الجبلية.  هبّت ريحٍ باردة و عاتية قادمة من قمم ٍ جبلية، تحمل أوراقًا  بحجم قبضة اليد يملأها صوت الخشخشة  على طول الشارع.

سرتُ وقد تجاوزت وسط المدينة بحثًا عن مكان لأمكث فيه، ولكن لا تستقبل النزل اللائقة الضيوف بعد ساعات العشاء. توقفت عند خمس أو ستة أماكن، ولكن جميعها ردّتني خائبًا. أخيرًا، صادفت نُزلاً استجاب لطلبي في منطقة مهجورة خارج المدينة. كان مكانًا موحشًا، وآيلاً للسقوط، فندقٌ رخيصٌ تماماً. من المؤكد أنّه شهد مرور الكثير من السنوات، لم تكن ثمّة جاذبية غريبة تتوقعها في نُزل قديم. تتناثر بها المعدات هنا وهناك دون ترتيب.

رتبت المعدات كيفما اتفقت لكنها لم تنسجم مع بقية المكان. انتابتني الشكوك ما إذا كانت ستصمد لهزة أرضية قادمة، بمقدوري أن أتمنى فحسب بأن لا يضرب زلزال حين أكون هناك.

لا يُقدِّم النُزل وجبة العشاء، ولكن اشتمل على وجبة  الإفطار ، فسعر الليلة الواحدة رخيص بشكل لا يُصدق . عند مدخل مكتب الاستقبال البسيط، يقبع شيخ أصلع بالكامل – يخلو وجهه من الحاجبين أيضًا- دفعت له ثمن ليلة واحدة مُقدمًا. افتقار وجه الشيخ  من الحاجبين يبرز كبر عينيه ولمعانًا غريبًا بشكل صارخ.  ثمّة قطة  ترقد على وسادة في الأرض بجانبه، كبيرة و بُنية اللون. مسنّة مثله، يبدو أنها تغط في نوم عميق. لا بّد أن ثمّة  شيئا ما غريبا بشأن أنفها، فهي تشخر بصوت أعلى من أي قطً سمعته على الإطلاق. أحيانًا تفقد إيقاع شخيرها بشكل متقطع. بدا كل شيء في النُزل قديمًا ويتهاوى.

 

الغرفة التي عُرضت عليّ  ضيقة ، مثل منطقة التخزين حيث يحتفظ النزيل بفراش فوتون الياباني؛ يظهر ضوء السقف خافتاً ، و تصرّ الأرضية تحت الحصير الياباني ما ينذر بالسوء بكل خطوة. غير أنّه فات الأوان على أن أهتم  بالتفاصيل. قلت لنفسي يتعيّن عليّ أن أكون سعيدًا أن أنال سقفا يؤوي رأسي وفوتونا للنوم عليه.

وضعتُ على الأرض قطعة واحدة من أمتعتي، حقيبة كتف كبيرة، وفكرت في رحلتي إلى المدينة ( لم تكن الغرفة  المنشودة  تمامًا و التي تمنيت الاسترخاء فيها). ذهبت إلى متجر مجاور لبيع شعيرية سوبا اليابانية وتناولت عشاءً بسيطًا . ذلك العشاء أو أبقى بدونها ، حين لم تكن مطاعم أخرى مفتوحة. لديّ جعة ، وبعض الوجبات الخفيفة، و قليل من شعيرية سوبا الساخنة.  كانت سوبا عادية ـ وشوربة فاترة ، ولكن أقولها مجددًا ، لم أكن أظهر استيائي بشأنها. تغلبت على فكرة الذهاب إلى الفراش  بمعدة فارغة . بعد أن غادرت متجر سوبا، اعتقدت بأنّني أرغب بشراء بعض الوجبات الخفيفة وقارورة ويسكي صغيرة، ولكن لم يكن بوسعي أن أجد  متجرًا بساعات عمل متواصلة . كان ذلك بعد الساعة الثامنة مساءً، و الأماكن الوحيدة التي وجدتها  مفتوحة هي مراكز ألعاب الرماية  في المدينة ذات الينابيع الساخنة. لذا سرت عائدًا إلى النُزل، ارتديت رداء إياكاتا، وذهبت إلى الطابق السفلي للاستحمام.

مقارنة مع مبنى رثٍ وبالي بمرافقه، بدا حوض الينابيع الساخنة في النُزل رائعًا و مدهشًا، وبخار الماء كثيفًا يميل للخضرة، ورائحة الكبريت حادة أكثر من أي شيء جربته على الإطلاق، فغمرتُ نفسي هناك، وأدفأتُها حدّ النخاع.  لم يكن ثمّة مستحمون آخرون ( لم تكن لدي فكرة إذا كان ثمّة  ضيوفٌ في النُزل)، بات بمقدوري أن أستمتع  لمدة أطول في الحوض بروية .شعرتُ بعد برهة بالدوار وخرجت كي ألتقط أنفاسي، ثم عدتُ إلى حوض الاستحمام. ربّما هذا النُزل المتداعي خيارٌ جيّد بعد كل ذلك، كما اعتقدتْ. بلا شك إنه أكثر إحساسًا بالأمان من الاستحمام مع بعض السيّاح المزعجين الذين تجدهم في النُزل الكبرى.

غمرتُ نفسي في الحوض للمرة الثالثة بينما انزلق القرد ودخل بصخب  من الباب الأمامي المفتوح . ‘‘المعذرة’’ قالها بصوتٍ منخفض. تطلّب مني الأمر ثواني كي أستوعب بأنّه قرد. غمرتني كلُّ تلك المياه الساخنة الكثيفة في حالة من الذهول، ولم أتوقع على الإطلاق بأنّني أسمع قردًا يتحدث، لذا لم يكن بإمكاني  أن أبني صلة في الحال  بين ما كنت أشاهده و حقيقة مفادها أن ذلك قرد حقيقي.  أغلق القرد الباب خلفه، وعدّل الدلاء المبعثرة و وضع ميزان الحرارة في الحوض لمعاينة درجة حرارته. حدّق بعينيه باهتمام في عقرب الميزان، وضاقت عيناه على اتساع العالم مثلما يعزل عالم البكتيريا  بعض السلالات الجديدة المسببة للمرض .

سألني القرد ‘‘ كيف وجدت الاستحمام في الحوض؟’’

 

قلت أنّه رائع للغاية . شكرًا لك.’’  ترددت أصداء صوتي بكثافة ، برفق، عند البخار. بدت خرافية تقريبًا، ليس مثل صوتي الذي أعرفه ولكن، نوعًا ما ، مثل صدى الصوت  الآتي من الماضي من سحيق الغابة . كان ذلك الصدى … توقف لحظة.   ماذا يفعل قرد هنا؟ ولماذا تحدث بلغتي؟.

سألني القرد ‘‘هل أقوم بدَعك ظهرك؟ ’’ ، ما زال صوته منخفضاً . كان صوته واضحاً وجذاباً  جهيراً كما موسيقى  دوو- ووب. ليس على الإطلاق ما تتوقعه. غير أن لا شيء غريباً بشأن صوته: لو أغلقت عينيك واستمعت، سوف تعتقد بأنّه شخص عادي يتحدث.

أجبتُ ‘‘ نعم ، شكراً جزيلاً.’’ لم يكن كما لو أنني أجلس هناك  متمنياً بأن يأتي شخص ما و يقوم بدَعَك ظهري، ولكن كنت أخشى إذا رفضته أن يعتقد بأنّني أعارض أن يقوم قرد بذلك. اعتبرت  ذلك عرضًا ودياً من جانبه، وبالتأكيد لم أرغب أن أؤذي مشاعره. لذا نهضت خارج الحوض ببطء وألقيت بنفسي على المنصة الخشبية الصغيرة،  ووجهت ظهري للقرد.

لم يكن القرد يرتدي أية ملابس. والتي بالطبع  هو الحال عادة  بالنسبة للقرد، لذا لم أصدم بغرابة ما يحدث. بدا مسنًّا تمامًا، لديه الكثير من الشيب في شعره. أتى بمنشفة صغيرة، وقام بدَعَك الصابون عليها، ودغدغ ظهري بيديه الخبيرة ، تدليكٌ جيد.

قام القرد بإبداء رأيه ‘‘ لقد أضحى الطقس باردًا  للغاية هذه الأيام ، أليس كذلك؟’’.

‘‘نعم إنّها كذلك’’.

‘‘ قبل أن يُغطى هذا المكان بالثلج لفترة طويلة، سيتعيّنُ عليهم أن يقوموا بجرف الثلج من السقوف ، ليست مهمة سهلة ، صدقني.’’

قفزت بسؤال بعد توقف وجيز؛ ‘‘ لذا يمكنك أن تتحدث بلغة البشر؟’’.

أجاب القرد بخفة ‘‘ بمقدوري بالفعل .’’ ربّما سُئل عن ذلك كثيرًا . ‘‘ لقد ترعرعت على يد البشر منذ  سنوات عمري الأولى ، وقبل أن أعرف  بأنني أجيد التحدث. عشت لفترة طويلة في طوكيو، في حيّ شيناغاوا .’’

‘‘في أي جزء من حي شيناغاوا؟’’

‘‘ حول غوتنياما.’’

‘‘ إنّها منطقة رائعة’’.

 

نعم، كما تعلم، إنّه مكان ساحر للعيش فيه. يجاور حديقة غوتنياما، فقد استمتعت بالمنظر الطبيعي هناك.’’

عمّ  السكون بعد حوارنا عند هذه النقطة. واصل القرد دَعَك ظهري بثبات (كان شعورًا رائعًا)، فحاولت طوال الوقت  أن أفكر بالأمر بعقلانية. قرد ترعرع في شيناغاوا؟ و في حديقة غوتنياما؟ كما يتحدث لغة بشرية بطلاقة ؟  كيف أمكن ذلك ؟ يا إلهي ، فهذا قرد. وليس شيئاً آخر.

قلت ‘‘ أسكن في  ميناتو- كو.’’ قول لا معنى له جوهريًا.

ردّ القرد بنبرة وديّة ‘‘ إذن ، كنا جيرانًا تقريبًا’’ .

سألت القرد ‘‘ ماذا يفعل الشخص الذي تربيت عنده في شيناغاوا؟‘‘.

سيدي أستاذ جامعي. تخصَّص في  الفيزياء، ثم  شغل كرسياً في جامعة طوكيو غاكوجي.’’

‘‘إذن، مفكر إلى حد كبير.’’

‘‘كان بالتأكيد كذلك، أحب الموسيقى أكثر من أيّ شيء آخر، لاسيّما موسيقى بروكنر و ريتشارد شتراوس. بصنيعهما، قمت بتطوير ولعي إلى هذه الموسيقى بنفسي. استمعت لها طوال الوقت.  يمكنك القول بأنّني حزت على معرفة واسعة دون أن  أدرك ذلك.’’

هل استمتعت  بموسيقى بروكنر؟

‘‘نعم. أجد دومًا سيمفونيته السابعة، لا سيّما الحركة الثالثة رفيعة المستوى.’’

تناغمت مع حديثه ‘‘ أستمع غالبًا إلى سيمفونيته التاسعة.’’ في قول  آخر لا معنى له.

ردّ القرد ‘‘نعم، هذه موسيقى رائعة بحق.’’

‘‘ لذا هل البروفيسور من علمك اللغة؟’’.

‘‘نعم قام بذلك. كان رجلاً عقيماً؛ و ربّما حاول أن يُعوِّض ذلك بتدريبي بصرامة إلى حد ما كلّما كان لديه وقت، فهو صبور للغاية، و يضع الاحترام والانتظام فوق كل شيء، شخص جاد؛ و لديه مقولة مفضلة “إعادة الحقائق الدقيقة هي الطريق إلى الحكمة“. أما زوجته هادئة ، لطيفة و تعاملني دوماً بحنان. إنّهم على وفاق، أتُعتع أن أذكر هذا لشخص ٍغريب، ولكن، صدقني، يمكن أن تكون أنشطتهم الليلية مكثفة للغاية.’’

قلت ‘‘ حقًا.’’

أتمّ القرد دَعَك ظهري أخيراً. قال لي ‘‘ شكراً على سعة صدرك’’ وانحنى برأسه .

قلت له ‘‘ شكرًا لك’’ إنّه لإحساس رائع. لذا ، هل تعمل هنا في هذا النُزل؟’’.

‘‘نعم أعمل هنا. إنّهم كرماء بما يكفي للسماح لي بالعمل هنا. لا توظف الفنادق الكبيرة قردا على الإطلاق. غير أن لديهم هنا نقصًا في الأيدي العاملة ، لا يهتمون إذا كنت قرداً أو أيًّا كان . يُدفَع لي الحد الأدنى للأجر  كقرد ، ويدعونني أعمل  فحسب أينما يمكنني البقاء بعيدا عن الأنظار خصوصًا ترتيب منطقة حوض الاستحمام، و التنظيف، أشياء من هذا القبيل.سيصاب معظم الضيوف بالصدمة  لو قدَّم لهم قرد الشاي  وهكذا . العمل في المطبخ ممنوع،جداً ، سأواجه مشكلات مع قانون الغذاء والصحة العامة.’’

سألته ‘‘ هل عملت هنا لمدة طويلة ؟’’.

‘‘ لقد مضت حوالي ثلاثة أعوام.’’

‘‘  ومع هذا  قد تكون خضت الكثير  قبل  أن تستقر هنا ؟’’.

أومأ القرد بسرعة ‘‘ صحيح تماماً .’’

تعتعت في الكلام، ولكن  انسل مني كما ينسل السيف من غمده فسألته  ‘‘ إذا لم تمانع ، هل يمكنك أن تسهب أكثر عن ماضيك؟ ’’.

فكر القرد في هذا السؤال، ثم قال ‘‘ نعم ، لا بأس بذلك .ربّما لا تكون محط اهتمام كما تتوقع، لكنني  خارج الدوام عند الساعة العاشرة  و يمكنني أن أمرّ على غرفتك بعد ذلك. هل يناسبك ذلك ؟ ’’

أجبته ‘‘بالتأكيد’’. ‘‘ سأكون ممتناً لو يمكنك أن تجلب معك بعض الجعة.’’

‘‘ عُلم. بعض الجعة الباردة.  هل موافق على  نبيذ سابورو ؟’’

‘‘ لا بأس بذلك. إذًا ، هل تشرب الجعة؟’’

‘‘ نعم ، قليلاً.’’

 

‘‘ إذن أرجو أن  تجلب معك قارورتين كبيرتين.’’

‘‘ بالطبع. إذا فهمتك بشكل صحيح، هل ستمكث في جناح أرايزو، في الطابق الثاني؟ ’’.

قلت له ‘‘ هذا صحيح.’’

قال القرد ‘‘بالرغم أنّه غريب بعض الشيء ، ألا تعتقد ذلك؟’’  يضحك القرد قائلاً ‘‘ نُزلٌ عند جبلٍ مع غرفة اسمها أرايزو على شاطئ وعرّ.’ ’’ لم أسمع على الإطلاق بقرد يضحك. إلاّ أنّني أعتقد بأن القرود تضحك، و حتى تبكي، في بعض الأحيان.  لا ينبغي أن يفاجئني الأمر، نظراً لأنّه كان يتحدث’’.

سألته ‘‘ بالمناسبة ، هل لديك اسم؟.’’

‘‘ كلا ، بدون أسماء، بحد ذاتها.إلا أنّ الجميع ينادونني بقرد شيناغاوا.’’

تزحلق القرد لفتح الباب الزجاجي، استدار، و انحنى بأدب، ومن ثمّ أغلق الباب ببطء.

أتى القرد قبل العاشرة بقليل إلى جناح أرايزو ، يحمل صينية مع زجاجتين كبيرتين من الجعة . بالإضافة إلى ذلك، تحتوي الصينية فاتح القارورة، كأسين، ومع بعض الوجبات الخفيفة: عبارة عن حبّار مجفف ومتبّل و كيس من كاكيبي -عبارة عن مقرمشات الأرز  مع الفول السوداني-. وجبات خفيفة نموذجية . يبدو قرداً ذكياً. .

ارتدى القرد بنطالاً رياضاياً رمادياً، و قميصاً سميكاً بأكمام طويلة مطبوع عليها ‘‘ أحبك يا نيويورك’’ ، ربما تعود هذه الملابس لأحد الأطفال الذي لم يعد يرغب بها.

‘‘لم يكن ثمّة منضدة في الغرفة، لذا جلسنا ،جنباً إلى جنب، على مخدات زابوتن، أسندنا ظهورنا إلى الجدار. استخدم القرد فتاحة القارورة لفتح غطاء الجعة وسكب كوبين . تقعقعت أكوابنا معاً بصمت في نخب بسيط.

قال القرد ‘‘ شكراً على الشراب’’ ارتشف الجعة الباردة بسعادة . شربتُ بعض الكؤوس أيضًا. بصدق ، إنّه لشعور غريب كوني جالسا بجانب قرد، وأشاركه الجعة ، إلا أنّني أعتقد أنك اعتدت على ذلك.

ردّ القرد ‘‘ الجعة بعد العمل لا يمكنك تحملها’’  مسح فمه بذراعه المشعرة . ‘‘ بالنسبة للقرد، فرص أن أحظى على جعة مثل هذه قليلة وبعيدة.’’

 

‘‘ هل تعيش هنا في النُزل ؟’’.

‘‘نعم ، ثمّة غرفة في العلّية ، حيث يسمحون لي بالنوم. ثمّة فئران من وقت إلى آخر ، لذا من العسير أن أرتاح هناك، ولكن أنا قرد، إذن عليّ أن أكون شاكراً وممتناً أن أحظى بفراش للنوم عليه وثلاث وجبات في اليوم . ليست جنة أو أي شيء آخر.’’

لقد أنهى القرد كأسه الأول، لذا سكبت له آخر.

قال بأدب ‘‘ ممتن للغاية.’’

سألته ‘‘ هل عشت يوماً ما ليس مع البشر ولكن مع بني جنسك؟ أعني مع قردة آخرين؟’’ هناك العديد من الأشياء أردتُ أن أسأله عنها.

أجاب القرد بوجهٍ متعكر قليلاً  ‘‘ نعم ، عدة مرات.’’ شكلت التجاعيد تلك  بجانب عينيه طيات عميقة. ‘‘ لأسباب متنوعة ، طُردت قسراً ، من شيناغاوا و أخُليت في تاكاساكياما؛ المنطقة الجنوبية التي تشتهر بمنتزه القرود. اعتقدت أول الأمر أنني بوسعي أن أعيش بسلام هناك، ولكن لا تسير الأشياء على هذا النحو. كانت القردة الأخرى رفاقي الأعزاء، لا تفهمني بشكل خاطئ، إلا أنني قد حظيت بتربية أسرة بشرية، بفضل البروفيسور وزوجته، فليس باستطاعتي أن أعبِّر عن مشاعري جيداً إليهم. ولم يكن لدينا سوى القليل من القواسم المشتركة، و لم يكن التواصل سهلاً. قالوا لي ‘  تتحدث بشكل مضحك’، كانوا يسخرون مني ويتنمرون عليّ. تُطلق زناءة* القردة قهقهة عندما ينظرون إليّ. القردة حساسون للغاية حول الاختلافات. وجدوا الطريقة التي أتصرف بها هزلية، وتزعجهم، وتثير غضبهم في بعض الأحيان. أضحى شاقًا علي ّ أن أبقى هناك، لذا في نهاية المطاف خرجت من تلقاء نفسي. بتُ قرداً شاذاً، بعبارات أخرى.’’

‘‘لابّد أنك شعرت بالعزلة والوحدة؟’’.

‘‘ بالتأكيد. لم يقم أحد بحمايتي، ولقد استجديت لأحظى ببعض الطعام بمفردي و لأبقى على قيد الحياة بطريقة ما.و لأنّني لم أحظى بالتواصل مع شخص ما بات أسوأ شيء.  ليس بمقدوري أن أتحدث مع القردة أو البشر. عزلة كهذه  تنفطر لها القلوب.  تمتلئ تاكاساكياما بالبشر الزوار ، ولكن لا يمكنني أن أخوض حواراً مع أي شخص كان أصادفه’’  .

‘‘ولا يمكنك  أن تستمع إلى بروكنر أيضًا.’’

تفوّه قرد شيناغاوا ‘‘ هذا صحيح. ذلك ليس جزءًا من حياتي الآن’’ وشرب بعض كؤوس من الجعة. درست وجهه، مع أن وجهه أحمر منذ البداية ، لم ألحظ  بأنّه بات أكثر احمراراً بسبب بضعة كؤوس من الشراب.  تخيلت بأنّ هذا القرد يمكن أن يتحمّل شرابه. أو ربّما لا يمكنك أن تعرف عبر وجوه القردة بأنّهم في حالة سُكر.

‘‘ أما الشيء الآخر الذي عذبني حقاً هي العلاقات مع الإناث.’’

 

قلت له ‘‘ فهمت.’’ ماذا تعني بأي علاقة مع الإناث—؟’’

‘‘ باختصار، لا أشعر بذرة رغبة جنسية إلى زناءة القردة. حظيت بكثير من الفرص أن أكون معهن، ولكن لم أشعر بلذة وبنفسي على الإطلاق.’’

‘‘ لذا لم تنجذب إلى زناءة القردة ، بالرغم من أنك قرد أيضًا؟’’

‘‘ نعم. ذلك صحيح. إنّه لأمر محرج ، لكن صدقاً، لا يمكنني  أن أحب سوى  إناث البشر.’’

كنت أفرغ بصمت كأس الجعة . فتحتُ كيس الوجبات المقرمشة و أمسكت بحفنة. ‘‘  أعتقد بأن ذلك  من الممكن أن يؤدي إلى بعض المشاكل الحقيقية’’.

‘‘ نعم، مشاكل حقيقة، في الواقع . كوني قرداً، بعد كل شيء، لم يكن ثمّة طريقة يمكنني أن أتوقع بأن تستجيب فيها إناث البشر إلى رغباتي. بل إن هذا يخالف علم الوراثة.’’

انتظرته أن يسهب في الحديث. قام القرد بدَعَك خلف أذنه بشدّة ومضى يتحدث أخيرًا.

‘‘ لذا كان عليّ أن أجد طريقة أخرى لتخليص نفسي من رغباتي التي لم تتحقق.’’

‘‘ماذا تعني ب ‘طريقة أخرى‘ ؟’’.

قطّب القرد وجهه بشدّة. أضحى  وجهه الأحمر أكثر قتامة.

قال القرد ‘‘ ربّما لم تصدقني .’’  ‘‘ من المحتمل أن لا ترغب بتصديقي ، يتعيّن عليّ أن أقول . طفقت أسرق أسماء النساء اللاتي وقعت بغرامهن.’’

‘‘تسرق  أسماءهن؟’’ .

‘‘ صحيح. لست متأكدًا من السبب، ولكن يبدو بأنني ولدت بموهبة خاصة لذلك. لو شعرت بأنني أحببتها، بمقدوري أن أسرق اسم المرأة وجعله خاصًا بي.’’

داهمتني موجة من الارتباك.

 

قلت له ‘‘ لست متأكداً من أنّني فهمت.’’ ‘‘عندما تقول بأنك تسرق أسماء النّاس، هل تعني بأنّهم يفقدون أسمائهم؟’’

‘‘ كلا. لا يفقدون أسمائهم كلياً . أسرق جزءًا من أسمائهم. بينما أخذ ذلك الجزء يفقد الاسم جوهره ، يصبح أخفّ من ذي قبل. مثلما السحب  تغشى الشمس و تصبح ظلالك على الأرض  أكثر شحوباً. قد لا يَعُون بمشاعر الخسارة. فهذا يعتمد على الشخص. قد يكون لديهم إحساس فحسب  بشيءٍ ما بعيداً بعض الشيء  .’’

‘‘ إلاّ أن بعضهم يدرك  ذلك بوضوح ،أليس كذلك؟ ذلك  أن جزءًا من أسمائهم فقُدت؟’’

‘‘ نعم ، بالطبع. يجدون في بعض الأحيان بأنّه ليس بوسعهم أن يتذكروا أسمائهم. فذلك غير مريح تماماً، إنه إزعاج حقيقي ، كما قد تتخيل. قد لا يميزون ماهية أسمائهم. يعانون في بعض الحالات من خلال شيء ما قريب من  أزمة الهوية . هذا خطئي برمته، منذ أن سرقت اسم ذلك الشخص. أشعر بالأسف حيال ذلك. غالباً أشعر بحجم تأنيب الضمير الملقى على عاتقي.  أعرف أن ذلك خطأ،  فمع ذلك لا يمكنني منع نفسي. لا أحاول أن أبرِّر تصرفاتي، ولكن مستويات الدوبامين لدي تجبرني أن أفعل ذلك. كأن ثمّة صوتًا يقول لي ، ‘ مرحباً، افعلها، اسرق الاسم. لا يبدو أنّ الأمر غير قانوني أو أي شيء آخر.’’

شددت يدي إلى الخلف ودرست القرد. دوبامين؟ تحدثتُ أخيراً. ‘‘ تسرق تلك الأسماء لأولئك النساء عن حب أو رغبة جنسية. هل صحيح ما أقوله؟ ’’

‘‘ بالضبط. لا أسرق اسم  أي شخص عشوائياً فحسب.’’

‘‘ كم عدد الأسماء التي سرقتها؟’’

بتعبير جاد، بلغ  القرد مجموع ما وصل إليه بأصابعه . كما حسب، دمدم شيئا ما . نظر إلى الأعلى . ‘‘ سبع أسماء. سرقت أسماء سبعة نساء.’’

هل هذا كثير ، أم لا ؟  من يستطيع أن يقول؟

سألته ‘‘ كيف تفعل ذلك إذن؟  ‘‘ إذا لم تمانع أن تخبرني؟’’

‘‘إنها قوة الإرادة في الغالب . قوة التركيز، والطاقة النفسية. غير أن هذا ليس كافياً، أفتقر إلى شيء ما مكتوب عليه اسم الشخص في الواقع. تعتبر البطاقة الشخصية خيارا مثاليا. رخصة القيادة، بطاقة تعريف الطالب، بطاقة التأمين، أو جواز السفر. شيء من هذا القبيل. ستؤدي الغرض بطاقة الاسم أيضاً . على كل حال، أحتاج إلى أشياء حقيقة  مثل واحدة من تلك . السرقة هي الطريقة الوحيدة عادة. أملك مهارة التسلل إلى غرف الناس بينما يكونون خارج المنزل. أستطلع المكان لشيء ما مع أسمائهم عليها وأخذها.’’

 

‘‘ لذا أنت تستخدم الأغراض التي مكتوب عليها اسم المرأة ، بجانب قوة إرادتك، لسرقة الاسم؟’’

‘‘بالضبط. أحدق في الاسم المكتوب هناك لمدة طويلة، فأركز على عواطفي، يستحوذ اسم الشخص الذي أحبه على انتباهي . تتطلب الكثير من الوقت و الأمر مرهق عقلياً وجسدياً. انغمست فيه كلياً، فأضحى جزء من المرأة جزءًا مني. لم يكن لعاطفتي ورغبتي من متنفس حتى ذلك الوقت، أما الآن باتت مرضية بأمان .’’

‘‘لذا ليس ثمّة شيء  ذا صلة ماديا ؟’’

أومئ القرد بحدة . ‘‘ أعرف بأنني مجرد قرد حقير، ولكنني لا أقوم بأي شيء غير ملائم على الإطلاق. ما أقوم به سوى أن جعل اسم المرأة التي أحبها جزءًا مني- هذا كثير بالنسبة لي-. أتفق بأن هذا التصرف يبدو منحرفاً، ولكني أيضاً أتصرف بنقاء أفلاطوني كلياً. استحوذ على حب كبير للاسم في داخلي ببساطة، وسرية.  كنسيم لطيف يهب على المروج.’’

قلت له  متأثراً ‘‘اممم.’’  ‘‘أعتقد أنه بوسعك أن تدعو بذلك النموذج النهائي للحب الرومانسي.’’

‘‘ أتفق . إلا أنّها نموذج نهائي من الشعور بالوحدة أيضاً. مثل وجهي العملة المعدنية . الطرفان ملتصقان معاً بشدة ولا يمكن فصلهما.’’

توقف حوارنا هنا، أضحينا أنا والقرد في صمت مطبق شربنا الجعة ، وتناولنا الوجبة الخفيفة  كاكيبي و الحبّار المجفف.

سألته ‘‘ هل سرقت اسم أحدهم مؤخراً؟’’

هزّ القرد رأسه. انتزع بعض الشعر الخشن على ذراعه، كما لو يود أن يوقن  بأنه قرد حقيقي بالفعل. ‘‘ كلا ، لم أقم بسرقة اسم مؤخراً. عندما أتيت إلى المدينة ، حسمت أمري  لوضع  الماضي خلفي، ذلك النوع من سوء السلوك. بفضل ذلك،  لقد عثرت روح هذا القرد الضئيل على جرعة من الأمان. تعلّقت بأسماء سبعة نساء في قلبي وأعيش حياة هادئة ومطمئنة. ’’

قلت له ‘‘ أنا سعيد أن أسمع ذلك.’’

‘‘أعلم بأن هذه خطوة جريئة بالنسبة لي، ولكن كنت أتساءل إذا تكون لطيفاً بما يكفي بأن تسمح لي بإبداء رأيي حول موضوع الحب.’’

قلت ‘‘ بالطبع.’’

 

يومض القرد بعينيه عدة مرات. ملوحاً برموش عينيه الكثيفة صعوداً وهبوطاً مثلما يلوح سعف النخل عندما تهب نسمة. أخذ نفسا عميقا وبطيئا، كنوع التنفس الذي يتنفسه  متسابق القفز قبل أن يبدأ السباق.

‘‘ أؤمن بأنّ الحب دعم لا غنى عنه لنا لكي تستمر الحياة. يوما ما يخبو الحب. أو ربما لا يصل إلى شيء إطلاقًا. حتى لو يتلاشى الحب، حتى لو بدون مقابل، بوسعك أن تنعش الذاكرة لتحظى بشخص تحبه، أو تغرم بشخص ما. هذا منشأ قيّم للدفء. بدون منشأ دافئ، فقلب الشخص- وقلب القرد أيضاً- قد يتحول إلى برودة لاذعة في أرض قاحلة.  المكان حيث لا تنعكس عليه  أشعة الشمس، أينما أمان الورود البرية، وأشجار الأمل، لا تحظى بفرصة للنمو. هنا داخل فؤادي،  تعلقت بأسماء أولئك النساء السبعة الحسناوات التي أحببتهن. .’’ استلقت يده على صدره  المكسو بالشعر. أخطط أن أستخدم  تلك الذكريات كمصدر دعم ضئيل لتدفئة الليالي الباردة، لتبقيني دافئاً لأحيا ما تبقى من حياتي الخاصة .’’

ضحك القرد مرة أخرى ، هزّ رأسه برفق بضع مرات .

أكمل كلامه ‘‘ إنّها طريقة غريبة لسردها ، أليس كذلك؟  ‘‘ الحياة الشخصية. نظراً لأنني قرد، ولست بني آدم . ههه هه ! ’’

فرغنا أخيراً من شراب الزجاجتين الكبيرتين من الجعة عند الساعة الحادية عشر ونصف.  قال القرد ‘‘ يجب أن أذهب’’. ‘‘حظيت بشعور رائع للغاية أخشى أنني أثرثر كثيراً. اعتذاراتي.’’

قلت له ‘‘ كلا ، وجدتها قصة مشوقة .’’   ربما  ‘‘ مشوقة’’ ليست الكلمة الصحيحة، على الرغم من أنني أعني،  مشاركة الجعة و الدردشة مع قرد كانت تجربة غير عادية  واستثنائية في حد ذاتها.  إضافة إلى ذلك حقيقة بأن هذا القرد بالذات أحب بروكنز وسرق أسماء نساء لأنه كان مدفوعاً برغبته الجنسية ( أو ربما الحب)، و لم تُطفق  كلمة ‘‘ مشوقة’’ بوصفها. كانت أكثر شيء لا يصدق ولم أسمع بها على الإطلاق. غير أنني لم أرد إثارة عواطف القرد مرة أخرى بعدما بات ضرورياً، لذا اقترعت الكلمة الأكثر هدوءًا وحيادية .

كما ودّعنا بعضنا ، منحت القرد فاتورة ألف ين كبقشيش، قلت له ‘‘ ليس كثيراً’’ ‘‘ ولكن أرجو أن تشتري لنفسك وجبة جيدة  لتأكل.’’

رفض القرد في بادئ الأمر، ولكن أصررت على ذلك فقبلها أخيرا. قام بطيِّ الأموال ودسِّها بعناية في جيب بنطاله الرياضي.

ردّ القرد ‘‘ إنه لطف كبير  منك .’’  ‘‘  لقد استمعتَ إلى قصة حياتي السخيفة ، وأكرمتني بشراب الجعة ، و الآن هذه الإيماءة السخيّة. لا يسعني أن أقول لك كم أقدر ذلك .’’

وضع القرد زجاجتي الجعة و الأكواب على الصينية وحملها إلى خارج الغرفة .

 

أردت أن أنهي إجراءات خروجي من الفندق  في صباح اليوم التالي عائداُ إلى طوكيو. عند المنضدة الأمامية، لم أر الشيخ الأصلع المخيف الذي ظهر بدون شعر أو حواجب في أي مكان، ولا القطة المسنّة التي تعاني مشاكل بأنفها.  بدلا ً من ذلك عثرتُ على امرأة سمينة عبوس  بمنتصف العمر، و عندما قلت لها  أرغب بدفع رسوم إضافية عن زجاجتي الجعة  لليلة الماضية أخبرتني بشكل قاطع ، بأنه لم يكن ثمّة رسوم طارئة على فاتورتي. أصرّت  المرأة السمينة بأن ‘‘ جميع ما لدينا هنا جعة معلبة من آلة للبيع بقطع نقدية .’’  ‘‘ لا نقدم قوارير جعة إطلاقاً.’’

ارتبكت مرة أخرى, شعرت كأن أجزاءً من الواقعية والخيال تبدل الأماكن عشوائياً. لقد شاركت زجاجتي جعة  سابورو مع القرد كما استمعت إلى قصة حياته.

عزمت أن أُحضر القرد للمرأة السمينة، إلاّ أنني قررت ألا أفعل. ربما القرد ليس موجوداً حقاً ، و قد يكون كل ذلك وهماً، نتاج لعقلٍ مخلل بنقع طويل في الينابيع الساخنة. أو ربما  ما رأيته بدا غريباً، و حلماً واقعياً. إذا تفوهت بالأمر وقلت مثلا ‘‘ لديك موظف وهو قرد مسن بوسعه  أن يتحدث، أليس كذلك؟’’ ربما قد تأخذ منحنى آخر، وأسوأ سيناريو، ستخال بأنني مجنون.  كانت فرص وجود قرد غير مدون كموظف، وليس بميسور النُزل أن يقدمه علانية  خشية أن ينبه  مكتب الضريبة  أو قسم الصحة .

قمت بإعادة كل شيء ذهنياً  ما أخبرني به  القرد أثناء ركوب القطار إلى البيت. قمت بتدوين جميع التفاصيل، بأفضل ما يمكن تذكرها، في دفتر الملاحظات الذي أستخدمه للعمل، أفكر عندما أعود إلى طوكيو سأكتب كل شيء من البداية إلى النهاية .

إذا كان القرد موجوداً بالفعل- وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني عبرها رؤيته- لم أكن متأكداً  من مقدار ما يجب قبول ما قاله لي عند شرب الجعة. فمن الصعب أن أحكم على قصته بإنصاف. هل من المحتمل أنه سرق أسماء النساء و استحوذ عليهم بنفسه؟ هل هذه بعض القدرات الفريدة من نوعها التي لم تمنح سوى لقرد شيناغاوا ؟ ربما كان القرد مريضاً بالكذب. من يمكنه أن يقول ذلك؟ بطبيعة الحال لم  أسمع بأن قرداً مصاباً بالميثومانيا من قبل إطلاقاً، ولكن، إذا أمكنه أن يتحدث بلغة البشر بمهارة كما فعل، لن تكون وراء عالم من الاحتمالات بالنسبة له أكثر من كونه كاذباً اعتياديا.

 

أجريت مقابلات مع العديد من الأشخاص كجزء من عملي ، فقد بت ُجيداً  في التعرف على من يمكن تصديقه ومن لا يمكن . عندما يتحدث شخص ما لبعض الوقت، بوسعك أن تلتقط بعض التلميحات الخفيّة و الإشارات ونيل شعور بديهي سواء كان ذلك الشخص صادقاً أو لم يكن. لم أعثر على ذلك الشعور حول ما أخبرني به قرد شيناغاوا بأن القصة مختلقة. النظرة في عينيه و تعابيره، والطريقة التي تأمّل  بها الأشياء كل مرة في لحظة، ووقفاته، إيماءاته، و طريقة تعثره بالكلمات— لا شيء حوله بدا مصطنعاً  أو مجبراً. وفوق كل ذلك، وجدت ثمّة إخلاصاً  كاملاً وحتى مؤلماً في اعترافاته.

انتهت رحلة استرخائي المنفردة ، عدت إلى دوامة المدينة الروتينية.  حتى عندما لم يكن لدي مهام رئيسية متعلقة بالعمل، بطريقة ما، كما أتقدم في السن، وجدت نفسي منشغلاً أكثر من ذي قبل. يبدو أن الوقت يسير بخطى ثابتة سريعة. لم أقل في النهاية لأي شخص عن قرد شيناغاوا إطلاقاً، أو كتبت أي شيء بشأنه. لماذا أحاول طالما لا أحد سيصدقني؟ ما لم أقدم دليلاً— يثبت في الواقع وجود القرد— قد يقول الناس بأنني ‘‘ أختلق الأشياء فحسب مرة أخرى.’’  لو كتبت بشأنه قصة خيالية  قد يعوزها التركيز أو المقصد منها. بميسوري أن أتخيل جيداً نظرة الارتباك التي ستبدو على محيا محرري وهو يقول ‘‘  أتردد أن أسال، بما أنك مؤلف، ولكن ما هو موضوع القصة المفترض أن يكون ؟’’

موضوع؟ ليس بوسعي أن أقول بأن هناك موضوعا. إنه مجرد قرد مسن  يتحدث بلغة البشر، و يدَعَك ظُهور الضيوف في الينابيع الساخنة عند مدينة صغيرة بمقاطعة غونما، الذي يستمتع بالجعة الباردة، و يقع في غرام إناث البشر، ويسرق أسمائهن. أين الموضوع في ذلك. أو الأخلاق في ذلك؟

يمضي الوقت، وطفقت ذكرى المدينة ذات  الينابيع الساخنة تتلاشى . مهما كانت الذكريات الحية، ليس بوسعها أن تغزو الزمن.

الآن بعد مرور خمسة أعوام ، قررت أن أكتب بشأنها، وفقاً إلى الملاحظات التي دونتها في ذلك الوقت. كل ذلك لأن شيئاً ما حدث مؤخراً ما حدا بي أن أفكر بالأمر . إذا لم تقع الحادثة ، قد لا أكتب هذه.

كان لدي موعد متعلق بالعمل في صالة القهوة في فندق بمنطقة أكاساكا. يعمل الشخص الذي أنا بصدد مقابلته محرراً بمجلة سفر. فهي امرأة جذابة، ثلاثينية أو حول ذلك، ضئيلة الجسد، بشعر طويل، وبشرة جميلة، و عينان كبيرتان جذابتان .كانت محررة متمكنة. و ما زالت عازبة. عملنا معاً عدة مرات، و أضحينا على وفاق. بعدما اهتممنا بالعمل، جلسنا و دردشنا مع شربنا للقهوة لبعض الوقت.

 

 

 

رنّ هاتفها الخلوي ونظرت إليّ معتذرة. أشرت لها أن ترد على الاتصال. تحققت من الرقم  الوارد فأجابته. يبدو الاتصال بشأن  قيامها  ببعض الحجوزات. عند مطعم ، ربما، أو فندق، رحلة طيران. شيء على هذا المنوال. تحدثت لبعض الوقت ، تحققت من أجندتها، ثم  رمقتني بنظرة قلقة.

سألت بصوتٍ خفيض، ويدها تغطي الهاتف ‘‘ آسفة جداً ’’.  ‘‘ أعلم أنه سؤال غريب، ولكن ما هو اسمي ؟’’

شهقت شهقة تلقائياً كما استطعت، وقلت لها اسمها كاملاً. أومأت برأسها و تناوبت المعلومات مع  الطرف الآخر من الخط. ثم أغلقت الهاتف واعتذرت مجدداً.

‘‘ أنا آسفة للغاية بشأن ذلك. على حين غرة  لم أستطع تذكر اسمي. أشعر بالإحراج للغاية.’’

سألتها ‘‘ هل يحدث هذا في بعض الأحيان ؟’’

بدت تُعتع في الكلام، و لكنها أومأت أخيراً .  ‘‘ نعم ، تحدث كثيراً هذه الأيام. لا يمكنني فحسب تذكر اسمي كأنني فقدت الوعي أو شيء من هذا القبيل.’’

‘‘ هل تصابين بنسيان  أشياء أخرى أيضاً؟ مثلا لا يمكنك تذكر يوم ميلادك أو رقم هاتفك أو رقم سري؟ ’’.

هزت رأسها بحزم.‘‘ كلا ، على الإطلاق. لدي دوماً ذاكرة جيدة. أحفظ جميع تواريخ ميلاد أصدقائي. لم أنس اسم أي شخص آخر، ولا حتى مرة واحدة. إلا أنني  ما زلت بعض الأحيان لا أستطيع تذكر اسمي. لا يمكنني أن أكتشفها. بعد بضع دقائق، تعود ذاكرتي، ولكن  تلك بضع الدقائق غير مريحة أبداً، و تنتابني حالة هلع. كأنني لست نفسي مرة أخرى . هل تعتقد أنها علامة على ظهور مبكر لمرض الزهايمر؟’’

أطلقت تنهيدة . ‘‘ طبياً ، لا أعلم ، ولكن متى بدأ ، أنسيت اسمك فجأة ؟’’

نظرت بعينين نصف مغمضتين و فكرت بشأنها. ‘‘قبل ستة أشهر تقريباً، أعتقد. أتذكر ذلك عندما ذهبت أستمتع بأزهار الكرز. كانت هذه أول مرة.’’

‘‘ قد يكون هذا أمراً غريباً أن أسال عنه، ولكن هل فقدت أي شيء في ذلك الوقت.نوع من بطاقات الهوية ، مثل رخصة القيادة، جواز سفر، بطاقة التأمين؟’’

 

زمّت شفتيها، سرحت بأفكارها للحظة. ‘‘ أتعلم، ما ذكرته الآن، فقدت رخصة القيادة في ذلك الوقت. حدث ذلك في وقت الغذاء جلست على مقعد الحديقة، أحظى باستراحة، وضعت حقيبة اليد بجواري على المقعد. أعدت تزيين شفتي بمرآتي و عندما ألتفت مجدداً، اختفت حقيبة اليد. لم أستطع أن أفهم ذلك. أشحت بنظري لثانية فحسب، لم أشعر بوجود أي شخص قريب أو أسمع خطوات وقع أقدام. بحثت حولي، ولكن كنتُ وحيدة. الحديقة هادئة، ومتأكدة لو أتى شخص ما لسرقة حقيبتي كنت سألاحظ ذلك. ’’

انتظرتها لتواصل حديثها

‘‘هذا ليس كل ما حدث غريباً. تلقيت مكالمة في نفس الظهيرة من الشرطة، تخبرني بأنهم قد عثروا على حقيبتي. قد وضعت في الخارج بالقرب من  مركز شرطة صغير قرب الحديقة . كانت المبالغ النقدية  ما زالت داخلها، وكذلك البطاقات الائتمانية، وبطاقة الصراف الآلي ، و الهاتف النقال. كلها هنا، لم تلمس. لقد فقدت رخصة قيادتي فحسب. فوجئ الشرطي تماماً.  من الذي  لا يأخذ المبالغ النقدية، الرخصة فقط، و يترك الحقيبة في الخارج بالقرب من مركز الشرطة؟’’

تنهدت بهدوء ، ولكن لم أقل شيئاً.

‘‘حدث هذا نهاية شهر مارس. ذهبت في الحال إلى مكتب السيارات في ساميزو و طلبت منهم إصدار رخصة جديدة. كانت الحادثة برمتها غريبة كلياً، ولكن من حسن الحظ لم يكن ثمّة أي أذى حقيقي.’’

‘‘ساميزو في شيناغاوا ، أليس كذلك؟’’

ردّت‘‘ نعم هذا صحيح. إنها في هيقاشيوي. شركتي في تاكاناما،  لذا مشوار سريع بالتاكسي’’ ألقت نظرة متشككة إليّ. ‘‘ هل تعتقد أن ثمّة صلة بالموضوع. بين عدم تذكر اسمي و فقدان الرخصة؟’’

هززت رأسي سريعاً. لم أستطع طرح  قصة قرد شيناغاوا بالضبط.

قلت لها ‘‘ كلا.لا أعتقد بأن ثمّة صلة .’’ ‘‘ إنما خطرت في بالي فحسب. بما أنه يتضمن اسمك.’’

بدت غير مقتنعة.  أعرف بأنّه ينطوي على مخاطرة ، ولكن ثمّة سؤال آخر مهم للغاية يتعين عليّ أن أسألك.

‘‘بالمناسبة ، هل رأيت أي قرود مؤخراً؟

سألتني ‘‘ قرود’’ . ‘‘ هل تعني الحيوانات؟’’

قلت لها ‘‘ نعم . قرود حية حقيقية’’

هزت رأسها  ‘‘ لا أعتقد بأنني قد رأيت قرداُ لسنوات.  ليس في حديقة حيوانات، أو أي مكان آخر.’’

هل عاد قرد شيناغاوا إلى خُدعه القديمة؟  أو  أكان قرداً آخر يستخدم لارتكاب نفس الجريمة؟ ( قرد نسخة؟) أو شيء ما آخر ، غير ذلك القرد يفعل هذا؟

لم أرد حقاً أن أفكر بشأن قرد شيناغاوا بعودته لسرقة الأسماء. لقد أخبرني بالحقيقة تماماً ، بأنه يخبئ أسماء سبعة نساء بداخله يجده كثيراً كما يقول ، و بأنه سعيد بالعيش ببساطة حياته المتبقية بهدوء في المدينة  ذات الينابيع الساخنة. بدا أنه يعني ذلك.  ربما القرد لديه حالة نفسية مزمنة، أحد أسباب عقله  الذي لا يمكن السيطرة عليه. وربما حثه كلا ً من مرضه، والدوبامين على فعل ذلك ! و من المحتمل لاحقته كل تلك الوساوس في شيناغاوا، للعودة إلى عاداته السابقة الضارة .

ربما سأحاول بنفسي في وقت ما . يتدفق هذا الفكر العشوائي والخيالي في الليالي المؤرقة أحيانا. سأسرق بطاقة الهوية أو بطاقة اسم لامرأة أحبها ، سأنبه فكري عليها مثل الليزر، واسحب اسمها من داخلي، واستحوذ جزءًا منها، كلها إلى نفسي . كيف يبدو ذلك الشعور؟

كلا. لن يحدث ذلك إطلاقاً. لم أكن ماهراً في خفة اليد إطلاقاً، و ليس بمقدوري أن أسرق شيئا ما يعود إلى شخص آخر. حتى لو لم يكن هذا الشيء شكلاً جسدياً، و سرقتها لم تكن مخالفة للقانون.

حبٌ متطرف ، و وحدة كافرة.  منذ ذلك الحين، أينما أسمع إلى سيمفونية بروكنر أفكر في الحياة الشخصية لقرد شيناغاوا. أتصور ذلك القرد المسن في المدينة ذات الينابيع الساخنة، داخل علّية نُزل متهدم ، نائماً على فوتون رقيق. أفكر بالوجبات الخفيفة- كاكيبي و الحبّار المجفف- التي استمتعنا أثناء شربنا الجعة معاً، و أسندنا أنفسنا  على الجدار.

لم أر محررة مجلة السفر الجميلة منذ ذلك الحين، لذا ليس لدي أي فكرة ما المصير الذي لحق باسمها بعد ذلك. أتمنى أنه لم يسبب لها أي معاناة حقيقة. فهي بريئة بعد كل الذي حدث. لم يكن خطأهُا . أشعر بسوء حيال ذلك، ولكن ما زلت لا يمكنني إجبار نفسي لأخبرها بشأن قرد شيناغاوا.

تمت .

*زنّاءة : أنثى القرد

 

Published in the print edition of the June 8 & 15, 2020, issue.

Haruki Murakami published his fourteenth novel in English, “Killing Commendatore,” last year.

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الوقوف على أكتاف العزلة؛

الوقوف على أكتاف العزلة؛

netwon

عن نيوتن , والطاعون, وكيف حرض الحجر الصحي على القفزة الأعظم في تاريخ العلم.

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

” وما الحقيقة إلا ثمرة للصمت والتأمل”

في خمسينات القرن السابع عشر للميلاد, بدأت غمامة الطاعون باجتياح العديد من بلدان أوروبا. حي ضرب الوباء إيطاليا, أولاً, تلتها إسبانيا و ألمانيا, ثم هولندا. في ذلك الحين, كانت إنكلترا _ التي يبدو أن إرادة الله شاءت أن تحميها من ذاك الوباء_ تراقب الدول المجاورة لها من خلف جدار القنال الإنكليزي بوجل شديد, ثم بهدوء يسوده الحذر لمدة وصلت إلى ما يقارب عقداَ  من الزمن.

بيد أن العالم بأسره , آنذاك, كان يضع التجارة في مقام رفيع, كما أن قوى العولمة كانت آخذه بالانتشار. وبما أن اقتصاد إنكلترا كان يعتمد اعتماداً كبيراً على التبادل التجاري , فإن موانئها كانت تعج بالسفن المحملة بالحرير والشاي و السكر القادم من كافة الحدود المكتشفة في العالم. لكن هذه السفن كانت محملة, أيضاً, بالجرذان التي تحمل على أجسادها براغيثاً, وهذه البراغيث هي التي تحمل البكتيريا المسببة للمرض_ والتي كانت عبارة عن مملكة من الكائنات الحية الدقيقة أحادية الخلية , علماً أن الخلية لم تكن مكتشفة بعد, في ذلك الحين_ إذ تنتقل العدوى من تلك البراغيث إلى جسد الإنسان عند رسوّ السفن.

 

وهكذا, تم الإعلان عن أول حالة وفاة بالطاعون في لندن في يوم الميلاد عام 1664. تلتها حالة أخرى في شهر شباط \ فبراير, ثم تتالت الحالات بعد ذلك, وهذا ما دفع كاتب اليوميات الإنكليزي ” صموئيل بيبس” ليكتب في شهر نيسان\ أبريل من العام ذاته قائلاً:

 

في هذه المدينة, ثمة مخاوف كبيرة من المرض . ليحفظنا الرب جميعاً”

 

بيد أن الرب لم يكن نظيراً لانعدام المعرفة العلمية الأساسية بعلمي الأحياء والأوبئة. كانت الوفيات سريعة و مروعة, وسرعان ما أصبحت كثيرة إلى الحد الذي لم يتمكن أحد فيه من حمل الجثث. لتزداد أعداد الضحايا عشرة أضعاف بحلول فصل الصيف. إذ قفز عدد الوفيات من المئات إلى الآلاف في الأسبوع الواحد. لذلك فُرض على المرضى البقاء في منازلهم. كما تم وضع العديد منهم في سفن وتركوا ليلقوا حتفهم بمعزل عن المدينة. أما بيوتهم , فقد رسم عليها من الخارج صليب كبير للدلالة على وجود مصابين في الداخل. و فيما يخص المسرحيات, و الرياضات الدموية العنيفة , وما إلى ذلك من تجمعات لحشود الناس, فقد منعت منعاً باتاً . كما منع الباعة المتجولون من بيع السلع , و موزعي الصحف اليومية من الهتاف في الشوارع, فانزوى الجميع إلى الداخل. ليخيم على مدينة الصخب  والضجيج صمت موحش و غريب. وتغلق الجامعات, هي الأخرى, أبوابها.

 

عندما أرسلت جامعة ” كامبريدج” طلابها إلى منازلهم, كان هنالك شاب شغوف بعلم الرياضيات و الحركة والضوء. هذا الشاب الذي توفي والده الأمي قبل ولادته بثلاثة أشهر. والذي كان يعبد ” إله النظام لا الفوضى” وبدأ دراسته الجامعية عن طريق خدمته لبعض الطلاب الأثرياء من أجل تحصيل مصاريف دراسته. حيث أخذ كتبه التي جمعها, وعاد بها إلى مزرعة أمه.

 

هنا, حيث العزلة و الوحدة, إذ يواصل الوباء امتداده بشراسة, كان ” إسحق نيوتن” يحلم بنقطة الارتكاز التي تنتشل البشرية من عصور الظلام. في هذا المكان, سواء كانت الحادثة حقيقة أم مشكوك بصحتها, سقطت التفاحة. وفي ظل تلك التفاحة بزغت الفكرة الثورية لقانون الجاذبية التي يراها ” نيوتن” قوة ” يمتد تأثيرها حتى مدار القمر” على طول المسافة الفاصلة  بينه وبين الأرض دون انقطاع أو حدود. في ذات المكان شرع نيوتن بحساب تلك القوة التي يعتبرها ” عنصراً ضرورياً لإبقاء القمر في مدارها, بفعل قوة الجاذبية على سطح الأرض” في غضون حسابه لهذه القوة _ قوة الجاذبية_ وكضرورة للقيام بذلك, ابتكر نيوتن نظرية التفاضل و التكامل.

 

في كتابه المميز ” إسحق نيوتن”  الذي يعد مقياساً ذهبياً للسيرة الذاتية و السرد القصصي , والذي يجسر الهوة بين العلم و الشعر, كما يعرفنا على القصص الكامنة خلف المشاهير ” الوقوف على أكتاف العظماء” * يحدثنا الكاتب الأمريكي ” جيمس جليك” عن ” نيوتن” الشاب  الهارب من الطاعون إلى منزل طفولته, إذ يقول:

 

لقد انشأ نيوتن رفوف مكتبته بنفسه, وشيد مكتبة صغيرة. فتح نيوتن دفتر ملاحظاته الذي يحتوي على ما يقارب الألف صفحة , والذي كان قد ورثه من زوج أمه وأسماه ” كتاب مهمل” وبدأ بملئه بملاحظاته التي سرعان ما تحولت إلى بحوث حقيقية. لقد جلب لنفسه المشاكل؛ فقد تفكر بهذه الملاحظات بهوس شديد, محصياً الإجابات الواردة فيها, و طارحاً المزيد من الأسئلة. لقد تجاوز نيوتن حدود المعرفة, على الرغم من عدم علمه بذلك. فكانت سنة الطاعون هي سنة التغيير الجذري بالنسبة له.  فقد جعلت منه تلك الوحدة والعزلة عن العالم الخارجي عالم الرياضيات الأهم في العالم.

 

ومن حسن حظ ” نيوتن” أنه عاش حياتاً طويلة , فقد بلغ عمره عند وفاته  أربعة وثمانين عاماً, أي أنه عاش أكثر من ضعف متوسط العمر المتوقع للإنسان في تلك الفترة. حيث حُمل نعشه من قبل اللوردات و النبلاء آنذاك. كان نيوتن سيعيد النظر إلى أكثر مراحل حياته الفكرية ثراء  خصوبة وهو يدرك بأن “الحقيقة ليست سوى ثمرة للصمت و التأمل”

 

 

 

  • يقصد بها عبارة نيوتن الشهيرة التي أجاب بها عندما سئل عن قدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون، والوصول إلى قوانين لم يستطع غيره الوصول إليها ” إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني”
نشرت تحت تصنيف مقال

بين المهنة و الهواية .. أين المترجم؟

تقرير : وعد العتيبي

dardeliner

الترجمة عالم واسع بين المهنة و الهواية و الموهبة, تُعرف الترجمة على إنها من المهن التي لا يسهل ممارستها لكل متعلم للغات

فهي ليست عبارة عن تعلم لغة فقط بل إنها تتطلب تعلم الآليات و الطرق و ثقافة اللغة الهدف و المصدر و أخلاقيات المترجم تتطلب منه أن تكون مهمته على أكمل وجه فهو مُلزم بتعلم كل شيء يخص جوانب الترجمة ليس فقط التعامل مع النص الذي يرغب بترجمته.

الترجمة تُعد من أشمل المهن لأنها مطلوبة في شتى المجالات ( الأدبية, العسكرية, الطبية, التقنية, القانونية, العلوم الإنسانية..إلخ)

لهذا المترجم الجيد يجب عليه أولاً أن يعرف إن لكل مجال طريقة ترجمة معينة على سبيل المثال:

الترجمة الطبية تتطلب تعلم المصطلحات الطبية, الاختصارات المستخدمة بداخل نطاق عمل المنشأة الصحية و لها صياغة مخصصة و الصياغة تختلف من ترجمة تقرير طبي إلى خطاب موجه لإدارة معينة في المنشأة.

من وجهة نظري الترجمة كمهنة عمل تتطلب مؤهل معين لأن العمل أمانة و لأن المؤهلين للمشاركة في سوق العمل بتخصص (الترجمة) لديهم خبرة أكبر من (متعلمين اللغة فقط) فأنت لا تستطيع حفظ اللوائح والأنظمة ثم ممارسة المحاماة على سبيل المثال

و قم بقياس هذا المثال على بقية المهن “أعطِ الخباز خبزه ولو أكل نصفه”.

لكن حينما يقتضي الأمر بموهبة و هواية الترجمة أرى إنه يحق للمرء ممارستها كعمل إبداعي لطالما لديه المقدرة و التدريب الكافي مثل: ترجمة المقالات و مقاطع الفيديو و ما إلى ذلك.

لقد سألت مجموعة من المترجمين المُبدعين بخصوص هذا الأمر وافقتني الرأي المترجمة (حنين الرحيلي) بقولها:

“بالنسبة للترجمة بكونها “مهنة”؛ فأرى وجوب المؤهل للمترجم ولا يغني التعليم الذاتي عن الدراسة الأكاديمية. يذكرني حال هواةِ الترجمة بقول الشافعي رحمه الله: “وإذا ما ازددتُ علمًا.. زادني علمًا بجهلي”، لذا فإنهم مهما ادّعوا علمَهم وسلامةَ ترجماتهم؛ فهذا في الحقيقة لأنهم لا يدركون وجود الأخطاء لجهلهم بها، الأخطاءُ التي لم يسلم منها أغلب المترجمين المتخصصين وحتى المبدعين منهم، ولكنهم -على النقيض- مدركون لها ويسعون لتجنبها في كل مرة وتحسين ترجماتهم، فكيف بأولئك الهواة المتحمسين؟! لا شك أنهم مشكورون على جهودهم المبذولة، ولكن ما أرجوه هو أن لا تتجاوز تلك الجهود المقاطعَ المرئية والنصوص التويتريّة، وفي اليوم الذي تصل به ترجماتهم إلى المكتبات والمحتوى العربي؛ ستكون تلك -دون مبالغة- كارثة كبيرة!

بينما قال المترجم (محمد الضبع):

“بالتأكيد هنالك مستوى مطلوب من الالتزام والحرفية في الترجمة، وهذا المستوى قد يأتي عن طريق دراسة الترجمة، أو قد يأتي عن طريق الخبرة والتعلم الذاتي في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة. لتقديم ترجمة عالية المستوى، على المترجم استثمار السنوات في العمل بشكل مستمر ليتحسن ويتطور في إنتاجه. بإمكانك أن تكون مترجم سيء بشهادة، وبإمكانك أن تكون مترجم سيء بتعليمك الذاتي. الأمر متعلق بمدى الالتزام والقدرة على التحسن وتقديم الأفضل دائما.

و وافقته الرأي المترجمة (أماني فوزي الحبيشي) :

“الحقيقة أنا أعتقد أن الدراسة والمعرفة النظرية مهمة لأي نوع من الممارسة. بالنسبة للترجمة التقنيات والنظريات مهمة، بقدر أهمية الممارسة بالتأكيد. واتقان اللغة فقط لا يكفي بالتأكيد، فهناك أيضًا أهمية معرفة ثقافة الشعب الآخر وآدابه. ولكن في نهاية الأمر مسألة التعليم الذاتي أثبتت نجاحها مع البعض، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا مترجمين محترفين. ولكن هذا أيضًا يتوقف على نوعية الترجمة، وعلى المقصود ب”تعليم ذاتي

و أتفق معهم المترجم (شريف بقنة) بقوله:

“أعتقد أن ممارسة الترجمة كعمل بدوام كامل يتطلب الحصول على مؤهل بالتأكيد، وانا هنا لا أتكلم عن الترجمة كوظيفة freelancer مستقل، وانما كوظيفة رسمية وبدوام كللي في مؤسسة جيده ومعتبرة، ذلك أن أنظمة المؤسسة تتطلب الحصول على مؤهل للترشح في العمل بها في أغلب الأحوال

اما الحديث عن عمل الترجمة كهواية و كعمل مستقل أو عن بعد فيمكن للموهبة والهواية أن تلعب دوراً”

 

 

بينما كانت هناك وجهات نظر محايدة إتفق عليها بعض المترجمين

فقالت المترجمة (إقبال عبيد):

“أرى أن الترجمة ليست مقتصرة على التعلم والشغف الذاتي في أنواع ومجالات متشعبه ،بعض الترجمات والمواد بالفعل تحتاج دراسة وتأهيل أكاديمي لتناولها حسب المادة المترجمة ،يمكن لاي للهاوي ترجمة رواية أو شعر حسب إلمامه اللغوي من تحصيل قراءته لكن مفهوم الترجمة واسع جداً”

و أيضاً المترجم (عبدالرحمن السيد):

. رسميا فيه متطلبات معينة لممارسة الترجمة ولكنها لا تقتصر على المتخصصين بالترجمة .. وبشكل عام أنا أفضل أن يكون عند المترجم مؤهل في الترجمة ولكن هل هو شرط؟ .. جوابي قطعا (لا).

 

و أيدتهم القول المترجمة (مجد الحفظي) :

“من وجهة نظر محايدة تمامًا، مهنة الترجمة في متناول يد حتى غير المتخصص، ولكن لا يعني ذلك عدم إلمامه بأساسيات الترجمة وقواعدها، لا بد يكون عنده فكرة عنها واطلاع على مجريات أمور الترجمة الحديثة، والأخطاء الشائعة ويطور من نفسه”

 

اختلفت الآراء لكن تبقى الترجمة مهنة مستقلة تمامًا عن (ممارسة اللغة و تعلمها فقط) فليس كل من تعلم اللغة الإنجليزية قادر على ترجمة النصوص لأن الترجمة تعتمد على التدريب و الممارسة و التعليم المستمر ليس فيما يخص اللغات فقط بل عن ثقافة الشعوب و أبرز ما يحدث لهم و بالقراءة المستمرة و المترجم الجيد يكون باحث, مؤرخ , قارئ شغوف ومتدرب مستمر و لكل متخصص بنوع معين من الترجمة يجبّ عليه و لابد أن يكون مُطلِع دائم عن تحديثات المجال الذي يترجم فيه.

و يبقى السؤال هل الترجمة حقٌ للجميع؟ مثلما أثار المترجم (عبدالرحمن السيد) هذا التساؤل بقوله “الطبيب أو الممارس الطبي من الممكن أن يكون مترجم طبي .. وقيسي على ذلك بقية التخصصات”

فهل المبرمج على سبيل المثال يحق له ترجمة المقالات التكنولوجية و التقنيّة؟

من وجهة نظري أرى أنه لا يحق له ترجمة نص كامل رُبما بعض (المصطلحات) بناءً على معرفته و مهمة الترجمة تُترك للمترجم المتخصص في هذا المجال.

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الربيع في زمن الجائحة

الربيع في زمن الجائحة

 

Mariaaa

ماري شيلي: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟ و كيف يمكن لجمال الطبيعة أن يكون طوق النجاة في استعادة التوازن الذهني؟

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

 

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

 

 

قبل نصف قرن من تأمل الشاعرالأمريكي ( والت وايتمان) _ وذلك بعد تعرضه لسكتة دماغية أدت إلى إصابته بالشلل_  في الشيء الذي يضفي قيمة على الحياة, أدرجت الكاتبة الإنكليزية  ( ماري شيلي 30 أغسطس 1797 _ 1 فبراير 1851) السؤال ذاته في روايتها الآسرة التي حملت عنوان ” الرجل الأخير” والتي كتبتها في أكثر فترات حياتها كآبة و سوداوية. وذلك بعد وفاة ثلاثة من أبنائها. إذ توفي اثنان منهما بفعل مرض معدٍ اجتاح البلاد في تلك الفترة, عقب وفاة زوجها الشاعر (بيرسي بيش شيلي) إثر حادثة غرق قاربه.

من عمق ذلك الأسى الدفين , وبين صفحات تلك الرواية التي تحكي عن جائحة تبدأ باكتساح الجنس البشري واحداً تلو الآخر, لتترك_ في نهاية المطاف_  ناجٍ وحيد, هو بطل الرواية, تطرح ( شيلي) سؤالها الجوهري. ألا وهو: لماذا نعيش؟

عبر إجابتها على هذا السؤال, تُخرج ( شيلي) نفسها من تلك الهوة وتواصل حياتها, لتصبح الكاتبة المتفردة بين أقرانها. حيث تمكنت من الصمود أمام كتاب الأدب الرومنسي, فصاغت النثر بجمال شاعري مذهل. كما تمكنت , بجهودها الفردية, من تحويل اسم زوجها الذي كان_ إلى حد ما_ غامضاً, إلى رمز من رموز الأدب في الوقت الراهن. وذلك بفضل إخلاصها, وجهودها المتواصلة _دون كلل_ في التحرير والنشر, تمجيداً لشعره.

لقد حددت ( شيلي) الإطار الزمني لروايتها المتبصرة ” فرانكنشتاين” بقرن سابق لوقت كتابتها _ والتي كتبتها قبل عقد من كتابة الأخرى_ في حين تجري أحداث رواية ” الرجل الأخير” بعد ربع ألفية من الزمن في المستقبل. أي في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين. حيث تبلغ الأحداث ذروتها في عام 2092 للميلاد, في الوقت الذي تصادف فيه الذكرى المئوية الثالثة لميلاد زوجها الشاعر( بيرسي شيلي) أما شخصية الراوي في رواية ” الرجل الأخير ” هي شخصية الشاب المثالي  ” ليونيل فيرني” وهي من أكثر الشخصيات تغلغلاً بكلتا حالتي المعاناة العميقة لعيش الإنسان, و الجمال اللامتناهي للحياة. إذ كانت أقرب الشخصيات لـ( ماري شيلي) في رزانتها وحذرها. وكأن الكاتبة رسمت بورتريهاً نفسياً لذاتها. ففي الوقت الذي تكتسح فيه الجائحة العالم, وتأخذ أحبته واحداً تلو الآخر, يعود بطل الرواية إلى منزله ملتمساً الأمان. كحال الطيور التي تجبرها العاصفة على العودة إلى أعشاشها , حيث تطوي أجنحتها بطمأنينة وهدوء. هنا, في هذا السكون الغريب, وبعد أن تجرد من المشاغل الاعتيادية و المشتتات الاجتماعية, يجد ( ليونيل) نفسه متأملاً في مغزى الحياة. إذ يقول :

كيف أضحى الهائمون حمقى. أولئك الذين غادروا الأعشاش. فوقعوا في شباك المجتمع. ليدخلوا فيما يسميه رجال العالم ” حياة” إنها متاهة الشر, ومكيدة العذاب المتبادل.

إن فعل العيش, وفقاً لما تعنيه الكلمة, لا يعني أن نلاحظ و نتعلم فقط . بل ينبغي علينا أن نشعر أيضاً. علينا ألا نكون مجرد متفرجين على الحدث, بل أن نكون جزءاً منه. يجب ألا نكتفي بالوصف, بل أن نكون موضوعاً له. ينبغي ان يسكن الأسى صدورنا. ولا بد للشك المرير و الأمل الكاذب أن يشكل أيامنا. أتراه يحن إلى هذا الوجود المحموم, ذاك الذي يعلم ماهية الحياة؟

 ها أنذا قد عشت, وقضيت أياماً و ليالٍ من البهجة. لألجأ للآمال الطموحة. والآن.. أغلق باب العالم, ثم أبني أسواراً عالية تحول بيني وبين المشهد المضطرب الذي تدور أحداثه حولي.

بالتوافق مع مقولة الشاعر ( وايتمان)_  ” بعد أن تستنزف كل ما هنالك من عمل و سياسة , وتشارك  وحب , وما إلى هنالك , لتجد أن لا شيء بين هذه الأشياء يرضيك, أو حتى يمكنك احتماله على الدوام, فما الذي يبقى إذاً؟ يسأل الشاعر الأمريكي سؤاله هذا عبر الزمان والمكان, ثم يجيب نفسه بالقول:” الطبيعة هي الباقية”_ لا يجد بطل رواية ( شيلي) معنى الحياة في دوامة العالم الذي صنعه الإنسان بصورته الزائفة, بل في بساطة الحاضر الخلاق في سيمفونية الطبيعة اللا متناهية :

لنبحث عن السلام .. قرب خرير الجداول, و تلويحات الأشجار اللطيفة, و رداء الأرض الجميل, ونصعد إلى عظمة السموات. ولنترك الحياة التي قد نعيشها.

في ذروة الجائحة المميتة , تبدو الطبيعة مصرة على التأكيد على مرونة الحياة. إذ يأتي الربيع محملاً برشقات من الجمال الذي لا يمكن لقوة أن تصده, غير آبه بمعاناة الإنسان, و مرمماً لها في الوقت ذاته. يستعيد ( ليونيل) ثقته بالنجاة , و الجمال, و بجدوى الحياة , وذلك عبر مراقبة انفعال الطبيعة العفوي في تعبيرها متناهي الصغر, وعبر الاستسلام لها في الوقت ذاته. قبل زمن من نظم الشاعرة ( إيميلي ديكنسون) لقصائد تصف الربيع, كتبت ( شيلي):

ها قد ولى الشتاء.. ليأتي الربيع, وقد قادته الشهور, فيعيد الحياة إلى كل مكونات الطبيعة. و ها هي الغابات تكتسي باللون الأخضر, والعجول الصغيرة تتراقص فوق العشب الذي نبت للتو, والظلال الرقيقة للغيوم المجنحة بالرياح تسير فوق حقول الذرة الخضراء. إذ يردد طائر الوقواق الناسك نداءاته الرتيبة طوال الفصل, و يملأ العندليب _ طائر الحب و المساء_  الغابة بصوته العذب. بينما يتوانى كوكب الزهرة عند غروب الشمس الدافئ, و تنبسط الأشجار الخضراء الفتية على طول خط الأفق الصافي. 

ومع هذا التشارك الحر مع عالم الطبيعة غير البشري , يستخلص بطل رواية ( شيلي) جوهر كينونة الإنسان. إذ يقول:

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، إنطباعات

قلوب وأياد

hands

قصة : قلوب و أيادٍ*

تأليف : أو . هنري 

ترجمة : يحيى الشريف 

 

تدفق الركاب بمدينة دنفر داخل عربات القطار بي إم إيست باوند السريع. جلست على إحدى العربات هناك شابة جميلة مرتدية بأناقة وذوق جميل و محاطة بوسائل الرفاهية و الفخامة؛ حيث دأبت على السفر والترحال. كان فيما بين القادمين الجدد شابين؛ أحدهما وسيماً وجسوراً، بوجهٍ واضح لا لبس فيه، وسلوك حسن; بينما بدأ الشخص الآخر مكدراً، بوجه كئيب، مرتدياً ملابس ثقيلة تقريباً. كان الاثنان مصفدي اليدين معاً .

على الرغم من أنهم اجتازوا ممر العربة، كان المقعد الشاغر الوحيد مغايراً؛ بحيث يواجه الشابة الفاتنة. هنا أقعد الشخصين المقيدين معاً أنفسهم. رمقت الشابة نظرة خاطفة عليهما من بعيد، مع لا مبالاتها بصورة مفاجئة ; و ابتسامة محبة تشع محياها, و أثر وردي ناعم على خديها المكتنزين، حملت بيدها الصغيرة قفازين رماديين. فعندما تحدثت بدا صوتها، مليئاً، و عذباً، و موزوناً، معلنة بأن صاحب الصوت قد أعتاد التحدث والاستماع.

‘‘حسناً، السيد إيستون، لو جعلتني أتحدث أولاً، أفترض أنه يتعين عليّ. هل بوسعك أن تميز أصدقاؤك القدامى عندما تصادفهم في الغرب ؟’’

حث الشاب نفسه بحدة عند سماع صوتها، وأبدى مقاومة لتعرضه للإحراج قليلاً والذي تخلص منه في الحال، ومن ثم صافح أصابعها بيده اليسرى.

‘‘ قال، وقد علتَ على شفتيه ابتسامة، إنها الآنسة فيرتشيلد.‘‘ أطلب منكِ أن تعفي اليد الأخرى; فإنها مشغولة حالياً فحسب .’’

رفع يده اليمنى قليلاً، مربوطاً حول الرسغ ‘‘سوار’ٍ’ لامع على اليد اليسرى لرفيقه. تغيرت نظرة السرور التي في عيني الفتاة ببطء إلى نظرة مرعبة مرتبكة. تلاشى في حينها تورد خديها. بدت استغاثة شفتيها الممزقة مريحة بغرابة. إيستون، وبضحكة متواضعة، كما لو أنه مستمتع، كان يُهمّ بالتحدث لولا أن الأخر سبقه. فقد كان الرجل ذو وجه الكئيب يراقب وجه الفتاة بنظرات خفية من خلال عينيه الحادتين.

‘‘اسمحي لي بالتحدث، يا آنسة، ولكنني أرى بأنك على دراية بحارس السجناء هنا. إذا أنت كذلك سوف أسأله أن يتحدث بكلمة طيبة لأجلي عندما يضعونني في الحبس؛ سيقوم بذلك، ستبدو الأشياء أسهل بالنسبة لي هناك. سيضعني في سجن ليفنوورث؛ حيث حكم عليّ سبع سنوات بتهمة التزوير.’’

قالت الفتاة ‘‘ آوه !’’ أخذت تتنفس بعمق و استعادت لونها الطبيعي. ‘‘ إذاً هذا ما تفعله هنا ؟ حارس السجناء !’’

قال إيستون، بِتَرَوٍّ‘‘ عزيزتي الآنسة فيرتشيلد ’’ 

‘‘ كان عليّ أن أفعل شيء ما. لدى المال طريقة للاختفاء في لمح البصر، فإنكِ تُدرك أن الأمر يتطلب المال لمواكبة النخبة في واشنطن. رأيت الانفتاح في الغرب ، و – حسناً، وظيفة حارس السجناء  ليست ذا منصب كبير تماماً كما السفير، ولكن–’’

قالت الفتاة بحرارة ‘‘ السفير’’ ، لم  يَعد يتصل. و لا يعوزه عن فعل ذلك. ينبغي عليك أن تعرف ذلك . فالآن أنت وَاحِدٌ من أولئك الأبطال الغربين مفعماً بالحياة، فأنت تقود وتطلق النار وتجوب في جميع أنواع المخاطر. فالحياة مختلفة عن التي في واشنطن. فقد مضت عنك الحياة القديمة ولا يُضيرك ذلك.’’

عادت عيني الفتاة مسحورة، و اتسعت قليلاً، كي تستقر على الأصفاد المتلألئة. 

 قال الرجل الآخر ‘‘ لا تقلقي بشأنهم. ‘‘ جُل الحراس يُقيدون أنفسهم بالسجناء لمنعهم من الفرار. يعرف السيد إيستون عمله.’’

 سألت الفتاة ‘‘ هل سنراك مرة أخرى قريباً في واشنطن؟’’ 

قال إيستون ‘‘ليس قريباً’’. ‘‘أخشى بأن حياتي السابقة قد وَلَّتْ بلا رجعة.

تفوهت الفتاة بكلام لا علاقة له بالموضوع ‘‘ كم أحب الغرب’’ . كانت عيونها يشعان بلطف. تأملت  بعيداً من نافذة عربة القطار. بدأت تتحدث بصدق وبساطة بدون بريق الأناقة و السلوك: ‘‘أمضينا أنا وأمي الصيف في دنفر. عادت إلى البيت الأسبوع الماضي؛ لأن جدي كان مريضاً بعض الشيئ. بإمكاني أن أعيش و أكون سعيدة في الغرب. أعتقد أن الهواء هنا يتفق معي. المال ليس كل شئ. ولكن الناس دوماً يسيئون فهم الأشياء ويظلون أغبياء–’’

تذمر الرجل ذو الوجه الكئيب ‘‘ قل ، أيها الحارس’’ ‘‘ إن هذا ليس عدلاً تماماً. أنا بحاجة إلى الشراب، ولم أدخن طوال اليوم. ألم تحدثت طويلا بما فيه الكفاية؟ هل ستأخذني إلى المكان المخصص للتدخين الآن؟ فأنا أتوق إلى التدخين.’’ 

رفع المسافران المقيدان بالأصفاد أرجلهم، إيستون بنفس الابتسامة البطيئة على محياه.

 قال ، برفق.‘‘لا يمكنني أن أرفض توسلاً من أجل التبغ ’’ ‘‘ فإن الأمر لصديق تعيس. وداعاً آنسة فيرتشيلد. فالواجب ينادي، كما تعلمين.‘‘ رفع يده مودعاً.

 

قالت ‘‘ إنه لأمر سيئ للغاية بأن لا تذهب إلى الشرق’’ هندمت ملابسها بأناقة مرة أخرى. ‘‘ ولكن يجب عليك أن تذهب إلى ليفنوورث، أفترض ذلك؟

 قال إيستون مجيباً ‘‘ نعم’’ ‘‘ يجب عليّ أن أذهب إلى ليفنوورث.’’ 

عبر الرجلان الممر إلى المكان المخصص للتدخين.

قد سمع اثنان من الركاب في المقعد القريب معظم المحادثة. قال أحدهم : ‘‘ ذلك الحارس الشاب معدنه أصيل. فبعض الزملاء الغربيين لا بأس بهم.’’

 سأل الآخر ‘‘ إنه لشابٍّ صغير أن يتولى مكتباً مثل ذلك ، أليس كذلك؟

 صاح المتحدث الأول ‘‘شاب ! ’’ ‘‘ لماذا– آوه ! ألم تفهم الفكرة ؟ قل– هل سبق لك أن رأيت شرطياً يُقيد سجيناً بالأصفاد بيده اليمنى؟’’

 

‘‘تمت’’

*

قد نُشرت قلوب وأيادٍ أولاً تحت إسمه المستعار، سيدني بورتر، في عام 1902م. القصة مليئة بالتقلبات والتلاعب بالألفاظ، كما كانت حياة أو هنري الخاصة. حكم عليه بالسجن لمدة خمسة سنوات في سجن فيدرالي بتهمة اختلاس 854.08 دولار ، بعدما أن فرّ إلى هندرواس، ومن ثم عاد إلى أوستن كي يتواجد مع زوجته المريضة، حيث سلّم بنفسه. كان قد أطُلق سراح أو هنري قبل وقت قصير من نشر هذه القصة، مما حدا بها مصادراً غير متوقع؛  مثيرة للشفقة و المشاعر خصوصاً.

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

قصة قصيرة للكاتب والناقد الأمريكي 

جون أبدايك John Updike

john

ترجمة: انعام الشريفي 

رغم انني كنت أجولُ لبضعة سنوات بين الزيجات في هرج ٍ ومرج ٍ استلـَبَ كل حواسي، فان الآخرين واصلوا بدورهم العـيـشَ والموت. لين، رفيق قديم في لعب الغولف، بين عشيـّة وضحاها حلّ بالمشفى لما قيل له أنـّه فحص روتيني، ووقع ميتاً في الحمام فوراً بعد أن انتهى من اتصال هاتفي بمخزن الخردوات ليعلمهم انه عائد صباحاً لمباشرة العمل. فهو صاحب المخزن واعتاد أن يعهد به الى مساعده في النهارات المُشمسة فقط.

كان تسديد ضربته خاطفا، وكان يلقي بثقله الخلفي على قدمه اليمنى، وغالبا ماتنبثق كرته الى اليسار دون أن تصل الهواء البتة لكنه يفلح في اليوم الواحد أن يغور بالكرة الى الهدف ببضعة ضربات ٍ موّفقة فـذة. وكان دوماً يظهر بملبس ٍ أنيق يوحي بآمالٍ عريضة للعبة التي يخوضها، فهو ببنطاله الأصفر الفضفاض بلون زهرة البتركبi والياقة السمائية اللون الضيقة المنتصبة للأعلى وسترته الكشمير ذات اللون البرتقالي المُحمّر سيتغاير عن نـَسـَق الأخضر المحيط به، وآتي أنا وقد قدتُ الطريق من بوسطن عبر سحابات ٍ من الأسى والأرق والاضطرام المعنوي أجرجرُ عربتي عبر مساحة الاسفلت المخصّصة للوقوف، فـتـَصـِـرُّ حدوة َحذائي عند كلّ خطوة أخطوها مثل براثن الوحوش.

رغم أن لين كان قد عرف جوليا وأحبّها، وهي زوجتي التي كنت قد تركتها، فأنه لم ينبس ببنت شفة بشأني الشخصي عندما كنت أقود السيارة ساعة كاملة لألتقيه بخلاف ماكنت عليه سابقاً اذ آتيه بعشرة دقائق من الشارع المجاور. فقد كان الغولف بالنسبة لي اذ ذاك ملاذاً ومهجعا، حالما اجتـاز فيه كومة الرمل الأولى التي تحمل كرة الغولف في مسعاي للهدف، أحسّ بانني مطـَوّقٌ في حرم ٍ وسيع ٍ ووضـّاء، بمأمن ٍ من النساء والأطفال المهووسين والمحامين الوقورين والمعارف القدامى واستهجاناتهم والنظام الاجتماعي وغـيظهِ بكليته. فللغولف نُظـُمه الخاصّة وحبّه الخاص فبينما يترنح ثلاثتنا أوأربعتنا ونتصايح لنشقّ طريقنا كلٍّ الى حفرة الآخر، نضحك على سوء الحظ العاثر ونهلـّل للضربات النادرة ذات الجودة النسبية. وأحياناً نجد سماء الصيف قد أحلكت وتهب العاصفة فـنـتحلـّق تحت ظلّ قاطرة ٍ مهجورة أوتحت شجرةٍ تبدو اكثر أمناً من أخواتها من الصواعق. وعندها فأن نفاد صبرنا واهتياجنا العصبي المفطور فينا لانقطاع اللعب والاثارة يخلـُصُ بكليته في هذا الحيز من المحميّة الى مايكاد يقارب حرارة العشق، أنفاسُ وعرقُ رجال في متوسط العمر متراصّين تحت المطر الهاطل بلا انقطاع مثل قطيع ماشيةٍ في شاحنة النقل المغلقة كالصندوق. وكان في وجه لين بقعاً متقرّنة من الأشعاع وكان ينوي ازالتها جراحياً قبل أن تتحول الى سرطان الجلد. فمن كان يحـسب ان صاعقة شريانه التاجي ستـَبتـُرُ بتراً خططه ومشاريعه وتمسحهُ مسحا ًمن حياتي المتشابكة؟ فأنه ما من (رُقاقـتا ثلج ٍ ولا بصمتا أصبعين ولا خفقتا قلبٍ في جهاز الرسم البياني ولا رميتا كرة الغولف قد تماثـلتا أبداً)، هل أبداً سأبصر ملـَكـَته المتأنقة المـَلبـَس الباعثة على الأمل ثانية (هللو ياكرتي العزيزة، هكذا يمزح بينما يشرع بالتهادي الى جلسة القرفصاء) ويبّث كرة منخفضة الى اليسار بطريقته المتفرّدة ونسمعه هاتفا ً باحباط غاضب (فهو يُعَدّ ممن خاض ولادة روحية ثانيةiiفي الكنيسة المعمدانية ممّا أكسبه لغة ً شخصية تترفع عن اللعن المباشر): ” ياكومة ً ممسوخة ً وسخة “

قدتُ سيارتي الى جنازة لين وحاولت أن أخبر ابنه: “كان أبوك رجلا ً عظيماً ” الا ّ ان الكلمات تساقطت مترهلة في تلك الكنيسة المعمدانية الباردة. أن الوان لين المـُزَوّقة، وفورته الحماسية المسيحية، وتسديداته الواعدة والمهدورة للكرة، وصيحات ظفرنا في الذهاب والاياب، وجـَمعـُنا عبر كون ٍ مصنّع يتألف من أطوالٍ متغايرة وثابتة، وأنواع ٍ من العشب كانت جميعها مَـسـَحات حياةٍ أرقّ ُ من أن تـُأسر، بل لابدّ أن تـتـبدّد.

بعد برهة من الزمن قرأتُ في صحيفة أن الآنسة أيمي مـَير ِماونت ذات الواحد والتسعين عاماً قد قضت نحبها أخيراً فشابهت الورقة اليابسة التي تـُحال الى فــُتاة. كانت قد بدت دوماً شيئاً عتيقا ً، كانت أحدى أولئك الأنجليز المُحدَثينiii ومن الأواخر الذين يتداولون سيرة هنري جيمسiv وكأنه قد غادر الحجرة لتوّه. وكانت تمتلك رسائلا ً ماتلبث مطبقة ً أومبعثرة ً الى قطع بعثها هنري جيمس الى والديها حيث يـأتي على ذكرها لا كفتاةٍ صغيرة ولكن كسيـّدة فتيـّة “تشارفُ على “خصوصيتها”، على زهوتها التي تحُوطها تماما ً”. كانت تعيش في بضعة غرف ٍ محتشدة بالقطع الأثريـّة في بيت ٍ ريفي ورثته وخصّصت القسم الأكبر منه للإيجار فحـُشـِرَت حشراً فيما تبقى منه. أما لـِمَ لم تتزوج أبدا ً فقد ظلّ هذا سراً هجـَع عليها هـَوناً ونعومة في شيخوختها ، فلعلّ ذلك الجمال السـَـلـِس الناحل الذي نشهده في الصور الفوتوغرافية الداكنة الحبريـّة اللون، وسيماء السـُلالة النبيلة وتوقـّد الذهن، والتحمّس (بالمعنى الروحي) الذي لم يبرحها قد أوقع الهلع في نفوس الكثير من طالبي يدها مثلما جـَذ َبتهم اليها عين ُ هذه الفضائل. ولعلـّه قد أوجد لديها، وهي في عهدٍ ماتلبث فيه مفردة “الطهر” ذات وقع و”نكران الذات” ذات مقام ٍ في عينيها، قيمة ً لا تعلو فيها تلك اللحظة المهيضة الجناح في أيّ موردٍ لهذه الفضائل. وكان لصوتها نبرة جافة تهكميـّة وفي سلوكها شيءٌ من التململ والرفض. كانت قد أشبعت نفسها تثقيفاً فهي تتابع التطورات الجديدة في العلم والفن وتتناول الطعام الطبيعي وتتعاطى في القضايا السياسية الساخنة يوم كانت كل هذه موضات سائدة. وكانت تحبّ أن يتحلّقُ حولها أناسٌ بغضاضة الشباب. فعندما انتقلنا أنا وجوليا الى المدينة مع الأطفال بوجوهنا الجديدة الطريّة، أصبحنا جزءاً من جلسة الشاي المعقودة لديها في اجواء ٍملؤها الفتور، ولولا ذلك الأفتتان المتبادل بيننا لـما دامت معرفتنا لعشرين سنة.

ولعل الأمر لم يكن بذلك الفتور، فاليوم أعتقد أن الآنسة مَـيرِماونت قد أحبـّتـنا أو بأضعف الايمان قد أحبـّت جوليا التي كانت ترفلُ بالدماثـة، وتزهو كأبنة ودودة حانية عبر تلك الحُجَر الشحيحة الدفء والمستمـِّدة ضيائها من النوافذ والتي يزدحم فيها متاع ٌ ريشي مستدقٌ ومتطاول من إرث ٍ كان يوما ً مفروشا ً عبر الطوابق الأربعة لبيت “باك بـَيْ ” المَدني الطراز. ويخلـُد في ذاكرتي ألق ُ ذقن زوجتي السابقة المكتنز وحنجرتها واكتافها المكشوفتين التي تندمج مع المـَلـَس الشبحي لصور الأخوات مـيَرِماونت ذات الأطارات القديمة المـُصممّة للأستوديوهات. كانت الصور لثلاثة أخوات، نزلت بهما فجيعة الموت مبكـّراً في شبابهما كما لو أنهما أوصتا بقسطهما من السنين إرثا ً للثالثة، تلك الناجية التي تجلس معنا في كرسيـّها المُجنـَّح المـُوشّى بالذهب. وكان وجهها قد استحال بـُنـيـّا من الشيخوخة ً فلايمكن التنبؤ بما فيه، عاجاً بالتجاعيد كوجه هنديّ أحمر، هذا وثمـّة شيءٌ وحشيٌّ كوحشية الهندي الأحمر يلمع في عينيها المعتمتين. “أراها مخيبة للآمال بعض الشيء”، كانت قد تندّ ُ عن هذه الكلمات بجفاء عن أحد المعارف المشتركين الغائبين انذاك أو عن أحدى تلك اللواتي انفـَصَلت عن حلقتها :”لـَم تك ُ تماماً من الطراز الأول”.

أن البحث عن الطراز الأول شيء من العهد البائد لجيلها، والآن لااتذكر من نال استحسانها كلياً مثل ماناله الأب دانيال بـَريجان والسـيِر كينيث كلارك. لقد شاهـَدت كلاهما في التلفاز. عيناها ذات البريق الداكن صارتا تخونانها، وكانت أوقات الأصيل الأثيرة الخاصة بالقراءة (التي يخمد الضوء فيها خلف النوافذ وتتراقص النار الناشئة من خشب البتولا في الموقد المؤطر بالنحاس الأصفر) قد استـُبدلت بساعاتٍ مـُجـَدولة منسقة حسب مايبثه التلفاز والمذياع من البرامج التثقيفية. في تلك السنوات الأخيرة كانت جوليا ترتاد منزلها لتقرأ لها قصة أوستن “مـِدِل مارج” وجوان ديديون وبعضاً من قصص بروست ومورياك بالفرنسية بعدما قرّرت الآنسة مـَيرماونت أن جوليا اجتازت اختبار الفرنسية بنجاح. وكانت جوليا تتمرّن بعض الشئ من خلال القراءة لي، وأنا بينما كنت اتطلّع الى شفتيها وهي تزمّها لتصنع صوت الفرنسية فتصغـُران وتــُدَوّران بشدة وكأنهما شفتا قناع أفريقي من العاج، كدتُ أن أقع في حبّها ثانية ً. إن الود بين النساء لـَمؤثـّرٌ ومؤلمٌ ومثيرٌ للرجل، وبرؤياي الخاصّة فأنه كجلسةِ شاي ٍ انتهت الى مجلس خمرٍ للشَريv الاسبانية في تلك الحُجـَر التي يغصّ فيها الأثاث بجـَلـَبة والتي اشتد فيها الشفق حتى صارت الصفحات البيضاء تـُدار ببطئ وأضحى النـَغـَم الصبور لصوت جوليا الأمارة الوحيدة الدالّة على الحياة. بلى إنه الحبّ ما كان ينداح بين تلك العجوز التي تفنى رويداً وزوجتي التي بدورها رويداً تـُمسي متوسطة العمر ويـُمسي ابنائنا بالغين وغائبين، وصوتها يظل ّ لايـُستـَمع اليه مثلما يـُستمع اليه هاهناك. ومامن شك أن ثمة أسرار كانت تودع بين تلك الصفحات. وكانت جوليا تعود من عند الآنسة ميرماونت لتحضير عشائي المتأخر وهي تبدو أكثر شباباً بل أكثر حبوراً وجرأة بعض الشيء.

في ذلك الطور الحرِج مابعد الحياة الزوجية وعندما كان الأصدقاء القدامى مايزالون يبعثون الدعوات بدافع الالتزام، وتجد نفسك لاتملك حضور الذهن الكافي لردها، وأجدني في تجمـّعات كبيرة تحضرها الآنسة مَـيرماونت. وكانت يومذاك عمياءَ تماماً وتصحبها فتاة صغيرة دائرية الوجه، أجيرةًٌ للصحبة ودليل. وكانت السيدة المـُسـّنة المتهالكة التي تـَعرضُ نفسها كريش الطاووس المـغطى بجرسٍ زجاجي مغروزة ً في كرسي مجنـّـح في زاوية الحجرة فيما يلي طاس خمر البنشvi. ولدى اقترابي منها أحسـّت بجسم ٍ يدنو منها فمدّت يداً ذابلة لكنها أسقطتها حالما سمعت صوتي: “لقد أتيت َ شيئاً فظيعاً” ، نطقت بذلك بسحبة نفس طويلة واحدة. أشاحت بوجهها لتـُظهر أنفها الصـَقريّ من الجانب كما لو انني شوّشتُ نظرها. أمّا دليلتها الفتيّة فوجهها المـُدوّر كصحن الرادار سجّل لمحة ً تدلّ على الصدمة، الاّ انني ابتسمت وفي حقيقتي لم أكُ مستاءاً، فثمـّة َ راحة ً في سماع حُكم الآخرين حتى لو كان معادياً. إنه لمن المستحسن أن نعتقد أن هنالك في موضع ٍ ما جهاز تخطيط يسجـّل هزّاتنا وزلا ّتنا. وأنني لأتخيـّل موت الآنسة ميرماونت بأشهر ليست طويلة بعد ذلك، وكخيالٍ أخيرٍلها، في صورة خيطٍ ينبسط ُساكناً رائقاً بمحاذاة جهاز المراقبة الموصول بها في المشفى. وفي هذا الامتداد المنبسط بقي شيئٌ ما تهكميٌ ولاذع، شيئٌ من سداد الرأي لم يُدَنـّس، من الصبر الجليل في عالمٍ عجز لطيلة تسعين عاما ً أن يبرهن على شيء أكثرَ من خيبة الرجاء. ويومذاك كنا أنا وجوليا قد فرغنا من مراسيم الطلاق.

كلّ مافي جعبة البيت المهجور قد فـُقـِد حتماً، اللوحات المعلّقة على الجدران، الهيئة التي يتبارى فيها الظلّ والضوء وتفجـّر دفئ الأماسي ممـّا تجود به المدافئ. حيوانات المنزل: كانوت. كان كانوت كلب صيدٍ ذكر ذهبي اللون اقتنيناه عندما كان الأطفال مايزالون قبل سن البلوغ كطقم من البهلوانيين. وكان مصدر بهجة لاينقطع، كما هو العهد بهذا النوع من الكلاب، وقد ذاق طعم كل شيء حتى الاخصاء وكأن الحياة وابلٌ متواترٌ من البركات. ومن المثير أنه وقبل موته بقليل جلبته ابنتي الصغرى التي تغني في فرقة البانكvii الى البيت الذي أسكنه الآن مع زوجتي ليزا. فجعل يشّم هنا وهناك بتأدب واكتفى بعقف زاوية أذنيه بقلق لينمّ عن التساؤل لمَ حلّ سيده القديم في هذا البيت الغريب الرائحة. وانهار في النهاية مع تنهيدة عميقة على أرض المطبخ، وبدا سميناً وخاملا ً. وقالت ابنتي التي قــَصـّت شعرها قصيراً وصبغت رقعاً منه بالبنفسجي الزاهي إن الكلب صار يجوب الليالي وينهالُ على نفايات الجيران أو على طعام حصانهم. وبالنسبة لي فأن وراء هذا سوء ادارة، فصديق جوليا الجديد لاعب كرة ظهير ربعي في فريق دارتموث ولاعب تنس وغولف ومهووس بحمل حقيبة الظهر بعدّتها والخروج بها ولهذا فجوليا لاتكاد تتواجد في البيت وصارت منهمكة كلياً في مجاراته وفي تعلّم لعبات جديدة. فأ ُهمـِل البيت ومرج الحديقة وصار الأولاد ينساقون داخله وخارجه مع أصدقائهم ولا يتخلصون من الطعام المتعفن في الثلاّجة الا ّ بين الفينة والفينة. ولمّا أحسّت ليزا بما كابـَدْتـُه من انفعالات نطـَقـَت بكلمات لـِبقة ملّطفة وانحنت على كانوت لتهرش مؤخرة احدى اذنيه. ولأن اذنه كانت ملتهبة وحسّاسة فقد أطبق فكيّه عليها بوهن ومن ثم بسط ذيله على أرض المطبخ اعتذاراً.

ومثلما إلتُ اليه عندما نهرتني الآنسة مَرِماونت، بـَدَت لي زوجتي حينذاك ميّالة الى الاغتباط، فهي إذ تواجه شيئاً من المقاومة، فقد أمسى موضعها من العالم متجذ ّراً. وناقــَشـَتْ ابنتي حول مضادات الالتهاب الخاصة بالكلاب، وفي تلك الوقفة ومن أية نظرة عجلى اليهما لايمكن التنبؤ بأيّـتهما الاكبر سنـّاً رغم اتضّاح ايـّتهما صاحبة الشعر غير المألوف. وكما يـُقال في مثل هذا المقام من سقيم الكلام أن ليزا من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي. وطالما اني بلغت الخمسين الآن فأن أية انثى تحت الخامسة والثلاثين هي من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي، بل معظم أناسيّ هذا العالم هم من الصِغـَر بحيث يمكن ان يكونوا بناتاً لي.

اختفى كانوت لبضعة أيام بعد تلك الزيارة، وبعد بضعة أيام أُخـَر عـُثر عليه في المستنقعات القريبة من بيتي القديم بجسدٍ منتفخ. وقد شخـّص الضابط المسؤول حالته على انها سكتة قلبية، فتسائلت ان كان هذا يمكن ان يحدث لمخلوق ٍ بأربعة أقدام. لقد ضـَربـَتْ الصاعقة كلبي السابق عند ضوء القمر، وقـَلبُه ممتلئٌ بنشوة المستنقعات، ومعدتـُه محشوة بالنفايات، ولقد رَقـَدَ عـدّة أيام بفراء ٍ مـُنتـَفـِش والمدّ يدور فيه ويخرج منه. تلك الصورة تمنحني الرضا كمظهرِ شراع ٍ ملؤه الريح يـشـّـُد زورقه هـَرِعاً بمنأى عن الشاطئ. في واقع الأمر (ورغم أنه من المريع الأقرار) بأنّ كلٍ من هذه الميتات الثلاثة قد جعلتني قريراً هانئاً على نحوٍ ما، فشهود فضيحتي يـُمْحـَوْن، والعالم يـُصبـِح أقل وطأة. وفي نهاية المطاف لن يكون هناك من يذكـُرُني بشخصي في تلك السنين المارجة والمحرجة عندما كنت أعدو بخطى سريعة دون صـَدَفـَتي بين البيوت والزوجات، كثعبان بين أصناف الجلود، وحشٌ من الأنانية، حاجاتي المتنافرة الغريبة عارية ٌ ومخرّمة، وكياني الاجتماعي زريّ ٌ وبلا حصانة. فموت الآخرين يحملـُنـا شيئا ً فشيئا ً حتى لايتبقىّ شيء، وهذا بدوره ضربٌ من الرحمة.

i نبتة زهرية صفراء تنمو كالآعشاب

ii الولادة الثانية تعبير كنسي سائد في أمريكا لمن يخوضون تجربة ما تخلق فيهم أثراً روحياً وتعيد ايمانهم

iii الحديث هنا عن الجالية الانجليزية من البيورتانيين غالباً التي قطنت أمريكا وجلبت معها الموروث البريطاني

iv روائي مولود في أمريكا لكنه عاش في انجلترا وبعض من رواياته تنصب من التراث البريطاني

v خمر مشهورة من الجنوب الاسباني

vi نوع من الكحول يقدم عادة مع طاس كبيرة الحجم وملعقة للغرف في الاحتفالات الكبرى والكرنفالات

vii The Punk حركة موسيقية منشقة عن موسيقى الروك نشأت وتطورّت في الأعوام 1974-1976 تعبر عن تمرد ورفض الشباب للأيدلوجيات المتسلطة وحاليا اندمجت بفرق الروك ثانية

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

استعمالٌ يوميْ

alicewalker

استعمالٌ يوميْ

تأليف: أَليس ووكر.

ترجمة: أحمد الخصيبي.

سأترقبها في الفناء الذي نظفتهُ رفقةَ (ماغي) وجعلناه ناصعاً البارحة بعد الظهر، ففناء كهذا أكثر راحة مما يحسبه الآخرون؛ إنه بمثابة غرفة معيشة واسعة، فعندما نكنس الأرضية من الطين الجاف والرمل الذي تساوت خطوطه مع حواف شقوق الأرض غير المنتظمة، سيتمكن الجميع من المجيء والجلوس لتأمل شجرة الدردار وانتظار النسائم الباردة التي لا تزور غُرف المنزل أبداً.

سيلاحق القلق (ماغي) حتى بعد مغادرة شقيقتها؛ ستقف يائسة ووحيدةً في جنبات البيت، تشعر بالخزي من ندب الحروق على ذراعيها ورجليها، وتحدّق بأختها بنظرات تحكي حسداً وإعجابا، فهي تعتقد بأن الحياة لم تستعص أبدا على أختها، لدرجة أن العالم لم يفقه يوما كيف يتفوه بكلمة “لا” أمامها.

لا شك أنكم تابعتم برامج التلفزيون تلك؛ حين تُقدم الطفلة المميزة أمام الجمهور كمفاجأة من أبويها وتخرج ببطء من خلف الكواليس. (يالها من مفاجأة سارة، لكن ما عساهم أن يفعلوا لو ظهر الأب وطفلته في البرنامج فقط لأجل تبادل الشتائم والإهانات لبعضهما البعض؟) تبتسم الأم للطفلة ويعانقان بعضهما بعضا على شاشة التلفزيون، وأحيانا ما يذرف الأبوان الدموع وتجري طفلتهما لتعانقهما وتتكئ على الطاولة لتخبرهما أنها لم تكن لتصل لما وصلت إليه لولا وقفتهما. لقد تابعتُ هذه البرامج.

يتراءى لي أحيانا في الحلم أنني رفقة (دي) نُستضاف سويا في برنامج تلفزيوني شبيه بهذا حيث يقودنا أحدهم خارج سيارة ليموزين داكنة اللون ذات مقاعد مريحة إلى غرفة مضيئة مكتظة بالناس، وهناك ألتقي برجل أبيض وسيمٍ بشوش الوجه يشبه جوني كارسون[1] حيث يصافح يدي ويحدثني كم أنا محظوظة بفتاة مثلها، بعدها نظهر على الهواء فتعانقني (دي) بعيون فياضة وتضع على لباسي زهرة أوركيد كبيرة رغم أنها قد أخبرتني مسبقا بأن الأوركيد زهرة دبقة.

أما في الحياة الواقعية فأنا امرأة ضخمة ممتلئة أيديها خشنة كأيدي الرجال. أرتدي في الشتاء ثوب النوم حين أذهب إلى السرير، أما في النهار فأرتدي بدلة العمال. أنا كالرجال؛ أستطيع قتل خنزيرٍ وسلخه بلا أدنى رأفة، ولدي دهون في جسمي تبقيني دافئة في عز البرد. بمقدوري العمل خارجا طيلة اليوم أكسّر الثلج لأحصل على ماء الغسيل، وأستطيع أكل كبد خنزير مطهيٍّ على نار مكشوفة بدقائق بعد خروجه والبخار يتصاعد منها. وأوقعت يوما بعجل ثور ضربته ضربة مباشرة بين عينيه بمطرقة حديدية، وعلقت اللحم حتى يبرد قبل حلول الليل. غير أن كل هذا وبكل تأكيد لا يَظهر على الشاشات، فأنا في الطريق التي ترغب ابنتي أن أكون: أنحفَ بخمسين كيلوجراماً، وذات بشرة تشبه فطيرة شعير محلاة نيئة، وشَعرٍ يتلألأ تحت الأشعة الحارقة، سيتحتم على جوني كارسون بذل الكثير حتى يجاري سرعة بديهتي وظرافتي.

عدا أن ذلك لا يمتُّ للواقع بصلة، أعلم ذلك قبل استيقاظي حتى، متى كان لأحد من عائلة (جونسون) لسان طليق! بل من له أن يتخيلني أواجه رجلا أبيض غريبا؟ يبدو أنني قد تحدثت لأمثاله دوما وقدماي تتأهبان لتنطلقا مع الريح وبرأسي ملتفتا إلى أي شيء بعيد عنهم. أما عن (دي) فقد اعتادت دوما النظر إلى الناس في عيونهم، ولم تكن تعترف بشيء يدعى التردد أو الخوف.

“كيف أبدو يا ماما؟” قالت (ماغي) وهي بالكاد تُرى من خلف الباب، وانعكس لي ما يكفي من جسدها النحيل المنطوي خلف تنورة وردية وسترة حمراء.

قلت لها: “أخرجي إلى الفناء”.

هل سبق لكم وأن شاهدتم حيوانا واهنا وضعيفا مثل كلبٍ دهسه شخص طائش وثري ثراءً كافيا لامتلاك سيارة لكنه ظلّ يمشي إلى جانب أحد آخر جاهل كفاية حتى يتلطف به؟ تلك هي (ماغي) حين تمشي، لم تتغير يوما، رأسٌ منكس وعينان تنظران نحو الأرض وأقدام تجر بعضها ذُلّا، هي على ذلك منذ أن شبت النيران التي التهمت بيتنا القديم تماماً.

وعن (دي)، فهي أذكى من (ماغي)، وبشعر جميل وجسد ممتلئ، لقد أصبحَت امرأةً الآن رغم أنني أنسى ذلك أحيانا.  كم مضى على احتراق ذلك البيت الآخر؟ عشر أو اثنتا عشرة سنة؟ أحيانا أستطيع سماع أصوات النيران والاحساس بذراعي (ماغي) ملتفة حولي وشعرها يدخن ولباسها يتساقط على شكل قطع ورقية صغيرة. بدت عيناها مفتوحتان بشدة ومتوهجة بالنيران من حولها، أما (دي) فأراها واقفة تحت شجرة اللثة الحلوة التي اعتادت استخراج اللثة منها وبنظرة على وجهها ملؤها التمعّن مُشاهدةً آخر لوحة زورق رماديةٍ في البيت تسقط باتجاه المدخنة الحمراء المشتعلة. وددتُّ لو أسألها: “لِمَ لمْ ترقصي حول الرماد؟” فقد كَرِهَت (دي) ذاك البيت كرها شديداً.

لطالما حسبت أنها كرهت ماغي أيضا، لكن ذلك كان قبل أن أجمع بدعم من الكنيسة أموالا لنرسلها إلى مدرسة في أوغستا. اعتادت أن تقرأ علينا دونما شفقةٍ: تفرض علينا كلماتٍ وأكاذيب وعادات شعوب أخرى، بل قصص حياة كاملة علينا نحن الأميّتين المحبوستين تحت صوتها، فقد غسَلتنا في نهر الخيال وأحرقتنا بكومة من المعرفة كنا في غنى عنها، وضغطت علينا بأسلوب قراءة العبيد التي اتبعتها حتى تسكتنا مثل غبيتين في اللحظة التي نوشك فيها أن نفهم.

ولطالما رغبت (دي) بالأشياء الجميلة، كارتداء فستان أصفر من قماش الأورجانزا حين تتخرج من الثانوية، وزوجا كعبٍ عاليين ليتطابقا مع زي أخضر كانت قد صنعتُه من زي قديم أعطاني إياه أحدهم. كانت تُطيل التحديق بأية كارثة تصيبها، فلم يكن يطرف جفنها لدقائق متواصلة، وغالباً ما حاربتُ رغبتي في هزها. وأصبح لها في سن السادسة عشرة أسلوبها المتفرد، وكانت تُدرك ذلك.

أما أنا فلم أتلقّ تعليما قط، فبعد الصف الثاني أُغلقت المدرسة، لا تسألوني لماذا، ففي 1927 لم يكن باستطاعة ذوي البشرة الملونة طرح ما قد يطرحونه من تساؤلاتٍ اليوم. تقرأ لي (ماغي) في بعض الأحيان وتتلعثم بعفوية، إنها لا ترى جيدا، وتعلم بأنها ليست ذكية، فالفطنة تجاوزتها مثلما قد تجاوزها الجمال والمال، وستتزوج من جون توماس (ذو الأسنان الطحلبية وتعابير الوجه الجادة) وسأتمكن من البقاء هنا وربما أُنشد ترانيم الكنيسة لنفسي، رغم أنني ما كنت مغنية جيدة يوما ولم أتحل بصوت جميل. لطالما كنت متفوقة في أعمال الرجال، اعتدتُ أن أحب حلب الأبقار حتى تلقيت طعنة جانبية وأنا بسن التاسعة والأربعين، فالبقر لطيف ومهذب ولن يزعجك ما لم تحاول حلبه بالطريقة الخاطئة.

لقد تعمدت إدارة ظهري للمنزل، فهو بثلاث غرف مثل ذاك الذي احترق عدا أن السقف معدني، فما عادت الأسقف الخشبية تُصنع، ولا توجد نوافذ حقيقية بل مجرد فتحات على جنبات البيت، مثل نوافذ السفن، عدا أنها ليست دائرية ولا مربعة، وبجلد غير مدبوغ يثبت أبواب تلك الفتحات. كما أن البيت محاط بمرعى، مثل ذاك البيت، لا عجب أن (دي) ترغب بتحطيمه حين تشاهده. كتبت لي يوما بأنها ستأتي لزيارتنا أينما عشنا لكنها لن تأتي رفقة أصدقائها. تساءلنا أنا و(ماغي) حيال هذا، وسألتني الأخيرة: “ماما، متى كان لـ (دي) أصدقاء؟”

نعم، حظِيَت بالقليل، فتيانٌ ماكرون يخرجون للتجول في يوم الغسيل بعد المدرسة، وفتياتٌ عصبيات لم يُر الضحك والتبسم على وجوههن يوما. صرن منبهراتٍ بـ(دي) ورحنَ يؤلّهن عباراتها المصوغة بإحكام وشكلها اللطيف وحس الفكاهة الذي يغلي ويثور كفقاعات بداخلها، كما أنها تقرأ لهم.

لم تلقِ لنا بالاً كثيرا حين كانت تتودد ل “جيمي تي”، فقد صبّت عليه كل قدرتها على اللومِ والانتقاد، فقد هرب إلى المدينة ليتزوج فتاة رخيصة من إحدى الأُسر الغنية والجاهلة، أما هي بالكاد استطاعت لمّ شتاتها بعده.

وعندما تصلُ سأقابلــ.. أوه لكن ها هم هنا!

تحاول “ماغي” تأدية عملها بطريقتها المزعجة، لكني أوقفها بيدي وأقول: “عودي هنا”، فتقف مكانها تحرك إصبع قدمها في التراب وكأنها تحفر بئراً.

تصعب رؤيتهم تحت أشعة الشمس المحرقة، لكن فوق ذلك أعرف أنها “دي” من أول لمحة لساقها التي تخرج من السيارة، فلطالما كانت ساقها رائعة وكأن الرب نفسه قد صاغها كما شاء. وفي الجانب الآخر من السيارة خرج رجل قصير وبدين والشعر يطغى على أنحاء رأسه ويتدلى بطول قدم واحدة من على ذقنه وكأنه ذيل بغل غريب الشكل، فأسمع صوت “ماغي” تطلق تنهيدة مُحبَطةً (هِه)، كأنما قد رأت نهاية أفعى ملتوية أمام قدميها مباشرة على الطريق.

والآن “دي”، بثوب يصل الأرض في هذا الجو الحار، ثوبٌ مزعج يؤذي بصري، بكثير من البرتقالي والأصفر كفيلٌ بعكس ضوء الشمس. أشعر بكل وجهي يزداد حرارةً بسبب الموجات الساخنة التي تصدرها، وكذلك من قرطيْ أذنيها الذهبيين المتدليين حتى كتفيها، ومن أساورها المعلقة التي تصدر صوتا حين تنفض طيّات الثوب من جيبها. الثوب فضفاضٌ وخفيف، ويعجبني حين تمشي مقتربة. وأسمع “ماغي” تعبر عن إحباطها مجددا بذلك الصوت. وشعر أختها، المسترسل كصوف الخرفان، أسود سواد الليل على أطرافه ضفيرتان طويلتان معقودتان ببعضهما كأنها تخبئ سحليتين خلف أذنيها.

نطقت “دي” وهي آتيةٌ من تلك الطريق الزلقة يقودها ثوبها قائلةً: “وا-سو-زو-تيان-أو[2]!”. أما الفتى البدين بشعره الممتد حتى السرة جاء متبعا بابتسامة وقال: “السلام عليكم يا أمي وأختي!”، راح يحضن “ماغي” لكنها ترنحت إلى الخلف نحو كرسيي. أحسست بها ترتجف هناك، وحين رفعت رأسي رأيت عرقها يتصبب من ذقنها.

قالت لها “دي”: “لا تقِفي”. سيتطلب الأمر دفعة ما بما أنني شجاعة. يمكنك رؤيتي لثانية أو اثنتين قبل أن أفعلها، استدارت مُظهرة كعب نعلها الأبيض وعادت إلى السيارة.  وفي الخارج تلقي نظرة خاطفة ومعها كاميرة “بولارويد[3]” فتنحني لتلتقط صورة تلو الأخرى لي وأنا أمام المنزل و”ماغي” متقوقعةٌ خلفي. كما أنها لا تلتقط أية صورة دون أن تتيقن من أن البيت يتضمنها، وحين تمرّ بقرة تمضغ الطعام على زاوية الفناء، تلتقطها معي و”ماغي” والبيت. وبعدها تضع الكاميرة في مقعد السيارة الخلفي، وتأتي لتقبل جبيني.

في تلك الأثناء أخذ “السلام عليكم[4]” يحرك يد “ماغي”، كانت يدها مترهلة وربما باردة كسمكةٍ رغم العرق المتصبّب منها، ظلت تحاول نزع يدها منه، لكن يبدو أن “السلام عليكم” كان يحاول مصافحتها، لكنه أراد ذلك بلطف، أو أنه ربما لا يجيد فعل ذلك. غير أنه سرعان ما يأس من “ماغي” على أية حال.

قُلت: “حسنا دي”

قالت هي:” لا ماما، لست دي، بل “وانغيرو ليماونيكا كيمانغو!”

قُلت مستغربة:” ماذا حدث لـ “دي”؟”

قالت (وانغيرو): “إنها ميتة، لم أستطع تحمل ذلك أكثر، أن أحمل ذات اسم من اضطهدني”

قُلت:” لكنك تعلمين أيضا أنك سُمّيتي باسم خالتك (ديسي)”.  (ديسي) تُعد شقيقتي وهي من أسمت (دي) بهذا الاسم ولاحقا ما أطلقنا عليها اسم (دي الكبيرة) بعد ولادة (دي).

سألت (وانغيرو): لكنها سميت تيّمنا بمن؟”

أجبتها:” باسم جدتك كما أظن”

سألت مجددا:” وهي الأخرى سُميت باسم من؟”

أخبرتها وقد رأيت عليها آثار التعب:” باسم أمها، هذا أكثر ما يمكنني تتبعه في العائلة”. لكني في الواقع كنت أستطيع التتبع وذكر من يتلوها إلى ما بعد الحرب الأهلية.

قال “السلام عليكم”: حسنا، ها أنتِ هنا”.

أطلقت “ماغي” تنهيدتها المحبَطة مجددا.

بينما واصلتُ الحديث:” لم أكن هنالك قبل ظهور اسم (ديسي) في العائلةـ فلمَ عليّ محاولة تتبعه إلى هذا الحد؟”

بقي جالسا مبتسما ينظر إليّ باحتقار وكأنه يتفحص سيارة من الطراز الرفيع، وظل بين لحظة وأخرى هو و “وانغيرو” يرسلون بنظراتهم شزراً إليّ.

سألت:” كيف يُتهجؤ هذا الاسم؟”

قالت (وانغيرو): “ليس عليك مناداتي به إن لم تريدي”

رددتُ عليها:” لم لا؟ إن كان هذا ما تريدين أن نناديك به فسوف نفعل”

فردّت علي:” أعلم أنه يبدو محرجا في البداية”

فقلت لها: “سأعتاد عليه، انطقيه مجددا بوضوح”

ولاحقا سرعان ما تمكنتُ من الاسم، أما اسم (السلام عليكم) فقد كان أطول بمرتين وأصعب بثلاث مرات، وبعدما تعثرت فيه مرتين أو ثلاث أخبرني أن أدعوه بـ”حكيم الحلّاق” فحسب. وددت أن اسأله إن كان حلاقاً فعلا لكني لم أظنه كذلك ولذا لم اسأله.

جلست أحدثه:” لابد أنك تنتمي إلى أحدى تلك الجماعات المربية لماشية البقر على الطريق. فقد قالوا “السلام عليكم” حينما التقوا بك أيضا غير أنهم لم يصافحوك. إنهم دوما مشغولون بإطعام ماشيتهم ووضع الملح لها وإصلاح السياج ورمي القش. ولما سَمّم البِيض بعض الماشية مكث الرجال طوال الليل حاملين بنادقهم، مشيتُ ميلاً ونصف الميل حتى أرى ذلك فقط.

فقال (حكيم الحلّاق): “أتقبل بعضًا من معتقداتهم، لكني لا أميل إلى الفلاحة وتربية المواشي”. (لم يخبراني ولم أسأل إن كانت وانغيرو (دي) قد ذهبت فعلا وتزوجته).

جلسنا نتناول الطعام فأخبرنا على الحال بأنه لم يأكل الملفوف وأن لحم الخنزير نجس، أما (وانغيرو) فقد تناولت طبق التشيتلينز مع الخبز وقضت على الأخضر واليابس، وتحدثت طويلا أمام طبق البطاطا الحلوة. فكل شيء أبهرها حتى حقيقة أننا ما زلنا نستعمل المقاعد الخشبية التي صنعها والدها للطاولة حين لم نتحمل كلفة شراء الكراسي.

بكت وقالت لي قبل أن تدير وجهها لـحكيم حلاق:” أوه ماما!، لم أكن أدرك مدى جمال هذه المقاعد، أستطيع الإحساس بعلامات الجلوس عليها” وظلت تتلمس المقعد حين قالت ذلك. ثم رمقت بعينها قبل أن تحط يدها على طبق الزبدة الخاص (بالجدة دي) وصاحت:” ها هو!، كنت أعلم بأن هنالك شيئا أود لو تعطيني إياه”. قفزت (وانغيرو) من على طاولة الطعام واتجهت نحو الزاوية لتنظر حيث ممخضة الزبدة، فقد أصبح الحليب متماسكا الآن.

قالت:” ما أحتاجه هو غطاء الممخضة، ألم يصنعها العم “بَدي” من الشجرة التي كانت لكم؟”

قُلت لها: “بلى”

قالت فرِحةً:” و..آه! أريد عصا الممخضة أيضا”

قال الحلاق:” وهل صنع العم “بَدي” العصا كذلك؟”

رفعت دي (وانغيرو) رأسها ونظرت إلي.

نطقت (ماغي) بصوت ضعيفٍ لا يكاد يُسمع:” إن من نحت العصا هو أول زوج للعمة دي، كان اسمه هنري، لكن لاحقا أُطلِق عليه اسم “ستاش”.

قالت “وانغيرو” ساخرة من أختها:” دماغ ماغي كدماغ الفيل” ثم أتبعت بقولها: “يمكنني استعمال غطاء الممخضة كسطح لطاولة الجلوس، كما سأفكر بشيء جميل للعصا”.

عندما أنهت لف العصا، علِق المقبض فأخذتُه بين يدي لبرهة، لم تكن هنالك حاجة حتى لرؤية مكان تحريك العصا لأسفل وأعلى لجعل الزبدة تُشكّل شيئا أشبه بالحوض في الخشب، في الواقع كانت هنالك علامات حفر صغيرة؛ بالأحرى كان يمكن رؤية علامات أصابع إبهامٍ غاصت فيها، لقد كان الخشب ذا لون أصفر فاتح جميل، أُخذ من شجرة زرعت في الفناء حيث عاشت (دي الكبيرة) رفقة (ستاش) سابقا.

بعد العشاء، راحت دي(وانغيرو) تفتش وتعبث بالصندوق المجاور لسريري، وعادت (ماغي) لتنظيف الأواني في المطبخ، خرجت (وانغيرو) بلحافين كانت (الجدة دي) قد جمعتهما، وعلقناهما أنا ودي الكبيرة في إطار الأغطية في الرواق الأمامي وأصلحناهما. إحداهما كان على شكل “لون ستات” والآخر “امش حول الجبل” وفي كليهما كان هنالك رقع من ملابس ارتدتها الجدة دي قبل خمسين عاما، ورقع من قمصان الجد “جاتيل بيزلي” وقطعة زرقاء شاحبة صغيرة جدا كصندوق أعواد ثقاب، مأخوذة من زي جدي الأكبر “إزرا” الذي ارتداه إبان الحرب الأهلية.

قالت (وانغيرو) بكل تودد ولطف:” أيمكنني الحصول على هذين اللحافين القديمين؟”

سمعت صوت شيء يسقط في المطبخ، وبعدها بدقيقة أُغلق باب المطبخ بعنف.

اقترحتُ على (وانغيرو): “لم لا تأخذين واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، فالقديمة صنعتُها رفقة دي الكبيرة من ملابس جمعتها جدتك قبل وفاتها”

اعترضت (وانغيرو):” كلا، أريد هاتين، فهما مُحاكتان من عند أطرافهما بآلة الحياكة”

أخبرتها:” ذلك سيطيل من عمر الأغطية”

فقالت:” ليس هذا ما أصبو إليه، إن هذه الأغطية جمعت من ملابس اعتادت جدتي ارتداءها، وقد فعلت كل هذا يدويا، تخيـــلي!!”. تشبثت بالأغطية باطمئنان بين ذراعيها وراحت تتلمسها بعناية.

أجبُتها مُحاولةً لمس الأغطية:” إن بعض هذه الرُقع كالبنفسجية مثلا أتت من ملابس عتيقة أعطتها إياها أمها”، تراجعت دي (وانغيرو) إلى الخلف حتى لا أصل إلى اللحافين، فقد أصبحت بالفعل تنتمي إليها.

صاحت مرة أخرى وهي متمسكة بها بشدة في حِجرها:” تخيلي!”

صارحتُها:” في الحقيقةـ، لقد قطعتُ وعدا بأن أعطي هذين اللحافين لـ(ماغي) حين تتزوج جون توماس”

شهقت (وانغيرو) وكأن نحلة لسعتها وقالت:” لن تقدّر ماغي هذه الأغطية وستكون متخلفةً بما يكفي حتى تضعها للاستعمال اليومي”

رددتُ عليها:” وهذا ما أظنه، أتمنى أن تفعل كذلك! يعلم الرب المدة التي أبقيتها دون أن يستعملها أحد”. لم أُرد استحضار كيف أنني قد عرضت على دي (وانغيرو) أحد اللحافين حين ذهبت للكلية وأخبرتني حينها بأنها غير عصرية وعتيقة.

غير أنها الآن تقول مشتعلةً غضبا بأنها “لا تقدر بثمن” وأنها “ستغدو رثة ومهترئة خلال خمس سنين إن استخدمتها ماغي”

قُلت لها:” بإمكانها دوما صنع المزيد، (ماغي) تجيد حياكة الأغطية”

حدّقت دي (وانغيرو) بي بنظرة كره وقالت: “لن تفهمي، فالمغزى كله في هذين اللحافين، هذان فقط!”

تساءلتُ وقُلت:” حسنا، ماذا ستفعلين بها؟”

أجابت:” سأعلقها”. وكأنما ليس من شيء آخر لتفعله بها.

كانت (ماغي) بحلول تلك اللحظة واقفة أمام الباب، كان بإمكاني سماع صوت حركة قدميها. نطَقَت كشخص لم يعتد أن يفوز أو يحظى بأي شيء له:” بإمكانها الحصول عليها ماما، سأتذكر (جدتي دي) دون الحاجة إلى اللحافين”

رمقتُها بنظرة حادة وقد تصبغت شَفَتُها السفلى بسعوط عنب الأرض وجعلَ شكلها كالبلهاء. كانت جدتها دي ودي الكبيرة هما من علمها حياكة الأغطية.

وقفت مكانها مخفية يديها المتشوهتين بالندب خلف طيّات تنورتها. ورمقت أختها بنظرة يشوبها شيءٌ من الخوف غير أنها لم تكن غاضبة منها. ذاك كان نصيب (ماغي) وذاك حيث علِمَت خطة الرب.

حين نظرتُ إليها على تلك الحال، أحسستُ بشيء في رأسي يتغلغل حتى وصل إلى أخمص قدميْ، مثلما أكون في الكنيسة وتلامسني روح الرب فتغمرني البهجة وأصرخ.

فعلت شيئا لم أتجرأ على فعله من قبل: احتضنتُ (ماغي) وأخذتها إلى الغرفة وانتزعت الأغطية من بين يديّ السيدة (وانغيرو) ووضعتها في حضن (ماغي). وتسمرت الأخيرة بفم مفتوح هناك على سريري.

أخبرت (دي) أن تأخذ واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، لكنها استدارت دونما أية كلمة وهرعت إلى حكيم الحلاق، وقالت أثناء خروجي مع ماغي إلى السيارة:” أنتِ لا تفهمين”

أردتُ أن أعرف:” ما الذي لا أفهمه؟”

قالت لي:” تُراثُك” والتفَتَتْ إلى (ماغي) وقبّلتها وقالت:” عليك أن تصنعي من ذاتك شيئا، فهذا يوم جديد فعلا لنا، لكنك لن تتعلمي بهذه الطريقة التي ما زالت تعيش عليها ماما”.

ووضعت (وانغيرو) نظارات شمسية أخفت كل ما في وجهها عدا مقدمة أنفها وذقنها.

أما (ماغي) فقد ابتسمت، ربما للنظارات، لكنها كانت ابتسامة صادقة بلا رهبة، وبعدما تلاشى غبار السيارة طلبتُ من ماغي احضار القليل من السعوط لأستنشقه، وثم بقينا نحن الاثنتين نقضي وقتا ممتعا إلى أن حان وقت العودة إلى المنزل والذهاب للفراش.

[1] مقدم برامج تلفزيونية أمريكي شهير خلال الفترة بين الستينات وحتى أوائل تسعينات القرن الماضي

[2] أسلوب إلقاء تحية بإحدى اللغات الافريقية

[3] نوع من أنواع الكاميرات

[4] أسلوب تهكم على الفتى الذي قال السلام عليكم

نشرت تحت تصنيف مقال

50 خرافة يصدقها الناس

جاري هاريسون50words

ترجمة : محمد صدقه 

 التــفــكــيــر الــســحــري

 

  

الفصل الأول

 

” أنا أؤمن بالظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية.”

 

 الشيء الوحيد الذي سيتقلص عند التحقق منه هو الخطأ، ليس الحقيقة

توماس باين –

 

كل يوم نواجه قوى خارقة، ظواهر غير طبيعية أو معتقدات استثنائية. تلك الادعاءات تجد طريقها إلينا أينما ذهبنا. ستجدها في الصيدلية، في الأدوية المكونة من مواد طبيعية الموجودة على الرفوف بجانب العلاجات القائمة على أساس علمي. الصحف تقدم توقعات فلكية لمستقبلك، واعظ يعد بأن إذا أعطيته المال سيكافئك الله بمائة ضعف. الإعلانات التلفزيونية تقترح بأنه يمكننا الحصول على صحة أفضل عن طريق استخدم حبة دواء أو  سنكون رياضيين بشكل أفضل إذا وضعنا سوار مخصص على معصمنا. صديق يحلف بأنه رأى كان سفينة فضائية في السماء بالأمس. أحد أعضاء العائلة يحاول اقناعك بقرب نهاية العالم. هل تلك الضجة التي تسمعها قبل أن تنام، صوت شبح؟

عندما تظهر أفكار غريبة يجب علينا أن توقف للحظة ونفكر قبل أن نتقبلها كحقيقة او واقع. أمور سيئة ممكن أن تحدث عندما نتقبل معتقدات لأسباب لا تتعدى أن تكون مجرد عبارة عن  وثوق في السلطة او عادات أو لمجرد أنها تبدو صحيحة. مات عدد لا يحصى من الناس على مر التاريخ لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. الكثير من الناس الذين أيدوا أو شاركوا في استغلال وإيذاء وحتى قتل البشر كانوا ذو نية حسنة ويريدون الخير لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. أينما وحيثما قل وجود الشك، مشاكل خطيرة ستحدث كنتيجة لذلك. الأطباء الدجالين والفنانين المحتالين يلحقون الضرر بالناس الذين لا يعرفون الفرق بين العلم والعلم الزائف. كم عدد المرات على مر التاريخ التي وقفت فيها المعتقدات الخارقة للطبيعة في طريق التقدم العلمي والاجتماعي؟ أين سنكون اليوم لو أننا رفضنا خرافة ما قبل خمسة قرون؟ ندرة الشك في عالم اليوم لا يمثل فقط عبء للتقدم بل يشكل تهديد قد يعيدنا للعصور المظلمة. مهلاً، هل فعلا لم نعد نعيش في زمن العصور المظلمة؟ حتى هذه اللحظة، في القرن الواحد والعشرين، يتم تعذيب واعدام الساحرات في بعض المجتمعات لأن بعض الناس تخاف من قواهم السحرية. العديد من الناس مازالوا ينظرون إلى النجوم والكواكب للتبصر في شخصياتهم والتوقعات العاطفية، على الرغم من أن العلماء الذين يعرفون أكثر من أي شخص آخر عن النجوم والكواكب يقولون إن التنجيم فكرة منافية للعقل. ملايين الناس يؤمنون بأنه يمكن للفيزياء أن تقرأ الأفكار وأن الحكومة تخفي أجساد كائنات فضائية في منطقة 51 – قاعدة عسكرية في ولاية نيفادا-. نحن كائنات نعاق عن طريق المعتقدات الغير عقلانية. إن كان نأمل التخلص من تلك العادة المكلفة والمهدرة للوقت التي تجعلنا نصدق أشياء غير صحيحة، فيجب أن نتبنى الطريقة العلمية والشك. التفكير النقدي مهارة يجب أن تقدر وتعزز بشكل واسع، فالتقدم يتعمد عليه.

الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية – معتقدات معرفة بشكل غير دقيق كأشياء موجودة أو تحدث خارج العالم الطبيعي- ليست مرتبطة بالضرورة بالذكاء أو مستوى التعليم. على سبيل المثال، من الممكن وجود روابط بين مستوى التعليم ومدى تقبل ادعاء لا أساس له مثل قراءة الطالع والتنجيم. لكن أحذر من التفكير كثيراً في هذا الموضوع لأننا جميعنا معرضين لتصديق مثل تلك الأمور. من المعروف جيداً أن الناس المتعلمين والأذكياء يمكن أن يصدقوا ادعاءات غريبة والتي تفتقر لدليل يثبت صحتها. العالم الشهير جَين جودال، على سبيل المثال، من المؤمنين بوجود الكائن صاحب القدم الكبيرة. لقد عملت مرة مع صحفي ذو تعليم جامعي مقتنع بوجود فتاة من روسيا تمتلك رؤية ذات أشعة سينية والتي تمكنها من رؤية أجسام الناس من الداخل وتشخيص المشاكل الطبية الداخلية. أحد زميلاتي علقت في ثقل صنارة تلك الادعاءات الغريبة الغير مؤكدة. هي ليست غبية وليست مفتقرة للشك ومهارات التفكير النقدي، وليست معتزلة للناس، لكن عندما يتعلق الأمر بمعتقدات غريبة، فقبول تلك الادعاءات يبدو الأمر طبيعياً أو انسانياً أكثر من رفضها تماماً.

وفقاً لاستطلاعات مؤسسة غالوب، ثلاثة من بين كل أربعة أساتذة جامعيين في أمريكا يصدقون واحده على الأقل من تلك المعتقدات الغريبة مثل وجود الأشباح والتنجيم وتناسخ الأرواح بعد الموت. يعتبر هذا ذو أهمية: معظم الناس في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم هم أشخاص مؤمنين بوجود قوى خارقة وظواهر غير طبيعية. يوجد في أمريكا معتقدات تؤمن الناس بها وفي مقدمتها؛ الإدراك الحسي الفائق (الحاسة السادسة) بنسبة 41% ويتبعه بنسبة قريبة منه هو الإيمان بوجود البيوت المسكونة بنسبة 37% ووجود الأشباح بنسبة 32%. الاستبصار أو القدرة على قراءة الأفكار ومعرفة المستقبل أمر حقيقي موجود بالفعل وفقاً لـ 26% من الأمريكان، بالإضافة إلى أن التنجيم أقنع ما يقارب الـ 25% من الأمريكان، و26% منهم يؤمن بتناسخ الأرواح. أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع بنسبة 57% من البالغين الأمريكان يؤمنون على الأقل بوجود اثنان من المعتقدات المتعلقة بالظواهر الغير طبيعية، و22% منهم يقولوا إنهم يؤمنوا بخمسة معتقدات وأكثر.

في بريطانيا العظمى، يؤمن 40% من البريطانيون بأن البيوت يمكن أن تسكن بالأرواح الشريرة و24% منهم يؤمنون بأنه يمكن التواصل مع الأموات. لم أجري أي دراسة استقصاء علمية، لكن رحلات سفري خارج الولايات المتحدة لم تترك لي مجال للشك بأن الإيمان بادعاءات غير مثبتة علمياً ومن غير المحتمل أن تكون صحيحة يحظى بشعبية كبيرة. فعلياً أي مكان قمت بزيارته؛ أفريقيا، الشرق الأوسط، أسيا، جزر المحيط الهادئ، الكاريبي، أجد نفس النتيجة وهي أن الأغلبية العظمى من الناس تؤمن بمجموعة من الظواهر الغير طبيعية وادعاءات زائفة. دون إدراج المعتقدات الدينية ضمن المجموعة، أتوقع أن أكثر من 90% من الناس حول العالم يؤمنون على الأقل بظاهرة واحدة غير طبيعية. نحن مخلوقات تحب أن تصدق كل شيء.

هل يهمك؟

التصرف الأسهل اتجاه هذا الموضوع هو محاولة تجاهل جميع تلك المعتقدات الغير عقلانية. على أي حال، أليست أمور مثل التنجيم والشفاء بالدعاء وقوة الايمان  وقراءة الطالع تجعلهم سعداء وتعطيهم القليل من الطمأنينة في عالم يملأه الخوف والحيرة؟ من أنا لأحاول سرقة مصدر راحة ومتعة أي شخص؟ ليس من شأني ماذا قرر الناس أن يؤمنوا، صحيح؟ ما المشكلة؟

حسب وجهة نظري، لا يوجد خيار آخر سوى أن تعارض تلك المعتقدات الغير عقلانية، إذا كانت مهتم ومتعاطف مع بني البشر. أن تكون معارض لتلك المعتقدات لا يتطلب أن تكون شخص لئيم او بغيض تجاه ذلك الأمر، لكن السكوت ليس حل أيضاً. الإيمان بالظواهر الغير طبيعية والعلم الزائف يعتبر أزمة مزمنة ترهق كاهلنا قرناً بعد قرن. أولئك الذين يدركون الضرر الذي تسببه تلك المعتقدات يومياً حول العالم والتي ستكون يوماً ما وحشاً كاسراً لا يمكن هزيمته إذا اختاروا عدم مواجهته. انها مسألة تعاطف مع بني البشر والايمان بأن العالم يمكن أن يكون مكان أفضل لو لم يكن أعمى ومتخبط بالخرافات والتفكير الغير علمي. أنا لا أكون شخص عديم المشاعر عندما أشرح لشخص ما لماذا يعتبر الطب البديل خطير جداً أو كيف يخدع المعالجون بقوة  الإيمان الناس. ألا تفعل شي حيال ذلك الموضوع يمكن أن يكون امر دنيء وقاس جداً. السؤال الأمثل ليس لماذا المتشككون يحتجون، لكن السؤال كيف يمكن لأي شخص ان يعلم حول موضوع ” الأطفال السحرة” كونهم يقتلون في أفريقيا ولا يشعر بأي التزام اتجاه تعزيز وجود الشك في حياتنا. الشخص الذي يسمع بقصة الطفلة المريضة التي تعاني وتحتضر بسبب والديها العنيدين اللذان عالجاها بالماء المعالج معالجة مثلية – الهوميوباثي أو الطب التجانسي البديل – بدلاً من الأدوية التي على أساس علمي، ولا يشعر باشمئزاز تجاه العلم الزائف والدجالين الذين يدعون انهم أطباء؟ جميعنا نتشارك هذا العالم معاً، فعندما يعتقد القائد المنتخب أن عمر الكرة الأرضية هو ستة الاف سنة أو تؤمن جارتك أن مواقع بعض النجوم في السماء تحدد طبيعة اليوم الذي ستحظى به وكيف سيكون ذلك اليوم، عندها ستدرك أن هذه هي المرحلة التي ستؤدي إلى العديد من المشاكل. طريقة التفكير المحدودة تعتبر طريقة تفكير خطيرة جداً.

الشك هو الدرع الذي يحميك 

فكيف يمكن للشخص أن يتجاوز كل تلك الادعاءات الغريبة الموجودة من حولنا ليصل إلى المنطقة الآمنة بسلام؟ انها ليست بتلك الصعوبة التي تتخيلها. سيكتشف القراء من خلال هذا الكتاب أنه قد يتطلب أن يسألوا سؤال واحد أو اثنين بطريقة محددة للتعرف على نقاط الضعف المدمرة في الادعاءات التي لا تستحق إيماننا. الشك الإيجابي هو شك متوافق مع الفضول لكن بحذر وعقل متفتح، فهو يتطلب التحلي باليقظة والتحقق من صحة أي شي وحقيقة ما يقوله الأشخاص.

من المهم أن تتذكر دائماً أن عبء الإثبات وتقديم الدليل يقع على عاتق أولئك الذين يستمرون في نشر تلك الادعاءات. أود أن يكون صاحب القدم الكبيرة ووحش بحيرة لوخ نس أمر حقيقي، لكني متيقن بأنه الحيوان الذي يشبه القرد ويبلغ طول عشرة أقدام ويمشي على رجلين في إقليم الشمال الغربي الهادئ أو البليزوصور المنقرض الذي كان متواجد في اسكوتلندا – نوع من الزواحف الضارية البحرية – لا وجود لهما. السبب الذي يدفعني لاعتقاد ذلك هو أنه بعد كل تلك السنوات لم يقدم أي شخص دليل مقنع مثل: العظام أو عينات من  الحمض النووي (DNA) أو هيكل. إذا أرادا الأشخاص المؤمنين بوجود صاحب القدم الكبيرة أن أصدقهم، فعليهم أن يروني الدليل. ليس من واجبي دحض فكرة وجود صاحب القدم الكبيرة. كيف يمكنني فعل ذلك، بكل الأحوال، فأنا لا أستطيع البحث في كل كهوف وكل أشجار أمريكا الشمالية.

أحذر من المعتقدات الخفية، فهي أنصاف الحقائق التي تتضخم لتشمل عناصر ومبادئ غير طبيعية بمجرد السماح لها بدخول عقلك. على سبيل المثال، بدون أدنى شك يوجد العديد من الحالات الساحلية القديمة أو المجتمعات المحلية الجزرية دمرت بسبب الزلازل وتسونامي خلال الآلاف السنوات الماضية. لكن هذا يختلف تماماً عن الادعاء المقدم من المؤمنين بوجود مدينة أطلانتيس الأسطورية والتي يقال بأنها قارة أو مدينة حكمت العالم يوماً ما وكانت متقدمة تقدماً تكنولوجياً يتجاوز تقدمنا في هذا العصر. بعض الأشخاص المؤمنين بوجود الأطباق الفضائية الطائرة يزعمون بوجود حياة ذكية في مكان ما في هذا الكون، قد يكون سبب مقنع، لكن بعد ذلك الزعم، انتقلوا إلى ادعاء آخر بطريقة سلسة أن الكائنات الفضائية تزور كوكب الأرض بشكل منتظم، فهذا الادعاء لا يمكن التأكد منه ولا اثباته ومستبعد. يجب أن نحذر من الادعاءات التي تختبئ تحت عباءة العلم والتي هي في الحقيقة علم زائف. ليس من الضروري أن كل ما يقوله شخص ما – قد يكون المرشد الروحي ديباك شوبرا، على سبيل المثال – ويذكر “ميكانيكا الكم ” بشكل متكرر أو جمل علمية أنيقة ومعقدة، يعني أن ما يقومون بترويجه صحيح أو علمي.

 

كلما كبر حجم الادعاء، كلما صعب اثبات ذلك الادعاء 

المتشكك الذكي يضبط حاجته الملحة لدليل وفقاً لحجم الادعاء الذي تم تقدمه. طبيعة الادعاء الذي تم تقديمه – ما مدى غرابة أو فظاعة ذلك الادعاء؟ – يحدد درجة الشك المطلوبة. اذا ادعوا جيراني بأنهم رأوا بالأمس طير في فنائهم  الخلفي، فعلى الأرجح وبافتراض حسن النية سأصدق ما يقولون. ليس بالأمر المهم. على كل حال، أذا ادعوا انه رأوا شيء غير مألوف تماماً، لنقل أنهم رأوا تنين يبلغ وزنه ثلاثين طناً يرتدي سروال من الجلد ويضع مكياج، عندها أحتاج أن أرى فديو بجودة عالية وبصمات وعينات الحمض النووي قبل أن أفكر في تصديق ذلك. مرة أخرى، نوعية وكمية الأدلة يجب أن تزيد عند وجود ادعاء. بالرغم من أن هذه المقولة لم تصدر عن رائد الفضاء الراحل كارل ساغان إلا أنه روج لهذا المفهوم المهم ” الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية”. تذكر تلك الكلمات الخمس جيداً عندما تفكر في الأشباح، الآلهة، الوسطاء الروحيين، التنجيم، التصميم الذكي- الذي يدعي بأن هناك ميزات في الكون والكائنات الحية لا يمكن تفسيرها الا بالعلم وليس بالدين-، الأطباق الطائرة ومعتقدات أخرى.

كونك شخص متشكك لا يعني أنك شخص ضيف الآفق أو أنك فير مهتم في الأشياء الغريبة الغير مثبته علمياً. تاريخ العلم مليء بأمثلة لأفكار سخيفة والتي تبين أنها حقيقة. الجراثيم كانت في يوما ما هي سبب اختراع الميكروسكوب وساعدت في تكوين علم الأحياء المجهري. زحف القارات كان من الصعب تقبله كحقيقة حتى جاءت نظرية الصفائح التكتونية تشرح كيف حدث ذلك. فكرة الأمواج العاتية وهي تحطم السفن تحت سماء صافية على مسافات بعيدة في عرض البحر يبدو أمراً مستحيلاً، لكننا نعرف أن تلك الأمواج وما تفعله بالسفن أمر حقيقي وموجودة بالفعل. ماذا عن النيازك؟ هل هناك صخور تسقط من السماء؟ لابد أنك تمزح! لكن فعلا تبين أن السماء تمطر صخوراً في بعض الأحيان. المغزى من ذلك أن المتشككون الذي يفهمون كيف يعمل العلم، لا يقبلون ادعاءات سخيفة بدون وجود دليل، ولا يرفضون كل ادعاء سخيف بشكل مطلق ونهائي.

عندما تفكر في معتقدات غريبة، من المهم أن تكون على علم بالطريقة التي نستخدمها لفهم وتقييم العالم المحيط بنا. نحن نعرف أن البشر مخلوقات تبحث عن الأنماط في الأشياء الموجودة من حولنا – كيف تحدث تلك الأشياء وطريقة تنظيمها أو حركتها ولماذا وجدت أو حدثت – ونفعل ذلك بدون بذل أي جهد، فنحن نحاول بشكل طبيعي ” أن نوصل النقاط مع بعضها البعض ” تقريباً في كل شيء نراه أو نسمعه. عندما تحاول الإمساك بطائر الكوموفلاج فوق الشجرة – طائر يستخدم التمويه لتخفي – لتناوله على العشاء فهذه تعتبر قدرة عظيمة، أن تسمع اتصال صديقك في وسط مشتتات متناثرة أو محاولة تحديد موقع عدوك المختبئ في الغابة الذي يتمنى أن تقع في الكمين الذي نصبه لك. لكن البحث عن الأنماط يقودنا أيضاً إلى أشياء غير موجودة، والذي قد يضيع وقتنا ويوقعنا في المشاكل. بالإضافة إلى ذلك، هوسنا بالأنماط لا يتوقف عند الرؤية والسمع. نحن نميل إلى ربط الأشياء بعضها ببعض بطريقة تلقائية وإيجاد الأنماط عندما نفكر، وهذا هو السبب الوحيد الذي يجعل من نظريات المؤامرة من غير الممكن أن تتأصل وتزدهر في عقول العديد من الناس.

الوسيط الروحي السابق والمتشكك حالياً، طارق موسى، اتفق على أن برنامج تمييز الأنماط الذي نمتلكه داخل أدمغتنا هو السبب الرئيسي للمعتقدات الغير عقلانية وتلك المعتقدات أمر شائع. لاحظ طارق موسى لأول مرة وبشكل مباشر ذلك الأمر عندما قام عميله بعمل روابط غريبة لكي يدعم فكرته السابقة بأنه شخص لديه قدرة حقيقية لقراءة العقول.

 

عقولهم قامت بالجزء الأكبر من العمل والتي جعلت من عمله أمر بسيط.

نحن رائعون وبشكل فطري في ملاحظة الأنماط، لكن هذا يعني أننا نرى الأنماط حيثما وجدت، في الحقيقة، لا نرى أي من تلك الأنماط. قال موسى: ” يعتبر هذا بالنسبة لي هو تفسير ارتباط الناس  بالظواهر الخارقة والغير طبيعية، بدءً من الأطباق الطائرة إلى الأشباح، ومن نظريات المؤامرة وصولاً إلى التنجيم.

الانحياز التأكيدي

واحد من الأسباب الرئيسية التي تجعل التخلص من الايمان بمعتقد خارق للطبيعة أمر صعب جداً  بمجرد تصديق ذلك المعتقد هو اننا جميعاً لدينا ميل طبيعي للخداع. نحن لا نفكر عادة بمعتقداتنا بموضوعية وصدق. بدلاً من ذلك، نحن نميل إلى تذكر والتركيز على أي شيء يثبت صحة المعتقد، بينما نتخطى ونتجاهل وننسى أي شيء يتعارض أو يلقي ظلال الشك على ذلك المعتقد، هذا ما يسمى بالانحياز التأكيدي. الانحياز التأكيدي يمكن ان يقود أفضلنا إلى الضلال. لذلك كن حذراً.

“الانحياز التأكيدي يعتبر جزءً البرمجيات الموجودة داخل رأسك الأكثر خداعاً واقناعاً”، صرح البروفيسور هانك دايفيس المتخصص في علم النفس، كاتب لكتاب منطق رجال الكهف: أن مثابرة التفكير البدائي في العالم الحديث. ” يعتبر جزء من طبيعتك كإنسان يملك عينين وأنف ورجلين. لتجنب تقييم العالم من خلال التحيز التأكيدي فيجب عليك أن تأخذ خطوات واعية ضده. رغم ذلك لا يوجد ضمانات بأنك ستنجح في فعل ذلك. إذا سمحت لبرنامجك العقلي أن يعمل بناء على اعدادات افتراضية من العصر الجليدي، فسوف يجعلك تميل إلى استخدام الانحياز. تذكر ” لقد تم تحذيرك”.

يجب ان ترى لتؤمن بوجود شيء ما، وستؤمن بوجوده عندما تراه

ليس الخبر كالمعاينة – مقترح عنوان

 

لا بد من وجود القليل من الشك فيما يخص الرؤى المزعومة للأشباح والاطباق الطائرة والملائكة والوحوش من قبل شهود عيان، فما هي الا نتيجة لطريقة عمل رؤيتنا. على نقيض ما كنت تفترضه، فنحن في الواقع لا نرى إلى ما ننظر إليه. فالذي يحدث عندما تنظر إلى شيء ما هو ان عقلك يخبرك ماذا ترى، وعقلك لا يخبرك ابداً بشكل دقيق بنسبة 100%. عقلك يقوم بفعل ذلك ليكون ذو كفاءة وهو فعلاً يساعدنا لنعمل بطريقة فعالة في عالم مليء بالتفاصيل وخطوات التي يجب أن تفهم. لكن في بعض الأوقات يمكن ان يسبب لنا أن نرى أشياء لم تكن موجودة من الأصل أو على الأقل ليست موجودة في شكلها التي قدمت بها لنا. وممكن أيضاً أن تجعلنا لا ننتبه لأشياء موجودة بالفعل. بعض الأشياء التي تغفل عنها رؤيتنا قد تكون أجزاء من معلومات مهمة كان من الممكن ان تكشف لنا بأن الأطباق الطائرة او الأشباح التي تحوم في الخارج هي مجرد طائر أو مجموعة من الضفادع. على سبيل المثال.

أنسى جميع ما تعتقد أنك تعرفه عن الذاكرة

جميع ما يعرف حالياً عن ذاكرة الانسان يجب أن يرسل موجات متنافرة من الشك إلى الأعمدة الفقرية لكل واحد من أولئك المتحمسين المهتمين للظواهر الغير طبيعية. العلماء اكتشفوا أن الذاكرة لا تعمل مثل كاميرا الفيديو، العديد من الناس يعتقد أن أعيننا مثل عدسات الكاميرا وأن العقل هو القرص الصلب الذي يسجل جميع الصور التي تدخل إليه بشكل طوعي. لا تعمل الذاكرة بهذا الشكل. لا وجود لما يسمى ب أخذ التقاط صورة لكامل المشهد ولا وجود لإعادة المشهد أو الرجوع به إلى الوراء. الحقيقية هي أن ذكرياتنا يتم بنائها بواسطة عقولنا بعض الأشياء تترك خارجاً وبعص الأشياء لم تحصل من الأصل يتم حفظها في عقولنا وفي بعض الأوقات ترتيب الأحداث يتم عكسه. يبدو الأمر غريباً، عقلك ينتج ذكرى التي يعتقد أنك تحتاج إليها—ويتطلب حينها أن يكون دقيقاً بنسبة 100%.

يعني هذا، بالطبع، أن جميع القصص القائمة بذاتها المتعلقة بمشاهدات ومواجهات جميع تلك القصص من الكائنات الفضائية إلى الملائكة لا يمكن اعتبارها دليل يثبت وجود أي شيء، لأننا نعرف بدون شك أن أي شخص صادق عاقل واعي يمكنه ببساطة تذكر أي حدث بشكل غير صحيح بدون وجود خطأ من جانبه. ذاكرة البشر لا يمكن الاعتماد عليها، مما يعني أن هنالك شيئاً أكثر من كونه مجرد قصة حول التجربة الشخصية يتم استدعائه في حالة وجود ادعاءات غريبة. وقد أظهر الباحثون وبشكل متكرر أننا أكثر عرضه للاقتراحات والمعتقدات السابقة عند تكوين تصورنا للواقع وذكرياتنا لما شهدناه. مايكل شيرمير، مؤسس وناشر مجلة المشككون أمضى أكثر من ثلاثين سنة باحثاً في المعتقدات الغريبة ومتحدثاً للجميع من المدعين أنهم مختطفي الكائنات الفضائية إلى المكذبين لمحرقة الهولوكوست وصولا إلى الوسطاء الروحيين. يعتقد هو أن جزء كبير من المعتقد الغير العقلاني يكون بسبب ” الواقعية القائمة على المعتقد”، هو أننا نصدق أولاً ثم بعد ذلك نأتي بأسباب لتجعلنا نصدق ما قمنا بتصديقه.

نحن نكون معتقداتنا من أجل مجموعة ذاتية متنوعة شخصية وعاطفية وأسباب نفسية فيما يتعلق الظروف التي تنشأ عن طريق العائلة والأصدقاء والزملاء والثقافة، بالإضافة إلى المجتمع ككل. بعد أن نكون معتقداتنا بعدها نقوم بالدفاع عنها وتبريرها وجعلها عقلانية لمجوعة أسباب فكرية. الحجج المقنعة والتفسيرات العقلانية، فالمعتقدات تأتي أولاً وبعد ذلك تأتي التفسيرات لتلك المعتقدات. أسمي هذه العملية ” الواقعية القائمة على المعتقد”، فتصوراتنا للواقع معتمدة على المعتقدات التي نمتلك بشأن ذلك الواقع. الواقع موجود بمعزل عن العقل الإنساني، لكن فهمنا للواقع يعتمد بناء المعتقدات التي نمتلكها في وقت من الأوقات.

سواء أعجبك ذلك أو لم يعجبك، فالحقيقة هي أننا لا يمكن أن نكون متأكدين من أي شيء نراه أو نسمعه أو نفكر به أو نشعر به أو نتذكره. وهذا له تبعات على المعتقدات المشهورة التي تثير اعجاب وتبهج الناس من جميع أنحاء العالم. الكثير من الناس يجب عليهم أن يعرفوا أن عقولنا رائعة كم هي بحالتها الطبيعية التي عليها، فهي ليست جيدة بما فيه الكفاية للتفريق بين الواقع والخيال والوهم. للأسف. نحن نملك نظام يقوم بعمل ذلك بشكل رائع.

العلم يساعدنا في إيجاد طريقنا في الحياة

تقدير واحترام العلم ووجود الشك البناء أمران متلازمان. من المؤسف أن العديد من الناس لا يقدرون روعة العلم وأهميته بالنسبة لنا. العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق والاكتشافات أو ملاحقة هامشية للمفكرين. العلم هو أساس عالمنا الحديث. حضارتنا لم تستطع النجاة ليوم واحد بدون نواتج الطريقة العلمية. بالرغم من ذلك، يمكن استخدام العلم من قبل أي شخص لأغراض متعددة، لذلك لا يجب على أي أحد أن يتسلل إلى عبادة ساذجة أو الإذعان لجميع العلماء. نعم، من الممكن أن يخلق العلم علاجات ولقاحات للأمراض، يطعم الملاين من خلال الزراعة بطريقة علمية، ويكشف الطريقة التي يعمل بها الكون، لكنه أيضاً يعتبر مصدر الأسلحة مع احتمالية لتدمير الإنسانية. العلم قد يكون ضروري ورائع، لكنه سيكون جيد فقط عندما يستخدم الشخص منهجياته.

العلم، أكثر من أي شيء آخر، هو عبارة عن طريقة لفهم واكتشاف الأشياء في عالمنا. نستطيع بشكل أفضل أيضاً من خلال العلم تحديد ما إذا كان شيء ما حقيقة أولا. إذا كان هنالك شيء ما لا يمكن اثباته علمياً، قد يظل صحيح أو حقيقي، لكن قد يكون هذا هو السبب الوجيه لتمتلك شكوك قوية اتجاهه حتى يتم اثباته علمياً. نحن نعلم أن العلم ينفع ويعمل بطريقة ناجحة لأن لديه سجل من  النجاحات أفضل بكثير مقارنة بأي شيء آخر. المؤمنون الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية يعتمدون على العلم والتكنولوجيا، بينما يمكنهم تجربة حلول أكثر بما يتفق مع معتقداتهم. الناس الذين في حاجه للتواصل مع شخص آخر متواجد في مكان بعيد، لا يستخدمون الحاسة السادسة، إنما يستخدمون الهاتف للتواصل مع ذلك الشخص. الناس الذين يريدون زيارة مكان بعيد جداً لا يستخدمون الإسقاط النجمي، فهم يركبون الطائرة للسفر لذلك المكان. العديد من المؤمنين بالطب البديل مازالوا يعودون للعلم الطبي عندما يصابون  بمرض عضال أو إصابة ما. لماذا معظم الناس المؤمنين بالحياة الأخرى الطوباوية يخافون من الموت ويتجنبون ذلك بأي ثمن؟

نقطة أخيرة يجب ان تتذكرها عندما تفكر في الظواهر الغير طبيعية والخارقة والمعتقدات الزائفة، أنه عندما تتخلى عن تلك المعتقدات فلا تعتبر تلك تضحية. التفكير بتشكك لا يمكن  فقط ان يكون أكثر آمنا وأكثر جدوى اقتصادياً مدى الحياة، ولا يتوجب عليه أن يكون أقل مرحاً أيضا. مهما يكن الذي قد خسرته بسبب عدم تصديق أشياء مثل التنجيم أو الأشباح، فأنا متأكد بأنني أعوض عن تلك الخسارة بتقبل الواقع بحماس كبير. جميع الاكتشافات العلمية حتى هذا الوقت وجميع الألغاز التي لا يزال يتعين حلها تشعرني بالحماس، وأجد العديد من الأسباب التي تدعو للتفاؤل والأمل  حتى في وسط الواقع المرير. في رأيي، الكثير من الراحة والبهجة يمكن ايجادها في الأصدقاء والعائلة والرومانسية والعمل بإتقان وابداع ويمكن ان تجدها في الفن وأن تعامل الناس بلطف وتجدها في الطبيعة وفي جميع أشكال المرح. أنا أدرك ان الايمان بالقوى غير المرئية يؤثر فينا وقد يوحي بالراحة أو الاستقرار، لكن أيضا يمكن ان يكون مريحاً ويحقق الاستقرار لندرك اننا كبشر، فنحن أذكياء بما فيه الكفاية وأقوياء بما يكفي لمواجهة الكون كما هو عليه ومواصلة حياتنا  

 

 

  ٥