نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

قصة قصيرة للكاتب والناقد الأمريكي 

جون أبدايك John Updike

john

ترجمة: انعام الشريفي 

رغم انني كنت أجولُ لبضعة سنوات بين الزيجات في هرج ٍ ومرج ٍ استلـَبَ كل حواسي، فان الآخرين واصلوا بدورهم العـيـشَ والموت. لين، رفيق قديم في لعب الغولف، بين عشيـّة وضحاها حلّ بالمشفى لما قيل له أنـّه فحص روتيني، ووقع ميتاً في الحمام فوراً بعد أن انتهى من اتصال هاتفي بمخزن الخردوات ليعلمهم انه عائد صباحاً لمباشرة العمل. فهو صاحب المخزن واعتاد أن يعهد به الى مساعده في النهارات المُشمسة فقط.

كان تسديد ضربته خاطفا، وكان يلقي بثقله الخلفي على قدمه اليمنى، وغالبا ماتنبثق كرته الى اليسار دون أن تصل الهواء البتة لكنه يفلح في اليوم الواحد أن يغور بالكرة الى الهدف ببضعة ضربات ٍ موّفقة فـذة. وكان دوماً يظهر بملبس ٍ أنيق يوحي بآمالٍ عريضة للعبة التي يخوضها، فهو ببنطاله الأصفر الفضفاض بلون زهرة البتركبi والياقة السمائية اللون الضيقة المنتصبة للأعلى وسترته الكشمير ذات اللون البرتقالي المُحمّر سيتغاير عن نـَسـَق الأخضر المحيط به، وآتي أنا وقد قدتُ الطريق من بوسطن عبر سحابات ٍ من الأسى والأرق والاضطرام المعنوي أجرجرُ عربتي عبر مساحة الاسفلت المخصّصة للوقوف، فـتـَصـِـرُّ حدوة َحذائي عند كلّ خطوة أخطوها مثل براثن الوحوش.

رغم أن لين كان قد عرف جوليا وأحبّها، وهي زوجتي التي كنت قد تركتها، فأنه لم ينبس ببنت شفة بشأني الشخصي عندما كنت أقود السيارة ساعة كاملة لألتقيه بخلاف ماكنت عليه سابقاً اذ آتيه بعشرة دقائق من الشارع المجاور. فقد كان الغولف بالنسبة لي اذ ذاك ملاذاً ومهجعا، حالما اجتـاز فيه كومة الرمل الأولى التي تحمل كرة الغولف في مسعاي للهدف، أحسّ بانني مطـَوّقٌ في حرم ٍ وسيع ٍ ووضـّاء، بمأمن ٍ من النساء والأطفال المهووسين والمحامين الوقورين والمعارف القدامى واستهجاناتهم والنظام الاجتماعي وغـيظهِ بكليته. فللغولف نُظـُمه الخاصّة وحبّه الخاص فبينما يترنح ثلاثتنا أوأربعتنا ونتصايح لنشقّ طريقنا كلٍّ الى حفرة الآخر، نضحك على سوء الحظ العاثر ونهلـّل للضربات النادرة ذات الجودة النسبية. وأحياناً نجد سماء الصيف قد أحلكت وتهب العاصفة فـنـتحلـّق تحت ظلّ قاطرة ٍ مهجورة أوتحت شجرةٍ تبدو اكثر أمناً من أخواتها من الصواعق. وعندها فأن نفاد صبرنا واهتياجنا العصبي المفطور فينا لانقطاع اللعب والاثارة يخلـُصُ بكليته في هذا الحيز من المحميّة الى مايكاد يقارب حرارة العشق، أنفاسُ وعرقُ رجال في متوسط العمر متراصّين تحت المطر الهاطل بلا انقطاع مثل قطيع ماشيةٍ في شاحنة النقل المغلقة كالصندوق. وكان في وجه لين بقعاً متقرّنة من الأشعاع وكان ينوي ازالتها جراحياً قبل أن تتحول الى سرطان الجلد. فمن كان يحـسب ان صاعقة شريانه التاجي ستـَبتـُرُ بتراً خططه ومشاريعه وتمسحهُ مسحا ًمن حياتي المتشابكة؟ فأنه ما من (رُقاقـتا ثلج ٍ ولا بصمتا أصبعين ولا خفقتا قلبٍ في جهاز الرسم البياني ولا رميتا كرة الغولف قد تماثـلتا أبداً)، هل أبداً سأبصر ملـَكـَته المتأنقة المـَلبـَس الباعثة على الأمل ثانية (هللو ياكرتي العزيزة، هكذا يمزح بينما يشرع بالتهادي الى جلسة القرفصاء) ويبّث كرة منخفضة الى اليسار بطريقته المتفرّدة ونسمعه هاتفا ً باحباط غاضب (فهو يُعَدّ ممن خاض ولادة روحية ثانيةiiفي الكنيسة المعمدانية ممّا أكسبه لغة ً شخصية تترفع عن اللعن المباشر): ” ياكومة ً ممسوخة ً وسخة “

قدتُ سيارتي الى جنازة لين وحاولت أن أخبر ابنه: “كان أبوك رجلا ً عظيماً ” الا ّ ان الكلمات تساقطت مترهلة في تلك الكنيسة المعمدانية الباردة. أن الوان لين المـُزَوّقة، وفورته الحماسية المسيحية، وتسديداته الواعدة والمهدورة للكرة، وصيحات ظفرنا في الذهاب والاياب، وجـَمعـُنا عبر كون ٍ مصنّع يتألف من أطوالٍ متغايرة وثابتة، وأنواع ٍ من العشب كانت جميعها مَـسـَحات حياةٍ أرقّ ُ من أن تـُأسر، بل لابدّ أن تـتـبدّد.

بعد برهة من الزمن قرأتُ في صحيفة أن الآنسة أيمي مـَير ِماونت ذات الواحد والتسعين عاماً قد قضت نحبها أخيراً فشابهت الورقة اليابسة التي تـُحال الى فــُتاة. كانت قد بدت دوماً شيئاً عتيقا ً، كانت أحدى أولئك الأنجليز المُحدَثينiii ومن الأواخر الذين يتداولون سيرة هنري جيمسiv وكأنه قد غادر الحجرة لتوّه. وكانت تمتلك رسائلا ً ماتلبث مطبقة ً أومبعثرة ً الى قطع بعثها هنري جيمس الى والديها حيث يـأتي على ذكرها لا كفتاةٍ صغيرة ولكن كسيـّدة فتيـّة “تشارفُ على “خصوصيتها”، على زهوتها التي تحُوطها تماما ً”. كانت تعيش في بضعة غرف ٍ محتشدة بالقطع الأثريـّة في بيت ٍ ريفي ورثته وخصّصت القسم الأكبر منه للإيجار فحـُشـِرَت حشراً فيما تبقى منه. أما لـِمَ لم تتزوج أبدا ً فقد ظلّ هذا سراً هجـَع عليها هـَوناً ونعومة في شيخوختها ، فلعلّ ذلك الجمال السـَـلـِس الناحل الذي نشهده في الصور الفوتوغرافية الداكنة الحبريـّة اللون، وسيماء السـُلالة النبيلة وتوقـّد الذهن، والتحمّس (بالمعنى الروحي) الذي لم يبرحها قد أوقع الهلع في نفوس الكثير من طالبي يدها مثلما جـَذ َبتهم اليها عين ُ هذه الفضائل. ولعلـّه قد أوجد لديها، وهي في عهدٍ ماتلبث فيه مفردة “الطهر” ذات وقع و”نكران الذات” ذات مقام ٍ في عينيها، قيمة ً لا تعلو فيها تلك اللحظة المهيضة الجناح في أيّ موردٍ لهذه الفضائل. وكان لصوتها نبرة جافة تهكميـّة وفي سلوكها شيءٌ من التململ والرفض. كانت قد أشبعت نفسها تثقيفاً فهي تتابع التطورات الجديدة في العلم والفن وتتناول الطعام الطبيعي وتتعاطى في القضايا السياسية الساخنة يوم كانت كل هذه موضات سائدة. وكانت تحبّ أن يتحلّقُ حولها أناسٌ بغضاضة الشباب. فعندما انتقلنا أنا وجوليا الى المدينة مع الأطفال بوجوهنا الجديدة الطريّة، أصبحنا جزءاً من جلسة الشاي المعقودة لديها في اجواء ٍملؤها الفتور، ولولا ذلك الأفتتان المتبادل بيننا لـما دامت معرفتنا لعشرين سنة.

ولعل الأمر لم يكن بذلك الفتور، فاليوم أعتقد أن الآنسة مَـيرِماونت قد أحبـّتـنا أو بأضعف الايمان قد أحبـّت جوليا التي كانت ترفلُ بالدماثـة، وتزهو كأبنة ودودة حانية عبر تلك الحُجَر الشحيحة الدفء والمستمـِّدة ضيائها من النوافذ والتي يزدحم فيها متاع ٌ ريشي مستدقٌ ومتطاول من إرث ٍ كان يوما ً مفروشا ً عبر الطوابق الأربعة لبيت “باك بـَيْ ” المَدني الطراز. ويخلـُد في ذاكرتي ألق ُ ذقن زوجتي السابقة المكتنز وحنجرتها واكتافها المكشوفتين التي تندمج مع المـَلـَس الشبحي لصور الأخوات مـيَرِماونت ذات الأطارات القديمة المـُصممّة للأستوديوهات. كانت الصور لثلاثة أخوات، نزلت بهما فجيعة الموت مبكـّراً في شبابهما كما لو أنهما أوصتا بقسطهما من السنين إرثا ً للثالثة، تلك الناجية التي تجلس معنا في كرسيـّها المُجنـَّح المـُوشّى بالذهب. وكان وجهها قد استحال بـُنـيـّا من الشيخوخة ً فلايمكن التنبؤ بما فيه، عاجاً بالتجاعيد كوجه هنديّ أحمر، هذا وثمـّة شيءٌ وحشيٌّ كوحشية الهندي الأحمر يلمع في عينيها المعتمتين. “أراها مخيبة للآمال بعض الشيء”، كانت قد تندّ ُ عن هذه الكلمات بجفاء عن أحد المعارف المشتركين الغائبين انذاك أو عن أحدى تلك اللواتي انفـَصَلت عن حلقتها :”لـَم تك ُ تماماً من الطراز الأول”.

أن البحث عن الطراز الأول شيء من العهد البائد لجيلها، والآن لااتذكر من نال استحسانها كلياً مثل ماناله الأب دانيال بـَريجان والسـيِر كينيث كلارك. لقد شاهـَدت كلاهما في التلفاز. عيناها ذات البريق الداكن صارتا تخونانها، وكانت أوقات الأصيل الأثيرة الخاصة بالقراءة (التي يخمد الضوء فيها خلف النوافذ وتتراقص النار الناشئة من خشب البتولا في الموقد المؤطر بالنحاس الأصفر) قد استـُبدلت بساعاتٍ مـُجـَدولة منسقة حسب مايبثه التلفاز والمذياع من البرامج التثقيفية. في تلك السنوات الأخيرة كانت جوليا ترتاد منزلها لتقرأ لها قصة أوستن “مـِدِل مارج” وجوان ديديون وبعضاً من قصص بروست ومورياك بالفرنسية بعدما قرّرت الآنسة مـَيرماونت أن جوليا اجتازت اختبار الفرنسية بنجاح. وكانت جوليا تتمرّن بعض الشئ من خلال القراءة لي، وأنا بينما كنت اتطلّع الى شفتيها وهي تزمّها لتصنع صوت الفرنسية فتصغـُران وتــُدَوّران بشدة وكأنهما شفتا قناع أفريقي من العاج، كدتُ أن أقع في حبّها ثانية ً. إن الود بين النساء لـَمؤثـّرٌ ومؤلمٌ ومثيرٌ للرجل، وبرؤياي الخاصّة فأنه كجلسةِ شاي ٍ انتهت الى مجلس خمرٍ للشَريv الاسبانية في تلك الحُجـَر التي يغصّ فيها الأثاث بجـَلـَبة والتي اشتد فيها الشفق حتى صارت الصفحات البيضاء تـُدار ببطئ وأضحى النـَغـَم الصبور لصوت جوليا الأمارة الوحيدة الدالّة على الحياة. بلى إنه الحبّ ما كان ينداح بين تلك العجوز التي تفنى رويداً وزوجتي التي بدورها رويداً تـُمسي متوسطة العمر ويـُمسي ابنائنا بالغين وغائبين، وصوتها يظل ّ لايـُستـَمع اليه مثلما يـُستمع اليه هاهناك. ومامن شك أن ثمة أسرار كانت تودع بين تلك الصفحات. وكانت جوليا تعود من عند الآنسة ميرماونت لتحضير عشائي المتأخر وهي تبدو أكثر شباباً بل أكثر حبوراً وجرأة بعض الشيء.

في ذلك الطور الحرِج مابعد الحياة الزوجية وعندما كان الأصدقاء القدامى مايزالون يبعثون الدعوات بدافع الالتزام، وتجد نفسك لاتملك حضور الذهن الكافي لردها، وأجدني في تجمـّعات كبيرة تحضرها الآنسة مَـيرماونت. وكانت يومذاك عمياءَ تماماً وتصحبها فتاة صغيرة دائرية الوجه، أجيرةًٌ للصحبة ودليل. وكانت السيدة المـُسـّنة المتهالكة التي تـَعرضُ نفسها كريش الطاووس المـغطى بجرسٍ زجاجي مغروزة ً في كرسي مجنـّـح في زاوية الحجرة فيما يلي طاس خمر البنشvi. ولدى اقترابي منها أحسـّت بجسم ٍ يدنو منها فمدّت يداً ذابلة لكنها أسقطتها حالما سمعت صوتي: “لقد أتيت َ شيئاً فظيعاً” ، نطقت بذلك بسحبة نفس طويلة واحدة. أشاحت بوجهها لتـُظهر أنفها الصـَقريّ من الجانب كما لو انني شوّشتُ نظرها. أمّا دليلتها الفتيّة فوجهها المـُدوّر كصحن الرادار سجّل لمحة ً تدلّ على الصدمة، الاّ انني ابتسمت وفي حقيقتي لم أكُ مستاءاً، فثمـّة َ راحة ً في سماع حُكم الآخرين حتى لو كان معادياً. إنه لمن المستحسن أن نعتقد أن هنالك في موضع ٍ ما جهاز تخطيط يسجـّل هزّاتنا وزلا ّتنا. وأنني لأتخيـّل موت الآنسة ميرماونت بأشهر ليست طويلة بعد ذلك، وكخيالٍ أخيرٍلها، في صورة خيطٍ ينبسط ُساكناً رائقاً بمحاذاة جهاز المراقبة الموصول بها في المشفى. وفي هذا الامتداد المنبسط بقي شيئٌ ما تهكميٌ ولاذع، شيئٌ من سداد الرأي لم يُدَنـّس، من الصبر الجليل في عالمٍ عجز لطيلة تسعين عاما ً أن يبرهن على شيء أكثرَ من خيبة الرجاء. ويومذاك كنا أنا وجوليا قد فرغنا من مراسيم الطلاق.

كلّ مافي جعبة البيت المهجور قد فـُقـِد حتماً، اللوحات المعلّقة على الجدران، الهيئة التي يتبارى فيها الظلّ والضوء وتفجـّر دفئ الأماسي ممـّا تجود به المدافئ. حيوانات المنزل: كانوت. كان كانوت كلب صيدٍ ذكر ذهبي اللون اقتنيناه عندما كان الأطفال مايزالون قبل سن البلوغ كطقم من البهلوانيين. وكان مصدر بهجة لاينقطع، كما هو العهد بهذا النوع من الكلاب، وقد ذاق طعم كل شيء حتى الاخصاء وكأن الحياة وابلٌ متواترٌ من البركات. ومن المثير أنه وقبل موته بقليل جلبته ابنتي الصغرى التي تغني في فرقة البانكvii الى البيت الذي أسكنه الآن مع زوجتي ليزا. فجعل يشّم هنا وهناك بتأدب واكتفى بعقف زاوية أذنيه بقلق لينمّ عن التساؤل لمَ حلّ سيده القديم في هذا البيت الغريب الرائحة. وانهار في النهاية مع تنهيدة عميقة على أرض المطبخ، وبدا سميناً وخاملا ً. وقالت ابنتي التي قــَصـّت شعرها قصيراً وصبغت رقعاً منه بالبنفسجي الزاهي إن الكلب صار يجوب الليالي وينهالُ على نفايات الجيران أو على طعام حصانهم. وبالنسبة لي فأن وراء هذا سوء ادارة، فصديق جوليا الجديد لاعب كرة ظهير ربعي في فريق دارتموث ولاعب تنس وغولف ومهووس بحمل حقيبة الظهر بعدّتها والخروج بها ولهذا فجوليا لاتكاد تتواجد في البيت وصارت منهمكة كلياً في مجاراته وفي تعلّم لعبات جديدة. فأ ُهمـِل البيت ومرج الحديقة وصار الأولاد ينساقون داخله وخارجه مع أصدقائهم ولا يتخلصون من الطعام المتعفن في الثلاّجة الا ّ بين الفينة والفينة. ولمّا أحسّت ليزا بما كابـَدْتـُه من انفعالات نطـَقـَت بكلمات لـِبقة ملّطفة وانحنت على كانوت لتهرش مؤخرة احدى اذنيه. ولأن اذنه كانت ملتهبة وحسّاسة فقد أطبق فكيّه عليها بوهن ومن ثم بسط ذيله على أرض المطبخ اعتذاراً.

ومثلما إلتُ اليه عندما نهرتني الآنسة مَرِماونت، بـَدَت لي زوجتي حينذاك ميّالة الى الاغتباط، فهي إذ تواجه شيئاً من المقاومة، فقد أمسى موضعها من العالم متجذ ّراً. وناقــَشـَتْ ابنتي حول مضادات الالتهاب الخاصة بالكلاب، وفي تلك الوقفة ومن أية نظرة عجلى اليهما لايمكن التنبؤ بأيّـتهما الاكبر سنـّاً رغم اتضّاح ايـّتهما صاحبة الشعر غير المألوف. وكما يـُقال في مثل هذا المقام من سقيم الكلام أن ليزا من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي. وطالما اني بلغت الخمسين الآن فأن أية انثى تحت الخامسة والثلاثين هي من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي، بل معظم أناسيّ هذا العالم هم من الصِغـَر بحيث يمكن ان يكونوا بناتاً لي.

اختفى كانوت لبضعة أيام بعد تلك الزيارة، وبعد بضعة أيام أُخـَر عـُثر عليه في المستنقعات القريبة من بيتي القديم بجسدٍ منتفخ. وقد شخـّص الضابط المسؤول حالته على انها سكتة قلبية، فتسائلت ان كان هذا يمكن ان يحدث لمخلوق ٍ بأربعة أقدام. لقد ضـَربـَتْ الصاعقة كلبي السابق عند ضوء القمر، وقـَلبُه ممتلئٌ بنشوة المستنقعات، ومعدتـُه محشوة بالنفايات، ولقد رَقـَدَ عـدّة أيام بفراء ٍ مـُنتـَفـِش والمدّ يدور فيه ويخرج منه. تلك الصورة تمنحني الرضا كمظهرِ شراع ٍ ملؤه الريح يـشـّـُد زورقه هـَرِعاً بمنأى عن الشاطئ. في واقع الأمر (ورغم أنه من المريع الأقرار) بأنّ كلٍ من هذه الميتات الثلاثة قد جعلتني قريراً هانئاً على نحوٍ ما، فشهود فضيحتي يـُمْحـَوْن، والعالم يـُصبـِح أقل وطأة. وفي نهاية المطاف لن يكون هناك من يذكـُرُني بشخصي في تلك السنين المارجة والمحرجة عندما كنت أعدو بخطى سريعة دون صـَدَفـَتي بين البيوت والزوجات، كثعبان بين أصناف الجلود، وحشٌ من الأنانية، حاجاتي المتنافرة الغريبة عارية ٌ ومخرّمة، وكياني الاجتماعي زريّ ٌ وبلا حصانة. فموت الآخرين يحملـُنـا شيئا ً فشيئا ً حتى لايتبقىّ شيء، وهذا بدوره ضربٌ من الرحمة.

i نبتة زهرية صفراء تنمو كالآعشاب

ii الولادة الثانية تعبير كنسي سائد في أمريكا لمن يخوضون تجربة ما تخلق فيهم أثراً روحياً وتعيد ايمانهم

iii الحديث هنا عن الجالية الانجليزية من البيورتانيين غالباً التي قطنت أمريكا وجلبت معها الموروث البريطاني

iv روائي مولود في أمريكا لكنه عاش في انجلترا وبعض من رواياته تنصب من التراث البريطاني

v خمر مشهورة من الجنوب الاسباني

vi نوع من الكحول يقدم عادة مع طاس كبيرة الحجم وملعقة للغرف في الاحتفالات الكبرى والكرنفالات

vii The Punk حركة موسيقية منشقة عن موسيقى الروك نشأت وتطورّت في الأعوام 1974-1976 تعبر عن تمرد ورفض الشباب للأيدلوجيات المتسلطة وحاليا اندمجت بفرق الروك ثانية

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

استعمالٌ يوميْ

alicewalker

استعمالٌ يوميْ

تأليف: أَليس ووكر.

ترجمة: أحمد الخصيبي.

سأترقبها في الفناء الذي نظفتهُ رفقةَ (ماغي) وجعلناه ناصعاً البارحة بعد الظهر، ففناء كهذا أكثر راحة مما يحسبه الآخرون؛ إنه بمثابة غرفة معيشة واسعة، فعندما نكنس الأرضية من الطين الجاف والرمل الذي تساوت خطوطه مع حواف شقوق الأرض غير المنتظمة، سيتمكن الجميع من المجيء والجلوس لتأمل شجرة الدردار وانتظار النسائم الباردة التي لا تزور غُرف المنزل أبداً.

سيلاحق القلق (ماغي) حتى بعد مغادرة شقيقتها؛ ستقف يائسة ووحيدةً في جنبات البيت، تشعر بالخزي من ندب الحروق على ذراعيها ورجليها، وتحدّق بأختها بنظرات تحكي حسداً وإعجابا، فهي تعتقد بأن الحياة لم تستعص أبدا على أختها، لدرجة أن العالم لم يفقه يوما كيف يتفوه بكلمة “لا” أمامها.

لا شك أنكم تابعتم برامج التلفزيون تلك؛ حين تُقدم الطفلة المميزة أمام الجمهور كمفاجأة من أبويها وتخرج ببطء من خلف الكواليس. (يالها من مفاجأة سارة، لكن ما عساهم أن يفعلوا لو ظهر الأب وطفلته في البرنامج فقط لأجل تبادل الشتائم والإهانات لبعضهما البعض؟) تبتسم الأم للطفلة ويعانقان بعضهما بعضا على شاشة التلفزيون، وأحيانا ما يذرف الأبوان الدموع وتجري طفلتهما لتعانقهما وتتكئ على الطاولة لتخبرهما أنها لم تكن لتصل لما وصلت إليه لولا وقفتهما. لقد تابعتُ هذه البرامج.

يتراءى لي أحيانا في الحلم أنني رفقة (دي) نُستضاف سويا في برنامج تلفزيوني شبيه بهذا حيث يقودنا أحدهم خارج سيارة ليموزين داكنة اللون ذات مقاعد مريحة إلى غرفة مضيئة مكتظة بالناس، وهناك ألتقي برجل أبيض وسيمٍ بشوش الوجه يشبه جوني كارسون[1] حيث يصافح يدي ويحدثني كم أنا محظوظة بفتاة مثلها، بعدها نظهر على الهواء فتعانقني (دي) بعيون فياضة وتضع على لباسي زهرة أوركيد كبيرة رغم أنها قد أخبرتني مسبقا بأن الأوركيد زهرة دبقة.

أما في الحياة الواقعية فأنا امرأة ضخمة ممتلئة أيديها خشنة كأيدي الرجال. أرتدي في الشتاء ثوب النوم حين أذهب إلى السرير، أما في النهار فأرتدي بدلة العمال. أنا كالرجال؛ أستطيع قتل خنزيرٍ وسلخه بلا أدنى رأفة، ولدي دهون في جسمي تبقيني دافئة في عز البرد. بمقدوري العمل خارجا طيلة اليوم أكسّر الثلج لأحصل على ماء الغسيل، وأستطيع أكل كبد خنزير مطهيٍّ على نار مكشوفة بدقائق بعد خروجه والبخار يتصاعد منها. وأوقعت يوما بعجل ثور ضربته ضربة مباشرة بين عينيه بمطرقة حديدية، وعلقت اللحم حتى يبرد قبل حلول الليل. غير أن كل هذا وبكل تأكيد لا يَظهر على الشاشات، فأنا في الطريق التي ترغب ابنتي أن أكون: أنحفَ بخمسين كيلوجراماً، وذات بشرة تشبه فطيرة شعير محلاة نيئة، وشَعرٍ يتلألأ تحت الأشعة الحارقة، سيتحتم على جوني كارسون بذل الكثير حتى يجاري سرعة بديهتي وظرافتي.

عدا أن ذلك لا يمتُّ للواقع بصلة، أعلم ذلك قبل استيقاظي حتى، متى كان لأحد من عائلة (جونسون) لسان طليق! بل من له أن يتخيلني أواجه رجلا أبيض غريبا؟ يبدو أنني قد تحدثت لأمثاله دوما وقدماي تتأهبان لتنطلقا مع الريح وبرأسي ملتفتا إلى أي شيء بعيد عنهم. أما عن (دي) فقد اعتادت دوما النظر إلى الناس في عيونهم، ولم تكن تعترف بشيء يدعى التردد أو الخوف.

“كيف أبدو يا ماما؟” قالت (ماغي) وهي بالكاد تُرى من خلف الباب، وانعكس لي ما يكفي من جسدها النحيل المنطوي خلف تنورة وردية وسترة حمراء.

قلت لها: “أخرجي إلى الفناء”.

هل سبق لكم وأن شاهدتم حيوانا واهنا وضعيفا مثل كلبٍ دهسه شخص طائش وثري ثراءً كافيا لامتلاك سيارة لكنه ظلّ يمشي إلى جانب أحد آخر جاهل كفاية حتى يتلطف به؟ تلك هي (ماغي) حين تمشي، لم تتغير يوما، رأسٌ منكس وعينان تنظران نحو الأرض وأقدام تجر بعضها ذُلّا، هي على ذلك منذ أن شبت النيران التي التهمت بيتنا القديم تماماً.

وعن (دي)، فهي أذكى من (ماغي)، وبشعر جميل وجسد ممتلئ، لقد أصبحَت امرأةً الآن رغم أنني أنسى ذلك أحيانا.  كم مضى على احتراق ذلك البيت الآخر؟ عشر أو اثنتا عشرة سنة؟ أحيانا أستطيع سماع أصوات النيران والاحساس بذراعي (ماغي) ملتفة حولي وشعرها يدخن ولباسها يتساقط على شكل قطع ورقية صغيرة. بدت عيناها مفتوحتان بشدة ومتوهجة بالنيران من حولها، أما (دي) فأراها واقفة تحت شجرة اللثة الحلوة التي اعتادت استخراج اللثة منها وبنظرة على وجهها ملؤها التمعّن مُشاهدةً آخر لوحة زورق رماديةٍ في البيت تسقط باتجاه المدخنة الحمراء المشتعلة. وددتُّ لو أسألها: “لِمَ لمْ ترقصي حول الرماد؟” فقد كَرِهَت (دي) ذاك البيت كرها شديداً.

لطالما حسبت أنها كرهت ماغي أيضا، لكن ذلك كان قبل أن أجمع بدعم من الكنيسة أموالا لنرسلها إلى مدرسة في أوغستا. اعتادت أن تقرأ علينا دونما شفقةٍ: تفرض علينا كلماتٍ وأكاذيب وعادات شعوب أخرى، بل قصص حياة كاملة علينا نحن الأميّتين المحبوستين تحت صوتها، فقد غسَلتنا في نهر الخيال وأحرقتنا بكومة من المعرفة كنا في غنى عنها، وضغطت علينا بأسلوب قراءة العبيد التي اتبعتها حتى تسكتنا مثل غبيتين في اللحظة التي نوشك فيها أن نفهم.

ولطالما رغبت (دي) بالأشياء الجميلة، كارتداء فستان أصفر من قماش الأورجانزا حين تتخرج من الثانوية، وزوجا كعبٍ عاليين ليتطابقا مع زي أخضر كانت قد صنعتُه من زي قديم أعطاني إياه أحدهم. كانت تُطيل التحديق بأية كارثة تصيبها، فلم يكن يطرف جفنها لدقائق متواصلة، وغالباً ما حاربتُ رغبتي في هزها. وأصبح لها في سن السادسة عشرة أسلوبها المتفرد، وكانت تُدرك ذلك.

أما أنا فلم أتلقّ تعليما قط، فبعد الصف الثاني أُغلقت المدرسة، لا تسألوني لماذا، ففي 1927 لم يكن باستطاعة ذوي البشرة الملونة طرح ما قد يطرحونه من تساؤلاتٍ اليوم. تقرأ لي (ماغي) في بعض الأحيان وتتلعثم بعفوية، إنها لا ترى جيدا، وتعلم بأنها ليست ذكية، فالفطنة تجاوزتها مثلما قد تجاوزها الجمال والمال، وستتزوج من جون توماس (ذو الأسنان الطحلبية وتعابير الوجه الجادة) وسأتمكن من البقاء هنا وربما أُنشد ترانيم الكنيسة لنفسي، رغم أنني ما كنت مغنية جيدة يوما ولم أتحل بصوت جميل. لطالما كنت متفوقة في أعمال الرجال، اعتدتُ أن أحب حلب الأبقار حتى تلقيت طعنة جانبية وأنا بسن التاسعة والأربعين، فالبقر لطيف ومهذب ولن يزعجك ما لم تحاول حلبه بالطريقة الخاطئة.

لقد تعمدت إدارة ظهري للمنزل، فهو بثلاث غرف مثل ذاك الذي احترق عدا أن السقف معدني، فما عادت الأسقف الخشبية تُصنع، ولا توجد نوافذ حقيقية بل مجرد فتحات على جنبات البيت، مثل نوافذ السفن، عدا أنها ليست دائرية ولا مربعة، وبجلد غير مدبوغ يثبت أبواب تلك الفتحات. كما أن البيت محاط بمرعى، مثل ذاك البيت، لا عجب أن (دي) ترغب بتحطيمه حين تشاهده. كتبت لي يوما بأنها ستأتي لزيارتنا أينما عشنا لكنها لن تأتي رفقة أصدقائها. تساءلنا أنا و(ماغي) حيال هذا، وسألتني الأخيرة: “ماما، متى كان لـ (دي) أصدقاء؟”

نعم، حظِيَت بالقليل، فتيانٌ ماكرون يخرجون للتجول في يوم الغسيل بعد المدرسة، وفتياتٌ عصبيات لم يُر الضحك والتبسم على وجوههن يوما. صرن منبهراتٍ بـ(دي) ورحنَ يؤلّهن عباراتها المصوغة بإحكام وشكلها اللطيف وحس الفكاهة الذي يغلي ويثور كفقاعات بداخلها، كما أنها تقرأ لهم.

لم تلقِ لنا بالاً كثيرا حين كانت تتودد ل “جيمي تي”، فقد صبّت عليه كل قدرتها على اللومِ والانتقاد، فقد هرب إلى المدينة ليتزوج فتاة رخيصة من إحدى الأُسر الغنية والجاهلة، أما هي بالكاد استطاعت لمّ شتاتها بعده.

وعندما تصلُ سأقابلــ.. أوه لكن ها هم هنا!

تحاول “ماغي” تأدية عملها بطريقتها المزعجة، لكني أوقفها بيدي وأقول: “عودي هنا”، فتقف مكانها تحرك إصبع قدمها في التراب وكأنها تحفر بئراً.

تصعب رؤيتهم تحت أشعة الشمس المحرقة، لكن فوق ذلك أعرف أنها “دي” من أول لمحة لساقها التي تخرج من السيارة، فلطالما كانت ساقها رائعة وكأن الرب نفسه قد صاغها كما شاء. وفي الجانب الآخر من السيارة خرج رجل قصير وبدين والشعر يطغى على أنحاء رأسه ويتدلى بطول قدم واحدة من على ذقنه وكأنه ذيل بغل غريب الشكل، فأسمع صوت “ماغي” تطلق تنهيدة مُحبَطةً (هِه)، كأنما قد رأت نهاية أفعى ملتوية أمام قدميها مباشرة على الطريق.

والآن “دي”، بثوب يصل الأرض في هذا الجو الحار، ثوبٌ مزعج يؤذي بصري، بكثير من البرتقالي والأصفر كفيلٌ بعكس ضوء الشمس. أشعر بكل وجهي يزداد حرارةً بسبب الموجات الساخنة التي تصدرها، وكذلك من قرطيْ أذنيها الذهبيين المتدليين حتى كتفيها، ومن أساورها المعلقة التي تصدر صوتا حين تنفض طيّات الثوب من جيبها. الثوب فضفاضٌ وخفيف، ويعجبني حين تمشي مقتربة. وأسمع “ماغي” تعبر عن إحباطها مجددا بذلك الصوت. وشعر أختها، المسترسل كصوف الخرفان، أسود سواد الليل على أطرافه ضفيرتان طويلتان معقودتان ببعضهما كأنها تخبئ سحليتين خلف أذنيها.

نطقت “دي” وهي آتيةٌ من تلك الطريق الزلقة يقودها ثوبها قائلةً: “وا-سو-زو-تيان-أو[2]!”. أما الفتى البدين بشعره الممتد حتى السرة جاء متبعا بابتسامة وقال: “السلام عليكم يا أمي وأختي!”، راح يحضن “ماغي” لكنها ترنحت إلى الخلف نحو كرسيي. أحسست بها ترتجف هناك، وحين رفعت رأسي رأيت عرقها يتصبب من ذقنها.

قالت لها “دي”: “لا تقِفي”. سيتطلب الأمر دفعة ما بما أنني شجاعة. يمكنك رؤيتي لثانية أو اثنتين قبل أن أفعلها، استدارت مُظهرة كعب نعلها الأبيض وعادت إلى السيارة.  وفي الخارج تلقي نظرة خاطفة ومعها كاميرة “بولارويد[3]” فتنحني لتلتقط صورة تلو الأخرى لي وأنا أمام المنزل و”ماغي” متقوقعةٌ خلفي. كما أنها لا تلتقط أية صورة دون أن تتيقن من أن البيت يتضمنها، وحين تمرّ بقرة تمضغ الطعام على زاوية الفناء، تلتقطها معي و”ماغي” والبيت. وبعدها تضع الكاميرة في مقعد السيارة الخلفي، وتأتي لتقبل جبيني.

في تلك الأثناء أخذ “السلام عليكم[4]” يحرك يد “ماغي”، كانت يدها مترهلة وربما باردة كسمكةٍ رغم العرق المتصبّب منها، ظلت تحاول نزع يدها منه، لكن يبدو أن “السلام عليكم” كان يحاول مصافحتها، لكنه أراد ذلك بلطف، أو أنه ربما لا يجيد فعل ذلك. غير أنه سرعان ما يأس من “ماغي” على أية حال.

قُلت: “حسنا دي”

قالت هي:” لا ماما، لست دي، بل “وانغيرو ليماونيكا كيمانغو!”

قُلت مستغربة:” ماذا حدث لـ “دي”؟”

قالت (وانغيرو): “إنها ميتة، لم أستطع تحمل ذلك أكثر، أن أحمل ذات اسم من اضطهدني”

قُلت:” لكنك تعلمين أيضا أنك سُمّيتي باسم خالتك (ديسي)”.  (ديسي) تُعد شقيقتي وهي من أسمت (دي) بهذا الاسم ولاحقا ما أطلقنا عليها اسم (دي الكبيرة) بعد ولادة (دي).

سألت (وانغيرو): لكنها سميت تيّمنا بمن؟”

أجبتها:” باسم جدتك كما أظن”

سألت مجددا:” وهي الأخرى سُميت باسم من؟”

أخبرتها وقد رأيت عليها آثار التعب:” باسم أمها، هذا أكثر ما يمكنني تتبعه في العائلة”. لكني في الواقع كنت أستطيع التتبع وذكر من يتلوها إلى ما بعد الحرب الأهلية.

قال “السلام عليكم”: حسنا، ها أنتِ هنا”.

أطلقت “ماغي” تنهيدتها المحبَطة مجددا.

بينما واصلتُ الحديث:” لم أكن هنالك قبل ظهور اسم (ديسي) في العائلةـ فلمَ عليّ محاولة تتبعه إلى هذا الحد؟”

بقي جالسا مبتسما ينظر إليّ باحتقار وكأنه يتفحص سيارة من الطراز الرفيع، وظل بين لحظة وأخرى هو و “وانغيرو” يرسلون بنظراتهم شزراً إليّ.

سألت:” كيف يُتهجؤ هذا الاسم؟”

قالت (وانغيرو): “ليس عليك مناداتي به إن لم تريدي”

رددتُ عليها:” لم لا؟ إن كان هذا ما تريدين أن نناديك به فسوف نفعل”

فردّت علي:” أعلم أنه يبدو محرجا في البداية”

فقلت لها: “سأعتاد عليه، انطقيه مجددا بوضوح”

ولاحقا سرعان ما تمكنتُ من الاسم، أما اسم (السلام عليكم) فقد كان أطول بمرتين وأصعب بثلاث مرات، وبعدما تعثرت فيه مرتين أو ثلاث أخبرني أن أدعوه بـ”حكيم الحلّاق” فحسب. وددت أن اسأله إن كان حلاقاً فعلا لكني لم أظنه كذلك ولذا لم اسأله.

جلست أحدثه:” لابد أنك تنتمي إلى أحدى تلك الجماعات المربية لماشية البقر على الطريق. فقد قالوا “السلام عليكم” حينما التقوا بك أيضا غير أنهم لم يصافحوك. إنهم دوما مشغولون بإطعام ماشيتهم ووضع الملح لها وإصلاح السياج ورمي القش. ولما سَمّم البِيض بعض الماشية مكث الرجال طوال الليل حاملين بنادقهم، مشيتُ ميلاً ونصف الميل حتى أرى ذلك فقط.

فقال (حكيم الحلّاق): “أتقبل بعضًا من معتقداتهم، لكني لا أميل إلى الفلاحة وتربية المواشي”. (لم يخبراني ولم أسأل إن كانت وانغيرو (دي) قد ذهبت فعلا وتزوجته).

جلسنا نتناول الطعام فأخبرنا على الحال بأنه لم يأكل الملفوف وأن لحم الخنزير نجس، أما (وانغيرو) فقد تناولت طبق التشيتلينز مع الخبز وقضت على الأخضر واليابس، وتحدثت طويلا أمام طبق البطاطا الحلوة. فكل شيء أبهرها حتى حقيقة أننا ما زلنا نستعمل المقاعد الخشبية التي صنعها والدها للطاولة حين لم نتحمل كلفة شراء الكراسي.

بكت وقالت لي قبل أن تدير وجهها لـحكيم حلاق:” أوه ماما!، لم أكن أدرك مدى جمال هذه المقاعد، أستطيع الإحساس بعلامات الجلوس عليها” وظلت تتلمس المقعد حين قالت ذلك. ثم رمقت بعينها قبل أن تحط يدها على طبق الزبدة الخاص (بالجدة دي) وصاحت:” ها هو!، كنت أعلم بأن هنالك شيئا أود لو تعطيني إياه”. قفزت (وانغيرو) من على طاولة الطعام واتجهت نحو الزاوية لتنظر حيث ممخضة الزبدة، فقد أصبح الحليب متماسكا الآن.

قالت:” ما أحتاجه هو غطاء الممخضة، ألم يصنعها العم “بَدي” من الشجرة التي كانت لكم؟”

قُلت لها: “بلى”

قالت فرِحةً:” و..آه! أريد عصا الممخضة أيضا”

قال الحلاق:” وهل صنع العم “بَدي” العصا كذلك؟”

رفعت دي (وانغيرو) رأسها ونظرت إلي.

نطقت (ماغي) بصوت ضعيفٍ لا يكاد يُسمع:” إن من نحت العصا هو أول زوج للعمة دي، كان اسمه هنري، لكن لاحقا أُطلِق عليه اسم “ستاش”.

قالت “وانغيرو” ساخرة من أختها:” دماغ ماغي كدماغ الفيل” ثم أتبعت بقولها: “يمكنني استعمال غطاء الممخضة كسطح لطاولة الجلوس، كما سأفكر بشيء جميل للعصا”.

عندما أنهت لف العصا، علِق المقبض فأخذتُه بين يدي لبرهة، لم تكن هنالك حاجة حتى لرؤية مكان تحريك العصا لأسفل وأعلى لجعل الزبدة تُشكّل شيئا أشبه بالحوض في الخشب، في الواقع كانت هنالك علامات حفر صغيرة؛ بالأحرى كان يمكن رؤية علامات أصابع إبهامٍ غاصت فيها، لقد كان الخشب ذا لون أصفر فاتح جميل، أُخذ من شجرة زرعت في الفناء حيث عاشت (دي الكبيرة) رفقة (ستاش) سابقا.

بعد العشاء، راحت دي(وانغيرو) تفتش وتعبث بالصندوق المجاور لسريري، وعادت (ماغي) لتنظيف الأواني في المطبخ، خرجت (وانغيرو) بلحافين كانت (الجدة دي) قد جمعتهما، وعلقناهما أنا ودي الكبيرة في إطار الأغطية في الرواق الأمامي وأصلحناهما. إحداهما كان على شكل “لون ستات” والآخر “امش حول الجبل” وفي كليهما كان هنالك رقع من ملابس ارتدتها الجدة دي قبل خمسين عاما، ورقع من قمصان الجد “جاتيل بيزلي” وقطعة زرقاء شاحبة صغيرة جدا كصندوق أعواد ثقاب، مأخوذة من زي جدي الأكبر “إزرا” الذي ارتداه إبان الحرب الأهلية.

قالت (وانغيرو) بكل تودد ولطف:” أيمكنني الحصول على هذين اللحافين القديمين؟”

سمعت صوت شيء يسقط في المطبخ، وبعدها بدقيقة أُغلق باب المطبخ بعنف.

اقترحتُ على (وانغيرو): “لم لا تأخذين واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، فالقديمة صنعتُها رفقة دي الكبيرة من ملابس جمعتها جدتك قبل وفاتها”

اعترضت (وانغيرو):” كلا، أريد هاتين، فهما مُحاكتان من عند أطرافهما بآلة الحياكة”

أخبرتها:” ذلك سيطيل من عمر الأغطية”

فقالت:” ليس هذا ما أصبو إليه، إن هذه الأغطية جمعت من ملابس اعتادت جدتي ارتداءها، وقد فعلت كل هذا يدويا، تخيـــلي!!”. تشبثت بالأغطية باطمئنان بين ذراعيها وراحت تتلمسها بعناية.

أجبُتها مُحاولةً لمس الأغطية:” إن بعض هذه الرُقع كالبنفسجية مثلا أتت من ملابس عتيقة أعطتها إياها أمها”، تراجعت دي (وانغيرو) إلى الخلف حتى لا أصل إلى اللحافين، فقد أصبحت بالفعل تنتمي إليها.

صاحت مرة أخرى وهي متمسكة بها بشدة في حِجرها:” تخيلي!”

صارحتُها:” في الحقيقةـ، لقد قطعتُ وعدا بأن أعطي هذين اللحافين لـ(ماغي) حين تتزوج جون توماس”

شهقت (وانغيرو) وكأن نحلة لسعتها وقالت:” لن تقدّر ماغي هذه الأغطية وستكون متخلفةً بما يكفي حتى تضعها للاستعمال اليومي”

رددتُ عليها:” وهذا ما أظنه، أتمنى أن تفعل كذلك! يعلم الرب المدة التي أبقيتها دون أن يستعملها أحد”. لم أُرد استحضار كيف أنني قد عرضت على دي (وانغيرو) أحد اللحافين حين ذهبت للكلية وأخبرتني حينها بأنها غير عصرية وعتيقة.

غير أنها الآن تقول مشتعلةً غضبا بأنها “لا تقدر بثمن” وأنها “ستغدو رثة ومهترئة خلال خمس سنين إن استخدمتها ماغي”

قُلت لها:” بإمكانها دوما صنع المزيد، (ماغي) تجيد حياكة الأغطية”

حدّقت دي (وانغيرو) بي بنظرة كره وقالت: “لن تفهمي، فالمغزى كله في هذين اللحافين، هذان فقط!”

تساءلتُ وقُلت:” حسنا، ماذا ستفعلين بها؟”

أجابت:” سأعلقها”. وكأنما ليس من شيء آخر لتفعله بها.

كانت (ماغي) بحلول تلك اللحظة واقفة أمام الباب، كان بإمكاني سماع صوت حركة قدميها. نطَقَت كشخص لم يعتد أن يفوز أو يحظى بأي شيء له:” بإمكانها الحصول عليها ماما، سأتذكر (جدتي دي) دون الحاجة إلى اللحافين”

رمقتُها بنظرة حادة وقد تصبغت شَفَتُها السفلى بسعوط عنب الأرض وجعلَ شكلها كالبلهاء. كانت جدتها دي ودي الكبيرة هما من علمها حياكة الأغطية.

وقفت مكانها مخفية يديها المتشوهتين بالندب خلف طيّات تنورتها. ورمقت أختها بنظرة يشوبها شيءٌ من الخوف غير أنها لم تكن غاضبة منها. ذاك كان نصيب (ماغي) وذاك حيث علِمَت خطة الرب.

حين نظرتُ إليها على تلك الحال، أحسستُ بشيء في رأسي يتغلغل حتى وصل إلى أخمص قدميْ، مثلما أكون في الكنيسة وتلامسني روح الرب فتغمرني البهجة وأصرخ.

فعلت شيئا لم أتجرأ على فعله من قبل: احتضنتُ (ماغي) وأخذتها إلى الغرفة وانتزعت الأغطية من بين يديّ السيدة (وانغيرو) ووضعتها في حضن (ماغي). وتسمرت الأخيرة بفم مفتوح هناك على سريري.

أخبرت (دي) أن تأخذ واحدا أو أثنين من الأغطية الأخرى، لكنها استدارت دونما أية كلمة وهرعت إلى حكيم الحلاق، وقالت أثناء خروجي مع ماغي إلى السيارة:” أنتِ لا تفهمين”

أردتُ أن أعرف:” ما الذي لا أفهمه؟”

قالت لي:” تُراثُك” والتفَتَتْ إلى (ماغي) وقبّلتها وقالت:” عليك أن تصنعي من ذاتك شيئا، فهذا يوم جديد فعلا لنا، لكنك لن تتعلمي بهذه الطريقة التي ما زالت تعيش عليها ماما”.

ووضعت (وانغيرو) نظارات شمسية أخفت كل ما في وجهها عدا مقدمة أنفها وذقنها.

أما (ماغي) فقد ابتسمت، ربما للنظارات، لكنها كانت ابتسامة صادقة بلا رهبة، وبعدما تلاشى غبار السيارة طلبتُ من ماغي احضار القليل من السعوط لأستنشقه، وثم بقينا نحن الاثنتين نقضي وقتا ممتعا إلى أن حان وقت العودة إلى المنزل والذهاب للفراش.

[1] مقدم برامج تلفزيونية أمريكي شهير خلال الفترة بين الستينات وحتى أوائل تسعينات القرن الماضي

[2] أسلوب إلقاء تحية بإحدى اللغات الافريقية

[3] نوع من أنواع الكاميرات

[4] أسلوب تهكم على الفتى الذي قال السلام عليكم

نشرت تحت تصنيف مقال

50 خرافة يصدقها الناس

جاري هاريسون50words

ترجمة : محمد صدقه 

 التــفــكــيــر الــســحــري

 

  

الفصل الأول

 

” أنا أؤمن بالظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية.”

 

 الشيء الوحيد الذي سيتقلص عند التحقق منه هو الخطأ، ليس الحقيقة

توماس باين –

 

كل يوم نواجه قوى خارقة، ظواهر غير طبيعية أو معتقدات استثنائية. تلك الادعاءات تجد طريقها إلينا أينما ذهبنا. ستجدها في الصيدلية، في الأدوية المكونة من مواد طبيعية الموجودة على الرفوف بجانب العلاجات القائمة على أساس علمي. الصحف تقدم توقعات فلكية لمستقبلك، واعظ يعد بأن إذا أعطيته المال سيكافئك الله بمائة ضعف. الإعلانات التلفزيونية تقترح بأنه يمكننا الحصول على صحة أفضل عن طريق استخدم حبة دواء أو  سنكون رياضيين بشكل أفضل إذا وضعنا سوار مخصص على معصمنا. صديق يحلف بأنه رأى كان سفينة فضائية في السماء بالأمس. أحد أعضاء العائلة يحاول اقناعك بقرب نهاية العالم. هل تلك الضجة التي تسمعها قبل أن تنام، صوت شبح؟

عندما تظهر أفكار غريبة يجب علينا أن توقف للحظة ونفكر قبل أن نتقبلها كحقيقة او واقع. أمور سيئة ممكن أن تحدث عندما نتقبل معتقدات لأسباب لا تتعدى أن تكون مجرد عبارة عن  وثوق في السلطة او عادات أو لمجرد أنها تبدو صحيحة. مات عدد لا يحصى من الناس على مر التاريخ لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. الكثير من الناس الذين أيدوا أو شاركوا في استغلال وإيذاء وحتى قتل البشر كانوا ذو نية حسنة ويريدون الخير لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. أينما وحيثما قل وجود الشك، مشاكل خطيرة ستحدث كنتيجة لذلك. الأطباء الدجالين والفنانين المحتالين يلحقون الضرر بالناس الذين لا يعرفون الفرق بين العلم والعلم الزائف. كم عدد المرات على مر التاريخ التي وقفت فيها المعتقدات الخارقة للطبيعة في طريق التقدم العلمي والاجتماعي؟ أين سنكون اليوم لو أننا رفضنا خرافة ما قبل خمسة قرون؟ ندرة الشك في عالم اليوم لا يمثل فقط عبء للتقدم بل يشكل تهديد قد يعيدنا للعصور المظلمة. مهلاً، هل فعلا لم نعد نعيش في زمن العصور المظلمة؟ حتى هذه اللحظة، في القرن الواحد والعشرين، يتم تعذيب واعدام الساحرات في بعض المجتمعات لأن بعض الناس تخاف من قواهم السحرية. العديد من الناس مازالوا ينظرون إلى النجوم والكواكب للتبصر في شخصياتهم والتوقعات العاطفية، على الرغم من أن العلماء الذين يعرفون أكثر من أي شخص آخر عن النجوم والكواكب يقولون إن التنجيم فكرة منافية للعقل. ملايين الناس يؤمنون بأنه يمكن للفيزياء أن تقرأ الأفكار وأن الحكومة تخفي أجساد كائنات فضائية في منطقة 51 – قاعدة عسكرية في ولاية نيفادا-. نحن كائنات نعاق عن طريق المعتقدات الغير عقلانية. إن كان نأمل التخلص من تلك العادة المكلفة والمهدرة للوقت التي تجعلنا نصدق أشياء غير صحيحة، فيجب أن نتبنى الطريقة العلمية والشك. التفكير النقدي مهارة يجب أن تقدر وتعزز بشكل واسع، فالتقدم يتعمد عليه.

الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية – معتقدات معرفة بشكل غير دقيق كأشياء موجودة أو تحدث خارج العالم الطبيعي- ليست مرتبطة بالضرورة بالذكاء أو مستوى التعليم. على سبيل المثال، من الممكن وجود روابط بين مستوى التعليم ومدى تقبل ادعاء لا أساس له مثل قراءة الطالع والتنجيم. لكن أحذر من التفكير كثيراً في هذا الموضوع لأننا جميعنا معرضين لتصديق مثل تلك الأمور. من المعروف جيداً أن الناس المتعلمين والأذكياء يمكن أن يصدقوا ادعاءات غريبة والتي تفتقر لدليل يثبت صحتها. العالم الشهير جَين جودال، على سبيل المثال، من المؤمنين بوجود الكائن صاحب القدم الكبيرة. لقد عملت مرة مع صحفي ذو تعليم جامعي مقتنع بوجود فتاة من روسيا تمتلك رؤية ذات أشعة سينية والتي تمكنها من رؤية أجسام الناس من الداخل وتشخيص المشاكل الطبية الداخلية. أحد زميلاتي علقت في ثقل صنارة تلك الادعاءات الغريبة الغير مؤكدة. هي ليست غبية وليست مفتقرة للشك ومهارات التفكير النقدي، وليست معتزلة للناس، لكن عندما يتعلق الأمر بمعتقدات غريبة، فقبول تلك الادعاءات يبدو الأمر طبيعياً أو انسانياً أكثر من رفضها تماماً.

وفقاً لاستطلاعات مؤسسة غالوب، ثلاثة من بين كل أربعة أساتذة جامعيين في أمريكا يصدقون واحده على الأقل من تلك المعتقدات الغريبة مثل وجود الأشباح والتنجيم وتناسخ الأرواح بعد الموت. يعتبر هذا ذو أهمية: معظم الناس في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم هم أشخاص مؤمنين بوجود قوى خارقة وظواهر غير طبيعية. يوجد في أمريكا معتقدات تؤمن الناس بها وفي مقدمتها؛ الإدراك الحسي الفائق (الحاسة السادسة) بنسبة 41% ويتبعه بنسبة قريبة منه هو الإيمان بوجود البيوت المسكونة بنسبة 37% ووجود الأشباح بنسبة 32%. الاستبصار أو القدرة على قراءة الأفكار ومعرفة المستقبل أمر حقيقي موجود بالفعل وفقاً لـ 26% من الأمريكان، بالإضافة إلى أن التنجيم أقنع ما يقارب الـ 25% من الأمريكان، و26% منهم يؤمن بتناسخ الأرواح. أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع بنسبة 57% من البالغين الأمريكان يؤمنون على الأقل بوجود اثنان من المعتقدات المتعلقة بالظواهر الغير طبيعية، و22% منهم يقولوا إنهم يؤمنوا بخمسة معتقدات وأكثر.

في بريطانيا العظمى، يؤمن 40% من البريطانيون بأن البيوت يمكن أن تسكن بالأرواح الشريرة و24% منهم يؤمنون بأنه يمكن التواصل مع الأموات. لم أجري أي دراسة استقصاء علمية، لكن رحلات سفري خارج الولايات المتحدة لم تترك لي مجال للشك بأن الإيمان بادعاءات غير مثبتة علمياً ومن غير المحتمل أن تكون صحيحة يحظى بشعبية كبيرة. فعلياً أي مكان قمت بزيارته؛ أفريقيا، الشرق الأوسط، أسيا، جزر المحيط الهادئ، الكاريبي، أجد نفس النتيجة وهي أن الأغلبية العظمى من الناس تؤمن بمجموعة من الظواهر الغير طبيعية وادعاءات زائفة. دون إدراج المعتقدات الدينية ضمن المجموعة، أتوقع أن أكثر من 90% من الناس حول العالم يؤمنون على الأقل بظاهرة واحدة غير طبيعية. نحن مخلوقات تحب أن تصدق كل شيء.

هل يهمك؟

التصرف الأسهل اتجاه هذا الموضوع هو محاولة تجاهل جميع تلك المعتقدات الغير عقلانية. على أي حال، أليست أمور مثل التنجيم والشفاء بالدعاء وقوة الايمان  وقراءة الطالع تجعلهم سعداء وتعطيهم القليل من الطمأنينة في عالم يملأه الخوف والحيرة؟ من أنا لأحاول سرقة مصدر راحة ومتعة أي شخص؟ ليس من شأني ماذا قرر الناس أن يؤمنوا، صحيح؟ ما المشكلة؟

حسب وجهة نظري، لا يوجد خيار آخر سوى أن تعارض تلك المعتقدات الغير عقلانية، إذا كانت مهتم ومتعاطف مع بني البشر. أن تكون معارض لتلك المعتقدات لا يتطلب أن تكون شخص لئيم او بغيض تجاه ذلك الأمر، لكن السكوت ليس حل أيضاً. الإيمان بالظواهر الغير طبيعية والعلم الزائف يعتبر أزمة مزمنة ترهق كاهلنا قرناً بعد قرن. أولئك الذين يدركون الضرر الذي تسببه تلك المعتقدات يومياً حول العالم والتي ستكون يوماً ما وحشاً كاسراً لا يمكن هزيمته إذا اختاروا عدم مواجهته. انها مسألة تعاطف مع بني البشر والايمان بأن العالم يمكن أن يكون مكان أفضل لو لم يكن أعمى ومتخبط بالخرافات والتفكير الغير علمي. أنا لا أكون شخص عديم المشاعر عندما أشرح لشخص ما لماذا يعتبر الطب البديل خطير جداً أو كيف يخدع المعالجون بقوة  الإيمان الناس. ألا تفعل شي حيال ذلك الموضوع يمكن أن يكون امر دنيء وقاس جداً. السؤال الأمثل ليس لماذا المتشككون يحتجون، لكن السؤال كيف يمكن لأي شخص ان يعلم حول موضوع ” الأطفال السحرة” كونهم يقتلون في أفريقيا ولا يشعر بأي التزام اتجاه تعزيز وجود الشك في حياتنا. الشخص الذي يسمع بقصة الطفلة المريضة التي تعاني وتحتضر بسبب والديها العنيدين اللذان عالجاها بالماء المعالج معالجة مثلية – الهوميوباثي أو الطب التجانسي البديل – بدلاً من الأدوية التي على أساس علمي، ولا يشعر باشمئزاز تجاه العلم الزائف والدجالين الذين يدعون انهم أطباء؟ جميعنا نتشارك هذا العالم معاً، فعندما يعتقد القائد المنتخب أن عمر الكرة الأرضية هو ستة الاف سنة أو تؤمن جارتك أن مواقع بعض النجوم في السماء تحدد طبيعة اليوم الذي ستحظى به وكيف سيكون ذلك اليوم، عندها ستدرك أن هذه هي المرحلة التي ستؤدي إلى العديد من المشاكل. طريقة التفكير المحدودة تعتبر طريقة تفكير خطيرة جداً.

الشك هو الدرع الذي يحميك 

فكيف يمكن للشخص أن يتجاوز كل تلك الادعاءات الغريبة الموجودة من حولنا ليصل إلى المنطقة الآمنة بسلام؟ انها ليست بتلك الصعوبة التي تتخيلها. سيكتشف القراء من خلال هذا الكتاب أنه قد يتطلب أن يسألوا سؤال واحد أو اثنين بطريقة محددة للتعرف على نقاط الضعف المدمرة في الادعاءات التي لا تستحق إيماننا. الشك الإيجابي هو شك متوافق مع الفضول لكن بحذر وعقل متفتح، فهو يتطلب التحلي باليقظة والتحقق من صحة أي شي وحقيقة ما يقوله الأشخاص.

من المهم أن تتذكر دائماً أن عبء الإثبات وتقديم الدليل يقع على عاتق أولئك الذين يستمرون في نشر تلك الادعاءات. أود أن يكون صاحب القدم الكبيرة ووحش بحيرة لوخ نس أمر حقيقي، لكني متيقن بأنه الحيوان الذي يشبه القرد ويبلغ طول عشرة أقدام ويمشي على رجلين في إقليم الشمال الغربي الهادئ أو البليزوصور المنقرض الذي كان متواجد في اسكوتلندا – نوع من الزواحف الضارية البحرية – لا وجود لهما. السبب الذي يدفعني لاعتقاد ذلك هو أنه بعد كل تلك السنوات لم يقدم أي شخص دليل مقنع مثل: العظام أو عينات من  الحمض النووي (DNA) أو هيكل. إذا أرادا الأشخاص المؤمنين بوجود صاحب القدم الكبيرة أن أصدقهم، فعليهم أن يروني الدليل. ليس من واجبي دحض فكرة وجود صاحب القدم الكبيرة. كيف يمكنني فعل ذلك، بكل الأحوال، فأنا لا أستطيع البحث في كل كهوف وكل أشجار أمريكا الشمالية.

أحذر من المعتقدات الخفية، فهي أنصاف الحقائق التي تتضخم لتشمل عناصر ومبادئ غير طبيعية بمجرد السماح لها بدخول عقلك. على سبيل المثال، بدون أدنى شك يوجد العديد من الحالات الساحلية القديمة أو المجتمعات المحلية الجزرية دمرت بسبب الزلازل وتسونامي خلال الآلاف السنوات الماضية. لكن هذا يختلف تماماً عن الادعاء المقدم من المؤمنين بوجود مدينة أطلانتيس الأسطورية والتي يقال بأنها قارة أو مدينة حكمت العالم يوماً ما وكانت متقدمة تقدماً تكنولوجياً يتجاوز تقدمنا في هذا العصر. بعض الأشخاص المؤمنين بوجود الأطباق الفضائية الطائرة يزعمون بوجود حياة ذكية في مكان ما في هذا الكون، قد يكون سبب مقنع، لكن بعد ذلك الزعم، انتقلوا إلى ادعاء آخر بطريقة سلسة أن الكائنات الفضائية تزور كوكب الأرض بشكل منتظم، فهذا الادعاء لا يمكن التأكد منه ولا اثباته ومستبعد. يجب أن نحذر من الادعاءات التي تختبئ تحت عباءة العلم والتي هي في الحقيقة علم زائف. ليس من الضروري أن كل ما يقوله شخص ما – قد يكون المرشد الروحي ديباك شوبرا، على سبيل المثال – ويذكر “ميكانيكا الكم ” بشكل متكرر أو جمل علمية أنيقة ومعقدة، يعني أن ما يقومون بترويجه صحيح أو علمي.

 

كلما كبر حجم الادعاء، كلما صعب اثبات ذلك الادعاء 

المتشكك الذكي يضبط حاجته الملحة لدليل وفقاً لحجم الادعاء الذي تم تقدمه. طبيعة الادعاء الذي تم تقديمه – ما مدى غرابة أو فظاعة ذلك الادعاء؟ – يحدد درجة الشك المطلوبة. اذا ادعوا جيراني بأنهم رأوا بالأمس طير في فنائهم  الخلفي، فعلى الأرجح وبافتراض حسن النية سأصدق ما يقولون. ليس بالأمر المهم. على كل حال، أذا ادعوا انه رأوا شيء غير مألوف تماماً، لنقل أنهم رأوا تنين يبلغ وزنه ثلاثين طناً يرتدي سروال من الجلد ويضع مكياج، عندها أحتاج أن أرى فديو بجودة عالية وبصمات وعينات الحمض النووي قبل أن أفكر في تصديق ذلك. مرة أخرى، نوعية وكمية الأدلة يجب أن تزيد عند وجود ادعاء. بالرغم من أن هذه المقولة لم تصدر عن رائد الفضاء الراحل كارل ساغان إلا أنه روج لهذا المفهوم المهم ” الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية”. تذكر تلك الكلمات الخمس جيداً عندما تفكر في الأشباح، الآلهة، الوسطاء الروحيين، التنجيم، التصميم الذكي- الذي يدعي بأن هناك ميزات في الكون والكائنات الحية لا يمكن تفسيرها الا بالعلم وليس بالدين-، الأطباق الطائرة ومعتقدات أخرى.

كونك شخص متشكك لا يعني أنك شخص ضيف الآفق أو أنك فير مهتم في الأشياء الغريبة الغير مثبته علمياً. تاريخ العلم مليء بأمثلة لأفكار سخيفة والتي تبين أنها حقيقة. الجراثيم كانت في يوما ما هي سبب اختراع الميكروسكوب وساعدت في تكوين علم الأحياء المجهري. زحف القارات كان من الصعب تقبله كحقيقة حتى جاءت نظرية الصفائح التكتونية تشرح كيف حدث ذلك. فكرة الأمواج العاتية وهي تحطم السفن تحت سماء صافية على مسافات بعيدة في عرض البحر يبدو أمراً مستحيلاً، لكننا نعرف أن تلك الأمواج وما تفعله بالسفن أمر حقيقي وموجودة بالفعل. ماذا عن النيازك؟ هل هناك صخور تسقط من السماء؟ لابد أنك تمزح! لكن فعلا تبين أن السماء تمطر صخوراً في بعض الأحيان. المغزى من ذلك أن المتشككون الذي يفهمون كيف يعمل العلم، لا يقبلون ادعاءات سخيفة بدون وجود دليل، ولا يرفضون كل ادعاء سخيف بشكل مطلق ونهائي.

عندما تفكر في معتقدات غريبة، من المهم أن تكون على علم بالطريقة التي نستخدمها لفهم وتقييم العالم المحيط بنا. نحن نعرف أن البشر مخلوقات تبحث عن الأنماط في الأشياء الموجودة من حولنا – كيف تحدث تلك الأشياء وطريقة تنظيمها أو حركتها ولماذا وجدت أو حدثت – ونفعل ذلك بدون بذل أي جهد، فنحن نحاول بشكل طبيعي ” أن نوصل النقاط مع بعضها البعض ” تقريباً في كل شيء نراه أو نسمعه. عندما تحاول الإمساك بطائر الكوموفلاج فوق الشجرة – طائر يستخدم التمويه لتخفي – لتناوله على العشاء فهذه تعتبر قدرة عظيمة، أن تسمع اتصال صديقك في وسط مشتتات متناثرة أو محاولة تحديد موقع عدوك المختبئ في الغابة الذي يتمنى أن تقع في الكمين الذي نصبه لك. لكن البحث عن الأنماط يقودنا أيضاً إلى أشياء غير موجودة، والذي قد يضيع وقتنا ويوقعنا في المشاكل. بالإضافة إلى ذلك، هوسنا بالأنماط لا يتوقف عند الرؤية والسمع. نحن نميل إلى ربط الأشياء بعضها ببعض بطريقة تلقائية وإيجاد الأنماط عندما نفكر، وهذا هو السبب الوحيد الذي يجعل من نظريات المؤامرة من غير الممكن أن تتأصل وتزدهر في عقول العديد من الناس.

الوسيط الروحي السابق والمتشكك حالياً، طارق موسى، اتفق على أن برنامج تمييز الأنماط الذي نمتلكه داخل أدمغتنا هو السبب الرئيسي للمعتقدات الغير عقلانية وتلك المعتقدات أمر شائع. لاحظ طارق موسى لأول مرة وبشكل مباشر ذلك الأمر عندما قام عميله بعمل روابط غريبة لكي يدعم فكرته السابقة بأنه شخص لديه قدرة حقيقية لقراءة العقول.

 

عقولهم قامت بالجزء الأكبر من العمل والتي جعلت من عمله أمر بسيط.

نحن رائعون وبشكل فطري في ملاحظة الأنماط، لكن هذا يعني أننا نرى الأنماط حيثما وجدت، في الحقيقة، لا نرى أي من تلك الأنماط. قال موسى: ” يعتبر هذا بالنسبة لي هو تفسير ارتباط الناس  بالظواهر الخارقة والغير طبيعية، بدءً من الأطباق الطائرة إلى الأشباح، ومن نظريات المؤامرة وصولاً إلى التنجيم.

الانحياز التأكيدي

واحد من الأسباب الرئيسية التي تجعل التخلص من الايمان بمعتقد خارق للطبيعة أمر صعب جداً  بمجرد تصديق ذلك المعتقد هو اننا جميعاً لدينا ميل طبيعي للخداع. نحن لا نفكر عادة بمعتقداتنا بموضوعية وصدق. بدلاً من ذلك، نحن نميل إلى تذكر والتركيز على أي شيء يثبت صحة المعتقد، بينما نتخطى ونتجاهل وننسى أي شيء يتعارض أو يلقي ظلال الشك على ذلك المعتقد، هذا ما يسمى بالانحياز التأكيدي. الانحياز التأكيدي يمكن ان يقود أفضلنا إلى الضلال. لذلك كن حذراً.

“الانحياز التأكيدي يعتبر جزءً البرمجيات الموجودة داخل رأسك الأكثر خداعاً واقناعاً”، صرح البروفيسور هانك دايفيس المتخصص في علم النفس، كاتب لكتاب منطق رجال الكهف: أن مثابرة التفكير البدائي في العالم الحديث. ” يعتبر جزء من طبيعتك كإنسان يملك عينين وأنف ورجلين. لتجنب تقييم العالم من خلال التحيز التأكيدي فيجب عليك أن تأخذ خطوات واعية ضده. رغم ذلك لا يوجد ضمانات بأنك ستنجح في فعل ذلك. إذا سمحت لبرنامجك العقلي أن يعمل بناء على اعدادات افتراضية من العصر الجليدي، فسوف يجعلك تميل إلى استخدام الانحياز. تذكر ” لقد تم تحذيرك”.

يجب ان ترى لتؤمن بوجود شيء ما، وستؤمن بوجوده عندما تراه

ليس الخبر كالمعاينة – مقترح عنوان

 

لا بد من وجود القليل من الشك فيما يخص الرؤى المزعومة للأشباح والاطباق الطائرة والملائكة والوحوش من قبل شهود عيان، فما هي الا نتيجة لطريقة عمل رؤيتنا. على نقيض ما كنت تفترضه، فنحن في الواقع لا نرى إلى ما ننظر إليه. فالذي يحدث عندما تنظر إلى شيء ما هو ان عقلك يخبرك ماذا ترى، وعقلك لا يخبرك ابداً بشكل دقيق بنسبة 100%. عقلك يقوم بفعل ذلك ليكون ذو كفاءة وهو فعلاً يساعدنا لنعمل بطريقة فعالة في عالم مليء بالتفاصيل وخطوات التي يجب أن تفهم. لكن في بعض الأوقات يمكن ان يسبب لنا أن نرى أشياء لم تكن موجودة من الأصل أو على الأقل ليست موجودة في شكلها التي قدمت بها لنا. وممكن أيضاً أن تجعلنا لا ننتبه لأشياء موجودة بالفعل. بعض الأشياء التي تغفل عنها رؤيتنا قد تكون أجزاء من معلومات مهمة كان من الممكن ان تكشف لنا بأن الأطباق الطائرة او الأشباح التي تحوم في الخارج هي مجرد طائر أو مجموعة من الضفادع. على سبيل المثال.

أنسى جميع ما تعتقد أنك تعرفه عن الذاكرة

جميع ما يعرف حالياً عن ذاكرة الانسان يجب أن يرسل موجات متنافرة من الشك إلى الأعمدة الفقرية لكل واحد من أولئك المتحمسين المهتمين للظواهر الغير طبيعية. العلماء اكتشفوا أن الذاكرة لا تعمل مثل كاميرا الفيديو، العديد من الناس يعتقد أن أعيننا مثل عدسات الكاميرا وأن العقل هو القرص الصلب الذي يسجل جميع الصور التي تدخل إليه بشكل طوعي. لا تعمل الذاكرة بهذا الشكل. لا وجود لما يسمى ب أخذ التقاط صورة لكامل المشهد ولا وجود لإعادة المشهد أو الرجوع به إلى الوراء. الحقيقية هي أن ذكرياتنا يتم بنائها بواسطة عقولنا بعض الأشياء تترك خارجاً وبعص الأشياء لم تحصل من الأصل يتم حفظها في عقولنا وفي بعض الأوقات ترتيب الأحداث يتم عكسه. يبدو الأمر غريباً، عقلك ينتج ذكرى التي يعتقد أنك تحتاج إليها—ويتطلب حينها أن يكون دقيقاً بنسبة 100%.

يعني هذا، بالطبع، أن جميع القصص القائمة بذاتها المتعلقة بمشاهدات ومواجهات جميع تلك القصص من الكائنات الفضائية إلى الملائكة لا يمكن اعتبارها دليل يثبت وجود أي شيء، لأننا نعرف بدون شك أن أي شخص صادق عاقل واعي يمكنه ببساطة تذكر أي حدث بشكل غير صحيح بدون وجود خطأ من جانبه. ذاكرة البشر لا يمكن الاعتماد عليها، مما يعني أن هنالك شيئاً أكثر من كونه مجرد قصة حول التجربة الشخصية يتم استدعائه في حالة وجود ادعاءات غريبة. وقد أظهر الباحثون وبشكل متكرر أننا أكثر عرضه للاقتراحات والمعتقدات السابقة عند تكوين تصورنا للواقع وذكرياتنا لما شهدناه. مايكل شيرمير، مؤسس وناشر مجلة المشككون أمضى أكثر من ثلاثين سنة باحثاً في المعتقدات الغريبة ومتحدثاً للجميع من المدعين أنهم مختطفي الكائنات الفضائية إلى المكذبين لمحرقة الهولوكوست وصولا إلى الوسطاء الروحيين. يعتقد هو أن جزء كبير من المعتقد الغير العقلاني يكون بسبب ” الواقعية القائمة على المعتقد”، هو أننا نصدق أولاً ثم بعد ذلك نأتي بأسباب لتجعلنا نصدق ما قمنا بتصديقه.

نحن نكون معتقداتنا من أجل مجموعة ذاتية متنوعة شخصية وعاطفية وأسباب نفسية فيما يتعلق الظروف التي تنشأ عن طريق العائلة والأصدقاء والزملاء والثقافة، بالإضافة إلى المجتمع ككل. بعد أن نكون معتقداتنا بعدها نقوم بالدفاع عنها وتبريرها وجعلها عقلانية لمجوعة أسباب فكرية. الحجج المقنعة والتفسيرات العقلانية، فالمعتقدات تأتي أولاً وبعد ذلك تأتي التفسيرات لتلك المعتقدات. أسمي هذه العملية ” الواقعية القائمة على المعتقد”، فتصوراتنا للواقع معتمدة على المعتقدات التي نمتلك بشأن ذلك الواقع. الواقع موجود بمعزل عن العقل الإنساني، لكن فهمنا للواقع يعتمد بناء المعتقدات التي نمتلكها في وقت من الأوقات.

سواء أعجبك ذلك أو لم يعجبك، فالحقيقة هي أننا لا يمكن أن نكون متأكدين من أي شيء نراه أو نسمعه أو نفكر به أو نشعر به أو نتذكره. وهذا له تبعات على المعتقدات المشهورة التي تثير اعجاب وتبهج الناس من جميع أنحاء العالم. الكثير من الناس يجب عليهم أن يعرفوا أن عقولنا رائعة كم هي بحالتها الطبيعية التي عليها، فهي ليست جيدة بما فيه الكفاية للتفريق بين الواقع والخيال والوهم. للأسف. نحن نملك نظام يقوم بعمل ذلك بشكل رائع.

العلم يساعدنا في إيجاد طريقنا في الحياة

تقدير واحترام العلم ووجود الشك البناء أمران متلازمان. من المؤسف أن العديد من الناس لا يقدرون روعة العلم وأهميته بالنسبة لنا. العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق والاكتشافات أو ملاحقة هامشية للمفكرين. العلم هو أساس عالمنا الحديث. حضارتنا لم تستطع النجاة ليوم واحد بدون نواتج الطريقة العلمية. بالرغم من ذلك، يمكن استخدام العلم من قبل أي شخص لأغراض متعددة، لذلك لا يجب على أي أحد أن يتسلل إلى عبادة ساذجة أو الإذعان لجميع العلماء. نعم، من الممكن أن يخلق العلم علاجات ولقاحات للأمراض، يطعم الملاين من خلال الزراعة بطريقة علمية، ويكشف الطريقة التي يعمل بها الكون، لكنه أيضاً يعتبر مصدر الأسلحة مع احتمالية لتدمير الإنسانية. العلم قد يكون ضروري ورائع، لكنه سيكون جيد فقط عندما يستخدم الشخص منهجياته.

العلم، أكثر من أي شيء آخر، هو عبارة عن طريقة لفهم واكتشاف الأشياء في عالمنا. نستطيع بشكل أفضل أيضاً من خلال العلم تحديد ما إذا كان شيء ما حقيقة أولا. إذا كان هنالك شيء ما لا يمكن اثباته علمياً، قد يظل صحيح أو حقيقي، لكن قد يكون هذا هو السبب الوجيه لتمتلك شكوك قوية اتجاهه حتى يتم اثباته علمياً. نحن نعلم أن العلم ينفع ويعمل بطريقة ناجحة لأن لديه سجل من  النجاحات أفضل بكثير مقارنة بأي شيء آخر. المؤمنون الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية يعتمدون على العلم والتكنولوجيا، بينما يمكنهم تجربة حلول أكثر بما يتفق مع معتقداتهم. الناس الذين في حاجه للتواصل مع شخص آخر متواجد في مكان بعيد، لا يستخدمون الحاسة السادسة، إنما يستخدمون الهاتف للتواصل مع ذلك الشخص. الناس الذين يريدون زيارة مكان بعيد جداً لا يستخدمون الإسقاط النجمي، فهم يركبون الطائرة للسفر لذلك المكان. العديد من المؤمنين بالطب البديل مازالوا يعودون للعلم الطبي عندما يصابون  بمرض عضال أو إصابة ما. لماذا معظم الناس المؤمنين بالحياة الأخرى الطوباوية يخافون من الموت ويتجنبون ذلك بأي ثمن؟

نقطة أخيرة يجب ان تتذكرها عندما تفكر في الظواهر الغير طبيعية والخارقة والمعتقدات الزائفة، أنه عندما تتخلى عن تلك المعتقدات فلا تعتبر تلك تضحية. التفكير بتشكك لا يمكن  فقط ان يكون أكثر آمنا وأكثر جدوى اقتصادياً مدى الحياة، ولا يتوجب عليه أن يكون أقل مرحاً أيضا. مهما يكن الذي قد خسرته بسبب عدم تصديق أشياء مثل التنجيم أو الأشباح، فأنا متأكد بأنني أعوض عن تلك الخسارة بتقبل الواقع بحماس كبير. جميع الاكتشافات العلمية حتى هذا الوقت وجميع الألغاز التي لا يزال يتعين حلها تشعرني بالحماس، وأجد العديد من الأسباب التي تدعو للتفاؤل والأمل  حتى في وسط الواقع المرير. في رأيي، الكثير من الراحة والبهجة يمكن ايجادها في الأصدقاء والعائلة والرومانسية والعمل بإتقان وابداع ويمكن ان تجدها في الفن وأن تعامل الناس بلطف وتجدها في الطبيعة وفي جميع أشكال المرح. أنا أدرك ان الايمان بالقوى غير المرئية يؤثر فينا وقد يوحي بالراحة أو الاستقرار، لكن أيضا يمكن ان يكون مريحاً ويحقق الاستقرار لندرك اننا كبشر، فنحن أذكياء بما فيه الكفاية وأقوياء بما يكفي لمواجهة الكون كما هو عليه ومواصلة حياتنا  

 

 

  ٥