نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الوقوف على أكتاف العزلة؛

الوقوف على أكتاف العزلة؛

netwon

عن نيوتن , والطاعون, وكيف حرض الحجر الصحي على القفزة الأعظم في تاريخ العلم.

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

” وما الحقيقة إلا ثمرة للصمت والتأمل”

في خمسينات القرن السابع عشر للميلاد, بدأت غمامة الطاعون باجتياح العديد من بلدان أوروبا. حي ضرب الوباء إيطاليا, أولاً, تلتها إسبانيا و ألمانيا, ثم هولندا. في ذلك الحين, كانت إنكلترا _ التي يبدو أن إرادة الله شاءت أن تحميها من ذاك الوباء_ تراقب الدول المجاورة لها من خلف جدار القنال الإنكليزي بوجل شديد, ثم بهدوء يسوده الحذر لمدة وصلت إلى ما يقارب عقداَ  من الزمن.

بيد أن العالم بأسره , آنذاك, كان يضع التجارة في مقام رفيع, كما أن قوى العولمة كانت آخذه بالانتشار. وبما أن اقتصاد إنكلترا كان يعتمد اعتماداً كبيراً على التبادل التجاري , فإن موانئها كانت تعج بالسفن المحملة بالحرير والشاي و السكر القادم من كافة الحدود المكتشفة في العالم. لكن هذه السفن كانت محملة, أيضاً, بالجرذان التي تحمل على أجسادها براغيثاً, وهذه البراغيث هي التي تحمل البكتيريا المسببة للمرض_ والتي كانت عبارة عن مملكة من الكائنات الحية الدقيقة أحادية الخلية , علماً أن الخلية لم تكن مكتشفة بعد, في ذلك الحين_ إذ تنتقل العدوى من تلك البراغيث إلى جسد الإنسان عند رسوّ السفن.

 

وهكذا, تم الإعلان عن أول حالة وفاة بالطاعون في لندن في يوم الميلاد عام 1664. تلتها حالة أخرى في شهر شباط \ فبراير, ثم تتالت الحالات بعد ذلك, وهذا ما دفع كاتب اليوميات الإنكليزي ” صموئيل بيبس” ليكتب في شهر نيسان\ أبريل من العام ذاته قائلاً:

 

في هذه المدينة, ثمة مخاوف كبيرة من المرض . ليحفظنا الرب جميعاً”

 

بيد أن الرب لم يكن نظيراً لانعدام المعرفة العلمية الأساسية بعلمي الأحياء والأوبئة. كانت الوفيات سريعة و مروعة, وسرعان ما أصبحت كثيرة إلى الحد الذي لم يتمكن أحد فيه من حمل الجثث. لتزداد أعداد الضحايا عشرة أضعاف بحلول فصل الصيف. إذ قفز عدد الوفيات من المئات إلى الآلاف في الأسبوع الواحد. لذلك فُرض على المرضى البقاء في منازلهم. كما تم وضع العديد منهم في سفن وتركوا ليلقوا حتفهم بمعزل عن المدينة. أما بيوتهم , فقد رسم عليها من الخارج صليب كبير للدلالة على وجود مصابين في الداخل. و فيما يخص المسرحيات, و الرياضات الدموية العنيفة , وما إلى ذلك من تجمعات لحشود الناس, فقد منعت منعاً باتاً . كما منع الباعة المتجولون من بيع السلع , و موزعي الصحف اليومية من الهتاف في الشوارع, فانزوى الجميع إلى الداخل. ليخيم على مدينة الصخب  والضجيج صمت موحش و غريب. وتغلق الجامعات, هي الأخرى, أبوابها.

 

عندما أرسلت جامعة ” كامبريدج” طلابها إلى منازلهم, كان هنالك شاب شغوف بعلم الرياضيات و الحركة والضوء. هذا الشاب الذي توفي والده الأمي قبل ولادته بثلاثة أشهر. والذي كان يعبد ” إله النظام لا الفوضى” وبدأ دراسته الجامعية عن طريق خدمته لبعض الطلاب الأثرياء من أجل تحصيل مصاريف دراسته. حيث أخذ كتبه التي جمعها, وعاد بها إلى مزرعة أمه.

 

هنا, حيث العزلة و الوحدة, إذ يواصل الوباء امتداده بشراسة, كان ” إسحق نيوتن” يحلم بنقطة الارتكاز التي تنتشل البشرية من عصور الظلام. في هذا المكان, سواء كانت الحادثة حقيقة أم مشكوك بصحتها, سقطت التفاحة. وفي ظل تلك التفاحة بزغت الفكرة الثورية لقانون الجاذبية التي يراها ” نيوتن” قوة ” يمتد تأثيرها حتى مدار القمر” على طول المسافة الفاصلة  بينه وبين الأرض دون انقطاع أو حدود. في ذات المكان شرع نيوتن بحساب تلك القوة التي يعتبرها ” عنصراً ضرورياً لإبقاء القمر في مدارها, بفعل قوة الجاذبية على سطح الأرض” في غضون حسابه لهذه القوة _ قوة الجاذبية_ وكضرورة للقيام بذلك, ابتكر نيوتن نظرية التفاضل و التكامل.

 

في كتابه المميز ” إسحق نيوتن”  الذي يعد مقياساً ذهبياً للسيرة الذاتية و السرد القصصي , والذي يجسر الهوة بين العلم و الشعر, كما يعرفنا على القصص الكامنة خلف المشاهير ” الوقوف على أكتاف العظماء” * يحدثنا الكاتب الأمريكي ” جيمس جليك” عن ” نيوتن” الشاب  الهارب من الطاعون إلى منزل طفولته, إذ يقول:

 

لقد انشأ نيوتن رفوف مكتبته بنفسه, وشيد مكتبة صغيرة. فتح نيوتن دفتر ملاحظاته الذي يحتوي على ما يقارب الألف صفحة , والذي كان قد ورثه من زوج أمه وأسماه ” كتاب مهمل” وبدأ بملئه بملاحظاته التي سرعان ما تحولت إلى بحوث حقيقية. لقد جلب لنفسه المشاكل؛ فقد تفكر بهذه الملاحظات بهوس شديد, محصياً الإجابات الواردة فيها, و طارحاً المزيد من الأسئلة. لقد تجاوز نيوتن حدود المعرفة, على الرغم من عدم علمه بذلك. فكانت سنة الطاعون هي سنة التغيير الجذري بالنسبة له.  فقد جعلت منه تلك الوحدة والعزلة عن العالم الخارجي عالم الرياضيات الأهم في العالم.

 

ومن حسن حظ ” نيوتن” أنه عاش حياتاً طويلة , فقد بلغ عمره عند وفاته  أربعة وثمانين عاماً, أي أنه عاش أكثر من ضعف متوسط العمر المتوقع للإنسان في تلك الفترة. حيث حُمل نعشه من قبل اللوردات و النبلاء آنذاك. كان نيوتن سيعيد النظر إلى أكثر مراحل حياته الفكرية ثراء  خصوبة وهو يدرك بأن “الحقيقة ليست سوى ثمرة للصمت و التأمل”

 

 

 

  • يقصد بها عبارة نيوتن الشهيرة التي أجاب بها عندما سئل عن قدرته على رؤية ما لا يراه الآخرون، والوصول إلى قوانين لم يستطع غيره الوصول إليها ” إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني”
نشرت تحت تصنيف مقال

بين المهنة و الهواية .. أين المترجم؟

تقرير : وعد العتيبي

dardeliner

الترجمة عالم واسع بين المهنة و الهواية و الموهبة, تُعرف الترجمة على إنها من المهن التي لا يسهل ممارستها لكل متعلم للغات

فهي ليست عبارة عن تعلم لغة فقط بل إنها تتطلب تعلم الآليات و الطرق و ثقافة اللغة الهدف و المصدر و أخلاقيات المترجم تتطلب منه أن تكون مهمته على أكمل وجه فهو مُلزم بتعلم كل شيء يخص جوانب الترجمة ليس فقط التعامل مع النص الذي يرغب بترجمته.

الترجمة تُعد من أشمل المهن لأنها مطلوبة في شتى المجالات ( الأدبية, العسكرية, الطبية, التقنية, القانونية, العلوم الإنسانية..إلخ)

لهذا المترجم الجيد يجب عليه أولاً أن يعرف إن لكل مجال طريقة ترجمة معينة على سبيل المثال:

الترجمة الطبية تتطلب تعلم المصطلحات الطبية, الاختصارات المستخدمة بداخل نطاق عمل المنشأة الصحية و لها صياغة مخصصة و الصياغة تختلف من ترجمة تقرير طبي إلى خطاب موجه لإدارة معينة في المنشأة.

من وجهة نظري الترجمة كمهنة عمل تتطلب مؤهل معين لأن العمل أمانة و لأن المؤهلين للمشاركة في سوق العمل بتخصص (الترجمة) لديهم خبرة أكبر من (متعلمين اللغة فقط) فأنت لا تستطيع حفظ اللوائح والأنظمة ثم ممارسة المحاماة على سبيل المثال

و قم بقياس هذا المثال على بقية المهن “أعطِ الخباز خبزه ولو أكل نصفه”.

لكن حينما يقتضي الأمر بموهبة و هواية الترجمة أرى إنه يحق للمرء ممارستها كعمل إبداعي لطالما لديه المقدرة و التدريب الكافي مثل: ترجمة المقالات و مقاطع الفيديو و ما إلى ذلك.

لقد سألت مجموعة من المترجمين المُبدعين بخصوص هذا الأمر وافقتني الرأي المترجمة (حنين الرحيلي) بقولها:

“بالنسبة للترجمة بكونها “مهنة”؛ فأرى وجوب المؤهل للمترجم ولا يغني التعليم الذاتي عن الدراسة الأكاديمية. يذكرني حال هواةِ الترجمة بقول الشافعي رحمه الله: “وإذا ما ازددتُ علمًا.. زادني علمًا بجهلي”، لذا فإنهم مهما ادّعوا علمَهم وسلامةَ ترجماتهم؛ فهذا في الحقيقة لأنهم لا يدركون وجود الأخطاء لجهلهم بها، الأخطاءُ التي لم يسلم منها أغلب المترجمين المتخصصين وحتى المبدعين منهم، ولكنهم -على النقيض- مدركون لها ويسعون لتجنبها في كل مرة وتحسين ترجماتهم، فكيف بأولئك الهواة المتحمسين؟! لا شك أنهم مشكورون على جهودهم المبذولة، ولكن ما أرجوه هو أن لا تتجاوز تلك الجهود المقاطعَ المرئية والنصوص التويتريّة، وفي اليوم الذي تصل به ترجماتهم إلى المكتبات والمحتوى العربي؛ ستكون تلك -دون مبالغة- كارثة كبيرة!

بينما قال المترجم (محمد الضبع):

“بالتأكيد هنالك مستوى مطلوب من الالتزام والحرفية في الترجمة، وهذا المستوى قد يأتي عن طريق دراسة الترجمة، أو قد يأتي عن طريق الخبرة والتعلم الذاتي في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة. لتقديم ترجمة عالية المستوى، على المترجم استثمار السنوات في العمل بشكل مستمر ليتحسن ويتطور في إنتاجه. بإمكانك أن تكون مترجم سيء بشهادة، وبإمكانك أن تكون مترجم سيء بتعليمك الذاتي. الأمر متعلق بمدى الالتزام والقدرة على التحسن وتقديم الأفضل دائما.

و وافقته الرأي المترجمة (أماني فوزي الحبيشي) :

“الحقيقة أنا أعتقد أن الدراسة والمعرفة النظرية مهمة لأي نوع من الممارسة. بالنسبة للترجمة التقنيات والنظريات مهمة، بقدر أهمية الممارسة بالتأكيد. واتقان اللغة فقط لا يكفي بالتأكيد، فهناك أيضًا أهمية معرفة ثقافة الشعب الآخر وآدابه. ولكن في نهاية الأمر مسألة التعليم الذاتي أثبتت نجاحها مع البعض، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا مترجمين محترفين. ولكن هذا أيضًا يتوقف على نوعية الترجمة، وعلى المقصود ب”تعليم ذاتي

و أتفق معهم المترجم (شريف بقنة) بقوله:

“أعتقد أن ممارسة الترجمة كعمل بدوام كامل يتطلب الحصول على مؤهل بالتأكيد، وانا هنا لا أتكلم عن الترجمة كوظيفة freelancer مستقل، وانما كوظيفة رسمية وبدوام كللي في مؤسسة جيده ومعتبرة، ذلك أن أنظمة المؤسسة تتطلب الحصول على مؤهل للترشح في العمل بها في أغلب الأحوال

اما الحديث عن عمل الترجمة كهواية و كعمل مستقل أو عن بعد فيمكن للموهبة والهواية أن تلعب دوراً”

 

 

بينما كانت هناك وجهات نظر محايدة إتفق عليها بعض المترجمين

فقالت المترجمة (إقبال عبيد):

“أرى أن الترجمة ليست مقتصرة على التعلم والشغف الذاتي في أنواع ومجالات متشعبه ،بعض الترجمات والمواد بالفعل تحتاج دراسة وتأهيل أكاديمي لتناولها حسب المادة المترجمة ،يمكن لاي للهاوي ترجمة رواية أو شعر حسب إلمامه اللغوي من تحصيل قراءته لكن مفهوم الترجمة واسع جداً”

و أيضاً المترجم (عبدالرحمن السيد):

. رسميا فيه متطلبات معينة لممارسة الترجمة ولكنها لا تقتصر على المتخصصين بالترجمة .. وبشكل عام أنا أفضل أن يكون عند المترجم مؤهل في الترجمة ولكن هل هو شرط؟ .. جوابي قطعا (لا).

 

و أيدتهم القول المترجمة (مجد الحفظي) :

“من وجهة نظر محايدة تمامًا، مهنة الترجمة في متناول يد حتى غير المتخصص، ولكن لا يعني ذلك عدم إلمامه بأساسيات الترجمة وقواعدها، لا بد يكون عنده فكرة عنها واطلاع على مجريات أمور الترجمة الحديثة، والأخطاء الشائعة ويطور من نفسه”

 

اختلفت الآراء لكن تبقى الترجمة مهنة مستقلة تمامًا عن (ممارسة اللغة و تعلمها فقط) فليس كل من تعلم اللغة الإنجليزية قادر على ترجمة النصوص لأن الترجمة تعتمد على التدريب و الممارسة و التعليم المستمر ليس فيما يخص اللغات فقط بل عن ثقافة الشعوب و أبرز ما يحدث لهم و بالقراءة المستمرة و المترجم الجيد يكون باحث, مؤرخ , قارئ شغوف ومتدرب مستمر و لكل متخصص بنوع معين من الترجمة يجبّ عليه و لابد أن يكون مُطلِع دائم عن تحديثات المجال الذي يترجم فيه.

و يبقى السؤال هل الترجمة حقٌ للجميع؟ مثلما أثار المترجم (عبدالرحمن السيد) هذا التساؤل بقوله “الطبيب أو الممارس الطبي من الممكن أن يكون مترجم طبي .. وقيسي على ذلك بقية التخصصات”

فهل المبرمج على سبيل المثال يحق له ترجمة المقالات التكنولوجية و التقنيّة؟

من وجهة نظري أرى أنه لا يحق له ترجمة نص كامل رُبما بعض (المصطلحات) بناءً على معرفته و مهمة الترجمة تُترك للمترجم المتخصص في هذا المجال.

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

الربيع في زمن الجائحة

الربيع في زمن الجائحة

 

Mariaaa

ماري شيلي: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟ و كيف يمكن لجمال الطبيعة أن يكون طوق النجاة في استعادة التوازن الذهني؟

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: دلال الرمضان

 

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

 

 

قبل نصف قرن من تأمل الشاعرالأمريكي ( والت وايتمان) _ وذلك بعد تعرضه لسكتة دماغية أدت إلى إصابته بالشلل_  في الشيء الذي يضفي قيمة على الحياة, أدرجت الكاتبة الإنكليزية  ( ماري شيلي 30 أغسطس 1797 _ 1 فبراير 1851) السؤال ذاته في روايتها الآسرة التي حملت عنوان ” الرجل الأخير” والتي كتبتها في أكثر فترات حياتها كآبة و سوداوية. وذلك بعد وفاة ثلاثة من أبنائها. إذ توفي اثنان منهما بفعل مرض معدٍ اجتاح البلاد في تلك الفترة, عقب وفاة زوجها الشاعر (بيرسي بيش شيلي) إثر حادثة غرق قاربه.

من عمق ذلك الأسى الدفين , وبين صفحات تلك الرواية التي تحكي عن جائحة تبدأ باكتساح الجنس البشري واحداً تلو الآخر, لتترك_ في نهاية المطاف_  ناجٍ وحيد, هو بطل الرواية, تطرح ( شيلي) سؤالها الجوهري. ألا وهو: لماذا نعيش؟

عبر إجابتها على هذا السؤال, تُخرج ( شيلي) نفسها من تلك الهوة وتواصل حياتها, لتصبح الكاتبة المتفردة بين أقرانها. حيث تمكنت من الصمود أمام كتاب الأدب الرومنسي, فصاغت النثر بجمال شاعري مذهل. كما تمكنت , بجهودها الفردية, من تحويل اسم زوجها الذي كان_ إلى حد ما_ غامضاً, إلى رمز من رموز الأدب في الوقت الراهن. وذلك بفضل إخلاصها, وجهودها المتواصلة _دون كلل_ في التحرير والنشر, تمجيداً لشعره.

لقد حددت ( شيلي) الإطار الزمني لروايتها المتبصرة ” فرانكنشتاين” بقرن سابق لوقت كتابتها _ والتي كتبتها قبل عقد من كتابة الأخرى_ في حين تجري أحداث رواية ” الرجل الأخير” بعد ربع ألفية من الزمن في المستقبل. أي في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين. حيث تبلغ الأحداث ذروتها في عام 2092 للميلاد, في الوقت الذي تصادف فيه الذكرى المئوية الثالثة لميلاد زوجها الشاعر( بيرسي شيلي) أما شخصية الراوي في رواية ” الرجل الأخير ” هي شخصية الشاب المثالي  ” ليونيل فيرني” وهي من أكثر الشخصيات تغلغلاً بكلتا حالتي المعاناة العميقة لعيش الإنسان, و الجمال اللامتناهي للحياة. إذ كانت أقرب الشخصيات لـ( ماري شيلي) في رزانتها وحذرها. وكأن الكاتبة رسمت بورتريهاً نفسياً لذاتها. ففي الوقت الذي تكتسح فيه الجائحة العالم, وتأخذ أحبته واحداً تلو الآخر, يعود بطل الرواية إلى منزله ملتمساً الأمان. كحال الطيور التي تجبرها العاصفة على العودة إلى أعشاشها , حيث تطوي أجنحتها بطمأنينة وهدوء. هنا, في هذا السكون الغريب, وبعد أن تجرد من المشاغل الاعتيادية و المشتتات الاجتماعية, يجد ( ليونيل) نفسه متأملاً في مغزى الحياة. إذ يقول :

كيف أضحى الهائمون حمقى. أولئك الذين غادروا الأعشاش. فوقعوا في شباك المجتمع. ليدخلوا فيما يسميه رجال العالم ” حياة” إنها متاهة الشر, ومكيدة العذاب المتبادل.

إن فعل العيش, وفقاً لما تعنيه الكلمة, لا يعني أن نلاحظ و نتعلم فقط . بل ينبغي علينا أن نشعر أيضاً. علينا ألا نكون مجرد متفرجين على الحدث, بل أن نكون جزءاً منه. يجب ألا نكتفي بالوصف, بل أن نكون موضوعاً له. ينبغي ان يسكن الأسى صدورنا. ولا بد للشك المرير و الأمل الكاذب أن يشكل أيامنا. أتراه يحن إلى هذا الوجود المحموم, ذاك الذي يعلم ماهية الحياة؟

 ها أنذا قد عشت, وقضيت أياماً و ليالٍ من البهجة. لألجأ للآمال الطموحة. والآن.. أغلق باب العالم, ثم أبني أسواراً عالية تحول بيني وبين المشهد المضطرب الذي تدور أحداثه حولي.

بالتوافق مع مقولة الشاعر ( وايتمان)_  ” بعد أن تستنزف كل ما هنالك من عمل و سياسة , وتشارك  وحب , وما إلى هنالك , لتجد أن لا شيء بين هذه الأشياء يرضيك, أو حتى يمكنك احتماله على الدوام, فما الذي يبقى إذاً؟ يسأل الشاعر الأمريكي سؤاله هذا عبر الزمان والمكان, ثم يجيب نفسه بالقول:” الطبيعة هي الباقية”_ لا يجد بطل رواية ( شيلي) معنى الحياة في دوامة العالم الذي صنعه الإنسان بصورته الزائفة, بل في بساطة الحاضر الخلاق في سيمفونية الطبيعة اللا متناهية :

لنبحث عن السلام .. قرب خرير الجداول, و تلويحات الأشجار اللطيفة, و رداء الأرض الجميل, ونصعد إلى عظمة السموات. ولنترك الحياة التي قد نعيشها.

في ذروة الجائحة المميتة , تبدو الطبيعة مصرة على التأكيد على مرونة الحياة. إذ يأتي الربيع محملاً برشقات من الجمال الذي لا يمكن لقوة أن تصده, غير آبه بمعاناة الإنسان, و مرمماً لها في الوقت ذاته. يستعيد ( ليونيل) ثقته بالنجاة , و الجمال, و بجدوى الحياة , وذلك عبر مراقبة انفعال الطبيعة العفوي في تعبيرها متناهي الصغر, وعبر الاستسلام لها في الوقت ذاته. قبل زمن من نظم الشاعرة ( إيميلي ديكنسون) لقصائد تصف الربيع, كتبت ( شيلي):

ها قد ولى الشتاء.. ليأتي الربيع, وقد قادته الشهور, فيعيد الحياة إلى كل مكونات الطبيعة. و ها هي الغابات تكتسي باللون الأخضر, والعجول الصغيرة تتراقص فوق العشب الذي نبت للتو, والظلال الرقيقة للغيوم المجنحة بالرياح تسير فوق حقول الذرة الخضراء. إذ يردد طائر الوقواق الناسك نداءاته الرتيبة طوال الفصل, و يملأ العندليب _ طائر الحب و المساء_  الغابة بصوته العذب. بينما يتوانى كوكب الزهرة عند غروب الشمس الدافئ, و تنبسط الأشجار الخضراء الفتية على طول خط الأفق الصافي. 

ومع هذا التشارك الحر مع عالم الطبيعة غير البشري , يستخلص بطل رواية ( شيلي) جوهر كينونة الإنسان. إذ يقول:

هنالك حل واحد لحل لغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا,  والمساهمة في إسعاد الآخرين.

نشرت تحت تصنيف مقال

50 خرافة يصدقها الناس

جاري هاريسون50words

ترجمة : محمد صدقه 

 التــفــكــيــر الــســحــري

 

  

الفصل الأول

 

” أنا أؤمن بالظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية.”

 

 الشيء الوحيد الذي سيتقلص عند التحقق منه هو الخطأ، ليس الحقيقة

توماس باين –

 

كل يوم نواجه قوى خارقة، ظواهر غير طبيعية أو معتقدات استثنائية. تلك الادعاءات تجد طريقها إلينا أينما ذهبنا. ستجدها في الصيدلية، في الأدوية المكونة من مواد طبيعية الموجودة على الرفوف بجانب العلاجات القائمة على أساس علمي. الصحف تقدم توقعات فلكية لمستقبلك، واعظ يعد بأن إذا أعطيته المال سيكافئك الله بمائة ضعف. الإعلانات التلفزيونية تقترح بأنه يمكننا الحصول على صحة أفضل عن طريق استخدم حبة دواء أو  سنكون رياضيين بشكل أفضل إذا وضعنا سوار مخصص على معصمنا. صديق يحلف بأنه رأى كان سفينة فضائية في السماء بالأمس. أحد أعضاء العائلة يحاول اقناعك بقرب نهاية العالم. هل تلك الضجة التي تسمعها قبل أن تنام، صوت شبح؟

عندما تظهر أفكار غريبة يجب علينا أن توقف للحظة ونفكر قبل أن نتقبلها كحقيقة او واقع. أمور سيئة ممكن أن تحدث عندما نتقبل معتقدات لأسباب لا تتعدى أن تكون مجرد عبارة عن  وثوق في السلطة او عادات أو لمجرد أنها تبدو صحيحة. مات عدد لا يحصى من الناس على مر التاريخ لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. الكثير من الناس الذين أيدوا أو شاركوا في استغلال وإيذاء وحتى قتل البشر كانوا ذو نية حسنة ويريدون الخير لأنهم لم يكونوا متشككين بالشكل الكافي. أينما وحيثما قل وجود الشك، مشاكل خطيرة ستحدث كنتيجة لذلك. الأطباء الدجالين والفنانين المحتالين يلحقون الضرر بالناس الذين لا يعرفون الفرق بين العلم والعلم الزائف. كم عدد المرات على مر التاريخ التي وقفت فيها المعتقدات الخارقة للطبيعة في طريق التقدم العلمي والاجتماعي؟ أين سنكون اليوم لو أننا رفضنا خرافة ما قبل خمسة قرون؟ ندرة الشك في عالم اليوم لا يمثل فقط عبء للتقدم بل يشكل تهديد قد يعيدنا للعصور المظلمة. مهلاً، هل فعلا لم نعد نعيش في زمن العصور المظلمة؟ حتى هذه اللحظة، في القرن الواحد والعشرين، يتم تعذيب واعدام الساحرات في بعض المجتمعات لأن بعض الناس تخاف من قواهم السحرية. العديد من الناس مازالوا ينظرون إلى النجوم والكواكب للتبصر في شخصياتهم والتوقعات العاطفية، على الرغم من أن العلماء الذين يعرفون أكثر من أي شخص آخر عن النجوم والكواكب يقولون إن التنجيم فكرة منافية للعقل. ملايين الناس يؤمنون بأنه يمكن للفيزياء أن تقرأ الأفكار وأن الحكومة تخفي أجساد كائنات فضائية في منطقة 51 – قاعدة عسكرية في ولاية نيفادا-. نحن كائنات نعاق عن طريق المعتقدات الغير عقلانية. إن كان نأمل التخلص من تلك العادة المكلفة والمهدرة للوقت التي تجعلنا نصدق أشياء غير صحيحة، فيجب أن نتبنى الطريقة العلمية والشك. التفكير النقدي مهارة يجب أن تقدر وتعزز بشكل واسع، فالتقدم يتعمد عليه.

الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية – معتقدات معرفة بشكل غير دقيق كأشياء موجودة أو تحدث خارج العالم الطبيعي- ليست مرتبطة بالضرورة بالذكاء أو مستوى التعليم. على سبيل المثال، من الممكن وجود روابط بين مستوى التعليم ومدى تقبل ادعاء لا أساس له مثل قراءة الطالع والتنجيم. لكن أحذر من التفكير كثيراً في هذا الموضوع لأننا جميعنا معرضين لتصديق مثل تلك الأمور. من المعروف جيداً أن الناس المتعلمين والأذكياء يمكن أن يصدقوا ادعاءات غريبة والتي تفتقر لدليل يثبت صحتها. العالم الشهير جَين جودال، على سبيل المثال، من المؤمنين بوجود الكائن صاحب القدم الكبيرة. لقد عملت مرة مع صحفي ذو تعليم جامعي مقتنع بوجود فتاة من روسيا تمتلك رؤية ذات أشعة سينية والتي تمكنها من رؤية أجسام الناس من الداخل وتشخيص المشاكل الطبية الداخلية. أحد زميلاتي علقت في ثقل صنارة تلك الادعاءات الغريبة الغير مؤكدة. هي ليست غبية وليست مفتقرة للشك ومهارات التفكير النقدي، وليست معتزلة للناس، لكن عندما يتعلق الأمر بمعتقدات غريبة، فقبول تلك الادعاءات يبدو الأمر طبيعياً أو انسانياً أكثر من رفضها تماماً.

وفقاً لاستطلاعات مؤسسة غالوب، ثلاثة من بين كل أربعة أساتذة جامعيين في أمريكا يصدقون واحده على الأقل من تلك المعتقدات الغريبة مثل وجود الأشباح والتنجيم وتناسخ الأرواح بعد الموت. يعتبر هذا ذو أهمية: معظم الناس في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم هم أشخاص مؤمنين بوجود قوى خارقة وظواهر غير طبيعية. يوجد في أمريكا معتقدات تؤمن الناس بها وفي مقدمتها؛ الإدراك الحسي الفائق (الحاسة السادسة) بنسبة 41% ويتبعه بنسبة قريبة منه هو الإيمان بوجود البيوت المسكونة بنسبة 37% ووجود الأشباح بنسبة 32%. الاستبصار أو القدرة على قراءة الأفكار ومعرفة المستقبل أمر حقيقي موجود بالفعل وفقاً لـ 26% من الأمريكان، بالإضافة إلى أن التنجيم أقنع ما يقارب الـ 25% من الأمريكان، و26% منهم يؤمن بتناسخ الأرواح. أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع بنسبة 57% من البالغين الأمريكان يؤمنون على الأقل بوجود اثنان من المعتقدات المتعلقة بالظواهر الغير طبيعية، و22% منهم يقولوا إنهم يؤمنوا بخمسة معتقدات وأكثر.

في بريطانيا العظمى، يؤمن 40% من البريطانيون بأن البيوت يمكن أن تسكن بالأرواح الشريرة و24% منهم يؤمنون بأنه يمكن التواصل مع الأموات. لم أجري أي دراسة استقصاء علمية، لكن رحلات سفري خارج الولايات المتحدة لم تترك لي مجال للشك بأن الإيمان بادعاءات غير مثبتة علمياً ومن غير المحتمل أن تكون صحيحة يحظى بشعبية كبيرة. فعلياً أي مكان قمت بزيارته؛ أفريقيا، الشرق الأوسط، أسيا، جزر المحيط الهادئ، الكاريبي، أجد نفس النتيجة وهي أن الأغلبية العظمى من الناس تؤمن بمجموعة من الظواهر الغير طبيعية وادعاءات زائفة. دون إدراج المعتقدات الدينية ضمن المجموعة، أتوقع أن أكثر من 90% من الناس حول العالم يؤمنون على الأقل بظاهرة واحدة غير طبيعية. نحن مخلوقات تحب أن تصدق كل شيء.

هل يهمك؟

التصرف الأسهل اتجاه هذا الموضوع هو محاولة تجاهل جميع تلك المعتقدات الغير عقلانية. على أي حال، أليست أمور مثل التنجيم والشفاء بالدعاء وقوة الايمان  وقراءة الطالع تجعلهم سعداء وتعطيهم القليل من الطمأنينة في عالم يملأه الخوف والحيرة؟ من أنا لأحاول سرقة مصدر راحة ومتعة أي شخص؟ ليس من شأني ماذا قرر الناس أن يؤمنوا، صحيح؟ ما المشكلة؟

حسب وجهة نظري، لا يوجد خيار آخر سوى أن تعارض تلك المعتقدات الغير عقلانية، إذا كانت مهتم ومتعاطف مع بني البشر. أن تكون معارض لتلك المعتقدات لا يتطلب أن تكون شخص لئيم او بغيض تجاه ذلك الأمر، لكن السكوت ليس حل أيضاً. الإيمان بالظواهر الغير طبيعية والعلم الزائف يعتبر أزمة مزمنة ترهق كاهلنا قرناً بعد قرن. أولئك الذين يدركون الضرر الذي تسببه تلك المعتقدات يومياً حول العالم والتي ستكون يوماً ما وحشاً كاسراً لا يمكن هزيمته إذا اختاروا عدم مواجهته. انها مسألة تعاطف مع بني البشر والايمان بأن العالم يمكن أن يكون مكان أفضل لو لم يكن أعمى ومتخبط بالخرافات والتفكير الغير علمي. أنا لا أكون شخص عديم المشاعر عندما أشرح لشخص ما لماذا يعتبر الطب البديل خطير جداً أو كيف يخدع المعالجون بقوة  الإيمان الناس. ألا تفعل شي حيال ذلك الموضوع يمكن أن يكون امر دنيء وقاس جداً. السؤال الأمثل ليس لماذا المتشككون يحتجون، لكن السؤال كيف يمكن لأي شخص ان يعلم حول موضوع ” الأطفال السحرة” كونهم يقتلون في أفريقيا ولا يشعر بأي التزام اتجاه تعزيز وجود الشك في حياتنا. الشخص الذي يسمع بقصة الطفلة المريضة التي تعاني وتحتضر بسبب والديها العنيدين اللذان عالجاها بالماء المعالج معالجة مثلية – الهوميوباثي أو الطب التجانسي البديل – بدلاً من الأدوية التي على أساس علمي، ولا يشعر باشمئزاز تجاه العلم الزائف والدجالين الذين يدعون انهم أطباء؟ جميعنا نتشارك هذا العالم معاً، فعندما يعتقد القائد المنتخب أن عمر الكرة الأرضية هو ستة الاف سنة أو تؤمن جارتك أن مواقع بعض النجوم في السماء تحدد طبيعة اليوم الذي ستحظى به وكيف سيكون ذلك اليوم، عندها ستدرك أن هذه هي المرحلة التي ستؤدي إلى العديد من المشاكل. طريقة التفكير المحدودة تعتبر طريقة تفكير خطيرة جداً.

الشك هو الدرع الذي يحميك 

فكيف يمكن للشخص أن يتجاوز كل تلك الادعاءات الغريبة الموجودة من حولنا ليصل إلى المنطقة الآمنة بسلام؟ انها ليست بتلك الصعوبة التي تتخيلها. سيكتشف القراء من خلال هذا الكتاب أنه قد يتطلب أن يسألوا سؤال واحد أو اثنين بطريقة محددة للتعرف على نقاط الضعف المدمرة في الادعاءات التي لا تستحق إيماننا. الشك الإيجابي هو شك متوافق مع الفضول لكن بحذر وعقل متفتح، فهو يتطلب التحلي باليقظة والتحقق من صحة أي شي وحقيقة ما يقوله الأشخاص.

من المهم أن تتذكر دائماً أن عبء الإثبات وتقديم الدليل يقع على عاتق أولئك الذين يستمرون في نشر تلك الادعاءات. أود أن يكون صاحب القدم الكبيرة ووحش بحيرة لوخ نس أمر حقيقي، لكني متيقن بأنه الحيوان الذي يشبه القرد ويبلغ طول عشرة أقدام ويمشي على رجلين في إقليم الشمال الغربي الهادئ أو البليزوصور المنقرض الذي كان متواجد في اسكوتلندا – نوع من الزواحف الضارية البحرية – لا وجود لهما. السبب الذي يدفعني لاعتقاد ذلك هو أنه بعد كل تلك السنوات لم يقدم أي شخص دليل مقنع مثل: العظام أو عينات من  الحمض النووي (DNA) أو هيكل. إذا أرادا الأشخاص المؤمنين بوجود صاحب القدم الكبيرة أن أصدقهم، فعليهم أن يروني الدليل. ليس من واجبي دحض فكرة وجود صاحب القدم الكبيرة. كيف يمكنني فعل ذلك، بكل الأحوال، فأنا لا أستطيع البحث في كل كهوف وكل أشجار أمريكا الشمالية.

أحذر من المعتقدات الخفية، فهي أنصاف الحقائق التي تتضخم لتشمل عناصر ومبادئ غير طبيعية بمجرد السماح لها بدخول عقلك. على سبيل المثال، بدون أدنى شك يوجد العديد من الحالات الساحلية القديمة أو المجتمعات المحلية الجزرية دمرت بسبب الزلازل وتسونامي خلال الآلاف السنوات الماضية. لكن هذا يختلف تماماً عن الادعاء المقدم من المؤمنين بوجود مدينة أطلانتيس الأسطورية والتي يقال بأنها قارة أو مدينة حكمت العالم يوماً ما وكانت متقدمة تقدماً تكنولوجياً يتجاوز تقدمنا في هذا العصر. بعض الأشخاص المؤمنين بوجود الأطباق الفضائية الطائرة يزعمون بوجود حياة ذكية في مكان ما في هذا الكون، قد يكون سبب مقنع، لكن بعد ذلك الزعم، انتقلوا إلى ادعاء آخر بطريقة سلسة أن الكائنات الفضائية تزور كوكب الأرض بشكل منتظم، فهذا الادعاء لا يمكن التأكد منه ولا اثباته ومستبعد. يجب أن نحذر من الادعاءات التي تختبئ تحت عباءة العلم والتي هي في الحقيقة علم زائف. ليس من الضروري أن كل ما يقوله شخص ما – قد يكون المرشد الروحي ديباك شوبرا، على سبيل المثال – ويذكر “ميكانيكا الكم ” بشكل متكرر أو جمل علمية أنيقة ومعقدة، يعني أن ما يقومون بترويجه صحيح أو علمي.

 

كلما كبر حجم الادعاء، كلما صعب اثبات ذلك الادعاء 

المتشكك الذكي يضبط حاجته الملحة لدليل وفقاً لحجم الادعاء الذي تم تقدمه. طبيعة الادعاء الذي تم تقديمه – ما مدى غرابة أو فظاعة ذلك الادعاء؟ – يحدد درجة الشك المطلوبة. اذا ادعوا جيراني بأنهم رأوا بالأمس طير في فنائهم  الخلفي، فعلى الأرجح وبافتراض حسن النية سأصدق ما يقولون. ليس بالأمر المهم. على كل حال، أذا ادعوا انه رأوا شيء غير مألوف تماماً، لنقل أنهم رأوا تنين يبلغ وزنه ثلاثين طناً يرتدي سروال من الجلد ويضع مكياج، عندها أحتاج أن أرى فديو بجودة عالية وبصمات وعينات الحمض النووي قبل أن أفكر في تصديق ذلك. مرة أخرى، نوعية وكمية الأدلة يجب أن تزيد عند وجود ادعاء. بالرغم من أن هذه المقولة لم تصدر عن رائد الفضاء الراحل كارل ساغان إلا أنه روج لهذا المفهوم المهم ” الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية”. تذكر تلك الكلمات الخمس جيداً عندما تفكر في الأشباح، الآلهة، الوسطاء الروحيين، التنجيم، التصميم الذكي- الذي يدعي بأن هناك ميزات في الكون والكائنات الحية لا يمكن تفسيرها الا بالعلم وليس بالدين-، الأطباق الطائرة ومعتقدات أخرى.

كونك شخص متشكك لا يعني أنك شخص ضيف الآفق أو أنك فير مهتم في الأشياء الغريبة الغير مثبته علمياً. تاريخ العلم مليء بأمثلة لأفكار سخيفة والتي تبين أنها حقيقة. الجراثيم كانت في يوما ما هي سبب اختراع الميكروسكوب وساعدت في تكوين علم الأحياء المجهري. زحف القارات كان من الصعب تقبله كحقيقة حتى جاءت نظرية الصفائح التكتونية تشرح كيف حدث ذلك. فكرة الأمواج العاتية وهي تحطم السفن تحت سماء صافية على مسافات بعيدة في عرض البحر يبدو أمراً مستحيلاً، لكننا نعرف أن تلك الأمواج وما تفعله بالسفن أمر حقيقي وموجودة بالفعل. ماذا عن النيازك؟ هل هناك صخور تسقط من السماء؟ لابد أنك تمزح! لكن فعلا تبين أن السماء تمطر صخوراً في بعض الأحيان. المغزى من ذلك أن المتشككون الذي يفهمون كيف يعمل العلم، لا يقبلون ادعاءات سخيفة بدون وجود دليل، ولا يرفضون كل ادعاء سخيف بشكل مطلق ونهائي.

عندما تفكر في معتقدات غريبة، من المهم أن تكون على علم بالطريقة التي نستخدمها لفهم وتقييم العالم المحيط بنا. نحن نعرف أن البشر مخلوقات تبحث عن الأنماط في الأشياء الموجودة من حولنا – كيف تحدث تلك الأشياء وطريقة تنظيمها أو حركتها ولماذا وجدت أو حدثت – ونفعل ذلك بدون بذل أي جهد، فنحن نحاول بشكل طبيعي ” أن نوصل النقاط مع بعضها البعض ” تقريباً في كل شيء نراه أو نسمعه. عندما تحاول الإمساك بطائر الكوموفلاج فوق الشجرة – طائر يستخدم التمويه لتخفي – لتناوله على العشاء فهذه تعتبر قدرة عظيمة، أن تسمع اتصال صديقك في وسط مشتتات متناثرة أو محاولة تحديد موقع عدوك المختبئ في الغابة الذي يتمنى أن تقع في الكمين الذي نصبه لك. لكن البحث عن الأنماط يقودنا أيضاً إلى أشياء غير موجودة، والذي قد يضيع وقتنا ويوقعنا في المشاكل. بالإضافة إلى ذلك، هوسنا بالأنماط لا يتوقف عند الرؤية والسمع. نحن نميل إلى ربط الأشياء بعضها ببعض بطريقة تلقائية وإيجاد الأنماط عندما نفكر، وهذا هو السبب الوحيد الذي يجعل من نظريات المؤامرة من غير الممكن أن تتأصل وتزدهر في عقول العديد من الناس.

الوسيط الروحي السابق والمتشكك حالياً، طارق موسى، اتفق على أن برنامج تمييز الأنماط الذي نمتلكه داخل أدمغتنا هو السبب الرئيسي للمعتقدات الغير عقلانية وتلك المعتقدات أمر شائع. لاحظ طارق موسى لأول مرة وبشكل مباشر ذلك الأمر عندما قام عميله بعمل روابط غريبة لكي يدعم فكرته السابقة بأنه شخص لديه قدرة حقيقية لقراءة العقول.

 

عقولهم قامت بالجزء الأكبر من العمل والتي جعلت من عمله أمر بسيط.

نحن رائعون وبشكل فطري في ملاحظة الأنماط، لكن هذا يعني أننا نرى الأنماط حيثما وجدت، في الحقيقة، لا نرى أي من تلك الأنماط. قال موسى: ” يعتبر هذا بالنسبة لي هو تفسير ارتباط الناس  بالظواهر الخارقة والغير طبيعية، بدءً من الأطباق الطائرة إلى الأشباح، ومن نظريات المؤامرة وصولاً إلى التنجيم.

الانحياز التأكيدي

واحد من الأسباب الرئيسية التي تجعل التخلص من الايمان بمعتقد خارق للطبيعة أمر صعب جداً  بمجرد تصديق ذلك المعتقد هو اننا جميعاً لدينا ميل طبيعي للخداع. نحن لا نفكر عادة بمعتقداتنا بموضوعية وصدق. بدلاً من ذلك، نحن نميل إلى تذكر والتركيز على أي شيء يثبت صحة المعتقد، بينما نتخطى ونتجاهل وننسى أي شيء يتعارض أو يلقي ظلال الشك على ذلك المعتقد، هذا ما يسمى بالانحياز التأكيدي. الانحياز التأكيدي يمكن ان يقود أفضلنا إلى الضلال. لذلك كن حذراً.

“الانحياز التأكيدي يعتبر جزءً البرمجيات الموجودة داخل رأسك الأكثر خداعاً واقناعاً”، صرح البروفيسور هانك دايفيس المتخصص في علم النفس، كاتب لكتاب منطق رجال الكهف: أن مثابرة التفكير البدائي في العالم الحديث. ” يعتبر جزء من طبيعتك كإنسان يملك عينين وأنف ورجلين. لتجنب تقييم العالم من خلال التحيز التأكيدي فيجب عليك أن تأخذ خطوات واعية ضده. رغم ذلك لا يوجد ضمانات بأنك ستنجح في فعل ذلك. إذا سمحت لبرنامجك العقلي أن يعمل بناء على اعدادات افتراضية من العصر الجليدي، فسوف يجعلك تميل إلى استخدام الانحياز. تذكر ” لقد تم تحذيرك”.

يجب ان ترى لتؤمن بوجود شيء ما، وستؤمن بوجوده عندما تراه

ليس الخبر كالمعاينة – مقترح عنوان

 

لا بد من وجود القليل من الشك فيما يخص الرؤى المزعومة للأشباح والاطباق الطائرة والملائكة والوحوش من قبل شهود عيان، فما هي الا نتيجة لطريقة عمل رؤيتنا. على نقيض ما كنت تفترضه، فنحن في الواقع لا نرى إلى ما ننظر إليه. فالذي يحدث عندما تنظر إلى شيء ما هو ان عقلك يخبرك ماذا ترى، وعقلك لا يخبرك ابداً بشكل دقيق بنسبة 100%. عقلك يقوم بفعل ذلك ليكون ذو كفاءة وهو فعلاً يساعدنا لنعمل بطريقة فعالة في عالم مليء بالتفاصيل وخطوات التي يجب أن تفهم. لكن في بعض الأوقات يمكن ان يسبب لنا أن نرى أشياء لم تكن موجودة من الأصل أو على الأقل ليست موجودة في شكلها التي قدمت بها لنا. وممكن أيضاً أن تجعلنا لا ننتبه لأشياء موجودة بالفعل. بعض الأشياء التي تغفل عنها رؤيتنا قد تكون أجزاء من معلومات مهمة كان من الممكن ان تكشف لنا بأن الأطباق الطائرة او الأشباح التي تحوم في الخارج هي مجرد طائر أو مجموعة من الضفادع. على سبيل المثال.

أنسى جميع ما تعتقد أنك تعرفه عن الذاكرة

جميع ما يعرف حالياً عن ذاكرة الانسان يجب أن يرسل موجات متنافرة من الشك إلى الأعمدة الفقرية لكل واحد من أولئك المتحمسين المهتمين للظواهر الغير طبيعية. العلماء اكتشفوا أن الذاكرة لا تعمل مثل كاميرا الفيديو، العديد من الناس يعتقد أن أعيننا مثل عدسات الكاميرا وأن العقل هو القرص الصلب الذي يسجل جميع الصور التي تدخل إليه بشكل طوعي. لا تعمل الذاكرة بهذا الشكل. لا وجود لما يسمى ب أخذ التقاط صورة لكامل المشهد ولا وجود لإعادة المشهد أو الرجوع به إلى الوراء. الحقيقية هي أن ذكرياتنا يتم بنائها بواسطة عقولنا بعض الأشياء تترك خارجاً وبعص الأشياء لم تحصل من الأصل يتم حفظها في عقولنا وفي بعض الأوقات ترتيب الأحداث يتم عكسه. يبدو الأمر غريباً، عقلك ينتج ذكرى التي يعتقد أنك تحتاج إليها—ويتطلب حينها أن يكون دقيقاً بنسبة 100%.

يعني هذا، بالطبع، أن جميع القصص القائمة بذاتها المتعلقة بمشاهدات ومواجهات جميع تلك القصص من الكائنات الفضائية إلى الملائكة لا يمكن اعتبارها دليل يثبت وجود أي شيء، لأننا نعرف بدون شك أن أي شخص صادق عاقل واعي يمكنه ببساطة تذكر أي حدث بشكل غير صحيح بدون وجود خطأ من جانبه. ذاكرة البشر لا يمكن الاعتماد عليها، مما يعني أن هنالك شيئاً أكثر من كونه مجرد قصة حول التجربة الشخصية يتم استدعائه في حالة وجود ادعاءات غريبة. وقد أظهر الباحثون وبشكل متكرر أننا أكثر عرضه للاقتراحات والمعتقدات السابقة عند تكوين تصورنا للواقع وذكرياتنا لما شهدناه. مايكل شيرمير، مؤسس وناشر مجلة المشككون أمضى أكثر من ثلاثين سنة باحثاً في المعتقدات الغريبة ومتحدثاً للجميع من المدعين أنهم مختطفي الكائنات الفضائية إلى المكذبين لمحرقة الهولوكوست وصولا إلى الوسطاء الروحيين. يعتقد هو أن جزء كبير من المعتقد الغير العقلاني يكون بسبب ” الواقعية القائمة على المعتقد”، هو أننا نصدق أولاً ثم بعد ذلك نأتي بأسباب لتجعلنا نصدق ما قمنا بتصديقه.

نحن نكون معتقداتنا من أجل مجموعة ذاتية متنوعة شخصية وعاطفية وأسباب نفسية فيما يتعلق الظروف التي تنشأ عن طريق العائلة والأصدقاء والزملاء والثقافة، بالإضافة إلى المجتمع ككل. بعد أن نكون معتقداتنا بعدها نقوم بالدفاع عنها وتبريرها وجعلها عقلانية لمجوعة أسباب فكرية. الحجج المقنعة والتفسيرات العقلانية، فالمعتقدات تأتي أولاً وبعد ذلك تأتي التفسيرات لتلك المعتقدات. أسمي هذه العملية ” الواقعية القائمة على المعتقد”، فتصوراتنا للواقع معتمدة على المعتقدات التي نمتلك بشأن ذلك الواقع. الواقع موجود بمعزل عن العقل الإنساني، لكن فهمنا للواقع يعتمد بناء المعتقدات التي نمتلكها في وقت من الأوقات.

سواء أعجبك ذلك أو لم يعجبك، فالحقيقة هي أننا لا يمكن أن نكون متأكدين من أي شيء نراه أو نسمعه أو نفكر به أو نشعر به أو نتذكره. وهذا له تبعات على المعتقدات المشهورة التي تثير اعجاب وتبهج الناس من جميع أنحاء العالم. الكثير من الناس يجب عليهم أن يعرفوا أن عقولنا رائعة كم هي بحالتها الطبيعية التي عليها، فهي ليست جيدة بما فيه الكفاية للتفريق بين الواقع والخيال والوهم. للأسف. نحن نملك نظام يقوم بعمل ذلك بشكل رائع.

العلم يساعدنا في إيجاد طريقنا في الحياة

تقدير واحترام العلم ووجود الشك البناء أمران متلازمان. من المؤسف أن العديد من الناس لا يقدرون روعة العلم وأهميته بالنسبة لنا. العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق والاكتشافات أو ملاحقة هامشية للمفكرين. العلم هو أساس عالمنا الحديث. حضارتنا لم تستطع النجاة ليوم واحد بدون نواتج الطريقة العلمية. بالرغم من ذلك، يمكن استخدام العلم من قبل أي شخص لأغراض متعددة، لذلك لا يجب على أي أحد أن يتسلل إلى عبادة ساذجة أو الإذعان لجميع العلماء. نعم، من الممكن أن يخلق العلم علاجات ولقاحات للأمراض، يطعم الملاين من خلال الزراعة بطريقة علمية، ويكشف الطريقة التي يعمل بها الكون، لكنه أيضاً يعتبر مصدر الأسلحة مع احتمالية لتدمير الإنسانية. العلم قد يكون ضروري ورائع، لكنه سيكون جيد فقط عندما يستخدم الشخص منهجياته.

العلم، أكثر من أي شيء آخر، هو عبارة عن طريقة لفهم واكتشاف الأشياء في عالمنا. نستطيع بشكل أفضل أيضاً من خلال العلم تحديد ما إذا كان شيء ما حقيقة أولا. إذا كان هنالك شيء ما لا يمكن اثباته علمياً، قد يظل صحيح أو حقيقي، لكن قد يكون هذا هو السبب الوجيه لتمتلك شكوك قوية اتجاهه حتى يتم اثباته علمياً. نحن نعلم أن العلم ينفع ويعمل بطريقة ناجحة لأن لديه سجل من  النجاحات أفضل بكثير مقارنة بأي شيء آخر. المؤمنون الظواهر الخارقة والظواهر الغير طبيعية يعتمدون على العلم والتكنولوجيا، بينما يمكنهم تجربة حلول أكثر بما يتفق مع معتقداتهم. الناس الذين في حاجه للتواصل مع شخص آخر متواجد في مكان بعيد، لا يستخدمون الحاسة السادسة، إنما يستخدمون الهاتف للتواصل مع ذلك الشخص. الناس الذين يريدون زيارة مكان بعيد جداً لا يستخدمون الإسقاط النجمي، فهم يركبون الطائرة للسفر لذلك المكان. العديد من المؤمنين بالطب البديل مازالوا يعودون للعلم الطبي عندما يصابون  بمرض عضال أو إصابة ما. لماذا معظم الناس المؤمنين بالحياة الأخرى الطوباوية يخافون من الموت ويتجنبون ذلك بأي ثمن؟

نقطة أخيرة يجب ان تتذكرها عندما تفكر في الظواهر الغير طبيعية والخارقة والمعتقدات الزائفة، أنه عندما تتخلى عن تلك المعتقدات فلا تعتبر تلك تضحية. التفكير بتشكك لا يمكن  فقط ان يكون أكثر آمنا وأكثر جدوى اقتصادياً مدى الحياة، ولا يتوجب عليه أن يكون أقل مرحاً أيضا. مهما يكن الذي قد خسرته بسبب عدم تصديق أشياء مثل التنجيم أو الأشباح، فأنا متأكد بأنني أعوض عن تلك الخسارة بتقبل الواقع بحماس كبير. جميع الاكتشافات العلمية حتى هذا الوقت وجميع الألغاز التي لا يزال يتعين حلها تشعرني بالحماس، وأجد العديد من الأسباب التي تدعو للتفاؤل والأمل  حتى في وسط الواقع المرير. في رأيي، الكثير من الراحة والبهجة يمكن ايجادها في الأصدقاء والعائلة والرومانسية والعمل بإتقان وابداع ويمكن ان تجدها في الفن وأن تعامل الناس بلطف وتجدها في الطبيعة وفي جميع أشكال المرح. أنا أدرك ان الايمان بالقوى غير المرئية يؤثر فينا وقد يوحي بالراحة أو الاستقرار، لكن أيضا يمكن ان يكون مريحاً ويحقق الاستقرار لندرك اننا كبشر، فنحن أذكياء بما فيه الكفاية وأقوياء بما يكفي لمواجهة الكون كما هو عليه ومواصلة حياتنا  

 

 

  ٥

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

أبيض الناب ينادي

أبيض الناب ينادي

بدأت حياته ككاتب عام 1893. في تلك السنة كان قد نجح في رحلة تخييم مروعة، فعاد المغامر الصغير ذو الـ 17 عاماً إلى المنزل يخبر والدته عن الإعصار الذي ضرب المخيم. وعندما شاهدت والدته إعلاناً في إحدى الصحف المحلية لمسابقة الكتابة، دفعت ابنها إلى كتابة قصة وتقديمها للمسابقة. ورغم انه لم يتجاوز الصف الثامن، حصل على الجائزة الأولى بقيمة 25 دولاراً، متغلباً على طلاب الجامعات من بيركلي وستانفورد.

إلى الأفكار الاشتراكية

بالنسبة إلى جاك لندن «1876-1916»، كانت المسابقة تجربة افتتاحية، وقرر تكريس حياته لكتابة القصص القصيرة. لكنه واجه صعوبة في العثور على الناشرين. وبعد عدة محاولات في الساحل الشرقي، عاد إلى كاليفورنيا والتحق لفترة وجيزة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، قبل أن يتجه شمالاً إلى كندا للبحث عن ثروة صغيرة على الأقل في سباق حمى الذهب الذي حدث في يوكون.
وفي سن الثانية والعشرين، لم يستطع لندن جمع الكثير من المال. عاد مرة أخرى إلى كاليفورنيا وكان لا يزال مصمماً على أن يصبح كاتباً. أقنعته تجربته في يوكون أن لديه قصصاً يمكن أن يرويها. بالإضافة إلى ذلك، فإن فقره وفقر الرجال والنساء الذين عرفهم دفعه إلى اعتناق الأفكار الاشتراكية.

جيش العاطلين عن العمل

تحدر جاك لندن من الطبقة البرجوازية الصغيرة، تجرع مرارة الحياة، وامتهن أعمالاً مختلفة، من عامل في المصانع، وبحار على متن السفن، وعامل منجم، وقاطع طريق إلى الشرطة البحرية، ومراسلة الصحف.
في عام 1893 عمل بحاراً في فترة كانت البلاد تغلي بالإضرابات العمالية المنددة بالعمل الشاق في السفن والسكك الحديدية ومصانع الكهرباء، وانضم إلى جيش كوكسي للعاطلين عن العمل. كان جيش كوكسي مسيرة احتجاج ضخمة نفذها عمالٌ عاطلون عن العمل من الولايات المتحدة، بقيادة رجل الأعمال جاكوب كوكسي من أوهايو. ساروا في واشنطن العاصمة عام 1894، وهي السنة الثانية من الكساد الاقتصادي الذي دام أربع سنوات والذي كان الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة في ذلك الوقت. وفي عام 1894، قضى 30 يوماً في سجن مقاطعة إيري في بوفالو، نيويورك. وكتب عن العالم الرهيب في السجون الأمريكية.
في عام 1899 بدأ نشر قصصه في مجلة Overland Monthly. وظهرت تجربة الكاتب المحترف الذي يكتب وينشر 1000 كلمة يومياً. وحقق شهرة واسعة ونجاحاً تجارياً مع نشر روايته «نداء البرية» 1903، الرواية التي تحكي قصة كلب يجد مكانه في العالم ككلب زلاجات في يوكون.
نشر جاك لندن أكثر من 50 كتاباً على مدى 16 عاماً، وتحول إلى كاتب وروائي غزير الإنتاج، وسلطت روايته «أهل الهاوية» عام 1903 نقداً قاسياً للرأسمالية وتدور أحداثها في أحياء الصفيح في لندن. كما غطى الحرب الروسية اليابانية عام 1904 في الصحف الأمريكية، وألقى المحاضرات عن مآسي الرأسمالية. وهو من أوائل من انضموا إلى الحركات الاشتراكية الأمريكية في القرن التاسع عشر، إذ كان عضواً في حلقات الاشتراكيين العموميين الذين درسوا البيان الشيوعي وأعمال ماركس، ورشحته المنظمات الاشتراكية لخوض معركة الانتخابات البلدية، وكان يلقي الكلمات الحماسية في الاجتماعات الجماهيرية والنقابية والإضرابات العمالية.

العقب الحديدية

ركّز جاك لندن في كتاباته على أن الصراع الطبقي بين العمال والرأسماليين أمرٌ لا بدَّ منه، وروّج طوال عمره للأفكار الاشتراكية، والثورة العمالية القادمة. وكان ينتقد باستمرار النظام الرأسمالي، ويفضح القوانين اللاإنسانية الجائرة، ويفضح أسس الرأسمالية وجشعها اللامحدود. وكان يدعو إلى الاشتراكية وحماية البيئة. وتناولت كتاباته كلَّها مسألة علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الفرد بالمجتمع. وقد كتب قصص مغامرات أبطالها من الحيوانات، مثل رواية «الناب الأبيض».
أما رواية «العقب الحديدية» والتي جعلت من الكاتب من أكثر الكتّاب شعبية عند العمال والكادحين والمثقفين ذوي الاتجاهات الاشتراكية، فهي تصوير لمستقبل البشرية، ورواية هادفة، تمثل أحداثها ثورة المضطهدين، ونضال العمال الدامي في أمريكا، وتنبأ فيها باقتراب ظهور الفاشية في أوروبا.
وصفت الصحف الأمريكية تلك الرواية بـ «إنجيل الاشتراكية والاشتراكيين»، كتبها جاك لندن عام 1906، وصور حتمية انتصار الاشتراكية وحتمية انهيار الرأسمالية، والصراع الرهيب الذي لا بدَّ أن يدور بين معسكري التقدمية والرجعية، والأساليب الجهنمية التي تلجأ إليها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء، الرأسمالية التي تتطَّلع إلى سحق الطبقة العاملة بالحديد والنار.

كتبها : لؤي محمد

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

«أبي فيودور دوستويفسكي»

كتاب جديد حمل عنوان «أبي فيودور دوستويفسكي» ترجمة الدكتور أنور محمد إبراهيم ومقدمة بوريس تخوميروف. ويحكي الكتاب الذي ظهرت الطبعة الأولى له عام 1920 سيرة حياة الأديب الروسي الشهر فيودور دوستويفسكي بقلم ابنته لوبوف.

وضعت لوبوف أمام نفسها هدفاً واضحاً، هو تقديم حياة والدها كاملة للقراء، من مولده وحتى وفاته، حيث لم تكتف الكاتبة عند حدود المذكرات، اعتماداً على ذاكرتها الحادة، وإنما سعت لكتابة سيرته، ونجحت في أن تبعث الحياة في الحكايات التي سمعتها من والدتها، آنّا غريغوريفنا، حول حياتها العائلية مع الوالد، دوستويفسكي.
تضمنت الحكايات اللقاء الأول، العلاقات المتوترة مع أهل الزوج، السنوات الصعبة التي قضياها في الخارج، والأحداث التي سبقت ميلاد لوبوف فيودوروفنا دوستويفسكايا نفسها، وكذلك ما حكاه والدها لوالدتها عن طفولته من معلومات تحمل الطابع الحصري، وهو ما يرسم صورة أشمل عن الكاتب الروسي العظيم حسب ما نشرته وكالات الأنباء.
والمترجم، محمد أنور إبراهيم، حاصل على الدكتوراه في علم اللغة والأدب الروسي من جامعة موسكو، عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اللجنة الاستشارية العليا في المركز القومي للترجمة، وحاصل على وسام الشرف من روسيا عام 2005. وله ترجمات عديدة عن اللغة الروسية من بينها: تاريخ القرصنة في العالم، نساء في حياة دوستويفسكي وغيرها.
يذكر أن دوستويفسكي مواليد موسكو عام ،1821 وتوفي في طرسبورغ عام 1881، هو روائي وكاتب قصص قصيرة وصحفي وفيلسوف من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم. تحتوي رواياته فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية داخل روسيا في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والسياسية. تعرض الكاتب للاضطهاد زمن القيصرية، نفي وحكم عليه بالإعدام، ولكن لم تنكسر إرادته.
وكان العالم العربي قد عرف منذ النصف الثاني من القرن الماضي كثافة في ترجمة أعمال فيودور دوستويفسكي إلى اللغة العربية، وخاصة إصدارات دار رادوغا في الاتحاد السوفييتي. ومن أشهر رواياته التي عرفها العالم العربي: الأبله، الإخوة كارمازوف، الجريمة والعقاب، المراهق

عام 1921، كتبت ليوبوف فيودور دوستويفسكي (1869 – 1926)، ابنة الروائي الروسي، (1821 -1881) وزوجته آنا دراسةً ذات طابع أدبي وشخصي عن تجربة والدها كاتباً وأباً إلى جانب سيرة حياته الخاصة. كانت الكاتبة معروفة لفترة باسم إيميه دستويفسكي، ونشرت كتابها تحت هذا الاسم، وقد صدرت مؤخّراً ترجمة عربية له تحت عنوان “أبي فيودور دوستويفسكي” عن “الدار المصرية اللبنانية” بترجمة أنور محمد إبراهيم.

صدر الكتاب في نسخته الأولى عن “منشورات جامعة يال” في 1922، أي في العام التالي لمئوية ميلاد صاحب “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كارامازوف”، ويتضمن رأي صاحبته ككاتبة في تجربة والدها الأدبية، إلى جانب سرد لحياته الشخصية وأبرز المنعطفات فيها، كالمعتقل والحياة العامة والأحلام والأزمات ومشاريعه، ما أنجز منها وما ظل حلماً.

وتفرد الكاتبة مساحة لمراسلات دوستويفسكي مع تولستوي، وما تكشفه من آراء كل منهما عن أدب الآخر، وعلاقتهما بالصديق المشترك والرسول بينهما المفكّر الروسي نيوكلاي ستراخوف، رغم أن الاثنين لم يلتقيا أبداً، كما تفرد فصلاً لعلاقته بالروائي إيفان تورجنيف.

تبدأ فصول الكتاب بتتبّع أصول عائلة دوستويفكسي، وطفولته ومراهقته، ثم خطواته الأولى في الأدب، وحياة السجن التي عاشها، وحياته كجندي، وماذا تعلّم من تجربة الإدانة والاعتقال، وزواجه الأول، وصداقاته الأدبية، وشخصيته كرب عائلة، وأسفاره ورحلاته، والسنة الأخيرة في حياته ثم رحيله، وتفاصيل كثيرة أخرى.

وضعت ليوبوف فيودور دوستويفسكي بعض الكتب التي تتبّعت حياتها في المهجر حيث تركت منزل والدتها التي لم تكن تتّفق معها، وأصدرت رواية واحدة بعنوان “المهاجر”، ورحلت وحيدةً في إيطاليا بمرض فقر الدم الخبيث.

 

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

«البحث عن الزمن المفقود» لبروست: حيرة المبدع بين الوعي والزمن

منذ الربع الأول من القرن العشرين قيل دائماً إن الرواية بعد جيمس جويس ومارسيل بروست، لم تعد حالها كما كانت قبلهما. الأول هو الإرلندي صاحب «يوليسيس»، والثاني هو الفرنسي صاحب «البحث عن الزمن المفقود»، وعادة ما يضاف إليهما الألماني روبرت موتسيل، ليشكل الثلاثة معاً، زمرة الآباء المؤسسين الرواية الحديثة في القرن العشرين.

وإذا كان موتسيل قد اهتم بخاصة في روايته الكبيرة «الإنسان البلا – سمات»، بالحديث عن موقع إنسان العصر من التغيرات، إذ فرض عليه العصر أن يكون بلا ملامح أو سمات، وإذا كان جويس قد اهتم خصوصاً بتيار الوعي المتدفق والمسيطر على الزمنين الجوّاني والبرّاني (الذاتي والموضوعي) فإن الزمن هو الذي شكل لدى مارسيل بروست هاجساً أساسياً، لا سيما في مجال علاقته – أي علاقة الزمن – بالوعي.

وما رواية «البحث عن الزمن المفقود» سوى السعي الذي قام به مارسيل بروست، طوال السنوات الأخيرة من حياته، وسط يأسه ومرضه، للوصول إلى ذلك التعبير الضروري عن علاقة الوعي بالزمن. ولئن كان بروست قد بدأ في كتابة الأجزاء السبعة التي تؤلف متن روايته الكبيرة هذه، منذ عام 1907، فإنه حين رحل عن عالمنا في عام 1922، لم يكن قد انتهى من كتابتها كلها بعد، ومن هنا ظلت هذه الرواية التي نشر الجزء الأخير منها في عام 1927، أي لاحقاً لموت المؤلف، ظلت من دون اكتمال… والحقيقة أن بروست لو عاش أكثر ولو كتب أكثر لكان مقدرا للرواية أن تبقى على الدوام غير مكتملة، طالما أنها، أصلاً رواية عن الزمن، وطالما أن الزمن لا يمكنه أبداً أن يكتمل. ويزيد من يقيننا هنا أن بروست نفسه، كان يقول في مجالسه الخاصة – وكان يبرهن في ثنايا كتابته دائماً على – أن ما يتوخاه من هذه الكتابة إنما هو استعادة الزمن الذي يمضي والتمسك به، إذ بالنسبة إليه الزمن الماضي هو كل شيء نملكه… ونحن لا يمكننا أن نتمسك بهذا الزمن إلا عبر وسيلتين لا ثالثة لهما: إما الذاكرة اللاإرادية، أو الأعمال الفنية الإرادية. وهو إذ كتب «البحث عن الزمن المفقود» إنما كان يخلق ذلك العمل الفني الذي يحمل الذاكرة اللاإرادية في ثناياه.

عندما شرع مارسيل بروست، منذ عام 1907 في كتابة الجزء الأول من سفره الكبير، في عنوان «من جانب سوان» (وهو لم ينشر إلا في عام 1913) لم يكن في الحقيقة ليتصور أن إنجاز العمل سيستغرق سبعة أجزاء وألوف الصفحات، ويشغل كل ما تبقى له من سنين. كان العمل يتولد من داخله شهراً بعد شهر أو عاماً بعد عام، من دون تخطيط شامل مسبق. وكانت الكتابة تتدفق تدفق نظرة بروست إلى الفن والمجتمع والزمن، وما يمكن أن تكون عليه نظرات وتطلعات راويه، المسمى أيضاً مارسيل، وهو يتنقل في ثنايا الزمن وثنايا المجتمع وثنايا ذاته الداخلية في علاقتها مع هذين. والحقيقة أن توغل الراوي – البطل، في العمل كان يمر عبر الكثير من العناصر الخارجية التي كانت سرعان ما تصبح جزءاً من داخليته: سيكولوجية العلاقات العائلية، العلاقات الجنسية، العلاقات مع الفن لا سيما الموسيقى والرسم والكتابة القصصية، إضافة إلى تأمل متهكم للمجتمع الفرنسي المتحذلق في ذلك الزمن الانعطافي من حياة هذا المجتمع «الما – بعد – درايفوسي».

غير أن قول هذا كله يجب ألا يبعدنا عما هو أساسي: فالرواية هذه إنما كانت، بالنسبة إلى مارسيل بروست، ميدان صراعه مع الزمن على اعتباره العدو الأول والأكبر للإنسان. فبروست الذي كان يشعر بعزلة مرعبة منذ وفاة أمه في عام 1905 وشعوره بالانعتاق المريع من أية روابط أسرية، أحس للمرة الأولى خلال وجوده بأنه وحيد في مواجهة دائه الذي يحصي عليه ساعات عمره وأيامه… وهكذا راح يشعر بأن العتمة تزيد في حياته والصمت يزداد تخييماً. ولم يعد غريباً للسيد/ الأنا/ الراوي الذي بدأ يحضر منذ «من جانب سوان»، أن يواصل حديثه واصفاً ما تعكسه الذاكرة وتراكمه من أحداث وعلاقات وشخصيات، إذ إن هذه كلها «راحت بالتدريج تطالب بحقها في أن تعود إلى الحياة من جديد: لكنها هذه المرة ستفعل تماماً عكس ما كان متوقعاً منها أن تفعله في الجزء الأول». أما الأجزاء التالية فقد حملت عناوين: «في ظل الفتيات الحاملات الزهور»، و «جانب غرمانت» و «سادوم وعمورة» و «السجينة» و «البرتين تختفي» (التي حملت لاحقاً عنوان «الهاربة») وأخيراً «الزمن المستعاد».

وفي شكل عام يمكننا اعتبار «البحث عن الزمن المفقود» رواية دائرية – «بيكارية» إلى حد ما – من ناحية بنيتها، إذ إنها تنتهي في الصفحات الأخيرة التي كتبها بروست، بالراوي مارسيل وهو يكتشف في ذاته مواهب فنية، وهو اكتشاف سيقوده إلى كتابة هذه الرواية التي يكون القارئ قد انتهى لتوه من قراءتها، في أجزائها السبعة. أما المزاج الغالب على العمل ككل، وعلى مواقف مارسيل – الراوي – فهو مزاج الضياع واليأس وفقدان القدرة على التكيّف مع تجربة الماضي، والبؤس إزاء خواء العلاقات الاجتماعية… أما السعي البشري، فإنه هنا لا يُرى إلا عبر منظور قوة الزمن التدميرية.

إن الذين نظروا إلى هذا العمل، على أنه عمل فلسفي في المقام الأول، انطلاقاً من دلالاته، لم يكونوا على خطأ، حتى وإن قاد بحثهم أحياناً إلى الاستنتاج بأن الجانب الفكري – الفلسفي للرواية يغلب جانبها الفني الإبداعي، ذلك أن «البحث عن الزمن المفقود» تعتبر واحدة من أولى الروايات في القرن العشرين التي تنطلق، وإن لم يكن عن قصد مدروس بالطبع، من «ظواهرية» هوسرل لتعبّر عن الفن الكامل في عملية وصف عالم لا يوجد إلا في داخل الوعي الفردي، حيث يكون في الإمكان الموافقة مع النقاد الذين رأوا أن «الاهتمام الظواهري في عمل بروست إنما يكمن في وصوله إلى تحليل معمّق لوعي استفزازي ومرهف إلى الحدود القصوى»، لا سيما أن ثمة في داخل هذا التحليل إمكانية لبروز نوع من البعد المثالي لحالات الوعي والمشاعر والحيوات الداخلية للشخصيات. إذ، ولا بد من قولها مرة أخرى، لدى بروست ثمة تشارك كامل بين الوعي والزمن، المتكونين هنا كشريكين لا انفصال بينهما. فـ «الزمن هو أساس الوعي، والوعي أساس الزمن»، كما يؤكد واحد من المختصين الفرنسيين في أدب بروست، الذي يضيف: «أن بروست يتحدث، من ناحية عن الزمن بلغة تتوافق مع لغة الميتافيزيقا الكلاسيكية، تلك اللغة التي هيمنت على الفلسفة، منذ أرسطو وحتى برغسون وهوسرل، وحتى أتى هايدغر، ليبرهن على أن الزمن والأبدية يتناقضان، ويخوض من ناحية ثانية في زمن أبدي، زمن آخر، هو الزمن المستعاد».

والحال أن مارسيل بروست، في صراعه مع الزمن، ذلك الصراع الذي كانت الرواية ميدانه، يبدو مرهف الحس، بخاصة أنه عاش على مفترق قرنين يتناقضان بمقدار ما يتكاملان، ويبدو أنه جعل سلاحه الأول التعامل مع زمن خاص، التقطه من الذاكرة وأطلعه إلى الوجود المحسوس، هرباً من أيام كانت بالنسبة إليه معدودة، بمعنى أن الذات لديه، لعبت الدور الأول في خلق عالم الزمن الخاص.

ولد الكاتب الفرنسي مارسيل بروست عام 1871، وكان منذ طفولته مولعاً بالموسيقى بين فنون أخرى، ومن هنا اتجه باكراً إلى الفن والأدب وقد آلى على نفسه أن يكون ناقداً وكاتباً ثم روائياً، ولقد كان له ما أراد، وأصبح – بخاصة بفضل «البحث عن الزمن المفقود» – واحداً من أكبر كتاب بداية القرن العشرين. ومع هذا لا بد من أن نذكر أن أعماله الأولى، مثل «الملذات والأيام» لم تلفت النظر حقاً، كذلك لا بد من أن نشير إلى أن كتاباته النظرية، لا سيما كتابه ضد سان – بوف، لم ترسخ له مكانة نقدية حقيقية… لذلك، كان عليه أن يكتفي بالسمعة المميزة التي جعلتها له روايته الأساسية والكبرى «البحث عن الزمن المفقود»، والتي تعتبر من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.

 

بقلم:ابراهيم العريس

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

فرجينيا وولف : لماذا نقرأ ؟ و ماهي أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية ؟

فرجينيا وولف : لماذا نقرأ ؟ و ماهي أوجه الشبه بين أعظم الأعمال الأدبية ؟

بقلم : ماريا بوبوفا . 

ترجمة : دلال الرمضان 

” تترابط عقولنا ,نحن البشر, ببعضها البعض . فكل عقل متقد اليوم , يحاكي عقولاً عظيمة كانت موجودة فيما مضى , أمثال” أفلاطون ” و “يوربيديس ”  إذ يمثل  تطوراً و استمرارية للشيء ذاته . إنه ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره .فالعالم , في جوهره , ليس سوى فكر”

 

لقد أدرجت  ” باتي سميث ” (1) ضمن قائمة المعايير التي وضعتها لتصنيف الروائع الأدبية , قدرة هذه الأعمال على سحر قارئها إلى الحد الذي يشعره بضرورة إعادة قراءتها مرة أخرى. في حين اعتبرت ” سوزان سونتاغ ” (2) أن عملية إعادة القراءة , تلك , هي  بمثابة ولادة جديدة للنص . و أظنني  أُوافقهما  الرأي في ذلك , عن طيب خاطر , لأنني أواظب على قراءة رواية ” الأمير الصغير “(3) مرة في كل عام . إذ أجدها تبوح لي , في كل قراءة , بمعان  جديدة , ومرممات وجودية لكل ما يمكن أن يعكر صفو حياتي في تلك اللحظة .

قد نلجأ , نحن القراء , إلى إعادة قراءة بعض الأعمال المحببة إلينا , لأننا ندرك عدم استمرارية  التجارب الإنسانية , بالإضافة إلى آنية تلاقي الحالات و الظروف التي تكوّن الذات البشرية في  أية لحظة من الزمن . ناهيك عن إدراكنا  لتطور شخصياتنا في العام المقبل , إذا ما قورنت بها في العام الفائت , لتغدو أكثر نضجاً في مواجهة كافة التحديات , و الآمال,  و الأولويات . حيث  تصبح ذاتاً جديدة , مختلفة كلياً عنها فيما مضى .

كانت ” فرجينيا وولف ” في الحادية و العشرين من عمرها حين سجلت هذا الاعتراف , بصفاء ذهني لا يضاهى , و ألق لغوي فريد . ففي صيف عام 1903 ,  انزوت ” وولف ” بعيداً عن صخب مدينة لندن,  لتذهب في إجازة قضتها بين رحابة , و خضرة الريف  الإنكليزي , لتستمتع بعزلتها , وتقرأ ما يحلو لها .

ربما بلغت قراءتي خلال هذه الأسابيع الثمانية في الريف , ما يفوق ما أقرؤه في ستة أشهر أثناء وجودي في لندن .

في غضون تلك الرحلة الاستجمامية مزدوجة الفائدة , والتي حققت فيها مكسب القراءة والتأمل , وصلت ” وولف ” إلى اكتشاف السبب الحقيقي الذي يجعلنا نقرأ , بالإضافة إلى ما يمكن للكتب أن تقدمه للروح الإنسانية , وكيف لها أن تمهد لما أسمته ” إيريس مردوك “(4)          ” فرصة للتجرد من الأنانية ” وكيف يمكن للكتب أن تؤدي براعتها المذهلة في كونها تنشأ عن ذهن شخص معين , لتتمكن من الوصول, بهذه الحميمية,  إلى آلاف , أو ربما ملايين الأشخاص عبر الزمان و المكان , في عملية تداخل بين مختلف المشاعر, ضمن تجربة تشاركية واسعة.

في الأول من يوليو , كتبت ” وولف ” في مذكراتها ما يلي :

 

إضافة إلى الكتابة , فإنني أقرأ الكثير . بيد أن الكتب هي أكثر الأشياء التي أستمتع بها .

في بعض الأحيان , أشعر بأجزاء من دماغي تتسع و تكبر أكثر فاكثر , و كأنها تنبض بدم متجدد , بشكل أسرع من ذي قبل. وليس هنالك شعور أكثر لذة من هذا الشعور . أما حين أقرأ التاريخ , فكل شيء يصبح ,على حين غرة , نابضاً بالحياة. متفرعاً جيئة و ذهاباً , مرتبطاً بكل أشكال الأشياء التي كانت بعيدة في الماضي . وكأنني أشعر, على سبيل المثال ,  بتأثير ” نابليون ” على أمسيتنا الهادئة  في الحديقة . لأرى كيف ترتبط عقولنا ببعضها البعض , وكيف يمكن لأي عقل متقد أن يحمل التركيبة ذاتها التي كونت عقل ” أفلاطون ” أو ” يوربيديس ” إنها عملية تتمة و تطوير لذات الشيء .هو ذلك الفكر المشترك الذي يربط العالم بأسره ,  فالعالم , في جوهره , ليس سوى فكر .

في وقت لاحق من حياتها , كتبت ” وولف ” في وصفها الرائع لإدراك معنى أن تكون مبدعاً, ما يلي :

ثمة مثال يكمن خلف كل حالة ضبابية . هذا العالم عبارة عن عمل إبداعي . لا وجود لـ ” شكسبير ”  فنحن الكلمات في أعماله , أو ” بيتهوفن ”  فنحن الألحان في موسيقاه , ولا لإله , فنحن الشيء بعينه .

بعد بلوغها الحادية والعشرين من العمر , تمكنت ” فرجينيا ” من إدراك آنية هذه اللمحات الجزئية للحقيقة , وكيف يمكن لهذا الشعور بالانتماء الداخلي , أو ذاك الشعور بالكينونة,  أن ينزلق من بين أيدينا . تكمل ” وولف ” تدوين ذات المذكرات التي كتبتها في عام 1903 بلفتة رشيقة من إدراكها أن ” العالم بأسره ليس سوى فكر ” إلى ذاك الهروب المألوف للمعنى , حينما  تجتاحنا تلك الحالة الضبابية لتحيلنا غرباء , مرة أخرى :

ثم أقرأ قصيدة تقول _ ذات الشيء يتكرر . لأشعر أنني تمكنت من القبض على المعنى الجوهري للعالم , و كأن كل هؤلاء الشعراء والمؤرخين و الفلاسفة يتبعون طرقاً تتفرع عن ذاك المركز , حيث أقف . ليعتريني بعض الاضطراب بعدها , فيؤول كل شيء للخطأ من جديد .

وبعد أكثر من عقد من الزمن , كررت ” وولف ” وجهة النظر ذاتها,  في واحدة من مقالاتها الاستثنائية التي كتبتها في غضون عملها كناقدة في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز البريطانية , والتي تم جمعها , مؤخراً , في كتاب  تحت عنوان { نبوغ و حبر : مقالات  للكاتبة فرجينيا وولف حول كيفية القراءة } هذا الكتاب الذي كنت سأدرجه, بكل شغف ,  ضمن قائمة كتبي المفضلة لهذا العالم , لو كنت من أولئك الذين يفضلون إعادة قراءة الروائع الأدبية المحببة إلى قلوبهم .

كما هو حال الشاعرة البولندية الحائزة على جائزة نوبل للأدب ” فيسوانا شيمبورسكا ” التي اتسم نقدها التأملي بكونه يوظف الكتب كنقطة انطلاق لتأملات سامية حول الفن والحياة , أكثر من كونها نماذج للمراجعة أو النقد , تعامل ” وولف ”  كل كتاب تقوم بمراجعته كحجرة سقطت من جيب معطفها في  نهر الحياة (5) . حيث تقوم برصد الصيغة الأساسية للعمل , ومن ثم تراقب حلقات الإدراك  التي تتنامى وتترقرق في نهر الوعي . في أولى مقالاتها من تلك السلسلة التي تناولت فيها روايات الكاتبة ” تشارلوت برونتي” , تبنت ” وولف ” وجهة نظر عميقة حول نشأة الروائع الأدبية , والذي نعاود الرجوع إليه مراراً, وتكراراً :

ثمة ميزة تتشارك بامتلاكها كافة الأعمال الأدبية الحقيقية . ففي كل قراءة لها , يلاحظ القارئ تغييرات طفيفة . كما لو أن نسغ الحياة يجري في أوراقها . أو أنها تمتلك , كما هو حال السماء و النباتات , القدرة على تغيير شكلها و لونها بين فصل و آخر . إن تدوين  انطباع القارئ حول مسرحية ” هاملت ”  بعد قراءتها في كل عام , من شأنه أن يصبح أشبه بسيرة افتراضية لكاتبها . فكلما ازدادت معرفتنا للحياة , كان لدى ” شكسبير ” تعقيباُ على ما عرفناه .

 

1.باتي سميث :كاتبة ومغنية أمريكية ( 30 ديسمبر 1946)

  1. سوزان سونتاغ : ناقدة و مخرجة وروائية أمريكية ( 16 يناير 1933 _ 28 ديسمبر 2004 ) 
  2. الأمير الصغير :  رواية للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري 
  3. إيريس مردوك : فيلسوفة و ناقدة إيرلندية .
  4. يقصد بها الإشارة إلى حادثة انتحار فرجينيا وولف , حيث ملأت جيوب معطفها بالحجارة و ألقت بنفسها في نهر أوز .
نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

«الفنون الجميلة» لغوته: حسرة الشاعر لأنه لم يكن رساماً

كتبها : إبراهيم العريس

unnamed

كتب في كل شيء يتعلق بفنون زمانه وآدابها وآثارها. كتب الفلسفة والشعر والرواية والنقد، وخاضت

كتاباته كذلك في بعض العلوم. وكتب أيضاً في النقد وفي اللغة، وغاص حتى في روحانيات الشرق وغيبياته وفي التاريخ وأسراره. ووصل الى حد كتابة الرواية العاطفية.

 وهذا ما جعله فريد عصره، وقد نقول أيضاً فريد العصور كلها، وواحداً من أكبر الأدباء/المفكرين في تاريخ الفكر الأوروبي خلال القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل- وهو أمر تؤكده على أية الحال استطلاعات الرأي التي تُجرى في أوروبا بين الحين والآخر فيجمع فيها المستطلَعون على تفوقه الدائم-. غير أنه، هو الذي أبدع الكتابة في نظرية الألوان وفي البصريات بخاصة، لم يجد طوال حياته وسيلة تمكّنه من أن يرسم. فهو كان يحب، أيضاً، أن يكون رساماً، وموسيقياً ونحاتاً إذا أمكن. ولكن يبدو أن باعه في هذه الفنون التطبيقية كان قصيراً. ويروى أن أسفاً كبيراً تملكه طوال حياته من جراء هذا الواقع السلبي. غير انه، ببصره الثاقب، وكمية المعارف الهائلة التي احتوى عليها عقله ووجدانه، عرف على مراحل مختلفة من حياته، كيف يبدل هوسه بأن يكون رساماً- وموسيقياً ونحاتاً- بانصراف إلى الكتابة عن الفن. فكانت كتاباته في هذا المجال أشبه بلوحات أخاذة، وقطع موسيقية ومنحوتات.

انه وولفغانغ غوته، أديب المانيا الأكبر خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والثلث الأول من التاسع عشر. الأديب الذي يعرفه كثر من العرب، خصوصاً، بكتابه «الديوان الشرقي للشاعر الغربي» الذي عرف كيف يمجد فيه الحضارة الإسلامية في شكل لم يفعله أي أديب غربي آخر، على كثرة الأدباء والفنانين الغربيين الذين عرفوا كيف يجدون في شرقنا مصدر الهام لهم بين الحين والآخر سواء أكانوا روائيين أو شعراء أو رسامين أو موسيقيين. غير ان ما نحن في صدده هنا هو كتاب لغوته يحمل عنواناً في غاية الاختصار والبساطة: «الفنون الجميلة». والطريف ان هذا العنوان الذي قد يوحي أول الأمر بأنه يتعلق بدراسة أو بحث اكاديمي، إنما يخفي في حقيقة الأمر وراءه مجموعة شعرية لا أكثر… بمعنى ان العنوان هو لمجموعة من القصائد كتبها غوته في مراحل متقطعة من حياته، وتدور كلها حول فنون جميلة. والأصل في هذا العمل قصائد وجد بعضها في مجموعة لغوته جعل عنوانها «أشعار» حين طبعها للمرة الأولى في العام 1815- أي في مرحلة مبكرة من حياته ومساره الكتابي الذي بدأ لديه هو الآخر مبكراً على أية حال-، ثم أضيفت اليها أقسام أخرى في طبعات لاحقة.

ومن الواضح ان دراسة متمعنة لهذه القصائد كفيلة بأن تضعنا، حقاً، ازاء موقف غوته تجاه الفنون الجميلة… علماً أن هذا الموقف لم يكن أبداً موقفاً واحداً جامداً، بل كان موقفاً متغيراً تبعاً للحقب والظروف، ذلك ان القصائد المعنية هنا كتبت، كما أسلفنا، في فترات متتابعة امتدت خلال الجزء الأكبر من حياة غوته. وإذا كانت القصائد نشرت، في المجموعة، تبعاً لسنة نشرها أو كتابتها للمرة الأولى، فإن الأولى بينها هي قصيدة «العابر» التي تحفل بأجواء رومانسية عاطفية اثارت اعجاب القاء، حتى وان كان الباحثون في حياة غوته يقولون ان طابعها الحماسي العاطفي ما كان ليؤهلها لتكون ضمن المجموعة. غير أن أهميتها، مع هذا، تنبع من كونها تظهر حماسة الشاعر المبكرة للفن الكلاسيكي وللطبيعة، إذ تجمع في طيّات أبياتها، بين نظرية فنكلمان الشهيرة في الفن، وبين انجيلية جان – جاك روسو ونظرته الى الطبيعة. وبعد ذلك تأتي قصيدة «أغنية الفنان الصباحية» التي يقول الباحثون عنها انها تعبّر خير تعبير عن المرحلة التي كان فيها غوته متأثراً بهوميروس وبالملاحم الاغريقية القديمة. وبعد هذه القصيدة ينشر غوته في العام 1775 قصيدة «أغنية الفنان» التي تعارض تماماً ولع غوته بالاغريق، لتطلب من الطبيعة الوحي بـ «توسيع مدى الوجود الضيق حتى يتمكن من معانقة الأبدية». وفي العام 1812 يرسل غوته الى زميليه الفيلسوفين رينهاردت وهامبولدت نص قصيدة جديدة له عنوانها «كم كبيرة هي ديانا الأيفيزية». وهي قصيدة ذات منحى فانتازي حتى وإن لم تكن في جوهرها فانتازية، إذ ان غاية الشاعر منها كانت الرد على نص كان المفكر جاكوبي نشره بعنوان «عن الأمور الإلهية وعن سبر أغوارها». وقال غوته هذا صراحة، حتى في رسالة أخرى بعث بها الى جاكوبي ويقول فيها انه يحزنه ان يرى واحداً من تلامذته ينحو الى ابدال الإلهة ديانا بغيرها من الآلهة، بعد أن كان هو – أي غوته – كرّس حياته كلها من أجل مجد ديانا والتعبير عن مكانتها السامية في عالم الشعر والأفكار. وقد اعتبر هذا الموقف، من جانب النقاد، رداً حاسماً وواضحاً على نزعة جاكوبي الغيبية الصوفية. كما اعتبرت القصيدة بالتالي، أحد أهم النصوص التي تنم عن موقف غوته من الدين والشعر والفكر سواء بسواء.

في مقابل هذا تأتي قصيدة عنوانها «غزليات مهداة الى فلهلم تيشباين»، وتيشباين هذا كان رساماً صديقاً لغوته أمضى في رفقته فترة من الزمن في روما. أما النص نفسه، فإن غوته كتبه على شكل تقديم مبتكر لمجموعة من الرسوم حققها تيشباين وأراد نشرها في مجموعة. والحال ان هذا النص الشعري انما يكشف، وفق الباحثين، «حنين الشاعر الكبير الى الفن التصويري الذي نما حبه لديه دائماً بشغف كبير، وكان خلال حقبة ما من حياته يريد له ان يكون مهنته ومبرر وجوده». وغوته نفسه يفيد كثيراً حول هذا الأمر وحول خيبة أمله الكبيرة تجاهه في نص شهير له عنوانه «الشعر والحقيقة». والحال ان هذا النص، اضافة الى هذه القصيدة، التي يحكي فيها غوته عن الرسم وكأنه فردوسه المفقود، منادياً ربات الالهام إن استطاعت مساعدته في ذلك، يقولان لنا الكثير حول أسى غوته لأنه لم يتمكن من أن يكون رساماً على الاطلاق، لا بالقلم ولا بالريشة، علماً أن هذه الحسرة ليست مبررة كلياً طالما اننا نعرف أن غوته خلّف رسوماً وبعض لوحات ذات مستويات فنية لافتة، وبعضها يضعه في مكانة متقدمة حتى بين كبار رسامي زمنه. ولكن نعرف من ناحية أخرى أن فناناً وكاتباً كان يسعى دائماً الى أن يدنو من الكمال، ما كان في وسعه أن يرضى حقاً عن إنتاج ينجزه، ولا يكون في المكانة الأولى. حسناً… قد يكون فن غوته جميلاً ولافتاً، لكنه لا يتيح له أن يقف في مكانة أولى بين الرسامين… من هنا لا يبقى لديه سوى الحسرة التي طفق طوال حياته يعبر عنها، ولا سيما في هذه القصائد التي قال عنها الباحثون إننا قادرون على أن نجد فيها، على أية حال، الأحاسيس والمشاعر الرؤى المتناسقة نفسها التي يمكن هاوي الفن التشكيلي الحقيقي، ان يجدها في اروع اللوحات. لقد كتب غوته، هنا، أشعاره، في شكل جعلها تبدو كاللوحات الزاهية الملونة ولا سيما في مجال تحديد أطر اللغة الشعرية كما يحدد الرسام أطر لوحته الخطوطية. ومن هنا لم يكن بعيداً من الحقيقة ذلك الباحث الذي، إذ تناول قصائد غوته هذه، قال: «اننا في غوته الشاعر الذي كتب هذه القصائد طوال حقب وحقب من حياته الطويلة، لقادرين على أن نرى، حقاً، غوته الرسام… الرسام الذي خيل لغوته انه لم يكنه أبداً… لكنه كانه في حقيقة أمره».

وولفغانع غوته (1749 – 1832) كان رساماً بالكلمات، لكنه كان أيضاً فيلسوفاً في الحوارات المسرحية (كما في رائعته «فاوست») وشاعراً في رواياته («لوت في فيمار» و «أشجان فرتر») وحاذقاً محباً للتاريخ وللطبيعة غائصاً في سيكولوجية البشر، وفي خلفيات الأحداث، في كتابته للمسرح وللفلسفة وللنقد وللنصوص العلمية وبخاصة للشعر الذي كان كبيراً كلاسيكياً من كباره.

المصدر: الحياة

نشرت تحت تصنيف مقال

فن الكتابة , وحياة الكُتّاب.

فن الكتابة , وحياة الكُتّاب.

حوار مع الكاتب البريطاني { آيان ماك إيوان }

10817au

أجرى الحوار: لاين روزن . لصحيفة ( ذه انكوايرر)

ترجمة : دلال الرمضان

 

حوارنا اليوم مع الكاتب البريطاني آيان ماك إيوان، الذي تم تصنيفه من قبل صحيفة التايمز البريطانية واحدًا من أفضل خمسين كاتب بريطاني منذ عام 1945. والذي استحوذت رواياته على اهتمام شريحة واسعة من القراء حول العالم. كان من بينها رواية أمستردام الحائزة على جائزة مان بوكر لعام 1998، و رواية الكفارة الصادرة في عام 2001، والتي تم تحويلها إلى فيلم حاز على جائزة الأوسكار في 2007.

جرى الحوار في مكتبة لندن الأربعاء الماضي. حيث حدثنا آيان ماك إيوان عن روايته الجديدة قشرة الجوزة المقتبسة عن مسرحية هاملت ل وليم شكسبير، والتي تُروى أحداثها من قبل جنين في رحم أمه. عن هذه الرواية، وعن حياته ككاتب، كان لنا معه الحوار التالي :

 

أظن أن هذا هو كتابك السابع عشر، إن لم أكن مخطئاً؟

إنه عملي القصصي السابع عشر، والروائي الخامس عشر. فأول كتابين لي كانا عبارة عن مجموعة قصصية .

تندرج كتاباتك ضمن العديد من الأجناس الأدبية، بما في ذلك السيناريو السينمائي، والأفلام التلفزيونية، أليس كذلك؟

أجل. لقد وجدت نفسي، مؤخراً، منغمساً في كتابة السيناريو السينمائي بشكل كبير. إذ لدي عملان قيد الإنتاج. وهما مقتبسان من كتابيّ قانون الطفل وعلى شاطئ تشيسل. حيث ستكون الممثلة الإيرلندية سيرشا رونان البطلة في أحدهما .

هل بمقدورك إخبارنا عن الحالة التي تمر بها في غضون ولادة أي عمل أدبي لك؟ كيف تعمل؟ وبأية سرعة تكتب؟ وما هو الأسلوب الذي تتبعه؟

حالما أبدأ في الكتابة فإنها تستحوذ على تفكيري تمامًا. ما يجعلني أصب جُل أفكاري في الموضوع الذي أكتب عنه. وإن حدث أن وصلت حصيلة كتابتي إلى ما يقارب 450 إلى 500 كلمة في اليوم الواحد، حينها سأكون في ذروة سعادتي. يبدأ عملي في التاسعة والنصف صباحاً من كل يوم. و لا أجد أي مبرر للتوقف عن العمل. لأنني أعلم جيداً أنني سأصل إلى تلك اللحظة التي ينتابني فيها التردد، فأتوقف عن العمل ليوم كامل، أو ربما لأسبوع، لأعاود العمل من جديد فيما بعد .

أحياناً، أعمل في وقت متأخر من الليل. وفي أحايين أخرى، إذا سارت الأمور على ما يرام، أعمل في الساعات الأولى من الصباح. غالباً ما أستهل يومي بمراجعة ما كتبته بالأمس. لقد كنت من أوائل من تبنوا فكرة معالجة النصوص في أوائل الثمانينات. إنه لأمر حسن أن يكون الكاتب قادراً على تصحيح ما كتب باستمرار. وفي هذه الحالة، أظن أن عليه أن ينفصل عن النص الخاص به بشكل تام، ليعود للنظر إليه بطريقة حيادية، وكأنه عملٌ لكاتب آخر.

هل سبق لك أن قمت بالتدريس؟

لقد أدرت العديد من النقاشات في عدة حلقات بحثية، مع طلاب عدة، بما في ذلك طلاب كلية الفنون الجميلة، حيث جرت العادة أن أحاورهم بعد إعطائهم الحصة المقررة كل صباح. وحتى قبل أن أقوم بنشر كتابي الأول بمدة طويلة، كنت ألقي محاضرات في ورش تعليم الكتابة في جامعة آيوا. لقد استمتعت كثيراً بعملي. وأظن أن الطالب المجدّ هو من يأتي بفائدة و يغادر بأخرى. إذ لا بد له أن يستفيد من حضوره تلك الورشات. بيد أن أكثر فائدة يمكن أن تجنيها من تلك الورش هي وجود من يترقب أعمالك. أنت بذلك تكسب القارئ. وهذا يعني أنك تكتسب جمهوراً جديداً. إذ ثمة فرق هائل بين وجود ثلة من الناس ممن يقرؤون أعمالك، وبين عدم وجودهم .

ثمة عدد كبير من القراء ممن يستخدمون كلمة واحدة لوصف أعمالك، ألا وهي “محطِّمة” فهل تظن أن بإمكان هذه الكلمة أن تصف القصص التي تكتبها بدقة؟ وهل تحاول، متعمداً، ترك ذلك الأثر العاطفي العميق في نفوس قرائك؟

لا أنوي تحطيم قلوب قرائي بالضرورة. بيد أنني آمل أن يقعوا تحت تأثير ذلك السحر الذي يوقد لديهم فضولاً تجاه النص. ذلك لأن فعل قراءة الرواية التي تخلو من ذلك الإحساس بالترقب، هو فعل باهت يفتقر لأي معنى. يمكن لهذا الإحساس أن يكون ترقباً فكرياً أو عاطفياً، أو مزيجاً منهما معاً. هو شيء يحثك على متابعة القراءة. إذ يرى الكاتب البريطاني هنري جيمس أن الوظيفة الأولى للروائي هي أن يحقق المتعة للقارئ. وربما أعي تماماً ما يعنيه بذلك. أما بالنسبة لي، فلا شك أنني سأضع الرواية جانباً، إذا لم تُثر فضولي. أود أن أُحدث شيئاً ما. ولا يجب أن يتعلق ذلك الشيء بتلك الأدوات التي أشتهر بها. آمل، فقط، أن يشعر قرائي بصعوبة ترك الرواية دون الرغبة بالعودة لقراءتها مجدداً.

في روايتك الجديدة (قشرة الجوزة) كيف اخترت صوت الراوي؟ و ما الذي جعلك تحاكي “هاملت”؟

لقد أتى ذلك من اتجاهات مختلفة. فبينما كنت أحضر اجتماعاً مملاً، تبادر إلى ذهني السطر الأول من الرواية، والذي يقول: “هأنذا، أقف رأساً على عقب داخل جسد امرأة ” حيث قمت بتدوين بعض الملاحظات. ثم غادرت ذلك الاجتماع .

حين يتعلق الأمر بكتابة الرواية، غالباً ما تتسم البدايات بالبطء. فأية فكرة يمكن أن تبدو فكرة رائعة في يوم بعينه، بيد أنها قد تصبح بخلاف ذلك، بمجرد مضي شهرين من الزمن .

في تلك الأثناء، كنت أشاهد مسرحية هاملت إذ بدأت الفكرتان بالتناغم مع أفكاري. وبمجرد أن يأخذ صوت الراوي مكانه المناسب، كما هو حال الخطة التي رسمتها لسير أحداث الرواية، والتي تركز على حث القارئ على التخلي عن شكه، فإن كل الأحداث، بعد ذلك، تسير وفقاً لتسلسلها المنطقي .

تكمن الصعوبة الحقيقية في بداية الرواية. أي في اختيار الأسلوب المتبع في قص الحكاية، على وجه التحديد. وبما أن القصة كانت مرحة، فلا عجب أن أختار أسلوباً مرحاً لسرد أحداثها بلغة شعرية تغلب عليها قافية التفعيلة الخماسية التي كانت بمثابة اعتراف بكون شكسبير المصدر الأول لإلهامنا. فلغتنا متشبعة بكلمات ذلك المبدع. فلم يؤثر بنا شكسبير بآلاف الأمثلة، والشخوص، والأفكار التي تبناها فقط، بل وصل تأثير كلماته إلى أولئك الذين يرددونها دون معرفتهم به. فحين يرددون العبارة التالية: “كن كل شيء، أو لا شيء” هم يقتبسون عبارة شكسبير الشهيرة دون علمهم بذلك. شكسبير هو المصدر الذي أعاود اللجوء إليه باستمرار. وهذا نوع من الإجلال للخط الذي سار عليه ذلك المبدع.

كيف يبدو يوم الكاتب إيان ماك إيوان؟ وهل بإمكانك الخروج دون أن يتعرف عليك المارة؟ وكيف يتصرف الناس عند معرفة هويتك؟

نعيش أنا وزوجتي في الريف، حيث لا يوجد أحد. إن شهرة الأديب تختلف كل الاختلاف عن شهرة مشاهير الغناء، أو الرياضة، أو التلفاز. فلن تصادف معجباً يحاول أن يشد قميصك، على سبيل المثال. فالقارئ الشغوف بنتاجي الأدبي، إن حدث وتعرف علي، فربما لن يحرك ساكناً. ولعله سيكتفي بالاقتراب مني بكل احترام، وبالقول: “تعجبني تلك الرواية” ومن ثم ينصرف بكل هدوء. حياتي تسير كحياة باقي البشر. قد يختلس المارة النظر إلي في الشارع أحياناً. بيد أن ذلك لا يحدث سوى في الفترات التي أصدر فيها رواية جديدة.

ما الذي تعنيه لك فرصة اللقاء بقرائك، والتفاعل معهم؟

عندما تلتقي بقرائك، فإنك تقابل مجموعة من الناس انتقيتها بنفسك. حذارِ أن يخطر ببالك أن العالم كله يقرأ كتاباتك، وأن الجميع معجب بك. إن لقاء القراء تجربة ممتعة للغاية. لقد صادفت قراءً بأعمار متفاوتة؛ بدءًا من عمر السابعة عشر، وحتى عمر الثمانين سنة، أو حتى التسعين، ممن قرأوا أعمالي طوال حياتهم. حين زرت حديقة ذات يوم، برفقة ابني، في وسط لندن -حيث كنا نسكن – كان الناس يتنزهون في وقت الغداء. جلبت رزمة من الكتب التي كان من بينها كتبي، وأخرى لكتاب آخرين. ثم قمت بتوزيعها على المارة. كانت كل امرأة تطلب مني ثلاث كتب، في حين كان الرجال يردون بالقول: “لا، شكراً لك”

أيقنت حينها صدق شعوري بأن “فن الرواية سيؤول للتلاشي، لولا جمهوره من القارئات”