نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

لارس سفندسن… ما تخفيه الوحدة

لا شك في أن موضوع الوَحْدَة مهم، وفي الوقت نفسه حساس لأنه يتناول بالبحث مسألة عواطف شخصية. يقول لارس سفندسن، مؤلف كتاب «فلسفة الوَحْدَة» (Reaktion Books ـــ ترجمه عن النروجية كري بيرس ـ 2017)  والصادر عن دار منطاد الكويت ٢٠١٩ إنّ الوحدة قد تكون مشكلة عويصة لمن يصابون بها، وستؤثر في نوعية حياتهم وفي صحتهم الذهنية والجسدية. لكن الوَحْدَة مشكلة أيضاً لأنها ترتبط بمسألة الخجل. في الوقت نفسه، قد تشكل الوَحْدَة أفضل الأوقات التي نقضيها. فالاختلاء/ الانعزال يخبرنا الكثير عن أنفسنا وعن مكاننا في هذا العالم.

EJkOpbfWwAYbYf6طلاقاً من هذه النقاط، يقول الكاتب والفيلسوف النروجي والأستاذ المحاضر في «جامعة برغن»، الذي أصدر العديد من المؤلفات التي تُرجمت إلى 24 لغة، إنّ هذا المؤلف نتاج محاولته اكتشاف ماهية الوَحْدَة، وفي من تؤثر، وأسباب ظهور الإحساس بالوَحْدَة واختفائه، وكيفية تمكننا، أفراداً ومجتمعات من الحديث عن الوَحْدَة.
لكن ما سبب إطلاق الكاتب صفة الفلسفة على مؤلفه؟ وما الفرق بين مؤلف غير فلسفي وآخر فلسفي؟ قد يرى بعضهم أن الإجابة سهلة تكمن في حقيقة أن كاتب هذا المؤلف فيلسوف ويعتمد فيه على كتابات فلاسفة آخرين! لكنّ للمسألة أبعاداً أخرى، بحسب الكاتب.
الوَحْدَة موضوع تبصّر لأننا، جميعنا، نعرفها من تجاربنا الشخصية، لكن هذا لا يكفي لفهم أسبابها. عندما نود الحديث عن أمر ذي قيمة أكبر من مجرد نقل تجاربنا الشخصية بخصوص الوَحْدَة، علينا الاستعانة بنتائج البحوث العلمية في مجالات أخرى هي: علم الاجتماع والسيكولوجيا وعلم الأمراض العصبية، والتقصي الفلسفي للوَحْدَة، مع الأخذ في الاعتبار نتائج تقصيات العلوم الأخرى ذات الصلة، وهذا ما يفعله هذا المؤلف.

بناء على ما سبق، فقد قسم الكاتب مؤلفه إلى ثمانية أجزاء هي:
الفصل الأول: «جوهر الوَحْدَة» يقدم عرضاً للوَحْدَة بالاعتماد أكثر على العلوم الاجتماعية والسيكولوجيا منه على الفلسفة. وفي هذا الفصل، يميز المؤلف بين مجموعة من المفاهيم ومنها الفروق بين الوَحْدَة والانفراد أو الخلوة، ويعرض أشكالاً مختلفة للوَحْدَة.
الفصل الثاني: «الوحدة كونها انفعال/ عاطفة» يقدم عرضاً مختصراً للنقاشات الدائرة بخصوص طبيعة الانفعالات مع التركيز على كون الوحدة تندرج تحت هذا المفهوم. الفصل الثالث: «من هم الذين يعانون الوحدة؟» يلقي نظرة على الذين يعانون الوحدة وعلى مختلف العوامل التي تنمّي تجربة الوحدة. يقول الكاتب إن فقدان الثقة أو عدم الاطمئنان هو العامل الأساس في شرح الوحدة الفردية ومدى انتشارها في مختلف البلدان.
الفصل الرابع «الوحدة والثقة/ الاطمئنان»: انطلاقاً من الفصل الأسبق، هل يمكن عدّ الوحدة عكس الحب والصداقة؟
الفصل الخامس «الوحدة والصداقة والحب»: يسترسل الكاتب هنا في عرض التضاد المفترض بين الوحدة من جهة والحب والصداقة من جهة أخرى، ودور الأخيرَيْن في حياتنا. ويوضح في هذا الفصل أنّ الفردية المعاصرة تشكّل أحد مسببات الوحدة.
الفصل السادس «الفردية والوحدة»: يكمل الكاتب بحثه منطقياً بالالتفات إلى مسألة الفردية في حياتنا المعاصرة.
الفصل السابع ‹«الاختلاء/ الانعزال»: خصّص الكاتب هذا الفصل لعرض النقاشات كون الاختلاء/ الانعزال أحد الأشكال الإيجابية للوحدة. ويضيف أنّ المشكلة الأولى التي تواجهنا في هذه الأيام لا تكمن في الوحدة وإنما في ندرة الاختلاء/ الانعزال.
الفصل الثامن «الوحدة والمسؤولية» خصصه الكاتب للحديث في المسؤولية الشخصية للتعامل مع الوحدة التي يعانيها الفرد.
بعد هذا العرض العام، لا بد من عرض بعض النقاط الرئيسة التي ذكرها الكاتب:
– انفعالات المرء وعواطفه لها مهام. فالانفعالات والعواطف «السيئة» مثل الغضب والخوف والحزن تساعدنا على تجاوز مِحن.
– الوحدة تدفع المرء لـ «محاولة» كسب أصدقاء، والتحدث مع الغرباء، فمن دون الشعور بالوحدة سيعاني المرء وحدةً إضافية.
– الانفعالات والعواطف مهمة ومفيدة، لكن في حال تجاوزها الحدود وفقدان السيطرة عليها، ستتحول إلى لعنة. مثلاً، يمكن للحزن أن يتطور ليصبح غَمّاً أو اكتئاباً. في هذه الحالة، تصبح الوحدة انعزالاً، وهو ما يعرف بأنه الوحدة المزمنة. أمر لن يتغير لدى المرء الذي يعاني الوحدة حتى لو تغيرت ظروف حياته، ما يعني أن وحدته عريكة أو مزاج فردية.
– هذا يعني بالتالي خطأ الظن أنّ كل ما ينبغي للمرء فعله لتجاوز الشعور بالوحدة، هو تغيير الأجواء المحيطة به مثل الانتقال إلى عمل آخر أو إلى مدينة أخرى أو ممارسة نشاطات جديدة.
– مشكلة الذين يعانون الوحدة تكمن في توقع ارتباط غير قابل للتحقق. المقصود هنا أن الأشخاص الذين يعانون الوحدة المزمنة، هم اجتماعيون إلى درجة فائقة، ولذلك يظنون أنهم غير محبوبين وأنّ لا أحد سيقبل مصادقتهم، أو ربما يكمن السبب في أنهم يثقلون الصداقة والحب بتوقعات تعجيزية، إلى درجة أنهم أنفسهم غير قادرين على حب الآخرين أو مصادقتهم.
– يقول الكاتب إن مصدر التوقعات آنفة الذكر يكمن في روايات وأفلام وقصص الحب والصداقة المثالية. هذا يعني أنه ليس بإمكان المرء الذي يعاني الوحدة، العثور على حب يطابق توقعاته.
– ليس ثمة علاقة بين الأشخاص المحيطين جسدياً بالفرد الذي يعاني الوحدة ومشاعر الوحدة. المقصود أنّ الوحدة ليست مقتصرة فقط على الانفراد.
– الأفراد المنعزلون ليسوا أقل ذكاءً من بقية البشر، ولا أكثر ذكاءً منهم، ونشاطهم اليومي لا يختلف عن رديفه لدى الآخرين.

– أحد معاني الحياة هو الشعور بحاجة الآخرين لك، وهذا يعني بالضرورة وجود ثقة متبادلة في أي علاقة.
– عندما يظهر المرء ثقة بأحد ما، فإنه يكون هشاً أو سريع العطب (vulnerable)، وعندما يظهر المرء ثقة مطلقة بشخص مهم له، فإنه يكون هشاً بالمطلق، وعرضةً لرفضه في حال محاولته إقامة تواصل معه. بالتالي، فإن الريب بشخص ما، يقود إلى ريب مطلق، وهذا يعني أن الفرد المنعزل يشعر بأن محيطه الاجتماعي مصدر تهديد له، ما يجعله يمتنع عن التواصل الإنساني.
– الأفراد الذين يعانون الوحدة لا هم لهم سوى أنفسهم، وهو تحديداً سبب انعزالهم.
لكن هل كل ما سبق يعني أن سبب الشعور بالوحدة لدى الفرد ما هو إلا ذنبه؟! هناك رأي بأنّ ثمة سبباً آخر يكمن في أن الناس عَلَّموا الشخص الذي يعاني الوحدة التفكير على نحو خاطئ.

 

نشرت تحت تصنيف مقال، غير مصنف

مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، ومهما كنا ، نحن الذين نعيشها، منهكين ، بإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسيرحتى النهاية.

نتيجة بحث الصور عن ماريا بوبوفا

مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، ومهما كنا ، نحن الذين نعيشها، منهكين ، بإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسيرحتى النهاية.

كتبت : ماريا بوبوفا

ترجمة :دلال الرمضان

في إحدى ظهيرات مدينة نيويورك الحارة ، كنت أجلس مع صديقة لي كانت زميلتي في الدراسة لسنين عدة في أحد المقاهيوقد كنت ، فيحقيقة الأمر، فتاة لا تخلو من بعض الغرور والسذاجة . ولا تلقي بالاً للشعر على الإطلاقحتى بدأت صديقتي بقراءة بضعة أبيات للشاعر ( إدوارد إستالن كانينجز ) في مقهى مانهاتن الصاخب ذاك . 

في تلك اللحظة، تغير كل شيءكانت تلك الأبيات هي الشرارة التي أوقدت لدي شغفاً حقيقاً بالشعر.

وبالرغم من وصف الشاعر الروسي ( جوزيف بروسكيللشعر بأنه أداة لتطوير ذائقتنا الأدبية ، كما هو حال الشاعر الأمريكي ( جيمسديكي ) الذي وصف ، بدوره، الشعر قائلاً :

يتيح الشعر للفرد أعمق أنواع التملك للعالم “

إلا أن ردة فعلي ، في يوم الثلاثاء الصيفي ذاك ، لم تكن مستغربة على الإطلاقلأن مجتمعنا يضمر نوعاً من المقاومة الغريبة للشعر . بلوربما الرفض المتعنت لفكرة احتواء الشعر على ما وصفه الشاعر الانكليزي ( ويليام ووردزوورثبـ ” النَفَس والروح المرهفة لكل المعارف” وهذا ماعرضته الشاعرة الأمريكية ( موريل روكيسر ) في كتابها المعنون بـ ( حياة الشعروالصادر في عام ١٩٤٩ ، حيث قالت :

” إنه رفض يتسم بالخوف

إن كتاب ( موريلهذا يعد استكشافاً رائعاً ، وبالغ الحكمة لكل الأشكال والأساليب التي نُبعد بها أنفسنا عن تلك الهِبة المتمثلة بذلك الفنالذي الأساسي ، المتغلغل في الروح ، والملم بالحقيقة ، والذي لايمكن الاستغناء عنه . تستهل ( روكيسر ) كتابها قائلة:

إن الشعر هو الطريقة التي تُشعر البشر بتلاقي ضمائرهم مع العالم . وهو الذي يشعرهم بقيمة معاني مشاعرهم وأفكارهم ، وبجدوىعلاقاتهم مع بعضهم البعض . هو فرصة للإحساس بعذوبة الأشياء و احتمالاتها المتعددة . فالشعر فن يهبنا كل هذه الأشياء . لكنه ، للأسف، فن منبوذ في مجتمعنا . لقد حاولت جاهدة ، في كتابي هذا ، تتبع أساليب رفض الشعر . بدءً من كل أنواع الملل ، ونفاد الصبر ، ناهيك عنإطلاق صفات كالنخبوية ، والغموض، والاضطراب ، و إثارة الشبهات على الشعر.

فهل ثمة ما هو حقيقي من بين تلك الصفات ، وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى إفساد إدراك الإنسان ؟

يمكننا أن نلاحظ أن آراءً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى تقييد ملَكة الخيال لدى الشاعر وجمهوره ، على حد سواء

أما في سعيها للوقوف على أسباب الرفض للشعر ، تعرض ( روكيسر ) أوجه الشبه بين الشعر والعلم قائلة :

تتشابه روابط الشعر ، إلى حد كبير ، بروابط العلم . و لا أقصد بذلك النتائج العلمية ، بل أعني نقطة التلاقي بين كافة أنواع الخيالات ،والتي يمكن للشعر أن يمنحها لقرائه . في الوقت الذي تتكون فيه السيمفونية ، مثلاً ، من مجموعة من النوتات الموسيقية ، و النهر من عددهائل من قطرات الماء ، لا يمكن للقصيدة أن تكون مجرد الصور والكلمات الواردة فيها . فالشعر يعتمد في وجوده على تلك الروابط المتحركةبداخله . هو فن يعيش في زمنه . يعبّر ويستحضر تلك الروابط المتحركة بين إدراك الفرد والعالم . إن آلية عمل القصيدة تقوم على نقل الطاقةالإنسانية . و أظن أن بمقدوري تعريف طاقة الإنسان بكونها قدرته على الإدراك ، وعلى إحداث تغيير في ظروف وجوده . 

إن تقبل معاني الشعر من شأنه أن يمهد لاستخدام الشعر كتمرين للاستمتاع بإمكانية التعامل مع المعاني الأخرى في العالم وفي حياةالفرد بطريقة مختلفة . من الطريف أن نلاحظ أن كافة الأسباب التي عرضتها ( روكيسر ) في زمن نشر كتابها عام ١٩٤٩ لا زالت موجودةفي زمننا الحالي بشكل أكثر وفرة و إلحاحاً من ذي قبل . 

في اللحظة التي نواجه فيها آفاقاً وتضادات أكثر اتساعاً مما سبق ، غالباً ما نلجأ لمصادرنا الخاصة التي هي مصدر قوتنا . لننظر ، مرةأخرى ، لأماني الإنسان ومعتقداته . وتلك المصادر هي التي يمكن لخيالنا ،من خلالها ، أن يقودنا للتفوق على أنفسنا .

إذا حدث  وراودنا شعور بفقدان شيء من تلك الوسائل ، فربما يكون سبب ذلك الشعور هو 

عدم استخدام إحداها ، أو ضرورة إيجاد الكثير منها والبدء باستخدامها هي الأخرى .

لطالما قيل أنه يتوجب علينا استخدام طاقاتنا البشرية ، و بأن ثقافتنا هي التي تحثنا على استخدام كل مافيها من ابتكارات وحقائق . ولكن ،ثمة نوع من أنواع المعرفة الثمينة ، المتمردة ، والتي تفوق الأوابد الأثرية في قدرتها على تحدي الزمن ، والتي يجب أن تتناقلها الأجيال فيمابينها بأية طريقة تكن ، ألا وهي الشعر .

تعود ( روكيسرهنا للحديث عن الدور الفردي للشعر ، وعلاقته بالعلم وباقي الفنون ، لتقول :

ولأن من الصعب أن نوقف هذا الكم الهائل من الأحداث والمعاني التي تحدث كل يوم ، آن الأوان لنستذكر شكلاً آخر من أشكال المعرفةوالمحبة . هذا الشكل الذي لطالما كان وسيلة لبلوغ أقصى أنواع المشاعر والعلاقات تعقيداً . وهذه الوسيلة تشبه غيرها من العلوم والفنون ، بيدأنها تمتاز عنها بقدرتها على تأهيل خيالنا للتعامل مع حيواتنا . وأعني بتلك الوسيلة الشعر .

بعد ذلك ، تعرض ( روكيسر ) تعريفاً لا غنى عنه لطبيعة ومغزى الشعر في وجهة نظر عرضها الفيلسوف والكاتب البريطاني ( آلان دي بوتونبعد ما يقارب النصف قرن من الزمن . يقول ( بوتون):

” يحمل الفن وعداً بالكمال الداخلي” وفي هذا الصدد تكمل ( روكيسرحديثها قائلة:

إن الشعر ، فوق كل شيء ، هو مقاربة لحقيقة أحاسيسنا ، ولكن ، ماهي جدوى تلك الحقيقة؟

مهما بدت مشاهد حيواتنا مربكة أو مشوشة ، ومهما كنا، نحن الذين نعيش تلك المشاهد، منهكين ، بإمكاننا مواجهتها والسير  لبلوغ الكمال .

تذهب ( روكيسرإلى اعتبار الشعر فناً يحضى بأقل قبول بين غيره من الفنون . وتعزو ذلك الى ارتباكنا الأبدي أمام عواطفنا . فضلًا عنتشبثنا الخاطئ بفكرة فصل العاطفة عن الفكر.

أما فيما يتعلق بأصل رفضنا للشعر ، والمتمثل بذلك الخوف الذي يعبر عن خلل نفسي ، تقول ( روكيسر):

إن القصيدة الشعرية ليست دعوة فقط ، بل هي ضرورة ملحة . فما الذي تدعو إليه القصيدة ؟

يمكن للقصيدة أن تحرك فينا العواطف والأحاسيس ، بل وربما تتطلب منا استجابة شاملة ، وهذه الاستجابة الشاملة لا نصل إليها إلا عنطريق المشاعر . كما أن القصيدة المكتوبة بعناية غالباً ماتستحوذ على خيال قارئها فكرياً . فعندما تدرك القصيدة فكرياً ، هي تسلك طريقهاإليك عبر المشاعر أو مايمكننا تسميته بالأحاسيس .

ولفهم ذلك ، ينبغي عليك ،عزيري القارئ، أن تلقي نظرة على النسخة الأصلية من روايةالأمير الصغير )للكاتب الفرنسيأنطون سانتإكزوبيري ) والصادرة عام ١٩٤٣ ، والتي تنتمي للأدب الكلاسيكي للطفل ، والمكتوبة بلغة شعرية رقيقة تلامس القلبإذ يقول كاتبها:

سيشرق الأمير الصغير على الأطفال بذلك النور الطاغي الذي سيلمس فيهم شيئاً آخر سوى عقولهم . حتى يأتي للوقت المناسب ليستوعبواماحدث.

وفي العودة إلى أولئك الذين لا زالو يستنكرون الشعر، تمعن ( روكيسرالنظر في ما أسمته ” جذور التواصل” عبر تعريفها للشعر بمايلي:

ينبع الشهر من أعماق ناظمه ، إذ يخيل لقارئ الشعر الحقيقي أن مشاعر الشاعر تخاطب مشاعره .

وبما أننا قد حُرمنا تلك الهبة ، ألا وهي الشعر، تعيد الشاعرة ( روكيسرصياغة مقولة الرسام الإسباني  ( بابلو بيكاسوالشهيرة ” كل طفلفنان” بطريقتها الخاصة . فهي ترى أن كل طفل هو مشروع شاعر، إذ تقول :

إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا ، إذ لم نكن نمتلك ذلك الخوف  من قبل . فالطفل الصغير لايعرف هذا الخوف لأنه يثق بمشاعره . بيد أن الحواجز تُبنى على عتبات مرحلة المراهقة . أما في سن الرشد ، فغالباً مايرمي الناس الشعر وراء ظهورهم . ولا أعني بذلك المعنى الخرفي للكلمة ، أي كما يتخلص الأطفال من ألعابهم القديمة ، بل أقصد تلكالقناعة الصادمة بكون الشعر يقع خارج نطاق اهتماماتهم .

ولاعجب أن يقوموا بازدراء الشعر أثناء جلوسهم في المقاهي . وهذا الازدراء متأصل فينا جميعاً . لأننا لم نتعلم حب الشعرفي مدارسنا البتة . وهذا ما يجعل ( روكيسرتكرر عبارة الكاتب الأمريكي ( ريتشارد بوكيمنستر فولربشكل شبه حرفيلتعرض، مرة أخرى، أوجه الشبه بينالعلم والشعر ،حيث تقول:

إن ثقافتنا في التعليم ثقافة تخصصية . فهي تعمل على تزويدنا بمعلومات وخبرات في مجال محدد دون غيره من المجالات . وهذه الخبرةتؤهلنا للتعامل مع مشكلات محددة هي الأخرى . إذ تسمح لنا بمواجهة الواقع العاطفي والواقع الرمزي بشكل خجول . 

يمكن لعالم مبتدئ ، أو كاتب محترف أن يتساءل قائلاً : كيف يمكنني الحكم على جودة قصيدة بعينها ؟ بإمكاني الجزم بجودة الأشياءالواقعة في مجال تخصصي  ، بيد أنني أجد نفسي غير قادر على الجزم بكون قصيدة ما جيدة أم لا .

أما في الرد على تساؤل كهذا ، فيمكننا القول بأن من قاموا بطرحه هم أناس يفتقرون الثقة بمشاعرهم ورود أفعالهم . 

إن فقدان ثقتنا بمشاعرنا هو نوع من أنواع انعدام الشعور بالأمان . ولن نتمكن من التخلص من شعورنا الداخلي بافتقارنا الى الكمال ، إذالم نكن قادرين على دمج كل العناصر المكونة لشخصياتنا من أجل تحقيق التكامل الذي تشكل ملكة تذوق الشعر جزءاً منه .

إن هذا الجمع بين العناصر التي تتحرك سوياً وفق نظام مرئي أصبح واضحاً في كل العلوم ، فلا عجب أن يكون حاضراً في كتاباتنا أيضاً . و أينما وجد، فبمقدوره أن يعطينا  نوعاً من الخيال الذي يمكننا من التلاقي مع العالم . كما يعزز قدرتنا على التعامل مع أية وحدة مكونة منعناصر متعددة ، تعتمد في وجودها على بعضها البعض.