نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

قصة قصيرة للكاتب والناقد الأمريكي 

جون أبدايك John Updike

john

ترجمة: انعام الشريفي 

رغم انني كنت أجولُ لبضعة سنوات بين الزيجات في هرج ٍ ومرج ٍ استلـَبَ كل حواسي، فان الآخرين واصلوا بدورهم العـيـشَ والموت. لين، رفيق قديم في لعب الغولف، بين عشيـّة وضحاها حلّ بالمشفى لما قيل له أنـّه فحص روتيني، ووقع ميتاً في الحمام فوراً بعد أن انتهى من اتصال هاتفي بمخزن الخردوات ليعلمهم انه عائد صباحاً لمباشرة العمل. فهو صاحب المخزن واعتاد أن يعهد به الى مساعده في النهارات المُشمسة فقط.

كان تسديد ضربته خاطفا، وكان يلقي بثقله الخلفي على قدمه اليمنى، وغالبا ماتنبثق كرته الى اليسار دون أن تصل الهواء البتة لكنه يفلح في اليوم الواحد أن يغور بالكرة الى الهدف ببضعة ضربات ٍ موّفقة فـذة. وكان دوماً يظهر بملبس ٍ أنيق يوحي بآمالٍ عريضة للعبة التي يخوضها، فهو ببنطاله الأصفر الفضفاض بلون زهرة البتركبi والياقة السمائية اللون الضيقة المنتصبة للأعلى وسترته الكشمير ذات اللون البرتقالي المُحمّر سيتغاير عن نـَسـَق الأخضر المحيط به، وآتي أنا وقد قدتُ الطريق من بوسطن عبر سحابات ٍ من الأسى والأرق والاضطرام المعنوي أجرجرُ عربتي عبر مساحة الاسفلت المخصّصة للوقوف، فـتـَصـِـرُّ حدوة َحذائي عند كلّ خطوة أخطوها مثل براثن الوحوش.

رغم أن لين كان قد عرف جوليا وأحبّها، وهي زوجتي التي كنت قد تركتها، فأنه لم ينبس ببنت شفة بشأني الشخصي عندما كنت أقود السيارة ساعة كاملة لألتقيه بخلاف ماكنت عليه سابقاً اذ آتيه بعشرة دقائق من الشارع المجاور. فقد كان الغولف بالنسبة لي اذ ذاك ملاذاً ومهجعا، حالما اجتـاز فيه كومة الرمل الأولى التي تحمل كرة الغولف في مسعاي للهدف، أحسّ بانني مطـَوّقٌ في حرم ٍ وسيع ٍ ووضـّاء، بمأمن ٍ من النساء والأطفال المهووسين والمحامين الوقورين والمعارف القدامى واستهجاناتهم والنظام الاجتماعي وغـيظهِ بكليته. فللغولف نُظـُمه الخاصّة وحبّه الخاص فبينما يترنح ثلاثتنا أوأربعتنا ونتصايح لنشقّ طريقنا كلٍّ الى حفرة الآخر، نضحك على سوء الحظ العاثر ونهلـّل للضربات النادرة ذات الجودة النسبية. وأحياناً نجد سماء الصيف قد أحلكت وتهب العاصفة فـنـتحلـّق تحت ظلّ قاطرة ٍ مهجورة أوتحت شجرةٍ تبدو اكثر أمناً من أخواتها من الصواعق. وعندها فأن نفاد صبرنا واهتياجنا العصبي المفطور فينا لانقطاع اللعب والاثارة يخلـُصُ بكليته في هذا الحيز من المحميّة الى مايكاد يقارب حرارة العشق، أنفاسُ وعرقُ رجال في متوسط العمر متراصّين تحت المطر الهاطل بلا انقطاع مثل قطيع ماشيةٍ في شاحنة النقل المغلقة كالصندوق. وكان في وجه لين بقعاً متقرّنة من الأشعاع وكان ينوي ازالتها جراحياً قبل أن تتحول الى سرطان الجلد. فمن كان يحـسب ان صاعقة شريانه التاجي ستـَبتـُرُ بتراً خططه ومشاريعه وتمسحهُ مسحا ًمن حياتي المتشابكة؟ فأنه ما من (رُقاقـتا ثلج ٍ ولا بصمتا أصبعين ولا خفقتا قلبٍ في جهاز الرسم البياني ولا رميتا كرة الغولف قد تماثـلتا أبداً)، هل أبداً سأبصر ملـَكـَته المتأنقة المـَلبـَس الباعثة على الأمل ثانية (هللو ياكرتي العزيزة، هكذا يمزح بينما يشرع بالتهادي الى جلسة القرفصاء) ويبّث كرة منخفضة الى اليسار بطريقته المتفرّدة ونسمعه هاتفا ً باحباط غاضب (فهو يُعَدّ ممن خاض ولادة روحية ثانيةiiفي الكنيسة المعمدانية ممّا أكسبه لغة ً شخصية تترفع عن اللعن المباشر): ” ياكومة ً ممسوخة ً وسخة “

قدتُ سيارتي الى جنازة لين وحاولت أن أخبر ابنه: “كان أبوك رجلا ً عظيماً ” الا ّ ان الكلمات تساقطت مترهلة في تلك الكنيسة المعمدانية الباردة. أن الوان لين المـُزَوّقة، وفورته الحماسية المسيحية، وتسديداته الواعدة والمهدورة للكرة، وصيحات ظفرنا في الذهاب والاياب، وجـَمعـُنا عبر كون ٍ مصنّع يتألف من أطوالٍ متغايرة وثابتة، وأنواع ٍ من العشب كانت جميعها مَـسـَحات حياةٍ أرقّ ُ من أن تـُأسر، بل لابدّ أن تـتـبدّد.

بعد برهة من الزمن قرأتُ في صحيفة أن الآنسة أيمي مـَير ِماونت ذات الواحد والتسعين عاماً قد قضت نحبها أخيراً فشابهت الورقة اليابسة التي تـُحال الى فــُتاة. كانت قد بدت دوماً شيئاً عتيقا ً، كانت أحدى أولئك الأنجليز المُحدَثينiii ومن الأواخر الذين يتداولون سيرة هنري جيمسiv وكأنه قد غادر الحجرة لتوّه. وكانت تمتلك رسائلا ً ماتلبث مطبقة ً أومبعثرة ً الى قطع بعثها هنري جيمس الى والديها حيث يـأتي على ذكرها لا كفتاةٍ صغيرة ولكن كسيـّدة فتيـّة “تشارفُ على “خصوصيتها”، على زهوتها التي تحُوطها تماما ً”. كانت تعيش في بضعة غرف ٍ محتشدة بالقطع الأثريـّة في بيت ٍ ريفي ورثته وخصّصت القسم الأكبر منه للإيجار فحـُشـِرَت حشراً فيما تبقى منه. أما لـِمَ لم تتزوج أبدا ً فقد ظلّ هذا سراً هجـَع عليها هـَوناً ونعومة في شيخوختها ، فلعلّ ذلك الجمال السـَـلـِس الناحل الذي نشهده في الصور الفوتوغرافية الداكنة الحبريـّة اللون، وسيماء السـُلالة النبيلة وتوقـّد الذهن، والتحمّس (بالمعنى الروحي) الذي لم يبرحها قد أوقع الهلع في نفوس الكثير من طالبي يدها مثلما جـَذ َبتهم اليها عين ُ هذه الفضائل. ولعلـّه قد أوجد لديها، وهي في عهدٍ ماتلبث فيه مفردة “الطهر” ذات وقع و”نكران الذات” ذات مقام ٍ في عينيها، قيمة ً لا تعلو فيها تلك اللحظة المهيضة الجناح في أيّ موردٍ لهذه الفضائل. وكان لصوتها نبرة جافة تهكميـّة وفي سلوكها شيءٌ من التململ والرفض. كانت قد أشبعت نفسها تثقيفاً فهي تتابع التطورات الجديدة في العلم والفن وتتناول الطعام الطبيعي وتتعاطى في القضايا السياسية الساخنة يوم كانت كل هذه موضات سائدة. وكانت تحبّ أن يتحلّقُ حولها أناسٌ بغضاضة الشباب. فعندما انتقلنا أنا وجوليا الى المدينة مع الأطفال بوجوهنا الجديدة الطريّة، أصبحنا جزءاً من جلسة الشاي المعقودة لديها في اجواء ٍملؤها الفتور، ولولا ذلك الأفتتان المتبادل بيننا لـما دامت معرفتنا لعشرين سنة.

ولعل الأمر لم يكن بذلك الفتور، فاليوم أعتقد أن الآنسة مَـيرِماونت قد أحبـّتـنا أو بأضعف الايمان قد أحبـّت جوليا التي كانت ترفلُ بالدماثـة، وتزهو كأبنة ودودة حانية عبر تلك الحُجَر الشحيحة الدفء والمستمـِّدة ضيائها من النوافذ والتي يزدحم فيها متاع ٌ ريشي مستدقٌ ومتطاول من إرث ٍ كان يوما ً مفروشا ً عبر الطوابق الأربعة لبيت “باك بـَيْ ” المَدني الطراز. ويخلـُد في ذاكرتي ألق ُ ذقن زوجتي السابقة المكتنز وحنجرتها واكتافها المكشوفتين التي تندمج مع المـَلـَس الشبحي لصور الأخوات مـيَرِماونت ذات الأطارات القديمة المـُصممّة للأستوديوهات. كانت الصور لثلاثة أخوات، نزلت بهما فجيعة الموت مبكـّراً في شبابهما كما لو أنهما أوصتا بقسطهما من السنين إرثا ً للثالثة، تلك الناجية التي تجلس معنا في كرسيـّها المُجنـَّح المـُوشّى بالذهب. وكان وجهها قد استحال بـُنـيـّا من الشيخوخة ً فلايمكن التنبؤ بما فيه، عاجاً بالتجاعيد كوجه هنديّ أحمر، هذا وثمـّة شيءٌ وحشيٌّ كوحشية الهندي الأحمر يلمع في عينيها المعتمتين. “أراها مخيبة للآمال بعض الشيء”، كانت قد تندّ ُ عن هذه الكلمات بجفاء عن أحد المعارف المشتركين الغائبين انذاك أو عن أحدى تلك اللواتي انفـَصَلت عن حلقتها :”لـَم تك ُ تماماً من الطراز الأول”.

أن البحث عن الطراز الأول شيء من العهد البائد لجيلها، والآن لااتذكر من نال استحسانها كلياً مثل ماناله الأب دانيال بـَريجان والسـيِر كينيث كلارك. لقد شاهـَدت كلاهما في التلفاز. عيناها ذات البريق الداكن صارتا تخونانها، وكانت أوقات الأصيل الأثيرة الخاصة بالقراءة (التي يخمد الضوء فيها خلف النوافذ وتتراقص النار الناشئة من خشب البتولا في الموقد المؤطر بالنحاس الأصفر) قد استـُبدلت بساعاتٍ مـُجـَدولة منسقة حسب مايبثه التلفاز والمذياع من البرامج التثقيفية. في تلك السنوات الأخيرة كانت جوليا ترتاد منزلها لتقرأ لها قصة أوستن “مـِدِل مارج” وجوان ديديون وبعضاً من قصص بروست ومورياك بالفرنسية بعدما قرّرت الآنسة مـَيرماونت أن جوليا اجتازت اختبار الفرنسية بنجاح. وكانت جوليا تتمرّن بعض الشئ من خلال القراءة لي، وأنا بينما كنت اتطلّع الى شفتيها وهي تزمّها لتصنع صوت الفرنسية فتصغـُران وتــُدَوّران بشدة وكأنهما شفتا قناع أفريقي من العاج، كدتُ أن أقع في حبّها ثانية ً. إن الود بين النساء لـَمؤثـّرٌ ومؤلمٌ ومثيرٌ للرجل، وبرؤياي الخاصّة فأنه كجلسةِ شاي ٍ انتهت الى مجلس خمرٍ للشَريv الاسبانية في تلك الحُجـَر التي يغصّ فيها الأثاث بجـَلـَبة والتي اشتد فيها الشفق حتى صارت الصفحات البيضاء تـُدار ببطئ وأضحى النـَغـَم الصبور لصوت جوليا الأمارة الوحيدة الدالّة على الحياة. بلى إنه الحبّ ما كان ينداح بين تلك العجوز التي تفنى رويداً وزوجتي التي بدورها رويداً تـُمسي متوسطة العمر ويـُمسي ابنائنا بالغين وغائبين، وصوتها يظل ّ لايـُستـَمع اليه مثلما يـُستمع اليه هاهناك. ومامن شك أن ثمة أسرار كانت تودع بين تلك الصفحات. وكانت جوليا تعود من عند الآنسة ميرماونت لتحضير عشائي المتأخر وهي تبدو أكثر شباباً بل أكثر حبوراً وجرأة بعض الشيء.

في ذلك الطور الحرِج مابعد الحياة الزوجية وعندما كان الأصدقاء القدامى مايزالون يبعثون الدعوات بدافع الالتزام، وتجد نفسك لاتملك حضور الذهن الكافي لردها، وأجدني في تجمـّعات كبيرة تحضرها الآنسة مَـيرماونت. وكانت يومذاك عمياءَ تماماً وتصحبها فتاة صغيرة دائرية الوجه، أجيرةًٌ للصحبة ودليل. وكانت السيدة المـُسـّنة المتهالكة التي تـَعرضُ نفسها كريش الطاووس المـغطى بجرسٍ زجاجي مغروزة ً في كرسي مجنـّـح في زاوية الحجرة فيما يلي طاس خمر البنشvi. ولدى اقترابي منها أحسـّت بجسم ٍ يدنو منها فمدّت يداً ذابلة لكنها أسقطتها حالما سمعت صوتي: “لقد أتيت َ شيئاً فظيعاً” ، نطقت بذلك بسحبة نفس طويلة واحدة. أشاحت بوجهها لتـُظهر أنفها الصـَقريّ من الجانب كما لو انني شوّشتُ نظرها. أمّا دليلتها الفتيّة فوجهها المـُدوّر كصحن الرادار سجّل لمحة ً تدلّ على الصدمة، الاّ انني ابتسمت وفي حقيقتي لم أكُ مستاءاً، فثمـّة َ راحة ً في سماع حُكم الآخرين حتى لو كان معادياً. إنه لمن المستحسن أن نعتقد أن هنالك في موضع ٍ ما جهاز تخطيط يسجـّل هزّاتنا وزلا ّتنا. وأنني لأتخيـّل موت الآنسة ميرماونت بأشهر ليست طويلة بعد ذلك، وكخيالٍ أخيرٍلها، في صورة خيطٍ ينبسط ُساكناً رائقاً بمحاذاة جهاز المراقبة الموصول بها في المشفى. وفي هذا الامتداد المنبسط بقي شيئٌ ما تهكميٌ ولاذع، شيئٌ من سداد الرأي لم يُدَنـّس، من الصبر الجليل في عالمٍ عجز لطيلة تسعين عاما ً أن يبرهن على شيء أكثرَ من خيبة الرجاء. ويومذاك كنا أنا وجوليا قد فرغنا من مراسيم الطلاق.

كلّ مافي جعبة البيت المهجور قد فـُقـِد حتماً، اللوحات المعلّقة على الجدران، الهيئة التي يتبارى فيها الظلّ والضوء وتفجـّر دفئ الأماسي ممـّا تجود به المدافئ. حيوانات المنزل: كانوت. كان كانوت كلب صيدٍ ذكر ذهبي اللون اقتنيناه عندما كان الأطفال مايزالون قبل سن البلوغ كطقم من البهلوانيين. وكان مصدر بهجة لاينقطع، كما هو العهد بهذا النوع من الكلاب، وقد ذاق طعم كل شيء حتى الاخصاء وكأن الحياة وابلٌ متواترٌ من البركات. ومن المثير أنه وقبل موته بقليل جلبته ابنتي الصغرى التي تغني في فرقة البانكvii الى البيت الذي أسكنه الآن مع زوجتي ليزا. فجعل يشّم هنا وهناك بتأدب واكتفى بعقف زاوية أذنيه بقلق لينمّ عن التساؤل لمَ حلّ سيده القديم في هذا البيت الغريب الرائحة. وانهار في النهاية مع تنهيدة عميقة على أرض المطبخ، وبدا سميناً وخاملا ً. وقالت ابنتي التي قــَصـّت شعرها قصيراً وصبغت رقعاً منه بالبنفسجي الزاهي إن الكلب صار يجوب الليالي وينهالُ على نفايات الجيران أو على طعام حصانهم. وبالنسبة لي فأن وراء هذا سوء ادارة، فصديق جوليا الجديد لاعب كرة ظهير ربعي في فريق دارتموث ولاعب تنس وغولف ومهووس بحمل حقيبة الظهر بعدّتها والخروج بها ولهذا فجوليا لاتكاد تتواجد في البيت وصارت منهمكة كلياً في مجاراته وفي تعلّم لعبات جديدة. فأ ُهمـِل البيت ومرج الحديقة وصار الأولاد ينساقون داخله وخارجه مع أصدقائهم ولا يتخلصون من الطعام المتعفن في الثلاّجة الا ّ بين الفينة والفينة. ولمّا أحسّت ليزا بما كابـَدْتـُه من انفعالات نطـَقـَت بكلمات لـِبقة ملّطفة وانحنت على كانوت لتهرش مؤخرة احدى اذنيه. ولأن اذنه كانت ملتهبة وحسّاسة فقد أطبق فكيّه عليها بوهن ومن ثم بسط ذيله على أرض المطبخ اعتذاراً.

ومثلما إلتُ اليه عندما نهرتني الآنسة مَرِماونت، بـَدَت لي زوجتي حينذاك ميّالة الى الاغتباط، فهي إذ تواجه شيئاً من المقاومة، فقد أمسى موضعها من العالم متجذ ّراً. وناقــَشـَتْ ابنتي حول مضادات الالتهاب الخاصة بالكلاب، وفي تلك الوقفة ومن أية نظرة عجلى اليهما لايمكن التنبؤ بأيّـتهما الاكبر سنـّاً رغم اتضّاح ايـّتهما صاحبة الشعر غير المألوف. وكما يـُقال في مثل هذا المقام من سقيم الكلام أن ليزا من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي. وطالما اني بلغت الخمسين الآن فأن أية انثى تحت الخامسة والثلاثين هي من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي، بل معظم أناسيّ هذا العالم هم من الصِغـَر بحيث يمكن ان يكونوا بناتاً لي.

اختفى كانوت لبضعة أيام بعد تلك الزيارة، وبعد بضعة أيام أُخـَر عـُثر عليه في المستنقعات القريبة من بيتي القديم بجسدٍ منتفخ. وقد شخـّص الضابط المسؤول حالته على انها سكتة قلبية، فتسائلت ان كان هذا يمكن ان يحدث لمخلوق ٍ بأربعة أقدام. لقد ضـَربـَتْ الصاعقة كلبي السابق عند ضوء القمر، وقـَلبُه ممتلئٌ بنشوة المستنقعات، ومعدتـُه محشوة بالنفايات، ولقد رَقـَدَ عـدّة أيام بفراء ٍ مـُنتـَفـِش والمدّ يدور فيه ويخرج منه. تلك الصورة تمنحني الرضا كمظهرِ شراع ٍ ملؤه الريح يـشـّـُد زورقه هـَرِعاً بمنأى عن الشاطئ. في واقع الأمر (ورغم أنه من المريع الأقرار) بأنّ كلٍ من هذه الميتات الثلاثة قد جعلتني قريراً هانئاً على نحوٍ ما، فشهود فضيحتي يـُمْحـَوْن، والعالم يـُصبـِح أقل وطأة. وفي نهاية المطاف لن يكون هناك من يذكـُرُني بشخصي في تلك السنين المارجة والمحرجة عندما كنت أعدو بخطى سريعة دون صـَدَفـَتي بين البيوت والزوجات، كثعبان بين أصناف الجلود، وحشٌ من الأنانية، حاجاتي المتنافرة الغريبة عارية ٌ ومخرّمة، وكياني الاجتماعي زريّ ٌ وبلا حصانة. فموت الآخرين يحملـُنـا شيئا ً فشيئا ً حتى لايتبقىّ شيء، وهذا بدوره ضربٌ من الرحمة.

i نبتة زهرية صفراء تنمو كالآعشاب

ii الولادة الثانية تعبير كنسي سائد في أمريكا لمن يخوضون تجربة ما تخلق فيهم أثراً روحياً وتعيد ايمانهم

iii الحديث هنا عن الجالية الانجليزية من البيورتانيين غالباً التي قطنت أمريكا وجلبت معها الموروث البريطاني

iv روائي مولود في أمريكا لكنه عاش في انجلترا وبعض من رواياته تنصب من التراث البريطاني

v خمر مشهورة من الجنوب الاسباني

vi نوع من الكحول يقدم عادة مع طاس كبيرة الحجم وملعقة للغرف في الاحتفالات الكبرى والكرنفالات

vii The Punk حركة موسيقية منشقة عن موسيقى الروك نشأت وتطورّت في الأعوام 1974-1976 تعبر عن تمرد ورفض الشباب للأيدلوجيات المتسلطة وحاليا اندمجت بفرق الروك ثانية

نشرت تحت تصنيف مقال، غير مصنف

مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، ومهما كنا ، نحن الذين نعيشها، منهكين ، بإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسيرحتى النهاية.

نتيجة بحث الصور عن ماريا بوبوفا

مهما بدت مشاهد حيواتنا مشوشة، ومهما كنا ، نحن الذين نعيشها، منهكين ، بإمكاننا مواجهة تلك المشاهد والسيرحتى النهاية.

كتبت : ماريا بوبوفا

ترجمة :دلال الرمضان

في إحدى ظهيرات مدينة نيويورك الحارة ، كنت أجلس مع صديقة لي كانت زميلتي في الدراسة لسنين عدة في أحد المقاهيوقد كنت ، فيحقيقة الأمر، فتاة لا تخلو من بعض الغرور والسذاجة . ولا تلقي بالاً للشعر على الإطلاقحتى بدأت صديقتي بقراءة بضعة أبيات للشاعر ( إدوارد إستالن كانينجز ) في مقهى مانهاتن الصاخب ذاك . 

في تلك اللحظة، تغير كل شيءكانت تلك الأبيات هي الشرارة التي أوقدت لدي شغفاً حقيقاً بالشعر.

وبالرغم من وصف الشاعر الروسي ( جوزيف بروسكيللشعر بأنه أداة لتطوير ذائقتنا الأدبية ، كما هو حال الشاعر الأمريكي ( جيمسديكي ) الذي وصف ، بدوره، الشعر قائلاً :

يتيح الشعر للفرد أعمق أنواع التملك للعالم “

إلا أن ردة فعلي ، في يوم الثلاثاء الصيفي ذاك ، لم تكن مستغربة على الإطلاقلأن مجتمعنا يضمر نوعاً من المقاومة الغريبة للشعر . بلوربما الرفض المتعنت لفكرة احتواء الشعر على ما وصفه الشاعر الانكليزي ( ويليام ووردزوورثبـ ” النَفَس والروح المرهفة لكل المعارف” وهذا ماعرضته الشاعرة الأمريكية ( موريل روكيسر ) في كتابها المعنون بـ ( حياة الشعروالصادر في عام ١٩٤٩ ، حيث قالت :

” إنه رفض يتسم بالخوف

إن كتاب ( موريلهذا يعد استكشافاً رائعاً ، وبالغ الحكمة لكل الأشكال والأساليب التي نُبعد بها أنفسنا عن تلك الهِبة المتمثلة بذلك الفنالذي الأساسي ، المتغلغل في الروح ، والملم بالحقيقة ، والذي لايمكن الاستغناء عنه . تستهل ( روكيسر ) كتابها قائلة:

إن الشعر هو الطريقة التي تُشعر البشر بتلاقي ضمائرهم مع العالم . وهو الذي يشعرهم بقيمة معاني مشاعرهم وأفكارهم ، وبجدوىعلاقاتهم مع بعضهم البعض . هو فرصة للإحساس بعذوبة الأشياء و احتمالاتها المتعددة . فالشعر فن يهبنا كل هذه الأشياء . لكنه ، للأسف، فن منبوذ في مجتمعنا . لقد حاولت جاهدة ، في كتابي هذا ، تتبع أساليب رفض الشعر . بدءً من كل أنواع الملل ، ونفاد الصبر ، ناهيك عنإطلاق صفات كالنخبوية ، والغموض، والاضطراب ، و إثارة الشبهات على الشعر.

فهل ثمة ما هو حقيقي من بين تلك الصفات ، وهل يمكن أن يفضي ذلك إلى إفساد إدراك الإنسان ؟

يمكننا أن نلاحظ أن آراءً كهذه من شأنها أن تؤدي إلى تقييد ملَكة الخيال لدى الشاعر وجمهوره ، على حد سواء

أما في سعيها للوقوف على أسباب الرفض للشعر ، تعرض ( روكيسر ) أوجه الشبه بين الشعر والعلم قائلة :

تتشابه روابط الشعر ، إلى حد كبير ، بروابط العلم . و لا أقصد بذلك النتائج العلمية ، بل أعني نقطة التلاقي بين كافة أنواع الخيالات ،والتي يمكن للشعر أن يمنحها لقرائه . في الوقت الذي تتكون فيه السيمفونية ، مثلاً ، من مجموعة من النوتات الموسيقية ، و النهر من عددهائل من قطرات الماء ، لا يمكن للقصيدة أن تكون مجرد الصور والكلمات الواردة فيها . فالشعر يعتمد في وجوده على تلك الروابط المتحركةبداخله . هو فن يعيش في زمنه . يعبّر ويستحضر تلك الروابط المتحركة بين إدراك الفرد والعالم . إن آلية عمل القصيدة تقوم على نقل الطاقةالإنسانية . و أظن أن بمقدوري تعريف طاقة الإنسان بكونها قدرته على الإدراك ، وعلى إحداث تغيير في ظروف وجوده . 

إن تقبل معاني الشعر من شأنه أن يمهد لاستخدام الشعر كتمرين للاستمتاع بإمكانية التعامل مع المعاني الأخرى في العالم وفي حياةالفرد بطريقة مختلفة . من الطريف أن نلاحظ أن كافة الأسباب التي عرضتها ( روكيسر ) في زمن نشر كتابها عام ١٩٤٩ لا زالت موجودةفي زمننا الحالي بشكل أكثر وفرة و إلحاحاً من ذي قبل . 

في اللحظة التي نواجه فيها آفاقاً وتضادات أكثر اتساعاً مما سبق ، غالباً ما نلجأ لمصادرنا الخاصة التي هي مصدر قوتنا . لننظر ، مرةأخرى ، لأماني الإنسان ومعتقداته . وتلك المصادر هي التي يمكن لخيالنا ،من خلالها ، أن يقودنا للتفوق على أنفسنا .

إذا حدث  وراودنا شعور بفقدان شيء من تلك الوسائل ، فربما يكون سبب ذلك الشعور هو 

عدم استخدام إحداها ، أو ضرورة إيجاد الكثير منها والبدء باستخدامها هي الأخرى .

لطالما قيل أنه يتوجب علينا استخدام طاقاتنا البشرية ، و بأن ثقافتنا هي التي تحثنا على استخدام كل مافيها من ابتكارات وحقائق . ولكن ،ثمة نوع من أنواع المعرفة الثمينة ، المتمردة ، والتي تفوق الأوابد الأثرية في قدرتها على تحدي الزمن ، والتي يجب أن تتناقلها الأجيال فيمابينها بأية طريقة تكن ، ألا وهي الشعر .

تعود ( روكيسرهنا للحديث عن الدور الفردي للشعر ، وعلاقته بالعلم وباقي الفنون ، لتقول :

ولأن من الصعب أن نوقف هذا الكم الهائل من الأحداث والمعاني التي تحدث كل يوم ، آن الأوان لنستذكر شكلاً آخر من أشكال المعرفةوالمحبة . هذا الشكل الذي لطالما كان وسيلة لبلوغ أقصى أنواع المشاعر والعلاقات تعقيداً . وهذه الوسيلة تشبه غيرها من العلوم والفنون ، بيدأنها تمتاز عنها بقدرتها على تأهيل خيالنا للتعامل مع حيواتنا . وأعني بتلك الوسيلة الشعر .

بعد ذلك ، تعرض ( روكيسر ) تعريفاً لا غنى عنه لطبيعة ومغزى الشعر في وجهة نظر عرضها الفيلسوف والكاتب البريطاني ( آلان دي بوتونبعد ما يقارب النصف قرن من الزمن . يقول ( بوتون):

” يحمل الفن وعداً بالكمال الداخلي” وفي هذا الصدد تكمل ( روكيسرحديثها قائلة:

إن الشعر ، فوق كل شيء ، هو مقاربة لحقيقة أحاسيسنا ، ولكن ، ماهي جدوى تلك الحقيقة؟

مهما بدت مشاهد حيواتنا مربكة أو مشوشة ، ومهما كنا، نحن الذين نعيش تلك المشاهد، منهكين ، بإمكاننا مواجهتها والسير  لبلوغ الكمال .

تذهب ( روكيسرإلى اعتبار الشعر فناً يحضى بأقل قبول بين غيره من الفنون . وتعزو ذلك الى ارتباكنا الأبدي أمام عواطفنا . فضلًا عنتشبثنا الخاطئ بفكرة فصل العاطفة عن الفكر.

أما فيما يتعلق بأصل رفضنا للشعر ، والمتمثل بذلك الخوف الذي يعبر عن خلل نفسي ، تقول ( روكيسر):

إن القصيدة الشعرية ليست دعوة فقط ، بل هي ضرورة ملحة . فما الذي تدعو إليه القصيدة ؟

يمكن للقصيدة أن تحرك فينا العواطف والأحاسيس ، بل وربما تتطلب منا استجابة شاملة ، وهذه الاستجابة الشاملة لا نصل إليها إلا عنطريق المشاعر . كما أن القصيدة المكتوبة بعناية غالباً ماتستحوذ على خيال قارئها فكرياً . فعندما تدرك القصيدة فكرياً ، هي تسلك طريقهاإليك عبر المشاعر أو مايمكننا تسميته بالأحاسيس .

ولفهم ذلك ، ينبغي عليك ،عزيري القارئ، أن تلقي نظرة على النسخة الأصلية من روايةالأمير الصغير )للكاتب الفرنسيأنطون سانتإكزوبيري ) والصادرة عام ١٩٤٣ ، والتي تنتمي للأدب الكلاسيكي للطفل ، والمكتوبة بلغة شعرية رقيقة تلامس القلبإذ يقول كاتبها:

سيشرق الأمير الصغير على الأطفال بذلك النور الطاغي الذي سيلمس فيهم شيئاً آخر سوى عقولهم . حتى يأتي للوقت المناسب ليستوعبواماحدث.

وفي العودة إلى أولئك الذين لا زالو يستنكرون الشعر، تمعن ( روكيسرالنظر في ما أسمته ” جذور التواصل” عبر تعريفها للشعر بمايلي:

ينبع الشهر من أعماق ناظمه ، إذ يخيل لقارئ الشعر الحقيقي أن مشاعر الشاعر تخاطب مشاعره .

وبما أننا قد حُرمنا تلك الهبة ، ألا وهي الشعر، تعيد الشاعرة ( روكيسرصياغة مقولة الرسام الإسباني  ( بابلو بيكاسوالشهيرة ” كل طفلفنان” بطريقتها الخاصة . فهي ترى أن كل طفل هو مشروع شاعر، إذ تقول :

إن ذلك الخوف الذي يجعلنا نرفض الشعر هو خوف متعمق في ذواتنا منذ أواخر مرحلة طفولتنا ، إذ لم نكن نمتلك ذلك الخوف  من قبل . فالطفل الصغير لايعرف هذا الخوف لأنه يثق بمشاعره . بيد أن الحواجز تُبنى على عتبات مرحلة المراهقة . أما في سن الرشد ، فغالباً مايرمي الناس الشعر وراء ظهورهم . ولا أعني بذلك المعنى الخرفي للكلمة ، أي كما يتخلص الأطفال من ألعابهم القديمة ، بل أقصد تلكالقناعة الصادمة بكون الشعر يقع خارج نطاق اهتماماتهم .

ولاعجب أن يقوموا بازدراء الشعر أثناء جلوسهم في المقاهي . وهذا الازدراء متأصل فينا جميعاً . لأننا لم نتعلم حب الشعرفي مدارسنا البتة . وهذا ما يجعل ( روكيسرتكرر عبارة الكاتب الأمريكي ( ريتشارد بوكيمنستر فولربشكل شبه حرفيلتعرض، مرة أخرى، أوجه الشبه بينالعلم والشعر ،حيث تقول:

إن ثقافتنا في التعليم ثقافة تخصصية . فهي تعمل على تزويدنا بمعلومات وخبرات في مجال محدد دون غيره من المجالات . وهذه الخبرةتؤهلنا للتعامل مع مشكلات محددة هي الأخرى . إذ تسمح لنا بمواجهة الواقع العاطفي والواقع الرمزي بشكل خجول . 

يمكن لعالم مبتدئ ، أو كاتب محترف أن يتساءل قائلاً : كيف يمكنني الحكم على جودة قصيدة بعينها ؟ بإمكاني الجزم بجودة الأشياءالواقعة في مجال تخصصي  ، بيد أنني أجد نفسي غير قادر على الجزم بكون قصيدة ما جيدة أم لا .

أما في الرد على تساؤل كهذا ، فيمكننا القول بأن من قاموا بطرحه هم أناس يفتقرون الثقة بمشاعرهم ورود أفعالهم . 

إن فقدان ثقتنا بمشاعرنا هو نوع من أنواع انعدام الشعور بالأمان . ولن نتمكن من التخلص من شعورنا الداخلي بافتقارنا الى الكمال ، إذالم نكن قادرين على دمج كل العناصر المكونة لشخصياتنا من أجل تحقيق التكامل الذي تشكل ملكة تذوق الشعر جزءاً منه .

إن هذا الجمع بين العناصر التي تتحرك سوياً وفق نظام مرئي أصبح واضحاً في كل العلوم ، فلا عجب أن يكون حاضراً في كتاباتنا أيضاً . و أينما وجد، فبمقدوره أن يعطينا  نوعاً من الخيال الذي يمكننا من التلاقي مع العالم . كما يعزز قدرتنا على التعامل مع أية وحدة مكونة منعناصر متعددة ، تعتمد في وجودها على بعضها البعض.

دون ديليلو متأمّلاً في تكنولوجيا الجسد

IMG_2811

دون ديليلو متأمّلاً في تكنولوجيا الجسد

انطوان جوكي

«وُلِدنا من دون أن نختار الكينونة. هل علينا أن نموت بالطريقة نفسها؟ أما من عَظَمةٍ في رفض قبول قدرٍ ما؟» سؤالان يتسلّطان على رواية الكاتب الأميركي دون ديليلو الجديدة، «صفر ك» الصادرة حديثاً في نيويورك عن دار «سكريبنر»، ويمنحنا هذا العملاق فيها تأمّلاً عميقاً في موضوع الموت، مستعيناً مرةً أخرى بتلك اللغة الباردة والآسرة التي عوّدنا عليها.
مَن قرأ رويات ديليلو السابقة يعرف أن الموضوع المذكور ليس جديداً عليه، فالموت يتربّص بجميع شخصياته، وإن بطرق مختلفة. ولتعزيم خوفها منه، تلجأ هذه الشخصيات إلى طقوس دينية أو دنيوية مختلفة بهدف وضع أكبر مسافة ممكنة بينها وبين واقعه المحتم.
في»صفر ك» ، تسعى شخصيتان مركزيتان إلى هزم الموت، ليس من طريق تجنّبه، بل عبر معانقته، إذ نراهما مصممتين على وضع حد لحياتهما وحفظ جسديهما بواسطة تقنية تبريد الأجساد داخل سائل الأزوت (Cryopreservation)، كي يتم يوماً إنعاشهما بواسطة علمٍ ما زال في بداياته ويقوم على إعادة إحياء خلايا الأجساد المبرّدة بواسطة التقنيات النانوية (nanotechnology).
وبالتالي، بموازاة تفحُّص ديليلو في روايته «الطريقة التي آلت بالعلم إلى التقاطر والتصادم مع الدين داخل عالم يعاني من الإرهاب والحروب، ويرغب بعض قاطنيه في الاستعانة بالتكنولوجيا لإيجاد حلول أو حتى خلاص له»، نراه يخطّ بورتريه للراوي، الشاب جيفريه، تتكشّف فيه شخصيته وطبيعة علاقته المعقّدة بوالده البليونير روس.
في القسم الأول من الرواية، نرافق هذا الشاب إلى مُجمَّع سرّي يقع على حدود كازاخستان وأوزبكستان، وموّل والده فيه مشروع «تقاطُر» الذي يُعنى بحفظ جثث الأموات بواسطة تقنية التبريد، في انتظار اليوم الذي ستمكن فيه إعادتهم إلى الحياة بأجساد منيعة وكفاءات وذكريات من خياراتهم. وداخل هذا المجمّع، يتبيّن لنا أن ثمة جناحاً خاصاً يحمل اسم «صفر ك» وأنه مرصود للأشخاص الذين يقررون اللجوء إلى هذه التقنية قبل موتهم الطبيعي، مثل زوجة روس، الشابة أرتيس المصابة بمرض عضال، وروس نفسه الذي لا يعاني من أي مرض لكنه يرغب في مرافقة زوجته في رحلتها.
التلاعب العقلي
خلال إقامته في المجمّع، نرى جيفريه قلقاً لعدم معرفته إن كان والده وقع ضحية طائفة دينية خطيرة تلاعبت في عقله، أم أن قراره ناتج من سلوك منحرف لرجل شديد الثراء تدفعه رغبته في التحكّم بحياته إلى وضع حد لها. وبسرعة يتبيّن له – ولنا – أن ردّ فعله على قرار والده يخضع أيضاً لعواطفه الملتبسة تجاه هذا الأب الذي تخلى عنه وعن أمّه وهو صغير. أما روس وزوجته أرتيس فلا يريان أي انحراف في محاولاتهما الانقلاب على الموت، بل نوعاً من المشروع الفلسفي الذي يلبّي رغبتهما في تشييد حياتهما كتحفةٍ فنية راديكالية. مشروع يفسّره أحد القيّمين عليه لمجموعة من الأشخاص على وشك الخضوع طوعاً للتبريد، بقوله: «أنتم الآن خارج السردية التي نسمّيها التاريخ. (…) لا آفاق هنا. نحن منخرطون في عملية استبطان غايتها سبر ماهيّتنا وموقعنا» في الكون.
في القسم الثاني من الرواية، ينحسر الجانب المستقبلي والعلمي لمصلحة سردٍ واقعي لحياة جيفريه في نيويورك حيث نراه يبحث عبثاً عن عمل يناسبه ويعاشر امرأة تحاول التوفيق بين علاقتها به وعلاقتها بابنها المراهق الذي يضارعه في سلوكه الاستحواذي، قبل أن يتصل والده به ويدعوه مجدداً إلى المجمّع لتمضية اللحظات الأخيرة من حياته معه قبل اللحاق بزوجته.
ولا يسعنا عدم التوقف عند النصّ الشعري القصير الذي يتوسّط القسمين ووضعه ديليلو على لسان أرتيس بعد تبريدها. نصّ رائع يجعلنا نستخلص أن الدماغ المحرر من الجسد والمحفوظ في سائل الأزوت يبقى حيّاً لكن في حالة تواصُل مع نفسه فقط، ما يستحضر صورة إدراكٍ محرر من الموت لكن مغلق على ذاته ومحروم من أي إحساس، يقبع في حالة انتظار رهيب…
قراءة النقّاد لهذه الرواية استحضرت إلى أذهانهم أعمالاً روائية وسينمائية مختلفة. فحالة الانتظار التي يقبع فيها إدراك أرتيس ذكّرت واحداً منهم بعوالم صامويل بيكيت، وأروقة المجمّع المتاهية قارنها ناقد آخر بالمتاهة التي تتحرك فيها الفتاة أليس في رائعة لويس كارول، ومداخلات المرافقين لجيفيريه داخل المجمّع استشف هذا الناقد فيها صبغةً «كافكاوية»، قبل أن يلاحظ أن عملية تحضير أرتيس وأشخاص آخرين للمرحلة القادمة من رحلتهم – أي حين ستوضع أجسادهم في برّادات صغيرة ومعزولة بعد انتزاع أدمغتهم وأعضاء حيوية أخرى منها لحفظها على حِدَة – تشبه إلى حد بعيد عملية تحنيط الفراعنة لأمواتهم.
«البرتقالة الآلية»
وإذ لاحظ عدد من النقاد تردُّد أصداء فيلم ستانلي كيوبريك «2001، أوديسا فضائية» في صفحات عديدة من «صفر ك»، لم ينتبه أحد إلى أن فيلم الكوارث الطبيعية أو المفتعَلة المعروض في شكل دائري في أروقة المجمّع يحاكي فيلم كيوبريك الآخر، «البرتقالة الآلية». ففي هذا الفيلم الذي يتألف من مونتاج لصور عنيفة يظهر فيها رهبان يشعلون النار بأجسادهم أو أطفال يُقتلون على يد جنود أو نساء يذرفن الدموع، ثمة وظيفة تكييفية أيضاً، علماً أن هدف القيّمين على المجمّع من عرضه ليس حث الزائر على نبذ العنف، كما في فيلم كيوبريك، بل إقناعه بضرورة الانسحاب من هذا العالم العنيف والسبات ريثما تحلّ فرصة الانبعاث مجدداً داخل عالم جديد وأفضل.
يبقى أن رؤية ديليلو في روايته أكثر سوداوية من تلك التي يسيّرها كيوبريك في فيلميه، نظراً إلى شكّ الكاتب بذكاء «أولئك الذي يرون في حياة البشر على الأرض مجرّد مرحلةٍ على سلّم التطوّر»، وبالتالي إلى إيحائه بأن «الأمل في توفير التكنولوجيا حلاً لمسألة الفناء هو هذيانٌ وشرودٌ خطير عن الأحداث المؤلمة لعالمنا اليوم».
لكن هذا لا يعني أن موقف الكاتب من التطور التكنولوجي سلبي في شكلٍ مطلق، ففي خاتمة روايته، يصف جيفريه تقنية حفظ الأجساد بواسطة التبريد كـ «نوعٍ من الفن الرؤيوي». وهو وصفٌ ينطبق بقوة على طريقة كتابة ديليلو بالذات الذي لا يسرد في أعماله قصصاً بل يُسقط رؤى، كما في رواية «لاعبون» التي تنبّأ فيها بأحداث 11 أيلول 2001، أو في رواية «كوزموبوليس» التي صوّر فيها الانهيار المالي لعام 2009 قبل حدوثه.
وفي «صفر ك» يتمكن من توليف عناصر تنتمي إلى الواقـــع بأخرى تنتمي إلى الخرافة العلمية أو الحلم، وبالتالي من إثبــــات قـــدرته على شقّ طُرُقٍ إلى المستقبل، وفي الوقت نفسه، من إظهار فهمٍ عميق للأشكال الغريبة والملتوية التي يتّخذها في عصرنا قلق البشرية الثابت من مرور الزمن والموت. وهو ما يجبرنا على مواجهة طيف محدوديتنا وطرح أسئلة عميقة حول دوافع سعينا إلى إطالة عمرنا على الأرض.

(الحياة)

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

للكاتب جدول زمني أيضاً

ترجمة : علي زينAuthor Tim Parks

إنه أداءٌ، يجب ألا ننسى ذلك مطلقًا، فمهما كان كم التفكير والبحث قبل الكتابة, ومهما كان كم التحرير والتصحيح بعدها, فإن الكتابة الفعلية هي أداءٌ، ثمة تلك اللحظة التي يجب عليك فيها القيام بها، لذا عليك كتابة الإيقاعات الصوتية التي تبحث عنها، وعليك إيجاد التتابع المناسب للتفاصيل والأحداث والوصف والحوار، فإذا لم تقم بكل شيءٍ على النحو الصحيح فلن ينجح أي قدر من العبث في إنقاذ الموقف.

ولذلك فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه الكاتب أثناء تخطيط يوم الكتابة هي كيف يمكنه الوصول إلى “حالة التركيز الشديد على العمل”، وكيف يمكنه الوصول إلى قمة الأداء مهما قصرت مدته؟ للرياضي جدول زمني للتدريب، فتاريخ الفعالية والمسابقة محفور في ذاكرته، عدا الحماس في الاستاد المليء بالجماهير, والذي سيؤدي بدوره إلى إطلاق أفضل ما بداخله، وللممثل نص أيضاً بالإضافة إلى البروفات, وكذلك وهج المسرح الذي يغمره بالإضاءة عند حاجته لذلك، أمّا الكاتب فليس لديه شيء. ولهذا نجد جميع تلك الطقوس البسيطة والمجنونة التي نسمع عنها: مثل استخدام قلم رصاص من النوع المتوسط (4 إيتش) ودفتر ملاحظات من نوع مولسكاين، وضرورة الكتابة في مكانٍ محددٍ, وفي غرفةٍ محددةٍ ,وفي وقتٍ محددٍ بالضبط في اليوم، واحتساء نوعٍ محددٍ من الشاي، وتدخين نوعٍ محددٍ من السجائر، وجميع تلك المحاولات اليائسة لاستعطاف الإلهام وتحقيق التلاقي بين ما هو عادي وما هو إبداعي.

كانت المشكلة في بداياتي في الثمانينيات من القرن العشرين هي الخواء التام، فزوجتي كانت تذهب للعمل في الثامنة، وتعود في السادسة والنصف، وكنَّا نسكن في منطقة “ويليسدن” شمال غرب لندن، حيث خدمات التدفئة باهظة الثمن، مما جعلني ألُفُّ نفسي بالبطانية, وأضع عند قدمي زجاجة مياه ساخنة، وكنت أكتب وأنطق ما كتبته بطريقةٍ مريعةٍ، وكنت أكتب ثانيةً بخط اليد، وأخرج لشراء القليل من السلع، وأحيانًا أذهب إلى حمام السباحة, وأشعر بالذنب لأني أخذت وقتًا للاستراحة بينما كانت زوجتي تعمل، ولكن لم تكن ثمة دار نشر تقبل نشر أعمالي على أية حالٍ، لكنني لم أيأس، ولو كان ذلك من قبيل الحاجة إلى القسوة مع الذات، وبكل تأكيد كانت هناك فكرة ما في مهدها: شيءٌ ما أسعى وراءه بكل إيمان، إلى أن تحقق ما أسعى وراءه فجأةً في نهاية الأمر، ولعل ذلك كان يحدث قبل عودة زوجتي إلى البيت بنصف ساعة. حيث كانت ثمة أفكار عفوية, أفكار تخرج مني دون تخطيط, ولكنها مشوقة، عندها كنت أدون تلك الأفكار بسرعة وعلى نحوٍ محموم، فمن الرائع حقًا حدوث ذلك الكم الهائل من الكتابة الذي يمكن للكاتب خلقه خلال نصف ساعة وكله ثقة بالذات.

بعدها كانت تظهر مشكلة معاكسة: مقاطعة أكثر من اللازم، ومواصلة أكثر من اللازم، مثلاً: التعامل مع الأطفال (وإظهار الحب لهم)، وطلبات المقالات، وطلبات الترجمة، والهاتف والفاكس وأخيرًا البريد الإلكتروني والإنترنت، وهما الأكثر تدميرًا، فأصبحت الآن أداة الكتابة هي أيضًا أشد الأدوات تشتيتًا للانتباه، فهي تصدر الرنين والصفير، وتحتوي على لمبات تحذير وامضة، بالإضافة إلى تشغيل الموسيقى والفيديو، إننا نعرف أن الروائية الإنجليزية “جين أوستن” كانت تعمل في صالون مزدحم وسط ثرثرة العائلة والأصدقاء، ولكنها لم يكن لديها دفتر ملاحظات يمكنه إظهار أفضل الأهداف في مباريات الأمس, وعرض المدح والإهانات الواردة من لوس انجلوس وملبورن مثل هذه الملاحظة: “السيد المحترم/ باركس، في الطبعة الثانية من كتاب “Italian Ways” (عادات إيطالية)، ص. 45، زعمت على نحوٍ خاطئٍ أن…”

فهذا هو روتيني إذًا، أو هو ببساطة الأسلوب الذي ابتكرته لتحقيق فترة مثمرة ـــ فإن لم تكن يوميًا فكثيرًا ـــ لأنه أكثر مرونة من الروتين، وكثيرًا بما يكفي.

أكتب بخط اليد، لكن…ابدأ كل يوم بكتابة ما كتبته باليد في اليوم السابق على الحاسوب، وهذا ما يجعلني أهدأ، وفي الوقت ذاته تعرضك هذه الطريقة للقليل من الملهيات الحاسوبية أثناء ذلك، فلا يجب عليك أن تشعر بأنك تعاقب ذاتك، فأنت لست زاهدًا ولا قديسًا، أنت رجل يؤدي وظيفته فحسب، وفي الجانب الآخر من المنضدة تجلس رفيقتك تترجم، فثمة جو من المرح في المكان، وليس ثمة شعور بالمعاناة.

في بعض الأحيان تستغرق تلك العملية كل الوقت المتاح لديك، وفي بعض الأيام يكون عليك أخذ إجازة من أجل التدريس، فلن تكتب شيئًا جديدًا، ولكن إذا سارت الأمور على ما يرام ستكون قد انتهيت من التدريس في الحادية عشرة تقريبًا، وعندها ستترك الكمبيوتر, وتترك رفيقتك, وتأخذ كوبًا من القهوة وتذهب إلى الطاولة في الغرفة الإضافية حيث توجد كراسة ملاحظات في انتظارك وقلم حبر على أتم الاستعداد، أنت تجلس الآن أمام صفحة بيضاء، ولكن بداخلك ذلك الزخم الناتج عن الارتماء في أحضان ذلك الإيقاع الذي يميز العالم الذي تعيش فيه، وإذا حالفك الحظ يمكنك البدء من تلك النقطة، إن جرّة القلم مشجعة للغاية، فالخط المائل إلى الأمام, وتدفق خط اليد سيذكرنا دائمًا بمن نحن وما المزاج الذي نحن فيه، وعلى مر العديد من السنوات تعلمت عدم كتابة أي شيء على نحوٍ آلي، ولكن بالانتظار والتأمل, والتفكير الطويل والتدبر حتى يبدأ الأداء من تلقاء نفسه, مثل زفرة قادمة وعلى نحوٍ غير متوقع من أعماق البطن.

المصدر:

https://www.theguardian.com/books/2017/apr/15/my-writing-day-tim-parks

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

هاروكي موراكامي – السير في كوبه

هاروكي موراكامي

Murakami

السير في كوبه

ترجمة : محمد نجيب

كوبة* KOBE : مدينة يابانية ضربها الزلزال عام 1995

ضرب أوساكا زلزال بقوة 6.1 ريختر . في عام 1997 يرتحل هاروكي موراكامي على قدميه من مركز مدينة كوبه لموطن طفولته في أطراف المدينة ليرى التغيير الذي أحدثه الزلزال ببلدته . وجد معالم غريبة لكن وجد أيضاً آثار لذاته و وجد الصدى الدائم للعنف

 

 

1

في مايو عام 1997 . عامان بعد الزلزال العنيف الذي ضرب كوبه , خطرت ببالي فكرة أن أسير بمفردي في روية من نيشينومايا إلى سانوميا في وسط مدينة كوبه . تصادف بقائي في كيوتو في ذلك الوقت من أجل العمل , فمضيت إلى نيشينومايا . على الخريطة , المسافة من هناك إلى كوبه حوالي خمسة عشر كيلو متر . ليست مسافة قصيرة بأي شكل لكن ليست مسافة مرهقة أيضاً , بالإضافة لذلك أنا  سائر واثق الخطى .

ولدت في كيوتو لكن سرعان ما انتقلت عائلتي لشوكوجاوا , حي في نيشينومايا ثم سرعان ما انتقلنا ثانية , مقتربين أكثر من كوبه , إلى آشيا حيث قضيت جل سنين مراهقتي . مدرستي الثانوية كانت تقع في التلال فوق المدينة لذا كان من الطبيعي أن وسط المدينة في كوبه كانت المكان الذي أتوجه إليه كي أستمتع بوقتي , بالتحديد حول سانوميا . أصبحت فتى هانشين – كان نموذجي , يشير المصطلح للمنطقة الواقعة بين أوساكا و كوبه . في ذلك الوقت و ربما الآن أيضاً , كان مكاناً رائعاً للنشأة فيه .مكان هادئ و مسالم يمنحك شعوراً بالاسترخاء و يتميز بإطلالته على المحيط , و الجبال و مدينة كبيرة بالجوار . أحببت الذهاب إلى الحفلات , والبحث عن الكتب الرخيصة في متاجر الكتب المستعملة, والتسكع في مقاهي الجاز و الاستمتاع بأفلام الموجة الجديدة التي أنتجتها نقابة مسرح الفن[1] . الموضة المفضلة لي في ذلك الوقت ؟ جاكيت فانز بكل تأكيد .

لكن بعد ذلك انتقلت لطوكيو من أجل الالتحاق بالجامعة . تزوجت و بدأت العمل هناك و بالكاد كنت أعود لهذه البقعة الصغيرة بين أوساكا و كوبه . كانت هنالك أوقات أعود فيها بالتأكيد إلى هناك لكن بمجرد أن أنهي عملي , كنت دائماً ما أقفز مباشرة في القطار السريع عائداً إلى طوكيو . كنت منشغلاً دائماً و كنت أقضي معظم الوقت مسافراً . و هنالك بعض الأسباب الشخصية أيضاً . يشعر بعض الناس بقوة تجذبهم دائماً للعودة لبلدتهم الأم بينما يشعر أخرون بأنهم لن يستطيعوا العودة أبداً . أحياناً يبدو الأمر كما لو أن القدر هو من يقسم البشر إلى هاتين المجموعتين , و لا يتعلق الأمر إلا قليلاً بمدى قوة مشاعرك نحو هذا المكان . أحببت الأمر أو لا , بدا أنني أنتمي للمجموعة الثانية .

لسنوات عاش والداي في آشيا لكن عندما ضرب زلزال هانشين المنطقة في يناير 1995 , دُمر بيتهما بشكل يستحيل معه البقاء فيه لذا سرعان ما أنتقلا لكيوتو . لذا باستثناء الذكريات التي أختزنها من أجل نفسي ( كنزي الغالي ) , لم يبق هنالك اتصال مادي يربط بيني و بين منطقة هانشين – كان . حرفياً لم تعد بلدتي الأم بعد الآن . انتابني شعور عميق بالخسارة بسبب تلك الحقيقة كما لو أن محور ذكرياتي يتشقق داخلي بصوت خافت لكن لا يزال مسموعاً . كان شعوراً جسدياً .ربما لهذا السبب أردت أن أسير هناك بيقظة وانتباه بحثاً عن أي شئ يمكنني اكتشافه . ربما أردت أن أرى بنفسي كيف ستبدو البلدة التي فقدت كل الروابط الواضحة التي تربطني بها , لي الآن . كم سأكتشف من ظل ماضيّ ( أو ظل الظل ) هناك ؟ أردت أن أرى تأثير الزلزال على البلدة التي نشأت فيها .

زرت كوبه عدة مرات بعد الزلزال , و كنت مصدوماً حقاً من مدى الدمار الذي حل بالمكان . لكن الآن بعد نحو عامين , بدت البلدة و قد لملمت من شتات نفسها , و أردت أن أرى بأم عينيّ التغيرات التي شهدتها المدينة – ماذا سرق هذا العدوان الغاشم من البلدة و ماذا خلف ورائه . لابد من وجود بقايا ما , لا تزال تربطني بها , هكذا فكرت .

ترجلت من القطار في محطة نيشينومايا , لابساً حذاء مشي مطاطي , و حاملاً على كتفيّ حقيبة ظهر تحوي دفتر تدوين و كاميرا صغيرة . بدأت أمشي بإيقاع بطيء باتجاه الغرب . كان الجو مشرقاً و مشمساً فارتديت نظارتي الشمسية . أول مكان مررت به هو السوق قرب المخرج الغربي للمحطة . في المدرسةالإبتدائية , كثيراً ما قدت دراجتي إلى هناك كي اشتري أشياء . مكتبة المدينة قريبة من هنا أيضاً , حيث كنت أقضي وقت فراغي هناك و تصفحت كل كتاب لليافعين وقعت يداي عليه . هنالك أيضاً محل للأعمال اليدوية كنت أبتاع منه الألعاب البلاستيكية . لذا أعاد إلي هذا المكان فيضاً من الذكريات . لم أت لهنا منذ مدة طويلة و السوق قد تغير تماماً بشكل يصعب علي تعرفه . ما مدى التغير الذي سببه التغيير الطبيعي الذي يطرأ على الأشياء عبر الزمن و ما مدى التغيير الذي فرضه الدمار المادي الذي سببه الزلزال , لا يمكنني حقاً التمييز . رغم أن الندوب التي خلفها الزلزال كانت واضحة للعيان . في مكان الأبنية المهدمة , تبعثرت الأراضي الخاوية في المنطقة مثل أسنان كثيرة مفقودة , بينها متاجر مبنية بشكل مؤقت كما لو كانت تربطها ببعضها البعض .نمت الحشائش في الأراضي الخاوية المحاطة بالحبال . يملأ الطريق الأسفلتي تشققات خلفها الحدث المشؤوم . كانت دلائل الدمار الفظيع في كل مكان كما لو كانت المنطقة أطلال مكان قديم .

مقارنة بحي كوبه التجاري الذي ركز عليه العالم و تم إعادة بنائه بسرعة بعد الزلزال , الفراغات الشاسعة هنا اجتاحتني كشئ ثقيل و كئيب مصحوبة بعمق هادئ . من المؤكد أن ذلك الدمار ليس مقتصراً على سوق نيشينومايا . لابد من وجود أماكن كثيرة حول كوبه لا تزال تحمل نفس الجروح و الندبات لكنها تكاد تكون منسية .

بعد حي التسوق و عبر الشارع الرئيسي مزار إبيسو[2] . مزار كبير جداً مبني من أخشاب سميكة . عندما كنت طفلا صغيرا , أحببت أن ألعب هنا و آلمني أن أرى الندبات الواضحة في نفس المكان الآن . معظم مصابيح الإنارة الحجرية الممتدة بطول طريق هانشين السريع كان ينقصها الفوانيس العلوية التي تغطيها . كانت مبعثرة على الأرض أسفلها مثل رؤوس قطعها سيف حاد . أما قواعد المصابيح فقد تحولت لصف من قطع حجرية لا معنى و لا هدف منها , ساكنة كرموز في حلم .

الجسر الحجري القديم الذي يعبر فوق البركة حيث كنت أصطاد الجمبري و أنا طفل ( باستخدام أسلوب بسيط . أربط خيط حول زجاجة فارغة ,  ثم أضع بودرة رخوة كطعم ثم أنزل الزجاجة إلى الماء فيدخل الجمبري لداخل الزجاجة و حينها أقوم بالسحب . ) قد انهار و بقي كذلك .كان الماء في البركة أسوداً وموحلاً و سلاحف ذات أعمار مختلفة ترقد متمددة فوق صخور جافة تتشمس , بينما رؤوسها دون أدنى شك خالية من أي أفكار . آثار الدمار في كل مكان كما لو أن المنطقة أطلال عتيقة . فقط الأخشاب كانت كما أتذكرها من أيام طفولتي صامدة في مواجهة الزمن .

جلست على أرضية المزار تحت أشعة شمس أوائل الصيف , و حدقت من جديد فيما حولي , محاولاً  التأقلم مع ما أراه . أمتص المشهد و أقبله على أنه شئ طبيعي بقدر الإمكان ذهنياً و داخلياً . حاولت تذكر كيف كنت في الماضي . لكن استغرقني ذلك وقتاً طويلاً كما يمكنك أن تتخيل .

_______________

تم إنشائها في الثمانينيات و اهتمت بإنتاج الأفلام اليابانية المستقلة .[1]

إله في الديانة اليابانية [2]

 

 

2

مشيت من نيشينومايا إلى شوكوجاوا . لم يحل الظهر بعد , لكن الجو كان مشمساً لدرجة أنني قد بدأت أتعرق . لم أحتج لخريطة كي تخبرني بشكل عام أين أنا لكن لم أكن أملك ذاكرة للشوارع نفسها . لابد أنني سرت في تلك الشوارع مئات المرات لكن الآن ذاكرتي بيضاء تماماً . لماذا لا أستطيع تذكر الشوارع ؟ أمر غريب . شعرت بحيرة شديدة كما لو أنني عدت للمنزل فوجدت الآثاث و قد تم استبداله . سرعان ما أتضح السبب لي . الأماكن التي كانت أراضي خاوية لم تعد كذلك و الأماكن التي كانت مشغولة لم تعد كذلك – مثل صور نيجاتيف و صور حقيقية قد حلت محل بعضها البعض . في معظم الحالات , الأراضي الخاوية صارت بيوتاً بينما البيوت القديمة قد دمرها الزلزال . يتضافر تأثير هذه الصور –قبل و بعد – لتضيف لعملية الطمس الزائفة لذكرياتي عن البلدة في الماضي .

البيت القديم الذي كنت أعيش فيه قرب شوكاجاوا قد اختفى و حل محله صف من المنازل . و الأرض التي كانت مدرستي الثانوية مبنية عليها قد امتلاءت بمساكن مؤقتة تم تشيدها لإيواء ضحايا الزلزال . حيث كنت و أصدقاؤي نلعب البيسبول , كان ناجو الزلزال المقيميين في تلك الملاجأ قد علقوا غسيلهم و وضعوا الكنب في الهواء الطلق في مساحة تبدو الآن شديدة التكدس .

حاولت عبثاً أن أعثر على آثار الماضي لكن بالكاد وجدت شيئاً منه . لا يزال الماء ينساب في النهر صافياً و نقياً كما كان دائما . انتابني شعوراً غريباً حين رأيت كيف صارت ضفة النهر محاطة الآن بالأسمنت . سرت لفترة في اتجاه البحر قبل أن أتوقف عند مطعم سوشي . كان بعد ظهر يوم أحد و كانوا مشغولين بإعداد الطلبات . المساعد الشاب الذي خرج لتسليم طلبات للبيوت , لم يعد قبل وقت طويل و كان مالك المحل مصراً على تلقي كل الاتصالات الهاتفية . مشهد معتاد تراه في أي مكان في اليابان . انتظرت قدوم طلبي , بينما احتسي البيرة و أبقي عيناً على التلفاز . كان محافظ ولاية هيوغو يتحدث مع أحدهم في برنامج عن سير عمليات إعادة البناء بعد الزلزال . أحاول الآن تذكر ما قاله بالضبط لكن عبثاً لا يمكنني تذكر كلمة واحدة .

عندما كنت طفلاً , كنت أتسلق إلى ضفاف النهر حيث يندفع تيار الماء أمامي مباشرة دون أي عائق يعوق مجال بصري . أعتدت أن أسبح هناك في الصيف . أحببت المحيط و أحببت السباحة . كنت أذهب للصيد أيضاً و أصطحب كلبي للمشئ هناك كل يوم . أحياناً كنت أحب مجرد الجلوس دون أن أفعل أي شئ . و أحياناً أخرى كنت أتسلل خلسة من المنزل ليلاً و أذهب للبحر مع أصدقائي لنجمع الحطب و نشعل النار . أحببت رائحة البحر , و زئيره البعيد و كل ما يجلبه معه . لكن الآن لم يعد هنالك بحر . لقد هدموا الجبال و ألقوا بكل التراب في البحر بواسطة شاحنات و أحزمة ناقلة حتى ملئوا البحر و سدوه .كون الجبال و البحر قريبين جداً , كانت تلك المنطقة مثالية لهذا النوع من أعمال البناء . انتشرت مجتمعات سكنية صغيرة في مكان الجبال المهدمة و بنفس الطريقة برزت مجتمعات سكنية جديدة مكان البحر . حدث كل هذا بعد انتقالي لطوكيو أثناء عصر النمو السريع لليابان عندما كانت البلاد في خضم إزدهار عمراني واسع النطاق .

أمتلك الآن بيتاً في بلدة على ساحل البحر في ولاية كاناجاوا قرب طوكيو حيث أتنقل باستمرار بينه و بين طوكيو . لسوء الحظ , أو دعني أقول لسوء الحظ الشديد , هذه البلدة على ساحل البحر تذكرني أكثر ببلدتي الأم أكثر مما تذكرني بلدتي الأم الآن . تحوي المنطقة جبال خضراء و شاطئ رائع للسباحة . أريد أن أتمتع بتلك الأشياء بقدر الإمكان لأن بمجرد أن يتلاشى مشهد طبيعي فأنه يتلاشى للأبد . بمجرد أن يُطلق جماح العنف البشري , لا يمكن إيقافه أو إصلاح إثاره المدمرة .

بعد ضفاف النهر ,تم ملأ المساحة التي كانت منتجع كوري على الساحل , بالماء فصارت خليجاً أو بركة صغيرة مريحة . كان راكبو القوارب الشراعية هناك , يحاولون قصار جهدهم الإبحار مع الريح . مباشرة جهة الغرب , حيث كان شاطئ آشيا , تقف عمارات شاهقة الارتفاع ككتل صخرية من المونوليث[3] مجردة من أي معالم .

على الشاطئ , الأسر التي قادت سياراتها  الستيشن واغن و الميني فان إلى هناك , تستخدم خزانات البروبان ( الغاز ) الصغيرة للشواء . يشوون لحماً و سمكاً و خضراوات و الدخان الأبيض يتصاعد في صمت إلى السماء في هذا الأحد السعيد . بالكاد توجد غيوم في السماء . كان تابلوه مثالي ليوم من أيام مايو .مع ذلك , بينما أجلس هنالك على الضفة الأسمنتية و أحدق حيث كان البحر الحقيقي في الماضي , كل شئ هنا يشبه إطار عجلة يتسرب منها الهواء ببطء , و بهدوء تفقد واقعيتها .

في قلب هذا المشهد الوديع , من الصعب إنكار آثار العنف .هكذا صدمني الأمر . جزء من بقايا العنف تقبع مختبئة أسفل أقدامنا و أجزاء أخرى مخبئة داخلنا . أحداها مجاز للأخر . أو ربما يمكن لأحداهما ان يحل محل الآخر , كلاهما يرقد هنا نائمين مثل زوج من الحيوانات يراودهما نفس الحلم .

***

أجتزت نهر صغير و ذهبت إلى آشيا . عبرت أمام مدرستي الثانوية القديمة , ثم أجتزت البيت الذي كنت أعيش فيه و وصلت لمحطة قطار آشيا . أعلنت لافتة في المحطة عن مباراة في الساعة الثانية مساء في ذلك اليوم في أستاد كوشين في أوساكا بين فريقي البيسبول تايجرز هانشين و ياكولت سوالوز .  عندما وقعت عيناي عليها , انتابتني رغبة مفاجئة للذهاب . أجريت تغييرات سريعة في خططي و قفزت في القطار . كانت المباراة قد بدأت للتو ,لذا إذا ذهبت الآن , هكذا فكرت فسأكون هناك في الوقت المناسب لمتابعة الشوط الثالث . يمكنني متابعة المشي غداً .

تغير ملعب كوشين قليلاً منذ كنت صبياً . كما لو كنت قد تعثرت في دوامة زمنية , شعرت بإحساس نوستالجي بعدم الانتماء – طريقة غريبة لصياغة مشاعري , أعترف بذلك . من الأشياء القليلة التي تغيرت : غياب الباعة المتجولين الذين يحملون على أكتافهم صفائح الكالبس   المنقطة , و يبيعون شراب اللبن المُخمر . (يبدو أنه لم يعد هنالك الكثير من البشر في العالم الذين لا يزالون يشربون الكالبس . ) و لوحة النتائج التي صارت ألكترونية الآن . ( و يصعب رؤيتها أثناء النهار ) . لكن لون عشب الملعب الأخضر لم يتغير , و مشجعي هانشين لا يزالوا صاخبين كما هو معروف عنهم . قد تأتي و تذهب الزلازل و الحروب و القرون لكن مشجعي هانشين أبديون .

كانت المباراة منافسة بين الراميين كاواجيري و تاكاتسو و انتهت بفوز هانشين بنتيجة 1-0 . قد تعتقد أن فارق النقطة الواحدة يعني أنها كانت مباراة مثيرة لكنها لم تكن بأي شكل من الأشكال . كانت مباراة خالية من أي لحظة مميزة . لأعبر عن الأمر بوضوح أكبر , كانت مباراة لا تستحق المشاهدة . خاصة بالنسبة للمتفرجين في الملعب . بينما تشتد الشمس , زاد عطشنا بشدة . تناولت بعض البيرة الباردة و نعست في مكاني في المدرجات . عندما استيقظت , كنت قد نسيت تماماً أين أنا . ( بحق الجحيم أين أنا ؟ تساءلت ) . ظلال الأضواء الكاشفة كانت تميل باتجاهي , مقترباة مني . تكاد تصل إلي .

_______________________________________________

 مونوليث : معلم جيويوجي يتكون من صخرة ضخمة .[3]

 

3

نزلت في فندق صغير حديث الإنشاء في كوبه . معظم النزلاء مجموعات من النساء .أنا متأكد أن بإمكانك تخيل نوع الفندق الذي أتحدث عنه . في الصباح التالي استيقظت في السادسة و استقليت قطاراً قبل ساعة الذروة الصباحية إلى محطة آشياجاوا و بدأت من جديد جولتي القصيرة مشياً على الأقدام . على عكس اليوم  السابق , كانت السماء ملبدة بالغيوم و الهواء بارد بعض الشئ . تقرير الطقس في الجريدة كان يتوقع بيقين هطول المطر بعد الظهر . ( و بكل تأكيد كانوا صائبين في توقعهم . في المساء , كنت مبللاً تماماً . ) في الجريدة الصباحية التي اشتريتها من محطة سانوميا كان هنالك أخباراً جديدة عن اعتداء على شابتين في بلدة سوما الجديدة ( مكان جديد بُني عن طريق قطع جانب من قمم الجبال , لم أسمع عنه من قبل في حياتي ) . أحداهما قد ماتت . كانت الشرطة تطلق على الحادثة ” هجوماً عشوائياً , و لا يملكون أي أدلة تقودهم للجاني بينما المواطنون الذين يملكون أطفالا صغارا , مرعوبون .كان ذلك قبل مقتل جون هاس , طفل في الحادية عشرة  في كوبه بعد عدة أيام . علي أيه حال , كان هجوماً مرعباً و فظيعاً يستهدف أطفال المدرسة الإبتدائية . نادراً ما أقرأ الجريدة و لم أكن قد سمعت حتى بهذا الهجوم . أتذكر إحساسي بنبرة إقرارية جافة في أسلوب السرد لكن لا تخلو من عمق و غرابة مختبئة بين سطور المقالة .

بينما أطوي الصحيفة , خطرت فجأة ببالي فكرة : رجل يسير في الأرجاء  بمفرده في وضح النهار في يوم عمل قد يبدو مثيراً للشكوك . ظل هذا العنف المتجدد عمّق أكثر من إحساسي بأني عنصر دخيل هنا . كما لو كنت ضيفاً غير مرغوب فيه يسير متخبطاً في مكان لا ينتمي إليه .

سرت بمحاذاة طريق في التلال حيث تمتد قضبان السكة الحديد . أخذت انعطافات قليلة في طريقي نحو الغرب و في غضون ثلاثين دقيقة كنت أدخل لآشيا . آشيا بلدة طويلة و ضيقة تمتد شمالاً و جنوباً . امش قليلاً في اتجاه الشرق أو الغرب لتجد نفسك قد غادرتها . على جانبي الطريق هنالك أراضي خالية خلفها الزلزال و قليل من البيوت المهجورة و قد مالت لأحدى الجانبين .

تختلف التربة في منطقة هانشين – كان عنها في طوكيو . فهي منطقة جبلية رملية لذا الأرض فيها ملساء و بيضاء مما يجعل الأراضي الخالية أكثر بروزاً للعيان . كانت المنطقة مغطاة بحشائش الصيف الخضراء مما جعل التناقض في الألوان أكثر وضوحاً أيضاً . تصورت ندبة جراحية ضخمة على جلد شخص عزيز علي , صورة جعلت ألماً جسدياً حاداً كطعنة يسري داخلي , ألم غير مقيد بزمن أو مكان .

بطبيعة الحال لم تقتصر المنطقة على الأراضي الخالية المغطاة بالحشائش فقط . مررت بعدة مواقع بناء . يمكنني أن أتخيل أنه في أقل من عام سيكون هنالك صف من منازل حديثة البناء هنا , كثيرة جداً لدرجة أنني لن أتعرف على المكان . سيلمع قرميد الأسطح الجديدة تحت أشعة الشمس . بحلول ذلك الوقت ربما لن يبقى أي شئ مشترك بين المشهد هنا و بيني كإنسان . ( غالباً لن يبقى ) . يقف بيننا حاجز قهري فرضته آلة تدميرية قاهرة اسمها الزلزال . حدقت لأعلى نحو السماء في هذا الجو الصباحي الغائم قليلاً و فكرت في هذه الأرض التي جعلتني الشخص الذي أنا عليه الآن و فكرت في الشخص الذي صنعته هذه الأرض , في كل الأشياء التي لا نملك أي سيطرة عليها .

***

 

عندما وصلت لمحطة أوكاموتو المحطة التالية لآشيا , فكرت في الجلوس قليلاً على مقهى – أي مكان سيفي بالغرض – و أطلب فطورا تقليدياً . لم أكل أي شئ طوال النهار . لكن لم أجد أي مقهى مفتوحاً بعد . لم تكن تشبه البلدة التي في ذاكرتي . أشتريت مكرها بسكويت كالوري ميت من أحدى متاجر لوسون على جانب الطريق ثم جلست على دكة حديقة و أخذت أكل في صمت , و أبلع البسكويت مع القهوة . أنتهزت الوقت كي أدون ملاحظات عن الأشياء التي رأيتها في رحلتي حتى الآن .

بعد استراحة قصيرة . أخرجت نسخة من رواية همنجواي ” الشمس تشرق أيضاً ” من جيبي و تابعت القراءة من حيث وقفت . قرأت الرواية من قبل في المدرسة الثانوية و كنت قد بدأت قرائتها ثانية في سريري بالفندق بالأمس و أسرتني القصة تماماً . أتساءل لماذا لم أدرك من قبل كم هي رواية عظيمة . إدراكي لذلك منحني شعوراً غريباً . لابد أن عقلي كان في مكان أخر حين قرأتها أول مرة .

لم أجد مكاناً للأفطار في المحطة التالية  أيضاً لذا مشيت بتثاقل بمحاذاة قضبان السكة الحديد , و أنا مستغرقاً في أحلامي عن فنجان قهوة ساخن و شرائح توست سميكة . كالسابق , وجدت نفسي أمر بعدد من الأراض الخالية و مواقع البناء . أنزلقت على الطريق بجواري عدة سيارات مرسيدس بينز سيدان كلاس : إي , تقل الأطفال للمدرسة أو المحطة , كما أتصور . لا يعلو السيارات خدشاً أو بقعة واحدة . مثل رموز بلا معنى و زمن يمضي دون هدف , كلها لا صلة لها بالزلزال أو العنف , على الأغلب .

أمام محطة روكو , أعطيت لنفسي امتيازاً صغيراً فدخلت لمطعم ماكدونالز و طلبت سندوتش ماك مافن بالبيض ( ب 360 ين ) و تمكنت أخيراً من إسكات جوعي الذي كان يتنامي داخلي كزئير بحر . قررت أخذ أسترحة لمدة نصف ساعة . كان الوقت الآن هو التاسعة صباحاً . عندما دخلت لماكدونالز عند التاسعة صباحاً  , شعرت كما لو أنني داخل واقع متخيل ضخم خلقه المكان أو كاني جزء من عقل باطني جمعي [4] . لكن في الحقيقة كنت محاطاً بواقعي أنا . للأفضل أو الأسوء , كانت ذاتي قد وصلت مؤقتاً لطريق مسدود , و لم تعد تملك مكاناً تذهب إليه .

 

***

لأني قطعت كل هذه المسافة , قررت أن أصعد المنحدر الذي يقود إلى مدرستي الثانوية القديمة . بدأ شريط خفيف من العرق في التكون فوق جبهتي . في الثانوية كنت استقل دائماً حافلة مزدحمة للمدرسة لكن الآن أمشي في نفس الطريق بمفردي .

في ساحة اللعب الشاسعة المساحة الذي تم شقه في منحدرات الجبال, كانت الطالبات يلعبن كرة اليد كجزء من حصة الرياضة . كان هنالك هدوء خارق للطبيعة يخيم على المكان ما عدا صيحات الفتيات التي تعلو من حين لأخر . كان المكان ساكناً تماماً لدرجة أنني شعرت أنني تعثرت و سقطت في فراغ من نوع ما . فراغ ليس من المفترض أن أدخله .ما سر هذا الصمت المطبق ؟

حدقت في ميناء كوبه الذي يتوهج بضوء شاحب بعيداً في الأسفل , و أستمعت بإنصات أملاً في التقاط بعض أصداء من الماضي لكن لا شئ أتى إلي . فقط أصوات الصمت .  هذا كل شئ . لكن ماذا بيد الإنسان أن يفعله ؟ نتحدث عن أشياء حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاماً . أكثر من ثلاثين عاماً .

شئ واحد يمكنني قوله بكل يقين : كلما كبُر الإنسان , كلما صار أكثر وحدة . ينطبق ذلك على الجميع دون استثناء .لكن ربما هذا ليس شيئاً سيئاً . ما أعنيه هو : من منظور ما , حيواتنا لا شئ سوى سلسلة من مراحل تساعدنا على التعود على الوحدة . و من هذا المنطلق , فلا سبب للشكوى . بالإضافة لذلك حتى لو أردنا أن نشكو , فمن سنشكو له على أية حال ؟!

***

_________________________________

[4] مصطلح يطلق على جزء من العقل الباطن للإنسان مستمد من خبراته و تفاعله مع بيئته .

 

 

 

4

Marina District Collapse

نهضت و غادرت المدرسة الثانوية و بدأت بفتور في هبوط المنحدر الطويل ( كان التعب قد بدأ يحل بي  . ) . تابعت المشي دون راحة حتى بلغت محطة شين كوبه , المحطة التي يتوقف فيها القطار السريع .من هنا يمكنني الوصول لوجهتي, سانوميا في رحلة واحدة سريعة .

كان لدي متسع من الوقت لذا بدافع الفضول دخلت فندق أورينتال كوبه الجديد , فندق عملاق تم افتتاحه حديثاً قرب المحطة . غصت في أريكة في بهو القهوة و تناولت أول فنجان قهوة مقبول اليوم . أنزلت حقيبة الظهر و خلعت النظارة الشمسية و أخذت نفساً عميقاً و مددت ساقي أمامي كي أمنحها بعض الراحة . شعرت برغبة في التبول فذهبت لدورة المياه و أفرغت مثانتي لأول مرة منذ مغادرتي الفندق في الصباح الباكر . عدت للجلوس في مكاني و طلبت أعادة ملء فنجاني بالقهوة و تأملت المكان حولي .كان الفندق واسعاً بشكل مخيف, مختلف اختلافاً شاسعاً عن فندق أورينتال كوبه القديم قرب الميناء (فندق جميل مساحته مريحة تم إغلاقه بسبب الزلزال . ) وصف هذا الفندق الجديد بأنه مهجور أقرب للحقيقة من وصفه بالاتساع . كان مثل هرم دون عدد كاف من المومياوات . لا أريد أن أنقد المكان نقداً لاذعاً , لكنه ليس مكاناً أود المكوث فيه .

بعد شهور قليلة حدث تبادل لإطلاق النار في نفس البهو الذي جلست فيه . قُتل شخصان . بكل تأكيد لم أملك أي فكرة عن حدوث شئ كهذا في ذلك المكان .لكن تصادف مروري بالمكان في فجوة زمنية سبقت العنف الآتي . سمها صدفة لكن مع ذلك لا يقلل ذلك من شعوري بالغرابة . مثل الماضي , فأن الحاضر و المستقبل يومضان ذهاباً و أياباً بسرعة خاطفة على معبر فوقي .

لماذا نتعرض لمثل هذا العنف العميق و المستمر ؟

بعد أربعة شهور من رحلتي القصيرة تلك , بينما أجلس على مكتبي و أكتب هذه الكلمات , لم أستطع منع نفسي من التساؤل . حتى لو نحيت ما حدث في منطقة كوبه جانباً , أشعر كأن فعل واحد من العنف مُقدر له ( واقعياً أو مجازياً )  كي يقود مباشرة لفعل عنف أخر . هل هنالك حتمية مُولدة لتلك الدائرة المفرغة من العنف ؟ أم أنها الصدفة و حسب , و لا شئ أخر ؟

حدث زلزال هانشين أثناء وجودي في أمريكا ثم بعد ذلك بشهرين حدث هجوم غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو . وجدت هذا بمثابة سلسلة متصلة من الأحداث .

في ذلك الصيف عدت لليابان و سرعان ما أنخرطت في أجراء حوارات مع الناجين من هجوم السارين . بعدها بسنة نشرت كتابي ” تحت الأرض ” . هدفي من هذا الكتاب , ما أردت الكتابة عنه – ما أردت أنا أن أعرف أكثر عنه – هو العنف في مجتمعنا الذي يقبع مختبئاً تحتنا مباشرة . عن العنف الموجود هناك كاحتمال خامل , احتمال قد ينفجر في أي لحظة في صورة عنف , كل هذه الأشياء التي نتناسى وجودها . لهذا لم أختر محاورة من يدعوا أنهم ضحية في الهجوم بل الضحايا الحقيقيون .

أثناء سيري الصامت طوال يومين من نيشينوما إلى كوبه , ظلت تلك الأفكار تدور في رأسي . بينما أمشي خلال الظل الذي تركه الزلزال , ظللت أسأل نفسي : ما المغزي من هجوم السارين في مترو الأنفاق ؟ في نفس الوقت بينما أمضي مخترقاً ظل هجوم السارين : ما الهدف من زلزال هانشين ؟ بالنسبة لي لم يكن الحدثان منفصلين و غير مرتبطين . كشف اللثام عن أحداهما قد يساعد في كشف اللثام عن الأخر . كانت هذه مسألة مرتبطة مادياً و نفسياً في آن واحد . بمعنى أخر الجانب النفسي كان مرآة للجانب المادي و العكس . و علي أن أخلق بنفسي ممراً خاص بي يربط بين الجانبين .

يمكنني أن أضيف سؤالاً أخراً  أكثر  خطورة لمجموعة الأسئلة تلك : ماذا يمكنني أن أفعل بخصوص هذا العنف ؟

 

***

آسف لقولي هذا , لكنني لم أعثر بعد على أجابة واضحة و منطقية لأسئلتي . لم أصل لأي نهاية محددة . كل ما يمكنني فعله حتى هذه النقطة هو أنه من خلال كلماتي الخالية من اليقين أن أرسم بأمانة الطريق الحقيقي الذي قادتني إليه أفكاري ( و تحديقي و ساقاي ) . أتمني أن تتفهم هذا . في النهاية أنا أنتمي لنوعية البشر التي يمكنها إحراز تقدم فقط بتحريك سيقانها و تحريك جسمها , من خلال عملية مادية بطيئة خطوة بخطوة في خط ينحرف باستمرار .يستغرق الأمر وقتاً . وقتاً طويلاً على نحو بائس . أتمنى فقط ألا يكون طويلاً للغاية .

وصلت أخيراً لسانوميا ثانية . بحلول هذا الوقت بدأت تفوح مني رائحة كريهة .لم تكن مسافة طويلة , لكنها أطول من مشيك الصباحي المعتاد . في حجرة الفندق أخذت حماماً ساخناً . جففت شعري و تجرعت زجاجة باردة من المياه المعدنية من الثلاجة . أخذت ثياباً نظيفة من حقيبتي . قميص بولو أزرق غامق و معطف رياضي أزرق من القطن و بنطلون شينوز . كانت ساقاي لا تزالان متورمتين قليلاً لكن لم يكن بإمكاني فعل شئ بخصوص ذلك . تماماً كما لم يمكنني انتزاع تلك الأسئلة المُبهمة التي تقبع ثقيلة و غير مُجابة داخل رأسي .

لم يكن هنالك أي شئ معين أريد فعله لذا ذهبت لمشاهدة فيلم شدني إليه, من بطولة توم كروز . لم يكن فيلماً مؤثراً لكنه لم يكن سيئاً جداً أيضاً . أسترخيت في مكاني و تركت الوقت يمضي . مرت ساعتان من حياتي –ليست بصورة مؤثرة لكن ليست بصورة سيئة أيضاً .

كان الليل يقترب بينما أخرج من السينما . سرت باتجاه التلال نحو مطعم صغير . جلست على منضدة و طلبت بيتزا مأكولات بحرية و بيرة . كنت الزبون الوحيد الموجود بمفرده . ربما كان هذا  نابع من خيالي فقط لكن بدا الجميع سواي سعيدين حقاً . بدا الأزواج راضيين بينما تقهقه مجموعة من الرجال و النساء بصخب . بعض الأيام تكون هكذا .

كان على بيتزا المأكولات البحرية التي جلبوها لي ورقة صغيرة كُتب عليها : هذه البيتزا التي أنت على وشك الاستمتاع بتناولها هي البيتزا 958,816 التي يعدها مطعمنا . لم أستطع استيعاب الأمر . ما الرسالة التي يجب أن أفهمها من تلك الملحوظة ؟ عندما كنت صغيراً كنت معتاداً على الحضور إلى هنا مع حبيبتي , نشرب بيرة مثلجة و نأكل بيتزة مخبوزة حديثاً تحمل نفس الورقة التي تشير لرقم ما . كنا نتحدث عن مستقبلنا , و كل توقعاتنا وقتها لم يتحقق و لو توقع واحد منها . لكن كان هذا منذ وقت طويل جداً . وقت كان لا يزال هنالك بحر هنا , وقت كان فيه جبال . لا يعني أنه لا يوجد هنا بحر أو جبال . بالتأكيد يوجد . لكن ما أتحدث عنه هو بحر مختلف و جبال مختلفة . مختلف عما هو موجود الآن .

بينما أحتسي بيرتي الثانية , فتحت نسختي من ” الشمس تشرق أيضاً “و تابعت القراءة  . قصة منسية عن جيل ضائع . سرعان ما أندمجت مع عالم الشخصيات .

عندما غادرت المطعم أخيراً , كانت تمطر كما توقعت النشرة الجوية . تبللت . تبللت بشكل مذري , وصل الماء حتى عظامي . لم يعد هنالك داع لشراء شمسية .

 

 

 

 

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

الأمهات باعتبارهن صانعات للموت

 

download.jpg

الأمهات باعتبارهن صانعات للموت

للكاتبة: كلوديا داي – باريس ريفيو

ترجمة: أمينة الحسن

كتبت المسودة الأولى من روايتي (heartbreaker) في عشرة أيام من الجنون، من شهر أغسطس من العام ٢٠١٥م، حينها كان يغطي أذني اليسرى ضمادا بحجم قبضة اليد، يظهر في أسفله أثر قٌطُبِ زرقاء داكنة اللون. عظمي الركابي في الأذن والذي يعتبر أصغر عظم في جسم الكائن الحي، حيث يتم شحنه لتوجيه الصوت في الأذن الوسطى، قد تعطل.  لدي الان خطاف رقيق من التيتانيوم يرفرف في رأسي. وبطريقة خارقة أشبه بالمعجزة عاد سمعي.

اصطحب زوجي ابنينا في رحلة طويلة إلى كوخ صغير على الساحل الشرقي من كندا. ليس باستطاعتي حمل الأشياء الثقيلة ، و عليَ أن أحافظ على نبضات قلبي بمستوى منخفض ـ ولم يكن بإمكاني غسل شعري ثم  تسريحه في عقدة لامعة بالزيت في قمة رأسي. أغلقت هاتفي الخلوي ، و فصلت الهاتف الأرضي و الانترنت كذلك . هذه كانت خطتي بعيدة المنال . ألم يكن جونثان فرانزين يصب الاسمنت في منفذ الذاكرة الخاص به (USB) ، و يعمل في مكتب مستأجر، مفروش بالسجاد… مكتب كأنه فم جهنم! يعمل فيه حتى ينتهي. فأي شخص أمسى اليوم؟ نعم إنها الحرية.

 

لقد كان زوجي مدركا بأن رواية تنمو باضطرام داخلي. و الطريقة الوحيدة لكي أهدأ .. أن أكتبها ، و لكي أكتبها فإن السبيل الوحيد لذلك أن أكون وحيدة ، و لم أكن وحيدة خلال عقد من الزمن ، لأنني أم ، و لا يمكن للأم أن تكون بمفردها قط ، عندما تغسل ، عندما تنام ، عندما تسخط ، هي ليست بمفردها . هذا هو  ما يكون عليه حال الأمهات .  الأطفال يتعلقون في ملابسك ، يعصفونك بالأسئلة .  إنهم مثل النزاع المسلّح ، مثل الحب الجارف ، مثل نهاية العالم ،  يستحوذون على كل المساحة المتاحة فيك .

و أخيرا تم فحص سمعي أثناء حملي بطفلي الثاني ،

و قد لا أتمكن من سماع الكلمات الأولى المبكرة لإبني العزيز ( و سوف أعلم  قريبا أن مرضي هو ذاته الذي أصاب (بتهوفن) و (هوارد هيوز) ، قد تفاقم مع الحمل ). دخلت كابينة الاختبار، غرفة قاتمة من المقابض و الأسلاك ، و أُوصِد الباب الثقيل خلفي .جلست ثم وُضِعت سماعات الرأس الضيقة جدا على رأسي ، جمهوري كان شخص واحد ، أخصائية السمع، وكان لها وجه المبشرات، و قد أثقلته بالمكياج. نظرت ناحيتي من خلال الزجاج السميك. و كما أرشدتني، كنت أضغط على زر جهاز التحكم كلما سمعت نغمة أو كلمة . و يمكنني أن أقول بان هناك ثغرات كبيرة بين ضغطاتي، مقدارا كبيرا من الحياة يجري خارج تجربتي فيها ، الساعة على الحائط بدأت في العد التنازلي ، تخيلت غرف الإعدام للسجناء ، لسنوات عديدة من حياتي ، كما لو أن الصوت كان يعيش على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان . و في نقاشاتي مع الآخرين ، أتواصل بشكل جيد جدا بالإشارات ، أعرف تماما ما يعنيه ذلك ، يبدو أن هذه إشارة كافية لما أعانيه.

حين أكون في المنزل يمنحني الصمم تركيزا هائلا  ، و كأن لدي قدرة خارقة على الاستغراق التام . إنه يحيطني بخصوصية عميقة ، و لكن ما أن أصبحت أما ، فإن ذلك ليس أمومي  و أنا أتحمل مسئولية طفل ضعيف و غامض ، لأن صممي يشكل خطرا الآن ،  ( السيارات القادمة ) قالت أخصائية السمع ، و هي تومئ ناحية طفلي الذي تتدلى قدميه من الكرسي في الزاوية المقابلة لمكتبها ، لكنني لست بمفردي  كي أتمكن من  التعبير عن انزعاجي من كلامها . بعدما خرجت من كابينة الاختبار نظرت إليّ الاخصائية بشيء من الحب قائلة ” لا أعرف كيف تعاملتِ مع هذا الأمر كل تلك الفترة الطويلة، لابد وأنك مجْهدة ” كل ذلك فهمته من خلال قراءة الشفتين.

غادرت المبنى الأبيض الكائن في أحد الضواحي وبحوزتي مجموعة تجريبية من المساعِدات السمعية، وحينما أوصدت باب سيارتي، ذهلت من الصوت. أدرت المفتاح لتشغيل السيارة، فإذا بصوت المذياع يهدر، اندفعت ناحية زر التحكم بالصوت، كان الصوت أشبه بالهجوم: طائرة بلا طيّار، ثلاجة، خطوط كهرباء، حركة مرورية، كنت باستمرار أشعر بالدوار هنا، متأهبة للدخيل، وكان الصوت هو الدخيل بذاته، بعد أربعة أشهر انتزعت مساعدِات السمع من أذني وأنجبت طفلي الثاني في أقل من ثلاث ساعات، كنت بحاجة لأن أكون على الجانب الآخر من نهر سريع الجريان. (بالمناسبة، إنه صبي) قالت لي القابلة بعدما عدت إلى الغرفة، إلى العالم! كان جسم الطفل حارا على صدري، لم أفكر أن أسأل عن شيء، كنت أريده، أريده فقط.

بعد خمس سنوات، ها أنا أعيش في جسد ذي سمع، لم أعد أعتمد على الأدوات الصغيرة التي أخفيها تحت المخبأ السميك في شعري، إنني أكتب ـ أكتب بسرعة الحيوان الملاحق من قبل حيوان أكبر منه، وذلك الحيوان الأكبر هو الوقت. ها كم مخططا عموديا لأم فنانة، الخط الأول يمثل الحجم المتزايد من التعبير والحاجة إليه، والخط الثاني يمثل سرعة تبدد الوقت.

أن تكتب فهذا بمثابة أن تكون في حوار مع نفسك، أن تحافظ على كينونتك، لذا تستطيع أن تكتشف سلسلة من الأفكار والمشاعر، إن العدو لهذه العملية هو الاقتحام. الأطفال. بكل ما فيهم من جمال ووطيش وعبقرية غريبة. يبدون كمقتحمين لمسار نيزك.

حين تصبح المرأة أما، تحدث بداخلها تغييرات عديدة، وكأنها واقعة تحت تأثير سحر، تفقد معها حريتها. في كتابها A Life’s Work تفترض (راشيل كوسك) أن الأم تنقسم في اللحظة التي تشاهد فيها إنسانا آخر يخرج من جسدها، حيث أن تلك اللحظة ذاتها، لا تعد فيها الأم قادرة على أن تصبح وحيدة، ولا تحقق الوحدة بداخلها. كتبت كوسك ” الولادة ليست مجرد ما يفصل النساء عن أنفسهن، بل إن عليهن أن يتفهمن التغيرات المتشكلة بداخلهن، شخص آخر يبقى حيا بعد الولادة في نطاق وعيهن ومستحوذا عليه، فحينما تكون الأم مع ذلك الشخص الآخر تكون ليست هي، وحينما تكون بدونه تكون ليست هي أيضا”.

 

إن العمليات الذهنية للأم، إدراكها، انحرافاتها، تشتتها، حبها لذاتها، يصبح كل ذلك مغمورا في روتين التربية. يندفع أمام دماغ الأم شريط بالأشياء التي يجب أن تتذكرها: الملعقة، ثوب السباحة، الحليب، التطعيمات، وقت الدخول ووقت المغادرة، ٣:١٥. هذه القائمة تعبّر عن الاهتمام. إنها شكل من أشكال الحب، أخبرتني امرأة حكيمة ذات مرة، أن الحب هو الشعور الذي تخلقينه لدى الآخر، الحب هو الشعور الذي تجعلين طفلك يحسه. إنك تنجزين مهام القائمة – القائمة لا تٌقهر، بل تبقى في تزايد مستمر.

 

في روايتها الأخيرة بعنوان (الأمومة) تناقش (شيلا هايتي) ما إذا كان يجب عليها أن تصبح أما، تطرح جميع الأسئلة الممكنة في سؤال واحد. وتتساءل في الثلة الأخير من الكتاب: لكم أتمنى أن أصبح كاتبة جيدة كفاية – أن أعبر فيما أكتبه عما قد يشعر به الإنسان – فإذا لم تكن لدي تجربة الأمومة؟ إذا لم تكن لدي تجربة فيما اعتبرته بشكل متزايد مؤخرا تجربة محورية في الحياة؟ بالنسبة لي فإن الجواب يعتبر منعطفا يشكل حياتي، إذن الجواب لا. يجلب الأطفال معهم الهدايا الغامضة، والمعلومات الجديدة، مع أولادي تمخضت كل مشاعري المستقرة والمضطربة. أخترت الولادة الطبيعية كي أجرب، لأنني أردت أن أعرف ماهي الولادة كي أكتب عنها بعدما نجوت منها.

أنا مثل (هايتي) ولكن على الضفة المقابلة للشاطئ، بالأمومة عملت على خدمة مهنتي الكتابية.

 

أن تكتب رواية فهذا يعني أن تزيح الستار عن ضائقة أو مناقشة أمر ما داخلها. وللقيام بأكثر أمر شخصي وبشكل أدبي – كتبت روايتي (heartbreaker) لأنني قبل عقد من الزمن، حينما كنت حاملا للمرة الأولى، دخل الموت في الحمل، كانت صدمة، وصدمة مريعة، أقحمت نفسها بقسوة داخلي، كان عليّ أن أقلبها بين يديّ مرارا وتكرار، اضطررت للتحديق فيها مليا، لأرى ما ستكشف عنه. ثم أصبحت الصدمة بحجم رواية!

لم ينذرني أحد بأن الموت يقدم مع قدوم أي طفل، سوف ينسل الموت إلى ذهنك، ويحيط بجسدك المتنامي، وبمجرد أن يغادره طفلك، يحيط به الموت أيضا. سيكون من الخطورة أن تحولين انتباهك بعيدا عن طفلك – هكذا يجعلك حضور الموت تشعرين.. لطالما أصبحت المحادثات التي أجريها مع أمهات جدد في حدود ضيقة لا تخرج عن هذه القائمة: البطانية، الحفاظات، والكريمات. كل محادثة أجريها تكون محادثة خاطئة ـ لم تهنئني أي أم لا أردفت: إن أكثر الأفكار سوداوية تستحوذ عليّ، وأنت؟

فكرت بيني وبين نفسي، من أجل ذلك لا تنام الأمهات. لأجل ذلك لا يشحن الأمهات بنظرهن بعيدا عن أطفالهن، حتى حين تكون مكسورة القلب، تعيد الأم نفسها إلى الحياة.

كنت أعرف أنني حاملا حين شممت رائحة احتراق الغراء الذي يربط الشرائط الخشبية ببعضها في غرفة النوم بشقتنا، حينما ذكرت هذه التفاصيل لأحد أصدقائنا لاحقا نظر إلى بطني المستدير قائلا: ذلك أشبه بوضع الفريسة والضحية، جسدك هكذا يجب أن يكون يقظا للأخطار الجديدة أو ما شابه.

كتبت روايتي في كل غرفة فارغة وجدتها ويكون فيها باب يمكنني قفله. كانت هذه الطريقة التي يمكنني بها إسكات تدفق الذكريات وأحاديث النفس. فتح لي الأصدقاء شققهم وأكواخهم، وغادرت أنا بيتي وعملت في كل مكان ستة أيام، ثمانية أيام، أي وقت أختلسه من حياتي. ثم أعود إلى ولديّ الطويلين، وغرف النوم التي بدت خربة! كتبت وكـأنني في سباق سرعة (المسافات القصيرة). إلى حد بعيد ك(جون براين) وهو يدخل غرفة في ( فندق ناشفيل) مع عشرة صناديق من أوراق مرصفة بكلمات الأغاني وثلاث قيثارات، وقيثارة الكلال (البرتغالية) ثم يغادر بعد ذلك بأسبوع وقد انتهى من تأليف ألبوم (شجرة الغفران). إنه يتوجب على المرء أن يحلم كما يحلم نجوم الروك.

وبالرغم من انهماكي، يظل لدي رابط إنساني بالمنزل، كنت أتصل كل ليلة وأستمع إلى صوت ولديّ السعيدين الوالهين، لتأكيد وجودهما، وبالتالي وجودي.

 

في كتابها ” The Perfect Nanny ” تأخذنا ليلى سليماني بالحديث عن الخوف من الموت حتى منتهاه. تبدأ روايتها بهذه الجملة المرعبة ” إن الطفل قد مات ” إن خوف الأم يتركز حول أطفالها. كما يتكشف لنا من تلك الكلمات الأربع الأولى القاسية، أن الأطفال يتعرضون للمخاطر حينما تكون الأم بعيدة عنهم.   ولقد استلهمت سليماني حكايتها من قضية المربية البريطانية( لويز وودوارد) البالغة من العمر تسعة عشر عاما، والتي اتهمت بقتل الطفل الذي ترعاه. وطوال فترة محاكمتها لم تكن كراهية عامة الناس موجهة( لوودوارد)، باعتبارها القاتلة، بل إلى أم الطفل العاملة! التي يُنظر إلى غيابها على أنه السلاح الحقيقي لقتله. ونقلت سليماني عن محامي (وودوارد)  ” إذا لم تكن تريد حدوث شيء لأطفالك فعليك أن تتولى رعايتهم بنفسك “. وعلى هذا الاتهام ردت سليماني قائلة: أعتقد أن ذلك أمر قاس للغاية، أن تقنع الناس بفكرة أن تعهد بغيرك لرعاية طفلك أمر سيء، إنها أداة لإقصاء النساء – حيث تنتهي هذه القضايا غالبا بـ ” حسن إذن على المرأة أن تبقى في المنزل “.

وترى الكاتبة (سامانثا هانت) الوجهين المشؤمين ” الأمومة والموت” كوجهين يشكلان العملة المعدنية النسوية.

 

إذا ما تصورنا بأن الموت كجزء من الحمل وتربية الطفل، فقد نتعامل مع النساء بصرامة أكثر، في مقابلتها في مجلة النيويوركر حول قصتها (قصة حب) تقول هانت: إن أكثر ما ينفرني ويغضبني من التمييز الجنسي هو الانتقائية، وتبسيط المرأة في علامات أنثوية محددة. حينما أصبحت أما لم يقل لي أحد ” لقد صنعت الموت، أنت تصنعين موت أطفالك ” في هذه الأثناء لم أستطع التفكير في أي شيء آخر، من المخيف أن نفكر بأن الأمهات صانعات للموت، لكن من المؤكد أن ذلك يمنحهن المزيد من القوة والتعقيد أكثر ما نرى عادة.

” الأمهات باعتبارهن صانعات للموت “صورة روجت لها الثقافة بطريقة  معاكسة بقوة . إن الحمل يشبه الاغتسال تحت ضوء الشمس، وضوء القمر، وتحت ضوء الله، فما هو أكثر جمالا من امرأة حبلى، وهي منجزة الوعد الخالص؟ عقلها مشرق ونقي بينما يتتبع الطفل البريء كتب العلوم الغريبة حول تشكل أظافر قدمه بداخلها.

تحتوي الكتب الأكثر شيوعا عن الحمل ذات الأغلفة المرسومة بالباستيل – مؤكدة على أفكار الأم المرسومة للباستيل، النساء اللواتي رسمن بخطوط باهتة في وضعيات مادونا على كرسي هزاز في ميدان حرب من قصص الخيال العلمي، فيه الوردي والأصفر والأزرق الباهتين. إن جسد المرأة الحامل يجب أن يعود بعد الولادة في أقرب وقت ممكن إلى أبعاده السابقة قبل الحمل، وهذا الوجوب ينطبق على عقلها أيضا. ويجب أن يتوقف أي ذكر للحادثة الصادمة والساحقة التي تملأ روح الأم الجديدة. يجب أن يتوقف أي ذكر للرواية التي تتوق لكتابتها. يجب أن يتوقف أي ذكر للموت.

رابط النص الأصلي :  

https://www.theparisreview.org/blog/2018/08/14/mothers-as-makers-of-death/

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

ابسط شيء في العالم – آين راند

Image result for ayn rand

ابسط شيء في العالم

آين راند

قصة قصيرة

ترجمة : إقبال عبيد

 

(كتبت هذه القصة عام 1940 و لم تظهر في اي طبعة حتى عام 1967 والتي صدرت مع مجموعة ( الموضوعية) إذ نشرت في شكلها الأصلي كما ورد في النص .وتوضح القصة طبيعة العملية الإبداعية والطريقة التي يواجه بها كاتب حياته الكتابية بتسخير عقله الباطن ليسيطر على مخيلته الإبداعية)

 

 

جلس هنري دورن على مكتبه و نظر إلى الورقة الفارغة عبر نوبات من الهلع ، قال في نفسه: سيكون هذا أسهل شيء أقوم به كما أنني قمت بذلك من قبل كن غبياً فقط ، قال في نفسه. هذا كل شيء. استرخي فقط وكن غبياً بالقدر الذي تستطيعه. مهمة سهلة؟ ، أليست كذلك؟ مما أنت خائف أيها الأحمق اللعين؟ أنت لا تفكر يمكنك أن تكون غبياً؟ ، أليس كذلك؟ أنت مغرور ، قال ساخطاً في نفسه .وهنا تكمن كل المشكلة. 

أنت مغرور كالجحيم لذلك لا يمكنك أن تكون غبيًا ، أيمكنك ؟ أنت غبي الآن لقد كنت غبي حول هذا الشيء طوال حياتك، فماذا لا تكون غبياً سلفاً؟

سأبدأ بعد دقيقة واحدة ، قال. فقط دقيقة واحدة أخرى ثم سأبدأ. سأبداً بعد مضي الدقيقة. سوف أستريح فقط لدقيقة ، هذا صحيح ، أليس كذلك؟ أنا متعب جدًا. لكنك لم تفعل شيء اليوم. لم تفعل شيئًا منذ شهور. مما أنت متعب؟ لهذا السبب أنا متعب – لأنني لم أفعل شيئًا. أتمنى لو أستطيع . . . أدفع أي شيء إن استطعت ذلك مجدداً. . . أوقف هذا فوراً. توقف بسرعة. هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن لا تفكر به. ستبدأ بعد دقيقة واحدة وستكون مستعداً تقريباً. أنت لن تكون مستعدًا ما إذا فكرت في ذلك. لا تنظر إليه. لا  لا تنظر إليه. لا تنظر. . . لقد تحولت نظراته ليبحث عن كتاب سميك بغلاف أزرق بالي ، مطروح على الرف ، تحت  مجلات قديمة بإمكانه أن يرى ذلك جيداً ، على ظهر الكتاب ، تندمج الحروف البيضاء الباهته مع زرقة الغلاف: انتصار بواسطة هنري دورن. نهض ودفع المجلات إلى الأسفل لإخفاء الكتاب. من الأفضل أن لا تراه أثناء قيامك بهذا ، على حد قوله. لا ، من الأفضل أن لا يراك أثناء قيامك بهذا، أنت أحمق عاطفي ، قال”لم يكن كتابًا جيدًا”. كيف تعرف أنه كتاب جيد؟ لا ، لن ينفع ذلك. حسناً ، لقد كان كتابًا جيدًا. إنه كتاب رائع. ولا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك. سيكون من الأسهل بكثير أن أردت التفكير به على هذا النحو. سيكون من الأسهل بكثير لو ألزمت نفسك بالإيمان بأنه كان كتاباً رديئاً ونال ما يستحقه بالفعل و ما حدث له،حينها فقط يمكنك رفع رأسك والتحديق مباشرة إلى عيون القراء لكتابة شيء ما أفضل،لكنك لا تصدق ذلك، لقد بذلت كامل محاولاتك للتصديق ،لكنك لم تفعل.حسناً،قال لنفسه ” أكتبها فقط، لقد تخطيت هذا العقبة مراراً وتكراراً و لسنتين ،لذلك أكتبها فقط” ليس الآن،لم تكن الانتقادات السيئة تلك التي أفكر بها بل على العكس كانت التقييمات الجيدة وعلى الخصوص تقييم فلوريت لووم تلك التي قالت بأنه أفضل كتاب قرأته على الإطلاق لأنها تقول بأن قصة الحب لامستها،لم يكن يعرف حتى أن ثمة قصة حب في كتابه ، لم يكن يعرف ما المؤثر فيه وبكل الأشياء التي كانت في كتابه والذي قضى خمس سنوات في التفكير فيه والكتابة، الكتابة بعناية للغاية وبدقة ،دقة كما لم تعرفها فلوريت لووم ولم تزعج نفسها بالتفكير أو ذكرها على الإطلاق ،بعد أن قرأ التقييمات على كتابه كان لدية اعتقاد بأن كل الأشياء التي يكتبونها لم تكن في كتابة على الإطلاق كان يتخيل وجودها فقط أو ربما قد تكون المطبعة قد تجاوزتها، لكن الكتاب طالع الكتاب الذي بدا كثيفاً جداً لكن ماذا لو كانت المطبعة قد تجاوزتها بالفعل ما الذي ملأ كل تلك الصفحات؟ كما لم يكن ممكناً أن الكتاب لم يكتب باللغة الإنجليزية، ولم يكن من الممكن أن يكون مجنوناً لذلك أعاد قراءة كتابه مجدداً وقد غمرته السعادة حين عثر على جمل ركيكة أو فقرات مشوشة أو فكرة لم تبد واضحة قال “أنهم محقين لم تكن موجودة ولم تكن واضحة تماماً،كانت مثالية للغاية في أن يتجاوزها أحد …العالم مكان إنساني للحياة فيه،لكن بعد أن قرأ كل هذا إلى نهايته ، قد إدرك بالفعل أنها كانت موجودة،كانت جلية وجميلة ومهمة جداً ،لم يكن بإمكانه كتابتها  مجدداً بشكل أفضل من ذلك،لهذا لن يفهم أبداً الجواب، ومن الأفضل أن لا يحاول فهمه أن رغب في البقاء على قيد الحياة.

حسناً قال لنفسه هذا يكفي،أليس كذلك،لقد أستغرق الأمر وقت أطول من دقيقة ،قال ستبدأ.

كان الباب مفتوحاً،نظر إلى غرفة النوم،تجلس كيتي على الطاولة تلعب السوليتير.بدا وجهها وكأنها تحرز نجاحاً متقدم إذ يبدو كل شيء على ما يرام.كان لها فم جميل .يمكنك أن تعرف الكثير طباع الناس عبر أفواهم،تبدو الآن كما لو أنها ستبتسم للعالم،وأن لم تفعل ستقترف ذنب ،لكنها ستفعل ، تبدو بالفعل باسمه في هذا اللحظة ،لأنها كانت بحالة رائعة وكذلك العالم،تحت ضوء الغرفة بدا عنقها أبيض ونحيف للغاية ،انحنت بقلق على الأوراق،لا تُهدر الأموال على السوليتير .سمع صوت الأوراق تطرح بلطف على الطاولة متزامناً مع طقطقة البخار في الأنبوب عند زواية الغرفة،رن جرس الباب ثم نهضت كيتي بسرعة ولم تنظر إليه ابداً،جسدها نحيل و مشدود تحت ثياب طفولية،داخل فستان مشجر واسع،فستان جميل جداً،كانت قد ابتعته قبل سنتين لملابس الصيف،كان بإمكانه فتح الباب إلا أنهُ يعرف تماماً أنها تريد فتحه. وقف،وقد ثبتت قدماه بعمق في الأرض،تدلت بطنه،لم ينظر إلى الباب كان يستمع فقط. سمع صوت كيتي يقول ” لا أسفه حقاً لا نحتاج إلى إلكترولوكس” صوت كيتي كان بمثابة أغنية ،كما لو أنها قد بذلت جهداً في أن لا يبدو صوتها مضحكاً،كما لو أنها أحبت رجل إلكترولوكس وددت بشدة لو استطاعت دعوته للدخول،كان يعلم لما بدا صوت كيتي هكذا،كانت تعتقد أنه المالك،أغلقت كيتي الباب ونظرت له أثناء عبوره للغرفة ابتسمت له وكأنها تعتذر بتواضع و سعادة عن وجودها ثم قالت ” لم أود مقاطعتك عزيزي” ثم عادت إلى سوليتيرها.كل ما عليك القيام به الآن،يقول لنفسه،هو أن تفكر في فلوريت لووم وتحاول تخيل كل ما كان يعجبها،فقط تخيل ذلك وأكتبه بسرعة،هذا كل ما عليك فعله،وستحظى بقصة تجارية ستباع على الفور وستجني لك الأموال الطائلة،أنه ابسط شيء في هذا العالم،تستطيع، أنك الوحيد على حق والجميع مخطئون قال لنفسه الجميع يخبرك بما يجدر عليك فعله،كنت تبحث عن وظيفة ولم يمنحك أحدًا شيء، لا أحد يساعدك بالعثورعلى واحدة ،لم يٌظهر أحداً اهتماماً ولم يكونو جديين حول ذلك يقولون “أنظر لنفسك رجل شاب مثلك، وأنظر إلى بول باتيسون،يجني ثمانين ألف في السنة وليس بنصف عقلك.لكن بول يعرف تمامًا ما يحبه الجمهور وماذا يريد أن يقرأ ويمنحه إياهم.لو تتخلى عن عنادك،ليس عليك أن تكون مثقفاً طوال الوقت.ماذا لا تكون عملياً لوهلة، ثم بعد أن تجني أول خمسين ألف دولار،يمكنك حينها أن تعود وتدغدغ نفسك بالأدب الرفيع و الذي لن يباع أبداً.يقولون لماذا تريد هدر وقتك بالوظيفة،ما الذي تستطيع فعله،ستكون محظوظًا لوحظيت ب25 في أسبوع،من الحماقة أن تفكر على هذا النحو وأنت تحظى بموهبة عظيمة ،بالكلمات،أنت تعرف تماماً بأنك تمتلكها،لو مرة تفكر  فقط بأن تكون منطقياً حولها،يجب أن تكون سهلة بالنسبة لك،لو أمكنك كتابة قصة هوى ،أشياء صعبة ،ستكون بالنسبة لك قطعة من الكعك أو سلسلة كاملة من المسلسلات الشعبية أو ربما سلسلتين،أي أحمق يمكنه فعلها،يقولون توقف عن تهويل نفسك هل تستمتع بكونك ضحية؟

يقولون أنظر إلى زوجتك،يقولون لو فعلها بول باتيسون فلماذا لا يمكنك أنت فعلها؟فكر في فلويت لووم يقول لنفسه،لا تحاول أن تتخيل أنك لا تستطيع فهمها،لكنك تستطيع،لا تحاول أن تكون معقداً جداً.كن بسيطاً.أنها بسيطة جدًا لتفهمها .هذا كل ما في الأمر،كن بسيطاً في كل شيء،أكتب فقط قصة بسيطة،القصة الابسط في العالم والتي لا تشكل فارقٍ،يمكنك أن تتخيل،بحق الله،أيمكنك أن تفكر بأي شيء لا يشكل فارقٍ  لأي منهم أي شيء غير مهم، أكتب بأدني قدر من الأهمية؟لا يمكنك؟هل تظن أنك كاتب جيد هكذا؟ أنت مغرور أحمق،أحقاً تظن أنك كاتب جيد وأنت محاصر هكذا؟لا يمكنك  كتابة  أي شيء إلا أن يكون عميقاً رائعاً وهاماً،أيجب أن تكون المنقذ لهذا العالم طوال الوقت؟أتريد أن تكون اللعين جون دراك توقف عن خداع نفسك؟يقول.تستطيع،أنت لست أفضل من آي شخص آخر،قهقه بين نفسه،مثل شخص بغيض،يقولون الناس لأنفسهم بأنهم ليسوا أسوأ من أي شخص آخر حينما يحتاجون الشجاعة.قل لنفسك أنك لست أفضل منهم. ليتك تخبرني فقط من أين كسبت صفة الغرور الجهنمي . هذا كل ما هو عليه.لا يتعلق الأمر ابداً بالموهبة ولا العبقرية مجرد وهم مغرور .لست حتى ضحية لإبداعك،أنت مثقف متباهي ،وأنت تنال فقط ما تستحق. كاتب جيد؟ ما الذي يجعلك تؤمن بهذا الاعتقاد،ما الذي يعطيك الحق بكره ما ستفعله؟ أنت لم تكتب منذ شهور.لم تستطع،ستفعل؟ أنت لم تكتب منذ شهور.لم تستطع،لا تستطيع الكتابة بعد الآن؟ ماذا لو لم تستطع كتابة ما تود كتابته؟ ما شأنك بإحتقار الأشياء التي يحبها الناس أن تكتبها؟هذا ما أنت جيد بشأنه على كل حال،وليس لأي تفاصيل عميقة أخلاقية،ربما يجدر بك أن تكون ممتن لمجرد المحاولة،وليس كمثل محكوم بالأعدام ينتظر في زنزانة أن يُلتقط له صورة في الصفحة الأمامية.

الآن هذا أفضل،أظن الأن أن الروح الملهمة بصحبتك،الآن يمكنك أن تبدأ.كيف يمكن للمرء أن يبدأ بتلك الأشياء؟ حسناً دعونا نرى…لابد أن تكون بسيطة،كقصة إنسان،فكر بشيء بشري…كيف يمكن للمرء خلق عمل من أرواح أخرى؟كيف يمكن للمرء أختراع قصة للآخر.كيف يمكن للأخرين أن يكونوا كتاباً.هيا!،لقد كتبت من قبل،كيف بدأت إذاً،لا،لا يمكنك التفكير بهذا الآن،ليس بالبدايات،إذ فكرت،ستعود لنقطة البداية الفراغ أو للأسوأ.فكر في أنك لم تكتب شيئاً قط،أنها بداية جديدة،ستغدو أقل شأناً.ها أنت ذا ،كان هذا جيداً،تحرر من القيود البغيضة،أن فكرت في الملاحظات المبتذلة هذه،ستبدأ في كتابتها قريبا.فكر بشيء ما بشري،هيا فكر بعمق ،حسناً جرب هذا،فكر في كلمة إنسان،ما الذي يعنيه ذلك،ستظهر فكرة في مكان ما هنا ،ما هي الصفة الأكثر بشرية في الخارج،ما هي الصفات التي يحملها كل شخصاً تعرفه،صفاتهم الفائقة التي يتميزون بها،قوتهم المحركة؟الخوف؟ لا ليس الخوف على وجه الخصوص،الخوف فقط؟ أنها قوة عمياء هائلة ومحركة دون هدف ،خوف خبيث من اخبث الأنواع التي تعاني معها،لأنهم يعرفون أيضاً أنهم سيضطرون أيضاً للمعاناة ،وهذا يجعل المهمة سهلة عليك لما يتوجب عليك فعله،النوع الذي يريدون أن يروك عليه ،صغير مضحك وبذيء ،قليلو الشأن الصغار في مأمن ،أنه ليس الخوف حقاً،أن أكبر بكثير من ذلك، مثل السيد كروفورد على سبيل المثال إذ يشغل مهنة المحاماة، سيكون سعيداً حين يخسر عميل ما قضيته،على الرغم من أنه يخسر المال أيضاً وعلى الرغم من أن الموضوع يمس سمعته المهنية.أعلم أنه سعيد،يا اللهي،يالها من قصة،قصة السيد كروفورد ،أن استطعت فقط صفها على الورق  كما هو حاله مع إضافات في الشرح ضمن ثلاثة مجلدات لن يقوم أحداً بنشرها لي ،لأنهم سيقولون أنه ليست حقيقة وسينادونني بالكارة للإنسانية،توقف عن ذلك،توقف على الفور،هذا ليس كل ما يقصدونه،أنه يقولون أنها قصة إنسانية ولكنها بشرية لكن هذا ليس ما يقصدونه،ماذا يقصدون إذا، لن تعرف ابداً،اوه نعم،أنت تعرف،أنت تعرف جيداً،دون أن تعرف..توقف عن هذا …لماذا تريد دائما أن تعرف معنى كل الأشياء،هذه هي غلطتك الأولى،ها هي ذاـ أفعلها دون تقكير،يجب أن تكون دون معنى،يجب أن تكتبها كما لو أنك حاولت أن تجعلها دون أي معنى ،كما لا تظهرها بأنها الأولى في حياتك ،أجعلها تبدو كما لو كنت معتاد على كتابة هذا النوع،لماذا أصبح الجميع مؤخراً يبحث عن معنى؟ما هو السبب الحقيقي لذلك؟ توقف فورا!،حسناً لنجرب طريقة أخرى مختلفة تماماً،لا تبدأ بالتجريد ابدأ بمقدمة محددة،أي شيء،فكر بشيء بسيط و واضح و سيء ،سيء إلى الحد الذي لا تبالي بعدها،بحال أو بآخر ،أكتب أول شيء يخطر في بالك،على سبيل المثال قصة مليونير في منتصف العمر يحاول أغواء شابة جميلة،هذا جيد،جيد جيداً،استمر في ذلك بسرعة لا تفكر كثير استمر مع التيار،حسناً هنا رجل في حوالي الخمسين،جنى ثروة طائلة،دون ضمير،لأنها لا يرحم،وهي فقط في الثانية والعشرين وجميلة ولطيفة للغاية تعمل في متجر (فايق آند تن) ،نعم (فايف آند تن) . يمتلكها هو ،هذا ما هو عليه،ثري عظيم يملك مجموعة كاملة من متاجر (فايف آند تن) .في يوم ما جاء إلى متجره المتجدد ورأى تلك الفتاة ثم وقع في حبها،لماذا يقع في حبها،حسناً أنه وحيد،وحيد جداً،وليس له أصدقاء في هذا العالم الفسيح،الناس لا يحبونه، الناس لا يحبون الرجل الناجح الثري و الذي جنى ثروة لنفسه، كما أنه عنيف،حقق النجاح لنفسه وتمسك بأهدافة فقط دون الآخرين،حين يكون لديك تفان كبير في عملك فأنك تخسر الآخرين ويلقبك الآخرين بالعنيف والقاسي،وحين تعمل بجد أكثر من أي شخصاً آخر فأنك تصبح كمحرك لا يهدأ في ما يعمل الآخرين ببرود،لذلك أن تتغلب عليهم جميعاً،سيلقبوك الناس بعديم الضمير، هذا الإنسان في النهاية أنت لا تعمل على هذا النحو فقط لكونك تريد جني المال وإنما لشيء آخر رائع،أنه محرك رائع للطاقة، طاقة خلاقة،لا،أنها المسؤولة عن الإبداع نفسه،وهي المسؤولة عن خلق آي شي في هذا العالم،السدود وناطحات السحاب القنوات عبر الأطلسي، وكل شيء حولنا،جاء من واحد مثلنا تماما، عندما بدأ في اليخوت ،نعم أنه ( فايف آند تن ) العظيم ، لا هو ليس كذلك إلى الحجيم( فايف آند تن )–العاشر،حين بدأ في بناء السفن والتي صنعت ثروته ،لم يكن هناك سوي بضعة معوقات و الكثير من أصداف البطللينوس،لقد صنع مدينة،وأنشأ ميناء خاص به ومنح المئات العديد من الوظائف، ومازالو يحفرون للبطلينوس أن لم يأتي سلفاً مع السفن،والآن هم يكرهونه،ولا يشعر بالآسى نحوه،لقد تقبل ذلك منذ زمن،ولم يفهم لماذا،الآن هو في الخمسين،والظروف القاسية أجبرته على التقاعد،يملك الملايين،وهو أتعس رجل على وجه الأرض ،لأنه يريد أن يعمل ليس لجني المال والله للعمل فقط،حتى يحارب ويغتنم الفرص،لأن تلك الطاقة لا يمكن أن تبقى ساكنة،والآن بعد أن يلتقي بالفتاة، يا لها من فتاة، الفتاة التي في الخامسة والعاشرة، لعنها الله، ما الذي تحتاجه فيها؟ لقد تزوج منذ زمن طويل،أنها ليست القصة المنشودة  على الإطلاق،ما سيلتقيه ليس إلا فتى فقير، يناضل من أجل لقمة العيش، هو يحقد على هذا الشاب ،لأن الناضل الحقيقي سيكون في حياته القادمة ،لكن هذا الفتى،وهنا بيت القصيد،هذا الفتى لم تكن لديه الرغبة في أن يكون آي شيء،لقد خاض العديد من التجارب الوظيفية ،و تنازل عنها جميعاً،ليس لديه الشغف بعد الآن و لا هذا ما يريده على وجه الخصوص، أن يكون في أمان،لا يبالي ولا يتحدث مع الآخرين،لم يصنع شيء أبداً،ولم يقدم آي شي لهذا العالم،ولن يفعل أبداً،لأنها يريد الأمان،والأمان فقط من هذا العالم،هو محبوب من الجميع،ويملك تعاطف الجميع،وها هم ذا الرجلان،من على حق يا ترى؟ من هو الصالح؟ من منهم يملك الحكمة والحقيقة؟ماذا سيحدث حين تضعهم الحياة وجهاً لوجهة؟

الآن عد إلى البدايات،عند كونه في ( فايف آند تن )  أغنى رجال العالم،لا ،لا أستطيع،لا أستطيع هدر تلك القصة،لابد أن أستخدمها ،سأكتبها لكن ليس الآن،بعد أن أكتب تلك القطعة التجارية الرخيصة ،سيكون أول أمر أفعله بعد أن أنشر هذا القصة واجنى المال.ستستحق الانتظار،سأبدأ مجدداً،على شيء آخر تمامًا،هيا،ليست فكرة سيئة الآن،أليست كذلك؟لم يكن أمراً صعباً على الإطلاق،التفكير…،لقد جاءت بنفسها،فكر في شيء آخر الآن،وابدأ الآن،شكل بداية مثيرة للاهتمام،شيء ما جيد و يشد الانتباه حتى لو لم تكن تعرف بعد ما هي القصة،حتى أن لم تعرف من أين تبدأ،افترض أنك ستفتتح القصة بالفتاة الشابة والتي تعيش في الطابق العلوي وهناك في كل صيف تجلس بمفردها على السطح،وفي يوم صيفي جميل ،عند المساء كانت تجلس في الأعلى حتى جاءت طلقة وتشظى الزجاج في كل مكان وقفز رجلا خارج نافذتة على سطحها، أرايت لن يمكنك أبداً أن تخطئ ،أنها سيئة جداً لكونها قطعة جيدة.

حسناً،لماذا بحق الجحيم تعيش فتاة في الطابق العلوي؟لأنه رخيص؟لا لأنها تعيش في ج.ن.ش.م ( جمعية النساء الشابات المسيحيات)  وسيكون بالتأكيد الأرخص،قد تقاسمها فتاة غرفتها المفروشة،هذا ما ستفعله الفتاة،لا ليس هذه الفتاة،لا يمكنها أن تعتاد على الناس،هي لا تعرف لماذاـ لكنها لا تستطيع،تفضل أن تكون وحيده،وحيدة جداً في حياتها،تعمل في مكتب ضخم،مزعج وصاخب على الدوام،مكتب غبي،لكنها تحب السطوح لأنها في نهاية الليل ترى المدينة بأكملها  من الأعلى وكأنها تملكها، وتراها كما هي عليه،لكنها لا تكون كما تريدها أن تكون، وهنا تكمن المشكلة،تريد دوما أن تبدو الأِشياء تشبهها،كانت ترى المدينة جزر ضوئية صغيرة تسقط من السماء وتتكون في غموض تفكر أيضاً بالشراب والحفلات والثملين في الحمامات تفكر بالنساء اللاتي يملكن كلاب.

في المبنى المجاور،كان فندق جميل صغير،بنوافد بلورية هائلة،لأن الاطلالة كانت سيئة جداً لا يمكنها رؤية أي شيء عبر النوافذ ما تستطيع رؤيته خيالات ظلية لأشخاص يبدون واقفين في الظلام، وترى على وجه الخصوص رجل طويل القامة نحيف للغاية وكأنه يحمل شيء ما على كتفه ويعطي أوامر للعالم اجمع،كان يتحرك كما لو كان الضوء يسير معه،لقد وقعت في حب هذا الرجل عبر ظله،لم تراه أبداً في حياته،ولا تريد ذلك أن يحدث ابداً،لا تعرف شيء عنه،ولم تحاول ابداً أن تعرف،هي لا تبالي،الأمر ليس كما هو عليه،وإنما التصور المسبق لهذا الرجل،في الحب دون تخطيط،دون أمل ودون الحاجة للأمل حتى،الحب يكفى أن يُوجد السعادة في اللاشيء في عظمته الخاص،بشكل حالم لا يمكن وصفه دون تطلب،وأكثر واقعية من أي شي آخر يمكن أن تصادفه هي.

جلس هنري دورن على مكتبه،يرى ما لا يتوقعه المرء أن يراه عندما لا يعلمون على وجهه الخصوص ما لا يراه الآخرون،يراها،يرى أفكاره الخاصة بطريقة مشرقة أكثر أكثر من أي تصور للأشياء التي حوله الآن،يراهم ،لا يدفع بهم إلى الأمام،لكنه يرها كمتأمل،دون  سيطرة على تفاصيلها أو أشكالها،كل فكرة في الزواية تكمن بداخلها دهشة مشرقة تلتقي واحدة تلو الأخرى لا تشكل أي شيء،لكنها تنتشر دونما سيطرة،لا يستطيع منع نفسه من توليدها،لكنه لا يقاوم، عبر دقيقة من المشاعر التي تشبه تسديد حساب معذب لا يستطيع تحمله،شعور متواصل يجهل أحساسه،ثم … في ذلك المساء كانت تجلس وحيده على السطح حينما جاءت طلقة وشظت النافذة وقفز الرجل على سطحها، لقد رأته للمرة الأولى في حياته، وهذه هي المعجزة،لمرة لقد أرادت بشدة كل ما رأته،لكن لتو اقترف جريمة قتل،أظن أنها من أنواع الجرائم المبررة

لا!،لا!،لا! أنها ليست واحدة من الجرائم المبررة على الأطلاق،نحن لم نعرف بعد ما هي ،ولم تعرف هي  بعد،لكن يكمن هنا الحلم، المستحيل،المثالي ضد كل قوانين العالم،حقيقتها هي، ضد أمام كل البشر،كان لابد عليها…

توقف!،توقف!،توقف!

إذاً؟

استجمع قواك يا رجل ،تماسك!، حسناً،لمن تريد كتابة هذه القصة؟ للربات البيوت؟،لا،أنت لا تحاول بما فيه الكافية،أنت على ما يرام، لا بأس!،لا بأس!،ستكتب هذه القصة لاحقاً، ستكتبها بعد أن تجني المال، لا بأس لن يأخذها أحداً منك،اهدأ أجلس الآن ، وعد للعشرة.لا! أقول لك،أنك تستطيع،تسطيع، لكنك لم تبذل قصارى جهدك،لقد تخليت عنها ببساطة،أتستطيع التفكير دون أن تفكر؟

أسمع!،ألا تعرف طريقة مختلفة يمكنك فعلها؟لا تفكر بالرائع لا تفكر بالفريد،لا تفكر بالأستثنائي الذي يريده الآخرين، لكن أكتب الواضح السهل،لمن؟، هيا الآن،لو سألت نفسك ماذا لو…؟ هذا سيطلق العنان للمزيد من المتاعب،ماذا لو ليست كما تبدو عليه على الأطلاق،لن تكون مثيرة للاهتمام لو…هذا ما تفعله تماماً بنفسك ولا يجدر التفكير ابداً بالذي قد يكون مثيراً،لكن كيف استطيع فعل أي شيء أن لم يكن مثيراً؟ لكنه سيكون كذلك- لهم – سيكون فقط مثيراً لهم ،لأنه ليس كذلك بالنسبة إليك، وهنا يكمن السر،لكن كيف لي أن أعرف كيف ولماذا؟

أسمع ألا يمكنك أن تتوقف لوهلة،هل تستطيع أن تغفو– أحدث عقلك- أتستطيع أن تجعله يعمل دون أن توقظة؟ هل تستطيع أن تكون غبياً، أن تكون دون وعي متعمدـ غبي بدم بارد- ألا تستطيع تنفيذها بطريقة ما؟ الكل أغبياء حول شيء ما ،أفضل الأشخاص وأسوأهم يمكلون مناطق غباء عمياء في عقولهم – ألا تستطيع إيجادها ؟

يا إلهي القدير،دعني أكون غبياً،دعني أكون منافق،دعني أكون تافهاً لمرة واحدة. يتوجب علي هذا .ألا ترى؟أنها مسألة عكسية فقط .عملية عكسية واحدة بدلاً من إيماني في محاولة أن أكون ذكياً،مختلفاً،وصادقاً،متحدياً،وسأمد القصة قليلاً ،ستكون أفضل،على المرء أن يكون مملاً،لطيفاً ومنافقاً ومأمن،وهذا كل شيء،هل هذا ما يفعله الآخرين؟ لا ،لأ أظن ذلك،سيخرجون مجانين وبعد ذلك سيسكنون في مصحة عقلية لستة أشهر،إذاً ما ماهيتها؟ ،لا أدري،أليست هي هكذا-أيكتبون هكذا،ربما لو قالوا لنا منذ البداية في أن نتخذ المسألة العكسية،..لكننا لسنا كذلك،لكن البعض يكتسب الحكمة في وقت مبكر- ثم بعدها يفهم ما يجب فعله،لكن لماذا يجب أن تكون هكذا،لماذا يجب علينا …كفى ، أنت لن تحل مشاكل العالم، أنت ستكتب قصة تجارية،حسناً ،اهدأ الآن ، تماسك بشدة ولا تجبر نفسك بحب تلك القصة علاوة على ذلك ،لا تدع نفسك تحبها.

دعونا نكتب قصة بوليسية ،عن جريمة محيرة.لا يمكن أن تكتب جريمة محيرة بمعاني عميقة، هيا،بسرعة ببرود وبساطة،

هنالك مسارين دائمًا في الجريمة،الضحية و القاتل،-لذلك لا أحد سيشعر بالآسى تجاه آي منهما كما هو الحال دائماً،حسناً يمكننا أضافة أوصاف شيطانية للقاتل ،حسناً،ها نحن ذا ،نستطيع أضافة بعض التفاصيل للضحية،ولكن على القاتل أن يكون وغد والآن القاتل سيكون لديه دافع للقتل،يجب أن يكون دافع خسيس،لنرى،لقد وجدتها!، هذا القاتل مبتز محترف والذي يحمل في قبضته الكثير من الأشخاص ،والضحية الرجل الذي على وشك أن يفضحه،إذاً المبتز يقتل الرجل،كدافع خسيس أكبر مما تتصور،لا عذر لذلك، أو هذاك، ماذا لو تكن مشوقة،أيمكنك أثبات أن القتل كان مبرراً،ماذا لو كان كل الناس الذين يبتزهم حشرات قبيحة،من الأشخاص الذين يقومون بأعمال فظيعة،ليس ثمة وسيلة واحدة للدفاع عنك ضدهم،هذا الرجل تعمد أن يكون مبتزاً،يحمل ضد كل ضحية أشياء ضدهم،ويجبرهم على تحقيق العدالة،الكثير من الأشخاص يعرفون كيف يصنعون رزقهم عبر الأجساد التي يستخدمونها للترقي في أعمالهم و يستخدمها هو ،للتقليل من الأذى للآخرين حوله،قد يكون روبن هود المبتز.يأتيهم بطريقة واحدة يستحقونها، على سبيل المثال، سياسي فاسد،والبطل يخدر ويجبر على التصويت ،لشخصا ما أخر،منتج هوليوود كبير،دمر حياة العديدين،والبطل يمنح للمثلة أستراحة عمل دون أن يجبرها بأن تكون حبيبته،آخر،رجل أعمال فاسد،والبطل يجبره أن يكون رجل أعمال صالح،والأسوأ بينهم المصلح المنافق،أعتقد،لا هذا ليس الأخطر بينهم أنه فقط مثير للجدل-ما هذا بحق الحجيم،عندما يطيح البطل بهذا المصلح ويوشك أن يفضحه يقتله البطل،لماذا يجب عليه ذلك،والممتع بالقصة كلها أن كل هؤلاء الأشخاص يمكن أن تلتقيهم في الواقع،أناس لطفاء ،ركائز للمجتمع،كهؤلاء الذين نحبهم و نحترمهم،أما البطل هو من هؤلاء المنبوذين واقعياً ، يا لها من قصة،أثبت ذلك ،أثبت أن تلك النوعية من القصص تنال شعبية هي هكذا،أضرب نفاق المجتمع،أكشف الحقيقة،أثبت أن الذئب الجائر سيظل دوماً جائر،أثبت المصداقية،والشجاعة والقوة والتفاني،أثبت ذلك أن المبتز والقاتل لديهم قصة والقاتل البطل لاذ بالفرار ،يالها من قصة عظيمة، قصة مهمة جدًا والتي..

كان لايزال هنري دورن جالساً يثني ذراعيه على حضنه،مشتتاً لا يرى شيئاً ولا يفكر بأي شيء،أزاح الورقة الفارغة جانباً، وامتدت يداه إلى صيحفة التايمز يبحث في صفحة أعلانات ” مطلوب مساعدة”  

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

فصل مترجم من أغنيات الثوم – مو يان

 

ترجمة : إقبال عبيد Image result for garlic ballads

Image result for mo yan

————————————————————————

أتمدَّد في حقل الذرة، أتأمَّل كثافة الغيوم المتشكِّلة في حين أوراق الدُّخْن الحادَّة تحاصرني.

تتلاشى الغيوم، تحت قبة السماء الزرقاء الصافية؛ لتحرق الأرض الحامية ظهري.

تتدلى حبات النُّسغ مثل سُبحة بيضاء بخيوط شفافة على الأوراق المنتصبة، متردِّدة في السقوط أرضًا، تُشبه كثيرًا الدموع على أهداب العين!

يتراقص الدُّخن في تموجات، ثم يسكن عند توقف الرياح. تنحني السيقان الناضجة في حين يَنغِق زوج من الغربان بنعيق مُذعن، يلتصق أحدهما بذيل الآخر، يتبعهما عُصفور فضوليّ يخلط زقزقته مع نغيقهما.. الهواء لاذع مصحوبًا برائحة الثوم الطازجة التي تنبعث من الأرض.

جينجو وحيدة  في هذا الحقل منحنية؛ هذا لأنها تقطع الدخن الذي انخفض من بين ساقيها، تتسارع يداها بشدة، تضرب الأرض، وتخطف حَفنة تلو الأخرى، وتتموج حركتها إلى أعلى وأسفل، مثل ذيل أصفر كثيف.حُزمتي من الدُّخن مكدسة قربي، و بين خطوط الذرة المهجورة تحاول جاهدة أن ترى الشمس بين فجوات الدخن.

فدانان من الأرض لا يكفيان لفارس مثلي.

لقد اخترتها منذ أن خرجتُ من الجيش العامَ الماضي. إنها ليست جميلة، ولكن أيضًا ليست قبيحة.. كانت مجرد فتاة صغيرة شابّة عندما غادرتُ. والآن قد  كَبِرَتْ، وقوِيَ عودها. أنا أحب المرأة القوية!

سآخُذ حصتي من الدخن إلى المنزل بعد ظهر هذا اليوم.

ساعة يدي المصنوعة من ماركة دياموند التي صنعتها شانغهاي تسير بسرعة، ومتقدمة بحوالي 20 ثانية كل يوم، تشير الآن إلى  11:03.

حدَّدتها عبر المذياع منذ بضعة أيام، لذلك فعليًّا هي في الدقيقة الحادية عشرة. يمكنني أخذُ وقتي في المنزل.

كان إحساس غاوما بالشفقة عميقًا عندما كان منتصباً في مكانه، مُبحرًا بيده، يشاهد جينجو خُلسة، كان يحدق بنفس التركيز الذي مارسه الغرابان اللذان طارد أحدهما الآخر، وتلاهما على  مقربة العصفور بزقزقته المنفردة.

لم تكن تعرف أن هناك أحدًا ما من ورائها.

غاوما يستمع لمشغل الأغانيّ الصغير في جيبه، يستمع إليه عبر سماعات الأذن. قَرُبَ نَفاد البطاريات، تشوه الصوت ليبدو خافتًا ومشوهاً، لكنها موسيقى جيدة في كل الأحوال، وهذا ما ينبغي أن يوضع في الحُسبان.

فتاة شابة مثل زهرة، ظهرُ جينجو كان عريضًا ومسطحًا، و شعرها رطب، كانت تتنفس بقوة.

أزال غاوما  السماعات، ووضعها على عنقه، حيث لا تزال الموسيقى المشوَّهة مسموعة.

“جينجو”.. ناداها بهدوء، أزعجته لسعة الموسيقى القادمة من السِّدادة؛ الأمر الذي جعله يحُكّ. ثم قام بضبطها.

اقتربت ببطء، نظرة فارغة على وجهها المتعرق. كانت تُمسك بمِنجل في يدها اليمنى، وحُزمة من الدُّخن في يسارها. نظرت بلا حَراك إلى وجه غاوما الذي كان مفتونًا بمنحنى خصرها و بجيوب سترتها الزرقاء وباهتة اللون. لم ينطق بشيء.

غرست جينجو المِنجل أسفلها، وقسمت الدُّخن إلى حُزمتين، ثم وضعتهما على الأرض. أتت بقليل من الحشائش، ولفَّت كل حزمة.

جينجو، لِمَ يجب عليك القيام بذلك وحدَكِ؟

ذهب أخي إلى السوق”، أجابت بهدوء، تمسَح وجهها بكوعها، وتضرب خَصرها بقبضة يدها؛ لتُزيل الغُبار وحبّات العرَق من على وجهها الشاحب. تمسك بالخيوط الرطبة من شعرها، وتعدِّل من هيئتها.

أتعاني تشنُّجًا في جانبك؟

ابتسمتْ. تنتشر بقع خضراء صغيرة أمام أسنانها الأمامية، لكن البقع الأخرى تتلألأ. زِرُّ ياقتها المفقود أظهر خط صدرها الأبيض الناعم، و الذي لم يتحمله.

تظهر خدوش حمراء صغيرة قرب حنجرتها ورقبتها المكشوفة، حوافِّ الدخن الحادة، وضعت أيضًا أجزاءً من مسحوق أبيض على جلدها. لتخفيه

أخوكِ الأكبر ذهب إلى السوق؟”، تمنّت أنه لم يقل ذلك؛ لأن أخاها الأكبر مُقْعَدٌ لا يستطيع العمل، أما الذي يذهب إلى السوق عادة فهو الأخ الثاني.

أجابته باعتدال : “لا.

يجب أن يكون هنا ليساعدك”!

نظرت في ضوء الشمس. شعر بالأسف من أجلها!

كم الساعة أخي الأكبر غاوما؟

نظر في ساعته: “الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة”، وأضاف سريعاً: “ساعتي متقدمة قليلا.”

تنهدت بهدوء، ونظرت إلى حزمة الدُّخن الخاصة به، وقالت: “أنت محظوظ أيها الأخ الأكبر غاوما؛ ليس لديك إلا نفسك لتقلق عليها، الآن بعد أن انتهيت يمكنك أن ترتاح قليلا”.

تنهدت مرة أخرى، ثم استدارت، واستندت إلى مِنجلها: “يجب أن أعود إلى العمل!”

وقفت بلا حَراك خلف شخصية عازمة: “سأساعدك”، قالها وهو يتنهد.

شكرًا، لا أستطيع أن أَدَعَكَ تفعل ذلك”، قالتها في تهذيب.

نظر في عينيها: “لِمَ لا؟ ليس لديّ شيء آخر لكي أقوم به… ثم ما فائدة الجيران إذن؟!”

خفضت رأسها، وتمتمت: “حسنًا، يمكنني قبول بعض المساعدة.”

أخرج مشغل الأغانيّ من جيبه، وأوقفه ووضعه على الأرض، وسماعات الأذن، وكل شيء.

ماذا يشغل هذا؟” سألته.

فأجاب: “الموسيقى.

ينبغي أن تبدو لطيفة.”

جيدة لا بأس بها، باستثناء انخفاض البطاريات. سأحصل على البعض غدًا؛ حتى تتمكني من الاستماع له.

قالت مبتسمة: “إن كُسرت مني.. فلستُ مسؤولة، لن أستطيع تحمُّل تكلفة إصلاحها.”

قال: “إنه ليس هشًّا كما تظنين، أبسط جهاز في العالم، ثم إني لن أجعلك تدفعين أبدًا“!

بدأا في قطع الدُّخن الذي اختطفه بهمهمه متصاعدة. كانت تمشي أمامه، و مقابل كل صفين تقطعهما كان يجزّ ثلاثة، وضعها في حُزَم.

ثم قال: “والدك  ليس طاعنًا في السن كي لا يكون جانبك ليساعدك.

توقف حَفُّ مِنجلها: “لديه ضيوف اليوم.”

لم تنجُ بنبرة تعليقها الحزينة من غاوما الذي تناسى الموضوع، وعاد إلى عمله.

توتَّر مِزاجه أكثر مما كان قبلًا، يحك الدخن وجهه وكتفيه “قطعتُ ثلاثة صفوف لكلّ منَّا وأنتِ تقفين في طريقي؟!”، قالها وقد تفجَّر غضبًا!

 

الأخ الأكبر غاوما”، كانت على وشْك البكاء، ثم شكت: “إنني مُتعَبة للغاية!

أجاب: “كان يجب عليَّ  أن أُخمِّن؛ هذه ليست وظيفة امرأة.”

يمكن أن يتحمل الناس أيَّ شيء.”

لو كان لديَّ زوجة.. لتركتها تعمل في المنزل، في المطبخ، أو ربما تَخِيط  الملابس، أو تطعم الدجاج، لكن لن أتركها تعمل في الحقول.”

 

نظرت إليه جينجو، وتمتمت: “إنها امرأة محظوظة، أَيًّا كانت.”

جينجو، أخبريني ما الذي يقوله القرويون عني“؟

لم أسمعهم قطُّ يقولون شيئًا.”

لا تقلقي؛ مهما كانت تلك الأشياء.. فسأتقبّلها”.

حسنًا، البعض منهم يقولون … لا تغضب! … يقولون: إنك اقترفت خطأً في الجيش.”

هذا صحيح، قد فعلت ذلك.”

يقولون: إنك أنت وزوجة قائد الفوج …… أمسكوا بكما“.

غاوما ساخرًا: “يا إلهي! لم تكن زوجته، كانت معشوقته، وأنا لم أحبَّها، لقد كرهتها.. لقد كرهتها فعلا“!

قالت وهي تتنهد: “إنني أفهمك”.

إنها لا تستحقّ ضرطة كلب”! تَعَثَّر، ثم رمى المِنْجَل، وركل الدُّخن بغضب، ثم أعادها مرة أخرى: “إنها لا تستحق ضرطة كلب!”

حضر شقيقها المُقْعَد في ذلك الوقت، وتَذَكَّرَ غاوما. وعلى الرغم من أنه لم يبلغ بعدُ الأربعين، قد تحوَّل لون شعره إلى اللون الأبيض، وبدا وجهه متجعِّدًا بعمق، كانت ساقه اليسرى أقصر من اليمنى، يستخدم طرفًا حديديًّا يعطيه عرجًا واضحًا.

جينجو، هل تخطِّطِين للبقاء هنا فترة الغداء أيضًا؟

اضطرب غاوما مستشيطًا، ثم همس: “لماذا يعاملك أخوكِ كأنكِ أسوأ عدوٍّ له”؟!

عضت على شفتها، ثم سالت دموع كثيرة على خديها!

جينجو، لم أكن أعرف لحظة سلام منذ أن بكيت في ذلك اليوم!

أنا أحبك، أريد أن أجعلك زوجتي… لقد مرَّ عام بالفعل جينجو، لكنكِ تتجنبينني عندما أحاول التحدث معك… أريد أن أنقذك من جحيم حياتك؛ تشانغ كو، وعشرات الخطوط التي تنتظرك من الدخن!!

 هي كل ما أطلبه، ثَمَّة ما  يكفي من الوقت للأخذ بيدها؛ ولو صرخت أمام الجميع.. ولو جاءت  والدتها تقفز تشتم، أو تصفعني!!

لا، لن تصرخ، أعرف أنها معتادة؛ إنها ليست سعيدة بالزواج الذي رتبوه لها. كان ذات اليوم الذي ناداها أخوها الأكبر هو ذات اليوم الذي ساعدتها في جزّ الحصاد.

 والذي اتفق والداها مع الجد ليو شنغ لى وتساو ون.

التعامل مع الآباء وثلاثة أولاد وثلاث بنات معًا مثلُ التعامل مع  الكثير من الجراد، سلسلة مع ستة روابط، أنها وسيلة مضنية لتكوين أُسر جديدة.

هي لا تكرهني، هي معجبة بي! و حين نلتقي تخفض رأسها، وتبتعد ، لكنني أستطيع رؤية الدموع في عينيها.

إن قلبي يَجرح  كبدي،  يؤلِم رئتي، ويتسبب في  آلام في معدتي، يؤلمني كل شيء بداخلي …. “سيدي القائد، أَسرِعْ، أَعطِ الأمر!”، صرّح تشانغ كو: “أرسِلوا قواتكم إلى أسفل الجبل … أنقِذوا أختنا الكبيرة جيانغ … الكثير من العُثّ قد مات في ضوء  الفانوس الضعيف، أختنا الكبيرة جيانغ محتجزة، تخاف الحشود على سلامتها.

أيها  الرفاق، يجب أن نهدأ! إن أخذوا أختنا الكبيرة.. فسأكون أنا الشخص الذي سيجمع الحزن كله … تقوم السيدة العجوز، أُطلِقُ النار من  مسدسين في الهواء، يرفرف شعرها الأبيض في الريح، وتذرف الدموع على وجهها.

قل شيئًا تشانغ كو! غني تشانغ كو: “زوجي يقبع في معسكر السجن… وترتدي أرملته وابنته اليتيمة الثورة”. تشانغ كو، بضعة خطوط أخرى، واثنان آخران، ويمكنني أن أُمسك بيدها، أستطيع أن أشعر بدفء جسدها، أستطيع أن أشُم رائحة العرق النقيِّ تحت إبْطَيها!

“لا تجعل الثورة تقودك إلى  التهور … يجب أن تكون مُتمهِّلًا وواثقًا، خطوة واحدة، دقيقة في كل مرة“!

انفجارات في داخل رأسه، وصعِدت هالة من الضوء حتى حاصرته سحابة من ألوان كثيفة.

مدَّ يده، يبدو أن يده تمتلك عينين، أو ربما عيناها كانت تنتظر طوال الوقت.

قبض عليها بإحكام، كانت عيناه مفتوحتين، لكنه لم يَرَ شيئًا. قلبه الشاحب،لم يكن يشعر بالبرد، لكنه كان يرتعش

 

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

صدمات ذهنية مرعبة

 

هلوسات الذات المرعبة ساهمت بتشكيل الأدب الروسي، ليلة في حياة تولستوي و جلد للذات والعقل تخاطر ديستوفيسكي .

يقول تولستوي في كتابة ( مذكرات رجل مجنون)

أتذكر جيداً كيف كانت تلك الليلة مؤلمة بالنسبة لي ، كنت في غرفة مربعة بالضبط مع نافذة وحيدة وستائر حمراء طويلة ،طاولة من خشب البتولا وأريكة مجعدة من كلا الجانبين .

دخلنا ، رتب لي سيرجي السرير وسكب لنا كوب من الشاي ، ثم اخذ وسادة وتمدد على الأريكة، لم استطع النوم، لكنني أنصت لصوت سيرجي وهو يحتسي الشاي ويناديني: لقد طوقتني فكرة لحظية في هذه الغرفة المريعة ، خفت أن أنام ولا استيقظ أبداً ، هذا صحيح ، غفوت وحين استيقظت لم يكن حولي أحد ،كان المكان مظلماً، عدت للنوم مجدداً وأدركت بأن لا طريق للعودة.

” لماذا جئت إلى هنا ،إلى أي مكان جئت لأرمي قدري به ؟”

” إلى أين سأهرب ؟”

أهرب من شيء ثقيل ولا يمكنني حتى الهرب منه، هو دائما معي،وأنا دائما أعذب نفسي به،ها أنا ذا لست في بينزا ،لا عقارات أو أراضي تنفع الآن، لن تضيف لي ولن تحط من شأني ،والآن أنا متعب من نفسي رجل لا يٌطاق معذب،أريد أن أنام فقط وأنسى نفسي هنا ،لا ،لا استطيع ترك نفسي،هرعت عبر الردهة.كان سيرجي نائما في المساحة الضيفة من الأريكة ويداه تكاد تلامس الأرض.كان الحارس أيضاً نائماً في مكانه .هربت للخارج عبر الممر، تستحوذني فكرة وحيدة وهي الهروب من كل تلك الأشياء التي تطاردني لتعذبني .لكن شيءٌ ما جاءني وأحاطني ،طغى حول تلك اللحظة المرعبة والتي تضاعف ذعرها في عيني.

“أي نوع من الغباء هذا ؟”

قلت لنفسي “ما الذي سأعيش لأجله وما الذي أخافه ؟”

للموت صوتٍ غير مسموع ” أنا دائما هنا في الإرجاء .”

ومن المثير للاهتمام أن دويستويفسكي  كتب في رواية ” مذلون مهانون ” على جانب موازي لرسم الأحداث التي مر بها تولستوي

” يجب أن نعترف بهذا وبكل صراحة، الوقوع في تلك الحالة الذهنية غالبا ما يحدث لي وبالأخص الآن أو في مرضي ، تحديدا في الليل ، وهو ما أطلق عليها بالعادة ” الرعب المتصوف” وهو هذا الخوف الأكثر إيلاماً من أي شيء آخر ، لا أستطيع تحديده بنفسي ، هو أمر غير مفهوم وغير موجود في ترتيب الأشياء، لكن على نحو ما ربما بهذه اللحظة بالذات سيخرج كما لو كان يسخر على كل حجج العقل ليأتي لي كحقيقة لا أستطيع مقاومتها كحقيقة فظيعة قبيحة لا ترحم، وهذا الفزع يزداد أكثر ويصبح أكثر صلابة مع مرور الوقت، على الرغم من كل حجج العقل التي تصرخ وتبرهن لكنه في نهاية المطاف سيخضع العقل للكثير  من الوضوح ، وسيخسر عندئذٍ أي فرصة لمعارضة أو هزيمة هذا الشعور ،إن الحجج لا تطيعه فيصبح عديم الفائدة وهذا التزعزع والتأجج في تلك الحالة الذهنية المبهمة تزيد فتيل الخوف في الانتظار أكثر وأكثر، يبدو لي أن هذا النوع من الألم للناس الذين يخافون الموت، لكن في قلبي وما أؤمن به أنّ عدم اليقين بالخطر يزيد من العذاب أكثر وأكثر من ذلك.

أليكسي سوكولوف

المصدر

http://www.pravoslavie.ru/48032.html

ترجمة : إقبال عبيد

٦/١٢/٢٠١٧

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

رواية أثر على أثر

رواية
فلاديمير شاروف خلال تتويجه بالبوكر الروسية 2014
 رواية “أثر على أثر” (ترجمان للترجمة والنشر، الكويت) هي أوّل رواية مُترجمة إلى اللغة العربيّة للكاتب والروائي الروسي فلاديمير شاروف، الحائز على جائزة البوكر الروسيّة سنة 2014، بتوقيع المترجم العراقي تحسين رازق عزيز.

رواية “أثر على أثر” هي أولى روايات فلاديمير شاروف المُترجمة إلى العربيّة، وهي باكورة إصداراته الروائية أيضًا، تقوم على مذكّراتٍ تدور أحداثها في الفترة الممتدّة من نهاية القرن التاسع عشر وحتّى بداية سبعينات القرن العشرين، عارضةً أبرز المراحل المفصليّة في تاريخ روسيا الحديث، متناولةً حياة الإنسان الروسي في تلك الفترة، ومعاناته وتطلعاته في ظلّ ظروف اجتماعيّة وسياسيّة متقلّبة وغير مستقرّة، وذلك من خلال سرد يوميّات وحكايات شخصيّات الرواية الرئيسيّة، كما تسلّط الضوء أيضًا على العديد من القضايا الاجتماعيّة والانسانيّة في تلك الفترة.

 

يعدّ فلاديمير شاروف واحدًا من روّاد الرواية التاريخيّة الروسيّة، وقد صدر له في الرواية: “البروفات”، و”قبل الأوان وفي الأوان”، و”لا تأسوا عليَّ”، و”الفتاة العانس”، و”قيام لازاروس”، بالإضافة إلى “العودة إلى مصر” الحائزة على جائزة البوكر الروسيّة 2014. ومقالات قصصية تحت عنوان “إغراءات الثورة”، ومجموعة شعريّة بعنوان “إطار المياه”.

أمّا المترجم العراقيّ تحسين رازق عزيز، فقد صدرت له عدّة ترجمات موزّعة ما بين الرواية والبحوث والدراسات العلميّة، منها: “تأملات في تاريخ الأدب الروسي، ف. يا. لينكوف” (دراسة)، “حياة وإبداع، إ. إ. ستريلكوفا” (دراسة)، “الجدار” (نصوص أدبيّة روسيّة)، “آدم وميريام، دينا روبينا” (رواية).


مقطع من رواية “أثر على أثر”

رغم أني قضيت طفولتي كلها في فارونيش، وأعرف فيها كل بيت وكل شارع، وأعرف الكثير من الناس الذين يعيشون هناك – إذ كان عند أبي وأمي ما يسمى “بيت مفتوح”، وكان يأتي إلينا جميع من له ارتباط بالجامعة، ما عدا القليل – باختصار، رغم أنّ المدينة يجب أن تكون بالنسبة لي حيويّة بسبب الناس والعلاقات والذكريات، لكنّها لم تكن كذلك بتاتًا. فالعمارات ضخمة ومنخفضة كأنّها لك يكتمل بناؤها، والشوارع طويلة كالأنفاق تقطع المدينة كلّها “ذكرى عن بطرس وبطرسبورغ”، تهب فيها شتاءً رياح سهوب حوض الفولغا – أكثر ما خفته في طفولتي أن تحملني هذه الرياح بعيدًا –  تأتينا هذه الرياح من جهة مدينة ساراتوف، لكن موطنها أبعد، في سهوب كازخستان، بل وأبعد، في سيبيريا. والمدينة ذاتها بدت لي أنَّ أصلها من هناك. طبعا أنا لست محقًا، والمدينة على كل حال حيوية، فقد ولد هنا عدد من الفنانين والشعراء والكتاب الجيدين، ومن هنا كذلك كاتبي المحبوب أندريه بلاتونوف.

كانت في فارونيش وما تزال مسحة من روح العاصمة، وعشرات البنايات الضخمة، والبالية – كل هذا ذكرى من حقبة قصيرة، عندما كانت عاصمة لإقليم أرض السواد الوسطى الكبيرة، ومن ثم كانت من المقرر حسب الأقاويل، أن تصبح عاصمة جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، لكن الغالب فيها الحرمان.

فارونيش كانت مخدوعة على حدٍ سواء من روسيا ومن المحافظة القديمة التي بقي منها بعد الحرب بالكاد الثلث، لكن الخديعة تلك، لا سيما بمقاييس ذلك الزمان، لم تكن قاسية ولا رهيبة.

بعد الثورة استوطن هنا الكثيرون: سواءً هيئة أساتذة جامعة تارتوسكي، أو أولئك الذين انتقلوا إلى هنا في زمن نهضة فارونيش، ثم لم تعد المدينة تمتلك قوة للنهوض والتحليق من جديد. وسرعان ما اختلطوا جميعًا مع سكان فارونيش الأصليين، لأن الأماكن الفارغة والمهجورة من أهلها كانت كثيرة، والهروب من هنا كان سهلًا – فالدون وروستوف وكوبان والقرم على مرمى حجر. وعندما يجتمع هؤلاء المثقفون من ذوي المهن المختلفة، يقومون كالسابق بإخراج مسرحيات الهواة ويلعبون الورق والمطاردات الشعرية، وقرب حلول رأس السنة تدور الأطباق، من جديد، كالسابق، وطوال شهر كانون الثاني لا تُرفع من البيوت أغصان الصنوبر المزغبة الصغيرة، التي تُستعمل هنا للزينة بدلًا عن شجرة الشوح (في عيد الميلاد ورأس السنة) ولا تتساقط تقريبًا أُبرها الطويلة.