نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

قصة قصيرة للكاتب والناقد الأمريكي المعاصر جون أبدايك John Updike

ترجمة: انعام الشريفي

 

عرف القارئ العربي الكاتب جون أبدايك من خلال روايته “الارهابي” التي صدرت في العام 2006. ومع هذه الرواية وربما مع وفاته حديثا ً2009 انطلقت الاقلام العربية لتقـدمه الى القـرّاء وتسلّط الأضواء عليه، لكن هذا الكاتب الذي نال اول جائزة تكريمية له عام 1959 وحاز عقبها على 28 جائزة تقديرية لأدبه الرفيع، وعـدّ النقـاد اثنان من رواياته التي سبقت “الارهابي” من روائع الفن، ونالت احداها “الأرنب غنيا” ثلاث من الجوائز الكبرى، لم يدخل الا ّ متعثراً الى قارئنا النهم التائق الى معرفة كبار الأدب والفن عبر الأطلسي، وغالبا من خلال مساسه المباشر بالواقع العربي. وفضلا عن الرواية والقصة والشعر كان أبدايك ناقداً أدبياً وفنياً.

أبدايك الذي دخل الى باطن أمريكا،امريكا: اندحار الدين وعلو المادة (كما يراها) واظهرها للناظرين صورة لابهاء فيها، يستحق وقفات كثيرة. وهذه احدى قصصه القصيرة من مجموعة قصصية نشرت له في العام 1987 . المترجمة

جون أبدايك “من أجود نـقــّادنـا….يشعّ بالخيال وتوقّد الذهـن” صحيفة الصندي تايمز Sunday Times

روائي وقاص وناقد أمريكي (1932-2009 ) ، نـُـشــِرَت له عشرون رواية وعشرات من القصص القصيرة وأدبيات الأطفال والنقد الأدبي. “اشتهـر ببراعته الحـِرَفيـّة الدقيقة واسلوبه النثري الفريد وغـزارة انتاجه” ، يتبدى في اسلوبه مفردات أخـّاذة مـُبطنِة لمعاني عميقة وغالباً ما تبدو مـُعـَدّة للنـُخبة. صوتـُه المـُقتـدر فيه الظرافة والمرارة والسخرية. ينتمي الى تراث الواقعية لكنه يسبرُ أغـوار شخوصه وخـَلـَجاتهم عبر العالم المادي المحسوس. (خلاصة مأخوذة من الموسوعة الحرّة Wikipedia ( المترجمة

وفـيّـات أصدقاء بـُعادى

رغم انني كنت أجولُ لبضعة سنوات بين الزيجات في هرج ٍ ومرج ٍ استلـَبَ كل حواسي، فان الآخرين واصلوا بدورهم العـيـشَ والموت. لين، رفيق قديم في لعب الغولف، بين عشيـّة وضحاها حلّ بالمشفى لما قيل له أنـّه فحص روتيني، ووقع ميتاً في الحمام فوراً بعد أن انتهى من اتصال هاتفي بمخزن الخردوات ليعلمهم انه عائد صباحاً لمباشرة العمل. فهو صاحب المخزن واعتاد أن يعهد به الى مساعده في النهارات المُشمسة فقط.

كان تسديد ضربته خاطفا، وكان يلقي بثقله الخلفي على قدمه اليمنى، وغالبا ماتنبثق كرته الى اليسار دون أن تصل الهواء البتة لكنه يفلح في اليوم الواحد أن يغور بالكرة الى الهدف ببضعة ضربات ٍ موّفقة فـذة. وكان دوماً يظهر بملبس ٍ أنيق يوحي بآمالٍ عريضة للعبة التي يخوضها، فهو ببنطاله الأصفر الفضفاض بلون زهرة البتركبi والياقة السمائية اللون الضيقة المنتصبة للأعلى وسترته الكشمير ذات اللون البرتقالي المُحمّر سيتغاير عن نـَسـَق الأخضر المحيط به، وآتي أنا وقد قدتُ الطريق من بوسطن عبر سحابات ٍ من الأسى والأرق والاضطرام المعنوي أجرجرُ عربتي عبر مساحة الاسفلت المخصّصة للوقوف، فـتـَصـِـرُّ حدوة َحذائي عند كلّ خطوة أخطوها مثل براثن الوحوش.

رغم أن لين كان قد عرف جوليا وأحبّها، وهي زوجتي التي كنت قد تركتها، فأنه لم ينبس ببنت شفة بشأني الشخصي عندما كنت أقود السيارة ساعة كاملة لألتقيه بخلاف ماكنت عليه سابقاً اذ آتيه بعشرة دقائق من الشارع المجاور. فقد كان الغولف بالنسبة لي اذ ذاك ملاذاً ومهجعا، حالما اجتـاز فيه كومة الرمل الأولى التي تحمل كرة الغولف في مسعاي للهدف، أحسّ بانني مطـَوّقٌ في حرم ٍ وسيع ٍ ووضـّاء، بمأمن ٍ من النساء والأطفال المهووسين والمحامين الوقورين والمعارف القدامى واستهجاناتهم والنظام الاجتماعي وغـيظهِ بكليته. فللغولف نُظـُمه الخاصّة وحبّه الخاص فبينما يترنح ثلاثتنا أوأربعتنا ونتصايح لنشقّ طريقنا كلٍّ الى حفرة الآخر، نضحك على سوء الحظ العاثر ونهلـّل للضربات النادرة ذات الجودة النسبية. وأحياناً نجد سماء الصيف قد أحلكت وتهب العاصفة فـنـتحلـّق تحت ظلّ قاطرة ٍ مهجورة أوتحت شجرةٍ تبدو اكثر أمناً من أخواتها من الصواعق. وعندها فأن نفاد صبرنا واهتياجنا العصبي المفطور فينا لانقطاع اللعب والاثارة يخلـُصُ بكليته في هذا الحيز من المحميّة الى مايكاد يقارب حرارة العشق، أنفاسُ وعرقُ رجال في متوسط العمر متراصّين تحت المطر الهاطل بلا انقطاع مثل قطيع ماشيةٍ في شاحنة النقل المغلقة كالصندوق. وكان في وجه لين بقعاً متقرّنة من الأشعاع وكان ينوي ازالتها جراحياً قبل أن تتحول الى سرطان الجلد. فمن كان يحـسب ان صاعقة شريانه التاجي ستـَبتـُرُ بتراً خططه ومشاريعه وتمسحهُ مسحا ًمن حياتي المتشابكة؟ فأنه ما من (رُقاقـتا ثلج ٍ ولا بصمتا أصبعين ولا خفقتا قلبٍ في جهاز الرسم البياني ولا رميتا كرة الغولف قد تماثـلتا أبداً)، هل أبداً سأبصر ملـَكـَته المتأنقة المـَلبـَس الباعثة على الأمل ثانية (هللو ياكرتي العزيزة، هكذا يمزح بينما يشرع بالتهادي الى جلسة القرفصاء) ويبّث كرة منخفضة الى اليسار بطريقته المتفرّدة ونسمعه هاتفا ً باحباط غاضب (فهو يُعَدّ ممن خاض ولادة روحية ثانيةii في الكنيسة المعمدانية ممّا أكسبه لغة ً شخصية تترفع عن اللعن المباشر): ” ياكومة ً ممسوخة ً وسخة ”

قدتُ سيارتي الى جنازة لين وحاولت أن أخبر ابنه: “كان أبوك رجلا ً عظيماً ” الا ّ ان الكلمات تساقطت مترهلة في تلك الكنيسة المعمدانية الباردة. أن الوان لين المـُزَوّقة، وفورته الحماسية المسيحية، وتسديداته الواعدة والمهدورة للكرة، وصيحات ظفرنا في الذهاب والاياب، وجـَمعـُنا عبر كون ٍ مصنّع يتألف من أطوالٍ متغايرة وثابتة، وأنواع ٍ من العشب كانت جميعها مَـسـَحات حياةٍ أرقّ ُ من أن تـُأسر، بل لابدّ أن تـتـبدّد.

بعد برهة من الزمن قرأتُ في صحيفة أن الآنسة أيمي مـَير ِماونت ذات الواحد والتسعين عاماً قد قضت نحبها أخيراً فشابهت الورقة اليابسة التي تـُحال الى فــُتاة. كانت قد بدت دوماً شيئاً عتيقا ً، كانت أحدى أولئك الأنجليز المُحدَثينiii ومن الأواخر الذين يتداولون سيرة هنري جيمسiv وكأنه قد غادر الحجرة لتوّه. وكانت تمتلك رسائلا ً ماتلبث مطبقة ً أومبعثرة ً الى قطع بعثها هنري جيمس الى والديها حيث يـأتي على ذكرها لا كفتاةٍ صغيرة ولكن كسيـّدة فتيـّة “تشارفُ على “خصوصيتها”، على زهوتها التي تحُوطها تماما ً”. كانت تعيش في بضعة غرف ٍ محتشدة بالقطع الأثريـّة في بيت ٍ ريفي ورثته وخصّصت القسم الأكبر منه للإيجار فحـُشـِرَت حشراً فيما تبقى منه. أما لـِمَ لم تتزوج أبدا ً فقد ظلّ هذا سراً هجـَع عليها هـَوناً ونعومة في شيخوختها ، فلعلّ ذلك الجمال السـَـلـِس الناحل الذي نشهده في الصور الفوتوغرافية الداكنة الحبريـّة اللون، وسيماء السـُلالة النبيلة وتوقـّد الذهن، والتحمّس (بالمعنى الروحي) الذي لم يبرحها قد أوقع الهلع في نفوس الكثير من طالبي يدها مثلما جـَذ َبتهم اليها عين ُ هذه الفضائل. ولعلـّه قد أوجد لديها، وهي في عهدٍ ماتلبث فيه مفردة “الطهر” ذات وقع و”نكران الذات” ذات مقام ٍ في عينيها، قيمة ً لا تعلو فيها تلك اللحظة المهيضة الجناح في أيّ موردٍ لهذه الفضائل. وكان لصوتها نبرة جافة تهكميـّة وفي سلوكها شيءٌ من التململ والرفض. كانت قد أشبعت نفسها تثقيفاً فهي تتابع التطورات الجديدة في العلم والفن وتتناول الطعام الطبيعي وتتعاطى في القضايا السياسية الساخنة يوم كانت كل هذه موضات سائدة. وكانت تحبّ أن يتحلّقُ حولها أناسٌ بغضاضة الشباب. فعندما انتقلنا أنا وجوليا الى المدينة مع الأطفال بوجوهنا الجديدة الطريّة، أصبحنا جزءاً من جلسة الشاي المعقودة لديها في اجواء ٍملؤها الفتور، ولولا ذلك الأفتتان المتبادل بيننا لـما دامت معرفتنا لعشرين سنة.

ولعل الأمر لم يكن بذلك الفتور، فاليوم أعتقد أن الآنسة مَـيرِماونت قد أحبـّتـنا أو بأضعف الايمان قد أحبـّت جوليا التي كانت ترفلُ بالدماثـة، وتزهو كأبنة ودودة حانية عبر تلك الحُجَر الشحيحة الدفء والمستمـِّدة ضيائها من النوافذ والتي يزدحم فيها متاع ٌ ريشي مستدقٌ ومتطاول من إرث ٍ كان يوما ً مفروشا ً عبر الطوابق الأربعة لبيت “باك بـَيْ ” المَدني الطراز. ويخلـُد في ذاكرتي ألق ُ ذقن زوجتي السابقة المكتنز وحنجرتها واكتافها المكشوفتين التي تندمج مع المـَلـَس الشبحي لصور الأخوات مـيَرِماونت ذات الأطارات القديمة المـُصممّة للأستوديوهات. كانت الصور لثلاثة أخوات، نزلت بهما فجيعة الموت مبكـّراً في شبابهما كما لو أنهما أوصتا بقسطهما من السنين إرثا ً للثالثة، تلك الناجية التي تجلس معنا في كرسيـّها المُجنـَّح المـُوشّى بالذهب. وكان وجهها قد استحال بـُنـيـّا من الشيخوخة ً فلايمكن التنبؤ بما فيه، عاجاً بالتجاعيد كوجه هنديّ أحمر، هذا وثمـّة شيءٌ وحشيٌّ كوحشية الهندي الأحمر يلمع في عينيها المعتمتين. “أراها مخيبة للآمال بعض الشيء”، كانت قد تندّ ُ عن هذه الكلمات بجفاء عن أحد المعارف المشتركين الغائبين انذاك أو عن أحدى تلك اللواتي انفـَصَلت عن حلقتها :”لـَم تك ُ تماماً من الطراز الأول”.

أن البحث عن الطراز الأول شيء من العهد البائد لجيلها، والآن لااتذكر من نال استحسانها كلياً مثل ماناله الأب دانيال بـَريجان والسـيِر كينيث كلارك. لقد شاهـَدت كلاهما في التلفاز. عيناها ذات البريق الداكن صارتا تخونانها، وكانت أوقات الأصيل الأثيرة الخاصة بالقراءة (التي يخمد الضوء فيها خلف النوافذ وتتراقص النار الناشئة من خشب البتولا في الموقد المؤطر بالنحاس الأصفر) قد استـُبدلت بساعاتٍ مـُجـَدولة منسقة حسب مايبثه التلفاز والمذياع من البرامج التثقيفية. في تلك السنوات الأخيرة كانت جوليا ترتاد منزلها لتقرأ لها قصة أوستن “مـِدِل مارج” وجوان ديديون وبعضاً من قصص بروست ومورياك بالفرنسية بعدما قرّرت الآنسة مـَيرماونت أن جوليا اجتازت اختبار الفرنسية بنجاح. وكانت جوليا تتمرّن بعض الشئ من خلال القراءة لي، وأنا بينما كنت اتطلّع الى شفتيها وهي تزمّها لتصنع صوت الفرنسية فتصغـُران وتــُدَوّران بشدة وكأنهما شفتا قناع أفريقي من العاج، كدتُ أن أقع في حبّها ثانية ً. إن الود بين النساء لـَمؤثـّرٌ ومؤلمٌ ومثيرٌ للرجل، وبرؤياي الخاصّة فأنه كجلسةِ شاي ٍ انتهت الى مجلس خمرٍ للشَريv الاسبانية في تلك الحُجـَر التي يغصّ فيها الأثاث بجـَلـَبة والتي اشتد فيها الشفق حتى صارت الصفحات البيضاء تـُدار ببطئ وأضحى النـَغـَم الصبور لصوت جوليا الأمارة الوحيدة الدالّة على الحياة. بلى إنه الحبّ ما كان ينداح بين تلك العجوز التي تفنى رويداً وزوجتي التي بدورها رويداً تـُمسي متوسطة العمر ويـُمسي ابنائنا بالغين وغائبين، وصوتها يظل ّ لايـُستـَمع اليه مثلما يـُستمع اليه هاهناك. ومامن شك أن ثمة أسرار كانت تودع بين تلك الصفحات. وكانت جوليا تعود من عند الآنسة ميرماونت لتحضير عشائي المتأخر وهي تبدو أكثر شباباً بل أكثر حبوراً وجرأة بعض الشيء.

في ذلك الطور الحرِج مابعد الحياة الزوجية وعندما كان الأصدقاء القدامى مايزالون يبعثون الدعوات بدافع الالتزام، وتجد نفسك لاتملك حضور الذهن الكافي لردها، وأجدني في تجمـّعات كبيرة تحضرها الآنسة مَـيرماونت. وكانت يومذاك عمياءَ تماماً وتصحبها فتاة صغيرة دائرية الوجه، أجيرةًٌ للصحبة ودليل. وكانت السيدة المـُسـّنة المتهالكة التي تـَعرضُ نفسها كريش الطاووس المـغطى بجرسٍ زجاجي مغروزة ً في كرسي مجنـّـح في زاوية الحجرة فيما يلي طاس خمر البنشvi. ولدى اقترابي منها أحسـّت بجسم ٍ يدنو منها فمدّت يداً ذابلة لكنها أسقطتها حالما سمعت صوتي: “لقد أتيت َ شيئاً فظيعاً” ، نطقت بذلك بسحبة نفس طويلة واحدة. أشاحت بوجهها لتـُظهر أنفها الصـَقريّ من الجانب كما لو انني شوّشتُ نظرها. أمّا دليلتها الفتيّة فوجهها المـُدوّر كصحن الرادار سجّل لمحة ً تدلّ على الصدمة، الاّ انني ابتسمت وفي حقيقتي لم أكُ مستاءاً، فثمـّة َ راحة ً في سماع حُكم الآخرين حتى لو كان معادياً. إنه لمن المستحسن أن نعتقد أن هنالك في موضع ٍ ما جهاز تخطيط يسجـّل هزّاتنا وزلا ّتنا. وأنني لأتخيـّل موت الآنسة ميرماونت بأشهر ليست طويلة بعد ذلك، وكخيالٍ أخيرٍلها، في صورة خيطٍ ينبسط ُساكناً رائقاً بمحاذاة جهاز المراقبة الموصول بها في المشفى. وفي هذا الامتداد المنبسط بقي شيئٌ ما تهكميٌ ولاذع، شيئٌ من سداد الرأي لم يُدَنـّس، من الصبر الجليل في عالمٍ عجز لطيلة تسعين عاما ً أن يبرهن على شيء أكثرَ من خيبة الرجاء. ويومذاك كنا أنا وجوليا قد فرغنا من مراسيم الطلاق.

كلّ مافي جعبة البيت المهجور قد فـُقـِد حتماً، اللوحات المعلّقة على الجدران، الهيئة التي يتبارى فيها الظلّ والضوء وتفجـّر دفئ الأماسي ممـّا تجود به المدافئ. حيوانات المنزل: كانوت. كان كانوت كلب صيدٍ ذكر ذهبي اللون اقتنيناه عندما كان الأطفال مايزالون قبل سن البلوغ كطقم من البهلوانيين. وكان مصدر بهجة لاينقطع، كما هو العهد بهذا النوع من الكلاب، وقد ذاق طعم كل شيء حتى الاخصاء وكأن الحياة وابلٌ متواترٌ من البركات. ومن المثير أنه وقبل موته بقليل جلبته ابنتي الصغرى التي تغني في فرقة البانكvii الى البيت الذي أسكنه الآن مع زوجتي ليزا. فجعل يشّم هنا وهناك بتأدب واكتفى بعقف زاوية أذنيه بقلق لينمّ عن التساؤل لمَ حلّ سيده القديم في هذا البيت الغريب الرائحة. وانهار في النهاية مع تنهيدة عميقة على أرض المطبخ، وبدا سميناً وخاملا ً. وقالت ابنتي التي قــَصـّت شعرها قصيراً وصبغت رقعاً منه بالبنفسجي الزاهي إن الكلب صار يجوب الليالي وينهالُ على نفايات الجيران أو على طعام حصانهم. وبالنسبة لي فأن وراء هذا سوء ادارة، فصديق جوليا الجديد لاعب كرة ظهير ربعي في فريق دارتموث ولاعب تنس وغولف ومهووس بحمل حقيبة الظهر بعدّتها والخروج بها ولهذا فجوليا لاتكاد تتواجد في البيت وصارت منهمكة كلياً في مجاراته وفي تعلّم لعبات جديدة. فأ ُهمـِل البيت ومرج الحديقة وصار الأولاد ينساقون داخله وخارجه مع أصدقائهم ولا يتخلصون من الطعام المتعفن في الثلاّجة الا ّ بين الفينة والفينة. ولمّا أحسّت ليزا بما كابـَدْتـُه من انفعالات نطـَقـَت بكلمات لـِبقة ملّطفة وانحنت على كانوت لتهرش مؤخرة احدى اذنيه. ولأن اذنه كانت ملتهبة وحسّاسة فقد أطبق فكيّه عليها بوهن ومن ثم بسط ذيله على أرض المطبخ اعتذاراً.

ومثلما إلتُ اليه عندما نهرتني الآنسة مَرِماونت، بـَدَت لي زوجتي حينذاك ميّالة الى الاغتباط، فهي إذ تواجه شيئاً من المقاومة، فقد أمسى موضعها من العالم متجذ ّراً. وناقــَشـَتْ ابنتي حول مضادات الالتهاب الخاصة بالكلاب، وفي تلك الوقفة ومن أية نظرة عجلى اليهما لايمكن التنبؤ بأيّـتهما الاكبر سنـّاً رغم اتضّاح ايـّتهما صاحبة الشعر غير المألوف. وكما يـُقال في مثل هذا المقام من سقيم الكلام أن ليزا من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي. وطالما اني بلغت الخمسين الآن فأن أية انثى تحت الخامسة والثلاثين هي من الصِغـَر بحيث يمكن أن تكون ابنة ً لي، بل معظم أناسيّ هذا العالم هم من الصِغـَر بحيث يمكن ان يكونوا بناتاً لي.

اختفى كانوت لبضعة أيام بعد تلك الزيارة، وبعد بضعة أيام أُخـَر عـُثر عليه في المستنقعات القريبة من بيتي القديم بجسدٍ منتفخ. وقد شخـّص الضابط المسؤول حالته على انها سكتة قلبية، فتسائلت ان كان هذا يمكن ان يحدث لمخلوق ٍ بأربعة أقدام. لقد ضـَربـَتْ الصاعقة كلبي السابق عند ضوء القمر، وقـَلبُه ممتلئٌ بنشوة المستنقعات، ومعدتـُه محشوة بالنفايات، ولقد رَقـَدَ عـدّة أيام بفراء ٍ مـُنتـَفـِش والمدّ يدور فيه ويخرج منه. تلك الصورة تمنحني الرضا كمظهرِ شراع ٍ ملؤه الريح يـشـّـُد زورقه هـَرِعاً بمنأى عن الشاطئ. في واقع الأمر (ورغم أنه من المريع الأقرار) بأنّ كلٍ من هذه الميتات الثلاثة قد جعلتني قريراً هانئاً على نحوٍ ما، فشهود فضيحتي يـُمْحـَوْن، والعالم يـُصبـِح أقل وطأة. وفي نهاية المطاف لن يكون هناك من يذكـُرُني بشخصي في تلك السنين المارجة والمحرجة عندما كنت أعدو بخطى سريعة دون صـَدَفـَتي بين البيوت والزوجات، كثعبان بين أصناف الجلود، وحشٌ من الأنانية، حاجاتي المتنافرة الغريبة عارية ٌ ومخرّمة، وكياني الاجتماعي زريّ ٌ وبلا حصانة. فموت الآخرين يحملـُنـا شيئا ً فشيئا ً حتى لايتبقىّ شيء، وهذا بدوره ضربٌ من الرحمة.

i نبتة زهرية صفراء تنمو كالآعشاب

ii الولادة الثانية تعبير كنسي سائد في أمريكا لمن يخوضون تجربة ما تخلق فيهم أثراً روحياً وتعيد ايمانهم

iii الحديث هنا عن الجالية الانجليزية من البيورتانيين غالباً التي قطنت أمريكا وجلبت معها الموروث البريطاني

iv روائي مولود في أمريكا لكنه عاش في انجلترا وبعض من رواياته تنصب من التراث البريطاني

v خمر مشهورة من الجنوب الاسباني

vi نوع من الكحول يقدم عادة مع طاس كبيرة الحجم وملعقة للغرف في الاحتفالات الكبرى والكرنفالات

vii The Punk حركة موسيقية منشقة عن موسيقى الروك نشأت وتطورّت في الأعوام 1974-1976 تعبر عن تمرد ورفض الشباب للأيدلوجيات المتسلطة وحاليا اندمجت بفرق الروك ثانية

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

8 نصائح من كورت فونيغوث للكتابة بإبداعية

ترجمة : إقبال عبيد

في هذه المرحلة من رحلتك الكتابية .قد تكون قرأت المئات من النصائح لأشهر المؤلفين، إذاً كنت مثلي ، تحلق عالياً مع من تفضلهم لتأخذهم لمكان ما ،حيث تحتاج جرعة من  التحفيز والآلهام .

مقالة  كورت فونيغوث عام 1985 ” كيف تكتب  بإبداعية” وتضيف البصمة الخاصة لمجموعتك الكتابية .

مؤلف الرواية الأكثر مبيعاً ” مسلخ خمسة ” يحدد ثمانية خطوات يمكن إتباعها لتطوير مهارات الكتابة.

لماذا عليك فحص أسلوبك في الكتابة والسعي نحو فكرة تطويره ؟

يتساءل فونيغوث ” إتبعها كدليل احترام للقراء ،مهما كانت كتاباتك . إن خربشت أفكارك بطريقة عبثية ، سيشعر قرائك بأنك لا تكترث لهم .

أترغب بتعلم أسلوب كتابة كورت فونيغوث؟ اقتبست المفضل من مقالة كورت وسأدرجه بالأسفل :

8 قواعد من كورت فونيغوت للكتابة بإبداعية

  1. أبحث عن موضوع يهمك

“البحث عن موضوع يهمك مؤمن بأهميته أيضاً للآخرين ، وليس الاكتفاء باللعب في اللغة ، سيكون العنصر الأكثر  إستحواذاً في كتاباتك . ”

2 –  لا تخوض غمار مغامرة غير محسوبة

3- دعها تنساب ببساطة

4- بالنسبة لاستخدام اللغة ، تذكر العملاقين وليام شكسبير وجيمس جويس ، كتبا جمل خالدة ببساطتها، و تحدث أن تكون الأكثر عمقاً ، ” تكون أو لا تكون ” شكسبير يتساءل على لسان هاملت ، أطول ثلاثة كلمات ، بسيطة متمكنة ذائعة الصيت. ربما أكثر قداسة أيضاً من افتتاحية الإنجيل المقدس ” في البدء خلق الله السموات والأرض ”

4- تحلى بالشجاعة للقص والحذف

تذكر دائما مهما كانت الجمل رصينة ومنمقة و لكنها بطريقة ما لا تخدم صلب الموضوع و لن تضيف له الفائدة المرجوه  ، أشطبها حالا!

5- أن تكن كتاباتك وتيرة لصوتك

إن نمط الكتابة الأكثر طبيعية لك هو ارتداد الكلمة والصوت الداخلي الروحي … وأنا شخصيا أثق بكتاباتي كثيراً، و الآخرين يبدو  أنهم كذلك ، حين كنت أبدو  وكأنني شخصاً من انديانابوليس، وهو ما أنا عليه فعلا”.

6 – قل ما تعنيه بالضبط.

إن خرقت كل قواعد الترقيم ، بكلمات تعني أيما تريدها أن تعنيه ، وصفها معاً بفوضوية ، فبالتالي لن تخرج نحو دلالةً واضحةً للمعنى فلن تكن مفهومًا ، تجنب السير نحو نمط الآخرين أو تقليد النوعية الكتابية كمثل أسلوب وبصمة بيكاسو الجلية برسوماته ،  أو كالأسلوبالكتابي على موسيقى الجاز ، إن كنت تملك أمر ما يستحق الكتابة ، أتمنى أن تجعله مفهوماً ، القراء بحاجة إلى صفحات تشبه ما قد رؤاه من قبل ، لماذا؟ لأنها مهمة شاقة و لأنهم يتوسمون فينا كل المساعدة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻤﺪوﻧﻬﺎ منا .

7- تعاطف مع قرائك

الآف من علامات الترقين الهوامش التي يجب أن يعودوا إليها على الحال ، في مناقشة هذا الأمر لابد أخيراً بأن نقر  أن أساليب الكتابة هذه  ليست براقة ولا نوعية، فمن القراء يمكن أن تجد قليل التذوق ، القراء ينتظرون بأن نتعاطف معهم لنكون المعلم الصبور ، قادرين على التبسيط و التوضيح ، على أن نقف في خشبة المسرح ونصدع كالعندليب عاليا أمام الحشود.

8 – حاول العثور على نصائح تفصيلية مطوله

لمناقشة أسلوب الكتابة الأدبية في المعنى الأساسي لها  ، وبصيغة فنية أكثر  أوصيكم بالانتباه لنصائح ويليام ستك واحد من أكثر الأدباء الباهرين إنتاجاً حتى الآن.

https://writingcooperative.com/8-writing-tips-from-kurt-vonnegut-1f14c81fe40c#.hom69bj7f

نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات

لكي نفهم الكتابة ليس علينا إلغاء الكاتب

ترجمة: سعيد بوخليط

لكي نفهم الكتابة ليس علينا إلغاء الكاتب

_101467_zz3لكي نفهم الكتابة ليس علينا إلغاء الكاتب

 

فاز، تودوروف سنة 2008 بجائزة Prince des Asturies، تقديرا لمجمل لبنات مشروعه الذي ترجمت أطروحاته إلى أكثر من خمس وعشرين لغة. أما، آخر ما كشف عنه قلم تودوروف، فقد جاء في غضون السنة الجارية (2009)، تحت عنوان: la signature Humaine . كتاب، جمع بين دفتيه، أهم الدراسات التي أنجزها بين سنوات 1983 و 2008، يتحدث تودوروف هنا بلسان رموز كبيرة في ساحة الفن والفكر بناء على الحدس التالي: إن الإنساني، لا يؤسس ما هو ذو دلالة إلا انطلاقا من تاريخه الخاص.

قامة طويلة، نظرة مرحة، يصنع جمله بإيقاع بطيء ومتناغم. ذاك هو: تزفيتان تودوروف. لكنه قبل كل شيء، حضور. رجل لطيف ومفعم بالحماسة، تدور حياته في منزل تتوزعه غرف منحنية السقف، حيث كان قد أجري هذا اللقاء معه. قضى شبابه، داخل بلده الأصلي بلغاريا في ظل هيمنة الديكتاتورية الشيوعية. ثم، جاءت هجرته إلى فرنسا، وتجليات أولى أبحاثه التي انصبت على الصيغ السردية في الأدب، إلى جانب رولان بارت في تلك الفترة تغيا تودوروف فقط، صياغة نظرية علمية للأدب، مقتفيا آثار الشكلانيين الروس واللسانيات البنيوية على طريقة ميخائيل باختين ورومان جاكبسون. كتاباته، بهذا الخصوص تحيل على: مدخل إلى الأدب العجائبي (1970)، شعرية النثر (1971)، نظريات الرمز (1977)، وقد ارتقت منذ صدورها إلى مرتبة الإنتاجات النظرية النموذجية والكلاسيكية، فيما يخص أسئلة الأدب.

‘ثم تغيرت الأشياء’، يفسر تودوروف ببساطة سيرورته. بعد أن درس بدقة متناهية الأشكال السيميوطيقية، طيلة عشرين سنة يتحمس كثيرا إلى الجوهري. هكذا، فإن مؤرخ الغزو الإسباني، شارح مونتين، ومؤول الرسامين الفلامانيين، وكذا الكاتب الأخلاقي ثم مفكر التعدد الثقافي، سيترك النظرية البنيوية بغاية التحول إلى موضوعات سياسية وأخلاقية. يقول تودوروف: ( السجال حول الأفكار الذي كان محظورا في بلغاريا فترة شبابي، قد خرج من المنطقة الحمراء).
كتابه الجديد: الإمضاء البشري، دراسات 1983- 2008 (2009)، يتماثل معه، لأنه: انتقائي ذاتي وثاقب. ينتقل بالقارئ إلى قلب أنماط للوجود مع شخصيات استثنائية: جيرمان تيليون، ريمون آرون، إدوارد سعيد، رومان جاكبسون، ميخائيل باختين، لاروش فوكو، موزار، ستاندال وغوته. على ضوء هاته اللقاءات، يرسم تودوروف صورته الذاتية، بتأمل عميق لنصوص هؤلاء. توظيف مجازي، نحته، تذوقه للآخرين، ‘إننا لا نفكر إلا بما ينعكس’ يؤكد تودوروف. يمكننا، اعتبار هذا العمل، بمثابة رواق تؤثثه لوحات صور رجال ونساء، تميزوا بمعاشرتهم الملهمة، أو تأبين لشخصيات عظيمة، متاح لهواة مستنيرين. الإنساني إذن، يتموضع في مكان آخر. سيعرض، تودوروف أطروحة قوية، مفادها: أن المشتغل بالعلوم الإنسانية مثل الكاتب، يخوض في الوقائع بناء على تجربته الشخصية، وبخلاف زميله في العلوم الطبيعية، عليه إلغاء كل حاجز بين حياته وإنتاجه. لا يتعلق الأمر في كل الأحوال، الاستسلام لخدع الاستبطان والانطلاق بحثا عن ‘أنا’ حقيقية، بل فقط التعامل بثقابة فكر مع اللقاءات التي تخلقنا. يقول: ( إجمالا، نحن من صنع الآخرين. عطاؤهم، انطباعاتهم وتفاعلاتهم. فالأنا العميقة، لا وجود لها).
قطعا، هو سيميولوجي، وليس ‘كليا بالفيلسوف’، فقد تميز تودوروف دائما بمواهبه التأويلية: وظف مجمل ذكائه في خدمة كتابات الآخرين. فكره متمرد، لأنه قائم على الارتياب، تطوراته النظرية من السيميوطيقا إلى فلسفة النزعة الإنسانية واستطراداته حول الشر ثم خطاباته المرتجلة عن الفن والحب، وكذا ولاءاته وصراعاته: كل ذلك أكسبه صوتا فريدا بين مَشَاهد الفكر الأوروبي. يمتزج عند تودوروف التواضع الحقيقي بطموح لا حد له. يريد تناول الماهية الإنسانية، اقتناعا منه بأن الحكمة الإنسانية تتوقف على هاته المعرفة، وقد بلغ من العمر سبعين سنة، بوسع تودوروف التوقف عن العمل والتفرغ للاعتناء بحديقته، لكنه فضل باستمرار الانخراط في مشاريع جديدة، محاضرات، أبحاث، مُؤلفات. يقول: ( يبدو لي بأنه يمكننا الذهاب أبعد في فهم الكائنات الإنسانية، ما دام أن كثيرا من الأمور ليست واضحة بعد). حتى أقصى الحدود، قرر فحص أوضاع وتصدعات وكذا تحققات الكائنات البشرية التي هي نحن.
فيما يلي نص اللقاء:

فكرت سابقا في هاته العبارة: الإمضاء البشري، وأنا أصادفها في كتاب لجيرمان تيليون. أثارتني، لأنها تختزل على نحو ما، مساري الذاتي، وجدت فيها نقطة انطلاقي ‘الإمضاء’ ثم إشارة انتهاء ‘الكائن الإنساني’ ! حينما شرعت في إنجاز أبحاثي سنوات 1960، مثلت دراسة العلامات عبر كل تنوعها إطارا عاما. توخيت سبر أوجهها من خلال نظرية للغة، الأدب والفنون. بعدها، حاولت تبين ما يتوارى خلف العلامات. أحسست، بانجذاب لفهم سلوكات البشر كما هي في ذاتها، وليس مجرد الاكتفاء بحالات تعبيرهم. في الآن ذاته، وجدت نفسي ضمن تيار الأنسية، أو التقليد الفلسفي القائم على نزعة إنسانية. بالتالي، تساءلت دوما عن طبيعة الاختيارات الإنسانية: السياسية، الأخلاقية والاجتماعية. لا أتوفر على تعريف مطلق للإنسان، لأنني تأملت بالأحرى المواقف التي يتبناها البشر في مواجهة تحدياتهم الوجودية.

أتذكر، حينما كنت طالبا، تلك الصيغة الدوغماطيقية: ينبغي علينا معرفة ‘الرجل’ و’عمله’. كما، أن أساتذتنا سلموا بعلاقة سببية بين المصير الفردي لكاتب ما ثم مضمون إنتاجه، لكن أفراد جيلي، رفضوا هذه العقيدة. سنوات 1960، اعتبرنا بأن حياة كاتب ما، كيفما هي تقدم قليلا من المساعدة لتوجيه القراءة. لقد كنا جميعا، مثل مارسيل بروست ‘ضد سانت بوف’. أما، مع المنظور البنيوي، فقد اتجه الاهتمام إلى القوانين التي تحكم الحكايا والمعاني المجازية للقصيدة، بالتالي لا توجد من أهمية للإحالة على السيرة الذاتية. اليوم، لا أظن في كل لحظة تفسير الحياة للعمل، بل ‘الحياة’ بدورها عمل. كما، أن حياتنا ليست إلا سلسلة آثار، بعضها شفوي والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما دال جدا.

نقف مع جيرمان تيليون على مثال حاسم. فقد قامت بأبحاث إثنولوجية سنوات 1930، ثم انتقلت إلى الميدان في الجزائر. بعد الهزيمة، انضمت إلى المقاومة، لكنها اعتُقلت وسُجنت ثم أُبعدت إلى معسكر للاحتجاز. حين رجوعها، طُلب منها تهييء تقرير عن جماعة ‘الشاوية’ التي كانت موضوع دراستها. غير أنها أدركت عدم إمكانية تكرار أطروحاتها لفترة ما قبل الحرب، ولم تتوصل إلى أية معلومة جديدة عن تلك الإتنية ! الشيء الوحيد الذي تغير هو السيدة تيليون ذاتها. حياتها، في رافنسبروك Ravensbr’ck علمتها تفسيرا تعدديا للتصرفات الإنسانية: تأثيرات الجوع، مكانة الشرف، معنى التضامن. إذن هويتها امتزجت باشتغالها العلمي. نفس الأمر، يمتد إلى العلوم الإنسانية الأخرى. ما يجعل منك مؤرخا كبيرا وسوسيولوجيا متميزا أو فضلا عن ذلك كاتبا عظيما، ليس الاكتفاء بتجميع الوقائع، بل موضعتها في إطار علاقة تضفي عليها دلالة ما. عمل، تنجزه الذات بمساعدة جهاز ذهني يشكل ثمرة وجودنا ذاته. كي ندرك العمل، لا ينبغي أن نضع بين قوسين هوية العالِم أو الكاتب. ذلك، ما سعيت إليه في ‘لوحاتي’.

تبرز في المقام الأول تجربة ‘الأبُوّة’، كأفضل تأطير للسياق الذي أتواجد فيه. حين ولادة ابني الأول سنة 1974، انتابتني أحاسيس جديدة، اتصفت بحدتها الانقلابية، كما انطوت أيضا على شعور بالمسؤولية. في إطار حياة شخص ما، ينعدم لديه كل إرساء اجتماعي، ويعيش خاصة بدون أطفال، يبقى احتمال تأمل العمل ـ مثلا الأطروحة التي نقاربها ـ كشيء قائم في ذاته . إذا أحسستم دوما بنداء طفلكم، سيصبح من الصعب الاحتفاظ بحد فاصل بين حياتكم وفكركم. لقد سعدت وأنا أتجاوز مرحلة الاحتجاز داخل عالم منفصل في أفق البحث عن علاقة ذات مغزى بين ما كنت أعيشه ثم ما اشتغلت عليه بغير توظيف للسيرة الذاتية. هذا، قادني إلى الاهتمام أكثر بالعالم الذي يحيطني وليس فقط المعرفة المجردة.

إنه سؤال مرعب، ولا أمتلك جرأة الإجابة عنه. ربما، لأني لم أكابد إلا قليلا في حياتي…، مع ذلك ألاحظ وجود صلة مزعجة بين الانكسار والمعاناة، ثم القدرة على الذهاب بعيدا جدا في معرفة الإنسان، كما لو أن السعادة تسد الطريق أمام الفهم الأكثر توقدا… . قد تخطئ نظريتي، فأكون مطمئنا، أو على العكس صحيحة، بالتالي أنا مفكر تافه ! ربما، أهدف إلى تعويض غياب هذه التجربة المؤلمة على مستوى مسار وجودي الذاتي، وذلك بالافتتان بوجود الآخرين ! وبالضبط، الأفراد الذين تميزت حياتهم بالانكسار والجرح بل والتراجيديا. لا يستهويني الأبطال ولا ‘الأشرار’، أفضل فهم كائنات قابلة للوقوع في الخطأ، تشبه حياتهم ‘حديقة غير مكتملة’ كما جاء على لسان مونتين لأنهم في ظني، يجسدون الوضع الإنساني، أكثر من غيرهم.

أعتبر نفسي ‘شخصا مغتربا’، ليس فقط لأنني غيرت البلد، لكن في إطار سعيي بالتأكيد، إلى رؤية اغترابية للعالم. بهذا المعنى، يختلف المفكر عن المناضل. لا يتحدد دوره في الاهتداء لسيرورة تنتهي عند غاية، لكن أن يفهم العالم بطريقة أفضل، حينما ينتشله من البداهات. يرفض المنفيُّ اقتسام العادات، يقف مستغربا أمام ما يمارسه بسهولة مواطنوه الجدد، فيؤسس مسافة بين ما هو في ذاته ثم ما يحيط بنا باعتباره ملائما للفكر. لكن، ليس ضروريا ! كثيرة هي الشخصيات التي عانت من هذا الانفصال، دون أن تختبر واقعيا تجربة الاغتراب الفيزيقي. نقول فقط، بأنه حينما ننتقل من بلد إلى آخر بغير مأساة، يسهل التخلص من التمزق كأساس للعمل الذهني والذي يتحقق بشكل سيىء حينما يحدث تداخل مع الفاعلين الذين ندرسهم.

لقد ترعرعت في بلغاريا سنوات ما بعد الحرب، حيث ترفض التوتاليتارية السائدة آنذاك داخل الحرب الشيوعي مبدأ الالتزام، ولا تبقى إلا على طريقتين أساسيتين: إما أن ترتقي داخل الحزب الشيوعي، أو تنسحب كليا من الحياة العمومية. مثل كثير من المواطنين البلغاريين، اخترت المسلك الثاني، فأقمت قطيعة جذرية بيني ومن يدبرون شؤون البلد. هكذا، تمتعت بنوع من التلقيح أعطاني مناعة ضد كل مصلحة سياسية. لكنني تغيرت ابتداء من سنة 1973، وهي فترة حصولي على الجنسية الفرنسية، فبدأت أشعر تدريجيا توجّه اهتمامي صوب موضوعات مشبعة بمضامين أخلاقية وسياسية: الالتقاء مع الآخرين، مصادر العنف، تجربة المعتقلات، تجاوزات الذاكرة، في هذا السياق يتموضع كتابي الصغير عن حرب العراق ! لا يعني الأمر بأني صرت مناضلا. لا أتوفر على بطاقة أي حزب ونادرا ما أوقع على عرائض. لكن، حدث أن اتخذت موقفا. مثلا، تدخلت لحظة الإعلان عن مشروع وزارة الهوية الوطنية، بدت لي الفكرة في الآن ذاته غير منطقية على المستوى الأنثروبولوجي ثم غير ناضجة سياسيا.

أهم نموذج يقدمه التاريخ الحديث، بخصوص ‘الاعتدال’ الزائد، يحيلنا على مؤتمر ميونيخ سنة 1938، حينما توخت القوى الغربية مداهنة العدوان النازي ومن ثمة الاستسلام. لكن، هل الأمر يتعلق بموقف معتدل؟ لقد كانت بالأحرى رؤية غير متبصرة بالعواقب. عدم اللجوء إلى العنف، يصبح جائزا حينما ينعدم الخطر. لكن سنة 1938، تجلى التهديد الهتلري بشكل واضح لكل من أراد فتح عينيه. لقد اكتشفت نفسي، داخل بنية للاعتدال. تعلمنا مع مونتسكيو، انتفاء الشرعية عن كل سلطة تفتقد للضوابط. لا يعني الاعتدال الليونة، لكن تقييدا لسلطة من قبل سلطة ثانية مضادة. إنه تنظيم للفضاء العمومي، حيث يؤخذ في الحسبان التعدد الإنساني. لا نستسلم للعنف، بل يجب أن يقع العكس. من خلال الفكر ذاته، أدافع عما اصطلح عليه بالتحضُّر أي قدرتنا على استيعاب اختلافات الآخرين، دون أن نذمها بالضرورة. هل أنا معتدل جدا؟ يبقى الحكم لكم.

لا أعتقد، بوجود ‘شر’ كوني وراسخ. صحيح، أننا نعثر على مختلف تمظهراته في كل حقبة تاريخية. أساسه، أن كل واحد في حاجة للآخرين، لكنهم يرفضون منحه تلقائيا ما يريده. نمط للتمركز الذاتي، يصير خاصة خطيرا حينما يأخذ بعدا جماعيا. فأقبح الجرائم، ارتُكبت بدواعي حماية ‘ ذواتنا’ في مواجهة تهديد ينبعث من مكان آخر. هذه المانوية، التي تخلط بين ‘ النحن والآخرين’، ‘ الصديق والعدو’ أو الأسوأ ‘ الخير والشر’تعتبر مميتة للجسد. بكل ما أستطيعه من قوتي ـ رغم ضعفها ـ أسعى إلى مقاومة الشر. لذا، أتملى تمظهراته وكيفيات التصدي لها، وقد حكيت عن ذلك بين طيات أعمالي. وفق هذه الدلالة، بقيت قريبا من أفكار الأنوار: أقاوم الشر بواسطة المعرفة.

تشير النزعة الإنسانية إلى حركة فلسفية تطورت في أوروبا منذ عصر النهضة. اليوم، يُوظف المفهوم في غير ما وضع له: إنه، لا يحدد غالبا غير صيغة لعشق الإنسانية، لكن بطريقة ساذجة شيئا ما. يرفض تزفيتان تودوروف هذه الكاريكاتورية، مدافعا عن نزعة إنسانية تتخلص من كل رؤية مثالية، حيث تبنى موقفا قويا جدا، تأسس تاريخيا بناء على ثلاث اختيارات أنثروبولوجية وأخلاقية كبرى:

  • الكونية: كل الكائنات الإنسانية، تنتمي إلى ذات النوع، بحيث تنعم بنفس الكرامة.
  • الحرية الإنسانية: إن الحتمية ـ بيولوجيا، تاريخيا، اجتماعيا، نفسيا ـ ليست قط كلية. لا يعتبر الإنسان، محض ألعوبة في يد قوى تتجاوزه وتحدد مصيره، ما دام يملك دائما وسيلة أن ‘ يمتثل أو يقاوم’ (جان جاك روسو).
  • الكائن الإنساني، قيمة عليا: تشكل سعادة الكائنات البشرية أقصى أهداف الحياة المجتمعية، بناء عليه، يتميز فكر النزعة الإنسانية عن المشاريع الطوباوية التي تبتغي مستقبلا مُشرقا. تتعارض، أيضا مع النظريات الدينية الملزمة لكل سلوك إنساني بضرورة سعيه إلى خدمة تتصل بالله.
نشرت تحت تصنيف مقال، إنطباعات، شعر

رسائل غير منشورة لألبير كامو عزيزي سارتر لم تكن صداقتنا موفّقة وأنا نادم عليها!

c20n1

ترجمة وتقديم: كوليت مرشليان

ما بين المعرض المخصّص له في منطقة لورمارين الفرنسية ومراسلاته المشوّقة التي تصدر في الشهر المقبل، يبدو صاحب رواية “الغريب” الكاتب الفرنسي ألبير كامو نجم موسم الخريف الثقافي في باريس. المراسلات غير المنشورة له سيكون لها وقعها على القرّاء لما تحمله من جديد حول علاقته ومناقشاته مع جان بول سارتر في شؤون الأدب والكتابة وفي إطار الفلسفة الوجودية والجدل الكبير الذي أثارته مؤلفات الاثنين في الحقبة الذهبية أي في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وما قبله قليلاً، وفي إحداها كتب كامو: “عزيزي سارتر، أتمنى لك العمل الكثيف أنت والكاستور. حسناً! لأننا أنجزنا عملاً سيئاً مع أصدقائنا، كان سيئاً لدرجة أنني لم أنم ليلاً بعدها. أرسل إليّ إشارة حين تعود وسنقضي سهرة ممتعة. صداقتي، كامو”.

هذه الرسالة مفصلية لأنه ليس ما يدل الى طبيعة العمل الذي يتحدث عن كامو ولم يُعرف سوى أن الرسالة مؤرخة يوم الاثنين، كما لم يعرف القارئ ما كان جواب سارتر، غير أن الرسائل التي في حوزة هيرفي وايا فالنتان ستعطي إجابات عن الرسائل الألغاز التي نُشر بعضها في عدد من الصحف في القرن الماضي. ولكن ما كان هذا العمل السيئ الذي تناقشنا حوله؟ وهذه العبارة “عزيزي سارتر” هل كان يقولها ويكتبها كامو من دون أن يقصدها فعلاً؟.
وذلك لأن الحرب التي كانت معلنة بين الاثنين لم تكن سهلة، خصوصاً أن كامو الذي سينال بعد حين “جائزة نوبل للآداب” لم يكن يوافق سارتر في الكثير من تفاصيل “وجوديته” وفلسفته ومسرحه الذي صب فيها. ولكن ما ليس معروفاً تماماً هو أنه وقبل كل هذه “المباراة الفكرية” والحماسية التي شغلت العالم ما بين كامو وسارتر وتحدّث عنها وحلّلها العديدون طوال القرن العشرين، كان ثمّة مرحلة قبلها، حيث كان الاثنان في خندق واحد. ففي حزيران من العام 1943، قُدّمت مسرحية “الذباب” لسارتر في باريس المحتلة وكانت رواية “الغريب” قد صدرت قبل عام. اعتبر سارتر أن صاحب “الغريب” “كاتب “لطيف” وقدّم له صديقته سيمون دوبوفوار وكانوا يجلسون سوية في “كافيه دوفلور” وتحدثا عن محاولة وإمكانية تقديم مسرحية “جلسة سرية” وبما أن كامو كان قدّم أعمالاً سابقة في الجزائر، اقترح على سارتر أن يخرجها بنفسه وأن يلعب فيها أيضاً دور “غارسين”. بدأت التمارين في غرفة من “فندق كاستور” وقد كتب كامو عن ذلك للكاتب بونج في كانون الثاني من العام 1944 فقال له: “ما لم تفاجئنا بعض العقبات، سنقدّم “جلسة سرّية” في مدينة ليون في نهاية شباط القادم. إنها مسرحية غريبة وأنا حاولت أن أعبّر عنها بأقل وسائل ممكنة أي نوع من الإخراج الذي لا نلحظه. ولكن لا أعرف ما ستكون النتيجة على الجمهور…”.

وفعلياً لم يعرف ذلك كامو بعدها. فالعرض توقفت تمارينه الأخيرة بعد أن ألقي القبض على إحدى الممثلات الرئيسيات في العمل من قبل المحتلين الألمان وحصلت مشاكل أخرى أيضاً. وإذا كان هذا هو العمل السيئ الذي يتحدث عنه كامو في إحدى رسائله اللغز الى سارتر، فهو يقصد بالطبع أن أول عمل له مع سارتر ترك له انطباعاً سيئاً لأنه لم يُثمر. غير أن المسرحية ستعرض بعد حين أي في 27 أيار من العام 1944 في “فيو كولومبيّيه” ولكن مع فريق عمل آخر: فصاحب كتاب “الطاعون” لم يكن مناسباً له العمل مع صاحب “الأيدي القذرة” فهما لم يكونا يملكان طبيعة متشابهة. أو على الأقل هذا الكلام قال سارتر شيئاً مشابهاً له في آب 1952 في “الأزمنة العصرية” أو يمكن القول بأن حكمه كان شريراً وقاسياً تجاه كامو. وفي إحدى الرسائل كتب سارتر: “عزيزي كامو، لم تكن صداقتنا سهلة وأنا نادم عليها(…) ثمة خليط من المشاعر لم يشجعني لأقول لك بعض الحقائق الكاملة(…) ولكن قلْ لي يا كامو، بأي سرّ أو لغز يمكن أن نُقارب ونناقش مؤلفاتك من دون أن ننزع حق الحياة من الإنسانية؟(…)، أو ربما أن كتابك هو شهادة وبكل بساطة على عدم نضجك فلسفياً؟.
هذه الرسائل وغيرها ستُنشر في المعرض المخصص لها في بداية أيلول المقبل في لورمارين ولكن سيرى الزائر أيضاً رسائل أخرى في المعرض تبادلها كامو مع اندريه مالرو الذي عرّفه الى “دار نشر غاليمار” منذ العام 1940، كذلك مع ريمون كينو وفرانسوا مورياك واندريه جيد وغيرهم… وثمة سبب آخر للمعرض الخريفي وهو تاريخ مولد كامو في 7 تشرين الثاني من العام 1913، أي أنه سيكون متزامناً مع مئوية مولده. نقتطف من الرسائل غير المنشورة البعض منها نشرتها مجلة لونوفيل أوبسيرفاتور”:

[ رسالة الى الكاتب لوي غييّو (صاحب رواية “منزل الشعب” ورواية “الدم الأسود”)
12 أيلول 1946
“الطاعون” لم يصل الى مبتغاه…
أنا مذنب بحق، لكن الأمور لا تجري بشكل جيّد معي(…) وفي آخر المطاف، وضعت النهاية لكتاب “الطاعون” ولكن لديّ الإحساس بأن هذا الكتاب لم يصل معي الى مبتغاه، وكأنني قد أخطأت من شدة الحماسة وهذه الهفوة تبدو لي فظيعة ومتعبة. سوف أحتفظ به في درج مكتبي وكأنه شيء ما يشعرني بالقرف(…).
أريد أن أترك باريس بشكل نهائي لأعيش في الريف لأفكر وأعمل كما أستطيع. وما عدا ذلك، ليس لديّ أي رغبة في أمور أخرى. ولكن هناك قضية “بيفتيك”، ولكن أنت تعرف هذا النوع من الحالات، وأفضل أن أتحدث عن شيء آخر(…).
غيّيو ولويس، أرغب بشدة أن أراكما. ولكن بالتأكيد إنها الآن تمطر بشدة عندكما وأنا راغب بالشمس والدفء. إذاً تعالا حالما تتمكّنان من ذلك. أما بالنسبة الى ابنتك، أظن أنها فقط مسألة أموال. ويمكن أن أمدّك بالمال مسبقاً إذا أردت ذلك. هذه الأمور نقبل بها فقط حين تأتي من قبل الأصدقاء. من ناحية ثانية، يمكن أن ترسل بعض الكتابات الى مجلة “نضال” أو “كومّبا” (ولكن ليس أكثر من ثلاث صفحات مصفوفة على الآلة الكاتبة مع عنوانين داخليين فقط) وسوف يدفعون لك حوالى ثلاثة آلاف فرنك للمقالة الواحدة.
انتظر جوابك، أو انتظرك أنت شخصياً وهذا أفضل. صداقتي لزوجتك وابنتك. ولك منّي عاطفتي المخلصة.

[ رسالة الى فرنسيس بونج
20 أيلول 1943
(…) لديّ الكثير لأقوله حول مسألة “الكاثوليكية” ولكن يبدو أننا لسنا متفقين حول الطريقة التي تنتقد أنت فيها الموضوع. فإذا كانت فلسفتها غير فلسفتي، وإذا كنتُ أجد نفسي قادراً على مناقشتها حول تفاصيل عديدة، إلاّ أنني لا أملك تجاهها مشاعر كراهية. وعند هذه النقطة بالذات، أظن أن الفلسفة المادية لم تخدمنا كما لم تعلمنا شيئاً. وإذا اعتبرنا أن العقيدة قد وضعت من أجل أن نصل الى استخدامها، فهذا يجعلنا نخلط في المشاريع أو المخططات التاريخية. لأنه بالتأكيد أنها قد وضعت من أجل استغلالها واستثمارها. ولكن هذا مصير كل عقيدة حين تُستخدم بأسلوب غير عادل وحين نبعد عن العدالة لا نعود ننظر الى الوسائل التي أوصلت الى ذلك. فأنا مثلاً لا أظن أن نظرية نيتشيه قد أصبحت نظرية مخجلة بمجرد أن هناك من استخدمها ليجعلها كذلك. وبشكل عام، إذا كنا نريد العدالة وذاك الجزء من الحقيقة الذي يخصّنا، فليس علينا أن نحكم على عقيدة نسبة الى الذين استهلكوها وجعلوها في الحضيض على طريقتهم بل علينا أن ننظر اليها في قمتها. ولا أظن مثلاً أن باسكال ونيومن وبرنانوس… حتى لا اسمي سوى الذين تذكرتهم الآن، لم يفكروا ويعانوا ويتحركوا من أجل الاستغلال والاستثمار لأفكارهم…
وأظن أن نظرتي الأخيرة حيال هذا الموضوع أن أفضل طريقة لنقاوم ضدّ العالم الخالد عبر الحقائق الإنسانية النسبية وأن نعمل عبر قلب الإنسان (وفي عمق قلبه) تلك العدالة حيث كل إبداع هو “أفكار” وما يقف أمام فكرة الله بالدرجة الأولى هو الاختراع الإنساني الذي سمّاه العدالة(…).
أرجوك، عزيزي بونج (فرانسيس) أن تسامحني على هذه الرسالة الطويلة والمتناقضة. ولولا عدم اتفاقنا على كل الأمور لكم كانت الأشياء مضجرة. ولكن في الواقع، نحن نتفق على قضايا كثيرة، ما عدا جزءاً صغيراً داخلياً أشعر بأنه لي وحدي ولا يدركه أحد ربما هو الجزء الذي لا أدركه أنا بنفسي تماماً والذي نقتله أحياناً.
إنه الجزء المتعلق بسوء التفاهم. وأتمنى أن أصل في يوم من الأيام وعبر إرادة صلبة الى حكمة عالية قادرة على أن تتلقى كل شيء وأن تهضمه بسهولة، حينها ستحبني أكثر. غير أنها مسألة وقت ولكننا جميعنا لسنا أكيدين من أننا سنحصل على الوقت الكافي(…) أشدّ على يدك.
[ إلى روجيه مارتن دي غارد
أول كانون الأول 1957
كيف يمكنني أن أشكرك مرة أخرى على هذه النصائح الثمينة، وخصوصاً تلك الثقة التي أوليتني اياها من خلال إرسالي هذه الصفحات من يومياتك!
(…) ما تقوله لي عن خطاب نوبل سيساعدني، ويرهبني أيضاً. أظن أنني سأحاول أن أقول ما هو بالنسبة إلي دور الكاتب. بدأت ثم مزقت ثم استأنفت، وأنا أحس بأن عليّ أن أعيد كل شيء. آه! أنا متلهف الى العودة الى عملي، والى الصمت! فأنا عندي الآن البرنامج الكامل لستوكهولم.
فبالنسبة الى شخص لطالما هرب من الأمكنة الرسمية، أي عصر هضم! ميشال وكلود غ(ليمارد) يرافقانني، ويعتينان بي. سنستقل القطار، في الخامس عشر بعد ست دورات لا أمل أن أخرج منتصراً! أرسل إليك بالبريد ذاته “يومياتك” التي حافظت عليها طيلة الوقت في الاستديو، والتي لا يعرف أحد شيئاً عنها. أرفق بها كل الشكر الجزيل، فسيكون من المفيد والمعين لي أن أفكر فيك، هناك.

 

نشرت تحت تصنيف مقال، شعر

آلان باديو.. أن تبتكر الحب والحياة

ترجمة : وئام مختار

“في عالم تشيع فيه النزعة الاستهلاكية، حيث يعدنا التواعد عن طريق الإنترنت برومانسية خالية من المخاطر، ويُرى الحُب كشكل مختلف من الرغبة والمُتعة. يؤمن آلان باديو أن الحُب مهدّد“

بهذه الجُملة الجذّابة، تبدأ كلمة ظهر غلاف كتاب “في مدح الحب” لآلان باديو المُترجم إلى العربيّة أخيرًا، والصادر عن “دار التنوير”، ترجمة غادة الحلواني.

 قرأت ظهر الغلاف، وقررت أن أعرف أكثر عن الحُب من خلال هذا الفيلسوف الفرنسي الشهير، وسألت نفسي: هل لا يزال هناك من يتحدّث عن هذه المشاعِر لذاتها؟

الان باديو

وُلد الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في الرباط بالمغرب، سنة 1937. من أهم مؤلفاته “معنى ساركوزي”، و”الوجود والحدث”، و”الأخلاق: مقالة حول مفهوم الشر”، يعتبره الكثيرون أحد آخر عظماء جيل ثورة 1968 بباريس، وبالرغم من الحضور القويّ له في الساحة الفلسفيّة الفرنسيّة منذ الستينيّات، إلا أن اسمه تأخر في الظهور عالميًا حتى نهاية التسعينيّات، حين صدرت الترجمة الإنجليزيّة لكتابه «بيان من أجل الفلسفة» (1989)، ثم تلاحقت الترجمات بسرعة كبيرة، بعدما أدرك الجميع أنّهم أمام عقلٍ فكريّ فريد يتوازى لديه عمق الفلسفة ونظريّاتها المتشابكة، مع سلاسة الأفكار والأطروحات.

يبدأ هذا الكتاب الصغير –حوالي 125 صفحة– بمقدمة من أربعين صفحة عن فلسفة باديو، وهي مدخل مُبسّط لفهم فلسفة الرجل، كتبها فابيان تاربي، يتجوّل فيها في منهج باديو الفلسفي سريعًا، نظريته عن الوجود ونظرته إلى الأخلاق، مرورًا بتطوّر فكره عن السعادة والحقيقة وغيرها من المعاني الفلسفيّة.

يُمكنك المرور على المقدّمة مرور الكرام إذا لم تكُن مهتمًا بالفلسفة، فالحوار بين باديو ونيكولا ترونج –متن الكتاب– بلغة بسيطة ومفهومة،  ترجمة مُتميّزة من غادة الحلواني، نجحت في إيصال المعنى دون تعقِيدات، ودون الحاجَة إلى كثير من الهوامِش.

 بدأه باديو بعبارةٍ لرامبو تقول

“إن الحُب، كما نعلم، يجب أن يُبتكر من جديد“، ثم يمضي ليطرح أفكاره عن الحُب في زمن الاستهلاك، عبر ستّة فصول يكون فيها الحُب تحت التهديد، ثم علاقة الفلاسفة به، ثم بناء الحُب، وحقيقته، وتشابُكه مع السياسة والفن.

يرى باديو في المُقدّمة، أن الفيلسوف يجب أن يكون “عالمًا بارعًا وشاعرًا هاويًا وناشطًا سياسيًا، بل وعليه أن يقبل حقيقة أن حقل الفكر ليس محصنًا أبدًا أمام انقضاضات الحُب”.

ثُم يندفع إلى التأكيد، أن الحُب اليوم مُهدد بفكرة نزع المعاناة، التي تروّج لها المواقع الإلكترونية في زمن ما بعد الحداثة، ويورد مثالًا لموقع meetic ميتيك، الذي يستخدم شعارات تنزع عنه عامل الصدفة، حيث يكون كاملًا لكن دون نشوة، ولا يُمكننا الغرق في حبائله.

لا يُمكن نزع المخاطرة عن الحُب في نظر باديو، الذي يشّبه المحاولات العصريّة ل”تأمين” عمليّة اختيار الشريك، بالزيجات المرتبّة ترتيبًا مُسبقًا تحت مظلّة العائلة وبموافقة أفرادها، حيث يحمل هذا الزواج احتمال “صفر مخاطرة” مثله مثل دعاية الجيش الأمريكيّ بشأن “القنابل الذكيّة”، حيث المخاطر ستلحق بالآخر لأنّه لا ينتمي إلى الحداثة، ومثل الحروب المحصنة ضد الموت، بعبارة “صفر قتلى”.

يشتبك باديو بعدها مع الفلاسفة الذين تحدّثوا عن الحُب، كيركجارد، وسيمون دو بوفوار، جاك لاكان وأفلاطون، مُعترفاً أن علاقة الفلاسفة به مسألة مُعقّدة، ويعود في هذا إلى كتاب “الفلاسفة والحُب من سقراط إلى سيمون دو بوفوار” تأليف أودي لانسلين وماري ليمونييه. وينتهي إلى أنه يراه كمشروع وجودي: بناء العالم من وجهة نظر تبتعد عن مركزية الدافع البسيط للبقاء على قيد الحياة والمصلحة المباشرة.

ثم يذهب إلى مفهومه الخاص عن الحُب: هو”إعادة ابتكار للحياة”، يقول” إن الُحب ليس ببساطة عن لقاء شخصين وعلاقتهما الداخلية: إنه بناء؛ حياة تُصنع، لم تعد من منظور واحد منذ تلك اللحظة، بل من منظور اثنين. وهذا ما سمّيته “مشهد من اثنين”. لم يهتم باديو بالبدايات قدر اهتمامه بقضيّتي الاستمرارية والصيرورة.

يتطرّق باديو أيضًا إلى الرغبة الجنسيّة، والنظريات القائلة بأنها أساس الحُب، أو أنّه مجرّد غطاء لهذه الرغبة، وكيف أن الحُب يُقوَّض باستخدام دعاية تستخدم بث شعور الأمان لتَصل إلى الأذهان: ” اسمع، لو لديك رغبة جنسية، اشبعها. إنك لا تحتاج أن تقع أسير فكرة أنك يجب أن تحب شخصًا ما، انس كُل هذا واشبع رغبتك فقط”.

يرى باديو أن الحُب يحفر في طريقه هذهِ الرغبة، وهذهِ الرغبة هي ما تميّزه عن الصداقة، وما تربطه بكُليّة وجود الآخر، فالاستسلام للحُب، يعني أيضًا أن تُعلن عن ذلك جسديًا وليس فقط بالكلمات.

يُناقش بعد ذلك حقيقة الحُب، شارحًا لماذا تجذب قصص الغرام الكاملة الكبيرة انتباه الجماهير، ولماذا تلقى كُل هذه الأفلام والكُتب والقصائد اهتمام الجماهير الغفيرة، مهما كان عددها ومهما تكررت الأحداث، والسبب في رأي باديو،”أيًا كان الحُب فهو يعطينا دليلاً جديدًا على أننا نستطيع أن نقابل العالم ونختبره بوعي آخر غير الوعي المُنعزل”

وينتقل من هنا إلى التشابه بين السياسة والحُب، مع وجوب فصلهما، ففي السياسة لا يوجد ما يُسمى “سياسة الحُب”، هذا تعبير قد يؤدي إلى نوع ما من الأخلاق، لكن لن يؤدي إلى أي نوع من السياسة، ويُضيف أنه في السياسة يوجد أشخاص لا نحبّهم، ولا يستطيع أي أحد أن يتوقّع منا غير ذلك، ويتعمّق في علاقة الحُب بالشيوعية، ويذهب قليلاً إلى المسيحيّة ” دين الحُب” وعلاقتها بالتأسيس اللاهوتي للكلمة.

يشير باديو أخيرًا في لمحة ذكيّة إلى أنّ الأدب لا يضم إلا القليل من الأعمال التي تؤكد استمراريّة الحُب عبر الزمن، إذ أنّ معظم الأعمال الأدبيّة العظيمة تدور حول استحالة الحُب، وتراجيديّته، ونهايته، وتنتهي القصص الكبيرة باللقاء، وليس بالديمومة، بعكس المسرح، الذي يشدّد دومًا على الحُب كأداة للتمرّد الطبقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ: فهو في المسرح “تراجيديا”.
ويختتم باديو الكتاب بنسف الصورة النمطيّة  لبلده فرنسا: أي بلد التنوير والحريّات والثورات المُتكررة؛ ويؤكّد أنّ ثمة تاريخين مُتضافرين لفرنسا، يتوازى فيهما التمرد الثوريّ العظيم مع الرجعيّة.

“إننا في الحُب نثق في الاختلاف عوضًا عن الشك فيه، أما الرجعيّة فترتاب دومًا في الاختلاف باسم الهُويّة“.

وفي الخاتمة يقول:

“أحبّك” تعني: أنت ينبوع وجودي في هذا العالم. في مياه هذا الينبوع، أرى فَرَحنا. وأرى فَرَحك أولاً. أرى كما في قصيدة مالارميه: في الموجة التي تكوّنها نشوتك العارية“.

نشرت تحت تصنيف مقال

هل كان ساراماغو فيزيائياً؟

عيسى جابلي

ييدو عالم الرواية والأدب بعيداً كلّ البعد عن عالم الفيزياء والكيمياء والعلوم التي تقوم على التجربة؛ غير أن تأملاً بسيطاً في أعمال أدبية عالمية يمكن أن يفند هذا الادعاء. ولا تعني هذه العلاقة المفترضة بين الفيزياء والرواية أن تتحول الثانية مسرحاً لنحت نظريات علمية أو حتى مناقشتها، بل إنّ ما نعنيه أنّ رواية عظيمة في كثير من الأحيان تكون ولادتها مثل ولادة نظرية في الفيزياء أو الكيمياء. وهذا ما نفترض حضوره بوضوح في رواية “انقطاعات الموت” للكاتب البرتغالي الكبير الحائزة على نوبل للآداب سنة 1998 (تعريب: صالح علماني، منشورات دار مسكلياني، 2015، الطبعة الثانية).

هل كان ساراماغو فيزيائياً؟ لا أحد يمكنه أن يدّعي هذا. وكل ما في الأمر أنّ روايته “انقطاعات الموت” قد بنيت على ملاحظةٍ نتج عنها افتراض مباشر بنيت عليه تجربة أفضت إلى نتيجة من بين نتائج كثيرة أخرى نتبين أهمها لاحقاً في هذا المقال.

أمّا الملاحظة فلا شكّ في أنّ روائياً بحجم خوزيه ساراماغو له من القدرة على الإصغاء إلى الذات الإنسانية وما يشغلها بدقة لا متناهية تشبه دقة ملاحظة عالم الفيزياء، وهو يراقب كائناته الميكروسكوبية الدقيقة ويرصد العلاقات بينها دفعاً وجذباً، وأكثر ما يشغل الذات الإنسانية منذ قتل قابيل هابيل، في ذلك الزمن الغابر، هو الموت. إنه ذاك الوحش الذي لا نراه ولكننا نرى آثاره في كل مكان، نحسه مارداً سليطاً لا يرحم، يروعنا في الصميم دون أن نعرف ما هو؟ أين يقيم؟ ما ملامحه؟ إنه قناص ماهر لا يخطئ. وهو في الأدب تيمة مقيتة كريهة لا تشدّ أحداً في العادة. ولكن ساراماغو ببراعته السردية يستدعيه، تبعاً لهذه الملاحظة وهذا التأمل العميق في أثره في الوجود الإنساني، إلى رواية يبنيها على افتراض نتج حتماً عن ملاحظته تلك، كعالم فيزياء تماماً.

أما الافتراض، فقد صدّر به الرواية منذ الجملة الأولى: “في اليوم التالي لم يمت أحد”، ويؤكّده فيما بعد ضابطاً تفاصيله: “منذ الساعة صفر من هذا اليوم الأول من كانون الثاني (يناير) الذي نحن فيه، لا يوجد دليل على حدوث حالة وفاة واحدة في البلاد”، وهو حدث خارق للعادة ومتجاوز نواميس الطبيعة وقوانين الأرض والسماء المبنية جميعاً على أساس لا جدال فيه: كل شيء فانٍ. وهو إن كان كذلك في الواقع، فإنّه في الرواية ممكن، وهو فاتح بوابة التخييل والإبداع على مصراعيها، وهو الخطوة الأولى في القيام بتلك التجربة التي تلي الملاحظة والافتراض مباشرة: الرواية ذاتها. إذ تتحول الرواية إلى تجربة لذلك الافتراض (انقطاع الموت) ورصد نتائجه وتأثيراته في كل المجالات: الاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها.

تغدو الرواية مساحة يختبر فيها الكاتب افتراضه لما يفيق الناس على حقيقة جديدة تحدث لأول مرة فتهز ثوابتهم ويقينهم. هم الذين روعهم الموت القاهر حتى صار حقيقة لا مفرّ منها ها هم يخرجون صارخين أخيراً: “الحياة صارت جميلة”. إنها “حياة وحيدة، رائعة، دون الخوف اليومي من صرير مقص باركا”. وسيشعرون بالتحرر من عناصر أخرى لطالما كانت تروّعهم وتحدّ من حرياتهم متكئة على حقيقة الموت نفسه، وستطيب لهم الحياة الخالدة في الأرض أو في “وادي الدّموع” كما يسميه ساراماغو.

كان أثر “انقطاع الموت” اجتماعياً، وذلك بظهور أول حركة شعبية من مواطنين، صارت مقتنعة “بأنه يمكن قهر الموت بعمل إرادي بسيط”، تلتها حركة جماهيرية أخرى أعلنت أن ذلك الحلم الذي لطالما كان أمنية مستحيلة: الخلود، صار اليوم ممكناً، بل إنه حقيقة لا تردّ. وكعادتها راحت أقلام الصحفيين وعدساتهم تلتقط أخبار أموات قرروا أخيراً أن يظلوا معلقين بين الحياة والموت كي يملؤوا مساحاتهم الإعلامية.

أما سياسيا، فإن الحكومة بدت حذرة في التعامل مع الحدث، يظهر صوتها في موقف ساخر من التصريحات السياسية للحكومات على لسان وزير الصحة الذي صرح، ككل سياسي في العالم، بالكلمات نفسها التي يمكن أن يقولها مسؤول في موقعه: “بالنظر إلى عدم توافر معطيات كافية، فإن أي تصريح رسمي سيكون بالضرورة مبكراً، إننا نجمع الأخبار التي تصلنا من كافة أنحاء البلاد”، وسيكشف: “ومازلنا غير مهيئين للإعراب عن فكرة أولية حول منشإ الظاهرة والتداعيات التي ستترتب عنها، سواء التداعيات الفورية المباشرة أو المستقبلية”. أما رئيس الحكومة، فقد صرح في بيان رسمي، ككل رئيس حكومة في العالم في مثل تلك اللحظات: “الحكومة مهيأة لكل الاحتمالات التي يمكن تخيلها بشرياً، ومصممة على أن تواجه بشجاعة، وبمساعدة المواطنين الضرورية، المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية المعقدة التي ستنشأ دون ريب عن انقطاع الموت”.

أما المأزق الحقيقي، فقد واجهته الكنيسة باعتبارها ظل الله في الأرض، يتمحور وجودها من الموت وتستمد مشروعيتها من وجوده، “فمن دون الموت لا وجود للانبعاث، ومن دون الانبعاث لا وجود للكنيسة” كما قال الكاردينال في الكواليس أثناء اتصال هاتفي بالوزير الأول، غير أنها سرعان ما ستجد الحل اتكاء على ما هو غيبي مفارق، وستواصل التعامل مع كلّ جديد مهما كان. إنها معتادة في كل الحالات “على الإجابات السرمدية، حيث لا يمكنني تصورها تقدم إجابات أخرى، حتى لو ناقضها الواقع” كما يقول الكاردينال. إنها تتكئ على الغيبي المفارق تستمد منه تفسيراتها وتؤسس عليه شرعية وجودها.

هذا إلى جانب آثار أخرى خصوصاً في الجانب الاقتصادي إذ وجد كثيرون أنفسهم في بطالة دائمة على رأسهم أصحاب وكالات الدفن والعاملون فيها، وعجز المستشفيات عن استيعاب المرضى الذين يرفضون الموت وغيرها من المآزق التي أفرزها الوضع الجديد، الذي كشف أنّ الناس في حاجة إلى الموت فتأقلموا معه، كما هي عادة البشر دائماً، فصاروا ينقلون المرضى الذي يرفضون الموت إلى الحدود كي يقتلوهم ويدفنوهم هناك خلسة. وسيتحول هذا الوضع بدوره إلى مسرح لبطولات جديدة تمضيها المافيا بسيطرتها على الاستفادة من الوضع الجديد وتحقيق أقصى ما يمكن من كسب بتواطؤ من الحكومة نفسها.

أما نتائج “التجربة” التي يجريها ساراماغو، فإنه يصمت عنها تاركاً المجال للقارئ كي يساهم في كتابة الرواية ويخلص منها إلى الاستنتاجات التي يضمرها. لا تظهر على السطح سوى في سخريته من السياسيين ومن رجال الدين ومن الناس الذي عرّاهم في النصف الأول من هذه الرواية كاشفاً نفاقهم وتوقهم إلى الزيف والتلاعب والتزوير من أجل السلطة مهما كان نوعها: سياسية كانت أم دينية أم اقتصادية أم اجتماعية. يحركهم ساراماغو كالدمى مخرجاً كثيرين منهم في صور كاريكاتورية مضحكة تخفي ازدراءه لهم وضحكه عالياً من قصر نظرهم وكذبهم ومراوغاتهم الشيطانية.

أما في القسم الثاني من الرواية، فيعيد ساراماغو المراحل نفسها: الملاحظة والافتراض والتجربة واختبار النتائج، لما أفسح المجال للموت أن يظهر ثانية كي يقتل الناس بطريقة جديدة عبر البريد. تصل رسالة بريدية لمن تقرر الموت أن تقبض روحه، وقد جعلها في صورة امرأة فاتنة تضع قبعة ونظارتين سوداوين وتقيم في مكان ما من المدينة، تعلمه بأنه سيموت بعد أسبوع واحد من تلقي الرسالة. وببراعة عالية يعرض ساراماغو عن البلد الذي تجري فيه الأحداث، بلد بلا اسم ولكن ملامحه حاضرة في أكثر من بلد واقعي، ليهتم بـ”رسالة موت” تعود إلى “موت” – هكذا هو اسمها الجديد في القسم الثاني من الرواية – فتغرقها في حيرة بالغة تدفعها إلى البحث عن صاحبها وزيارته في بيته دون أن يشعر فلا تجد شيئا ملفتا للانتباه: رجل في الخمسين يعيش مع كلبه الأسود في ناحية ما من المدينة يخصص قاعة للبيانو ويعمل عازف فيولونسيل في دار الأوبرا! وتبدأ سلسلة من الهزائم المتتالية التي يسجلها ضد “موت” دون أن يشعر: أول لحظة في الهزيمة لما قررت أن “تخصم” سنة من عمره وتسجل في دفتره أن عمره تسعة وأربعون عاماً فقط كي تخرج من مأزقها، وثاني لحظة أنها غادرت عالمها المفارق، وتحولت إلى امرأة؛ أي صارت “بشراً” تقف وإياه في المستوى نفسه، وثالث لحظة أن تعجب بعزفه خلال حضور حفل تمكن فيه من فترة عزف منفرد أبهرها، ورابع لحظة أنها انتظرته عند مدخل الفنانين لتكلمه لأول مرة.. إلخ. لحظات متتابعة بدت فيها موت مثل أعمى يندفع نازلاً سفح جبل عملاق نحو نهاية غير معلومة انتهى بها نهاية مدوّية نصمت عنها في هذا المقال كي لا نفسد القراءة على القارئ.

وتدفعنا هذه التجربة الثانية – عودة الموت – إلى البحث عن النتائج التي دفعنا إليها ساراماغو عن قصد دون أن يبوح بواحد منها: لا يمكن إلحاق الهزيمة بالموت إلاّ بالفن. لا خلود إلاّ بالفن. لا شيء يمكن أن يقهر الموت ويهزمه في عقر داره سوى الفن!

إن أول ما تصنعه بنا هذه الرواية أنها تصحح فكرتنا عن الموت وصورتنا له. إنه أعمق من أن يختزل في تلك اللحظة التي تفارق فيها الروح البدن، لأنّ الإنسان فانٍ واقعياً فكيف سيتمكن من قهر الموت إن لم يكن للموت معنى آخر أوسع وأشمل وأسمى من تلك اللحظة التي ينطفئ فيها الإنسان؟ إن الموت الذي يعنيه ساراماغو في روايته ويعلمنا إياه هو ذلك الذي يقف على طرف نقيض لما نحسبه نحن موتاً. إنه ذاك الموت الذي يمكن تحديه بالفن كما يفعل عازف الفيولونسيل في روايته! وهو بهذا يوسّه معنى الموت ساخراً من تصورنا الضيق لما نحسبه موتا حقيقيا والحال أنه بعد واحد من الموت الحقيقي.

عكست هذه الرواية قدرة هائلة على التخييل متكئة على ما يشبه المنهج التجريبي في الفيزياء في بنيانها، قدرة تتجلى في اختيار لحظة البداية، كما تتجلى في براعة ساراماغو في الإمساك بخيوط السرد وتحريك عالمه الروائي العجيب فاتحاً أعيننا على أن خلوداً يتحدى الموت الذي نعرفه ويتجاوزه، لأنه يقيم في منطقة لا يطالها: إنه الخلود بالفنّ!

نشرت تحت تصنيف إنطباعات

الكتابات الشبابية النسوية في الكويت

إعداد : إقبال عبيد women-books

 

عندما تكتب المرأة فهي تناسب خارج الحدود ، وترتحل في كلماتها إلى محرابها الروحي حيث الكتابة.كاتبات شابات ظهرن مؤخرًا في الساحة الأدبية ، جميعهن أتفقن على نقطة الكتابة من أجل التنفيس والتعبير عن صراع مجتمعي ، عاطفي، يبنى على  أحكام مسبقة، وتجارب إنسانية مختلفة ترجمت على هيئة رواية شعر خاطرة تتمثل بمكنوناتها الشعرية والبلاغية ،الرسائل الفنية الطاقة الفكرية لكل منهن ،نستعرض في تلك المقالة انطباعات حول ما كتبن :

 

 

(عمق)  للكاتبة نور الجواد :  هذا الإصدار الثالث الشعري لنور .. عمق مجموعة النصوص التي امتزت بها الكاتبة تطغى بها الصور البلاغية والفنيات العالية في المزج بين شاعرية النص و رمزه التجريدي ،استمتعت جداً بتشريح النص وتذوق جماله وفنيته العالية فيما يخص الصور والاستعارات في نصها الشعري ، شخصياً آسرني بالمستوى اللغوي والإبداعي لدى نور.

مما كتبت في هذا السياق  ، “في مدينتك كل الأشياء  صامتة ، كأن قبراً إبتلع كل شيء فيها ،تنطوي الحياة مع أول زفرة لظلام ليلاً، وترحل الأصوات “

“أكتب قصيدة معلقة على حافة قلبي ، تهوى في قاع الحب كلما شهقت تفاصيلي دهشة بك”

بدتْ موضوعات الشعر جليّة في تعبيرها عن الحب والمنفى والحرية والمرأة الوطن والسّلام والغربة والموت وغيرها، فإنّ لغة نور والرّمزية العميقة كانت لها فاعليتها المؤثّرة في خلق أجواء شعريّة متنوعة .نمو و تطور في لغة نور الشعرية وصورها الجمالية ،فتميزت بفرادة النص متجاوزة بذلك الأسلوب المألوف أو الشائع فحلقت نبصوصها وعالمها الخاص عالياً عالياً.

 

 

(نبض كاذب ) للكاتبة نورة العتيبي :

هذا الإصدار الثاني لها .. تمتاز الرواية بنوع الرواية الشعرية ، هذا النوع من الروايات سريع الإيقاع كثير الصور ترسم بكلماتها السياق الدرامي المتتابع ، تهيمن الساردة ( الشخصية المحاورية الرئيسية للرواية ) دفة القصة تنطلق من الذات ثم تعرّج منسابة بعد ذلك إلى العالم الخارجي من هواجس وهلوسات تنتج عن فقد أليم لزوجها المريض ، بعد الوفاة تبدأ الشخصية قيادة الرواية باستحضار ذكريات مرتبطة  بزمنين بينهم فجوة تتسع كلما تقدمت بالقراءة ،فالراوية استعانت بضمير المتكلم لتكشف عن  رهابة خوالج  كنون الذات وارهاصاتها المقلقة ، اقتبس أشياء ضغيرة

“سأحكي عن قصة كان لها نصيب من لعبة القدر حروفها ميتة ومبعثرة من قوة الخذلان “

“للذكريات صوت ..بعضها يئن والآخر يبتسم وكلاهما متفق في طول الأنتظار ..حينها أحاول إيقاظها حتى لا يتوقف النبض ويموت .”

“الآن فقط أدركت ماذا يعني الجبن..عندما أذبح الحروف وأبتلعها…”

 فكرة الرواية مذهلة أخذتني سريعاً لدواخلها لتكشف معاناة على نحو دقيق مدهش وهي تسبر أغوارها وكل ما يدور من تساؤلات سيدة تمنيت لو لم تنتهي .

 

 

( منائرات) : مناير الكندري : هذا الإصدار الأول لها

الكتاب شبيه بنمط المذكرات  والخواطر المدونة يومياُ ففي كل صفحة تساءل و اعتراف داخلي لتسلط الضوء على فكرها الداخلي شكله الأسلوب التعبيري عن البعد النفسي والعاطفي

 

اقتبس ” أعرفت الشوق يوماً ، أن لم تع ماهية الأحتراق؟ أعشت شتاءٍ قارصاً بالمساحة الواسعة يهديك اختناقا؟ أعزفت أغنيةٍ يطربها جرحها ؟ أم لم تحرك فيك الاغاني شيئاً؟”

الكتاب متعدد الجوانب والصباغات تارة في مناجاة إلهية ، تارة في حوار ذاتي ، تارة إلى رسائل لراحلين ،نوعت في أسلوب الكتابة كدعوة للتعرف على الكاتبة ، بداية جميلة لمناير وتلك القفزات في كتاباتها عموماً تتيح للقارئ قدراً من الحرية في تحديد جهة ذائقته.

اقتبس “أنا لا أراك لكن روحي ترى حزنك وهل أحتاج أن أراك كي أحبك

اقتبس” أحياناً أحبك لا تقال صراحة بملء الفم لكنها تنقل لك عبر نبرة” 

نصوصها شفافة بسيطة وإبداعيه وظفت عناصر متعددة فنية حية فى بناء صور فنية مجازية والتى تريدها أن تكون فاعلة مؤثرة نابضة بالحياة داخل النص ، لغة شاعرية تسعى الى ابهار القارئ تنقل اليه صورة دقيقة وجرئيه لحالة وإنسانية متنازعة غير ثابتة . لغة مناير ستكبر وتتسع لتحرر بمشاعرها …بمشاعر كل مرآة عالياً .

 

 

( تعتقد فاطمة ) فاطمة عبدالسلام : هذا الإصدار الأول لها

صلبة ، جرئية ، رقيقة ، متمردة كل هذا التناقض الذي تمثله المرأة أو بعضاً منهن رأيت الكثير والكثير من الصلابة الرقيقة في كتاباتها  .

اقتبس” لم يعد التعبير يغريني بت أشعر بعدم جدواه “هجرتني الكلمات،فصرت لا أكمل نصوصي، كأنها تخبرني بأن المشاعر طغت على قدرتها في التشكيل.”

ملهمة في تمردها  بتناغم وانسجام بدءاً من صراعها الداخلي والبحث عن الذات في إشكالية استغلال المرأة كدمية تملك ، تُبني كتاباتها من هذا الأساس بالتأكيد فتقدم نصاً متيناً وهادفاً يتلقاه القراء بشفافية و وعي لهذا الثورة الجميلة . طاقة جميلة قوية تنزع الشرارت المخبوءة لتحترق  على الورق، إيقاع الكتابة النثرية متناغم، أبدعت بتناسق موسيقي في تركيب الكلمات، وتآلفها إلى الحدّ الذي أصبحت فيه الكتابة لحن 

اقتبس” إلى كل من مارس الانتظار حتى أصبح يتقنه ، الحياة أقصر من أن تنتظر”

لا تفوت التلصص على قلب فاطمة ، ففاطمة تعتقد و تعتقد ويبقى اليقين أن كل هذا التمرد يقف وراءه فتاة صادقة نقية لا تخجل من بوح مشاعرها لأي رجل كان .

 

 

نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، مقال، غير مصنف

أدباء اليوم تحولوا إلى مخادعين

ماريو فارغاس يوسا: أدباء اليوم تحولوا إلى مخادعين…أخشى انتفاء مفهوم النخبة في عصر الديمقراطية ما يؤدي إلى فجور ثقافي

 

 إعداد: مها محفوض محمد : 

لقبه بلزاك أميركا اللاتينية، ذاع صيته في عالم الأدب بعد روايته الأولى «المدينة والكلاب» التي نال عليها عدداً من الجوائز تتالت بعدها رواياته وجوائزه «من ضمنها جائزة ثرفانتس للآداب عام 1994» إلى أن حاز جائزة نوبل للآداب عام 2010 بعد نحو ثلاثين عملاً بين رواية ومسرحية ودراسة من أهمها «البيت الأخضر»، «امتداح الخالة»، «حرب نهاية العالم»، «حفلة التيس» وآخرها «البطل الخفي».
الروائي الصحفي والسياسي البيروفي ماريو فارغاس يوسا (مواليد البيرو 1936) يعد من أعظم أدباء أميركا اللاتينية أبدع في جميع أعماله التي تميزت بنزعة التغيير للمجتمع، فلم يتوقف عن الدفاع عن حقوق الإنسان كما قدم وصفاً رائعاً في رواياته لبلاده والتي مزقها العنف والتعصب وركز على حقيقة الحياة فيها، ولا تنفصل عنده السياسة عن الأدب وبرأيه فإن الأديب يمكن أن يقوم بدور سياسي مهم وكان قد رشح نفسه لانتخابات الرئاسة في البيرو عام 1990.
العمل الأخير له صدر عام 2012، وهو أول عمل بعد نيله جائزة نوبل، كتابه «حضارة الاستعراض» الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية حيث نشر يومها باللغتين الإسبانية والإنكليزية، وفيه يطرح يوسا واقع المثقف الذي تحول إلى فوضى، إذ لم يعد الزمن زمن المثقفين إنما زمن استعراض وتضليل وإن ثورة الاتصالات والعولمة سوف تجرف العالم نحو الانحطاط الثقافي فينطلق الكاتب في حرب ضد التفاهة الفكرية «تفاهة المثقفين» وصلافة السياسيين ووقاحتهم وانحطاط الفن في اللهو والتسلية وفي ذلك يقترب يوسا من أدباء آخرين طرحوا الفكرة ذاتها مثل الكاتب الأميركي جورج ستاينر وغي ديبورد الذي يرى أن قراءة مجتمع الاستعراض ضرورية جداً، حيث تسيطر السلعة في جوانب الحياة من خلال الاستعراض الذي يصّر على تحويل البشر المنتجين إلى متفرجين سلبيين وغيرهم من الأدباء الذين يؤكدون اليوم تراجع القيم الديمقراطية في المجتمع الغربي وأن المثقف لم يعد قادراً على قول الحقيقة وهذا ما تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي دومينيك لوكور في كتابه «المثقفون التافهون» وكان فرويد قد نشر كتابه «قلق في الحضارة» منذ عام 1930 ليعبر أدباء اليوم عن قلقهم من اللاحضارة أو اللاثقافة من ثقافة مضادة هدفها تدمير كل ثقافة، ففي كتابه «حضارة الاستعراض» يؤكد يوسا أننا نعيش اليوم في حضارة، ثقافتها التسلية واللهو والابتعاد عن أي جهد وتعب أي هي استعراض وليست حضارة، فينتقد الكاتب المساحات الواسعة التي تفسحها الصفحات الثقافية في المجلات والنشرات لعالم الأزياء والطبخ، حيث أصبح مصممو الأزياء والطهاة هم النجوم بدلاً من الكتاب والعلماء والفلاسفة أليست حضارة الكارثة كما يشير؟
يقول ماريو يوسا: صحيفة لوموند الفرنسية وهي من أهم الصحف العالمية كادت تعلن إفلاسها في الأعوام الأخيرة لولا أنها بدأت تخصص مساحات للتسلية للنكتة ثم للخبر ثم للتفاهة والفضيحة وهذا ما تنتهجه كل وسائل الإعلام الكبرى في العالم من دون استثناء كي يتسنى لها إثبات وجودها فتقدم الأخبار استعراضاً بطابع مثير ويلتبس الحق بالباطل كما يحدث في عالم الخيال.
وبمناسبة نشر الكتاب باللغة الفرنسية مؤخراً تحدث يوسا إلى مجلة لوبوان الفرنسية عن تسميته الكتاب «حضارة الاستعراض» قائلاً: هو استعراض من دون حضارة، فكلمة ثقافة تغير معناها جذرياً عبر جيلين أو ثلاثة إذ كان لدى العالم فيما مضى إجماع حول ما نسميه «الثقافة العليا» من آراء وفنون وعلم الجمال، اليوم يدور الإجماع حول فكرة أن الثقافات جميعها متساوية، فلم تعد الثقافة مرادفاً لفكر نقدي لحكم جمالي إنما أصبحت ثقافة لهو وتسلية بعيدة عن أي نقد حقيقي، أما الثقافة الأكاديمية الجامعية فلا تزال صامدة لكنها معزولة عن المجتمع، بينما ثقافة عامة الناس هي التلفزيون والمسلسلات لتصبح الظاهرة إجمالية انتشرت عدواها في جميع قارات العالم وبين كل الطبقات.
لم يعد هناك دمقرطة للثقافة إنما للجهل لا لثقافة اليوم حتى بين النخب نجد أناساً سعداء بما هم عليه من جهل بتذوق الأدب والفنون، لقد تضاءل تأثير المثقفين في المجتمعات اليوم ولا ننسى انحدار المستوى الفكري والأخلاقي لدى النخب السياسية، أعتقد أن السياسة هي مفتاح كل شيء، وعلى الروائي ألا يبتعد عنها لقد ترشحت للرئاسة مع أنها لم تكن ميولي ولم تكن قدري، ومنذ ذلك الحين أعيش في إسبانيا كشاهد ملتزم أدافع عن الأفكار الليبرالية ليس كعقيدة إنما كهدف، لقد منحت جائزة نوبل للآداب لأنني دافعت عن الحرية عبر الأدب وجائزة نوبل بالأصل تم استيحاؤها من قيم اليسار المضبوطة سياسياً وأنا آخذ على عاتقي أني مع جماعة القرن التاسع عشر من الليبراليين الفرنسيين ومع كارل بوبير وجان فرانسوا ريفيل عبر أبحاثي ورواياتي.
اليوم علينا التوضيح أن هناك الكثير من أشياء الماضي يجب الحفاظ عليها في عالم الغد مثل حق الاختلاف، التراتبية، النخب ودورها وأمور أخرى من حقنا أن يكون لدينا ردود أفعال تجاهها، فأنا أريد الحفاظ على ما هو نادر وقيم وسط هذا اليباب الثقافي الذي وصل إليه العالم المستعرض.
وعن سؤال: إلى ماذا يخدم الأدب يجيب يوسا:
الأدب غذاء للروح المتمردة والإبقاء على الحس النقدي ومناقضة أنَّ العالم متقن وأن المجتمع يسير كله بشكل جيد، الأدب الحقيقي هو الرافض دوماً لزمن الخلط والفوضى، الأدب يساعد على فهم الحياة فهو يعيدنا إلى الماضي ويجعلنا نشعر بالانتماء لتجربة البشر الغنية المتراكمة عبر العصور، فهو أعظم إنجاز للثقافة وكان المحرك الحقيقي للتطور التاريخي والمدافع الأكبر عن الحرية، واليوم هو ضروري أكثر من أي وقت مضى لأنه ينبهنا يوقظنا يدل على عيوبنا لكن للأسف كثير من أدباء اليوم تحولوا إلى مخادعين يحاولون إغماض عيوننا كما نغمض عيون الأطفال حين تنويمهم، والرواية لم توجد لتجعلنا نحلم بل لتوصّف حالة الفوضى والخواء الذي يسود العالم، وما أخشاه هو انتفاء فكرة وجود النخب وأن النخبة يجب أن تختفي لدى البعض في عصر الديمقراطية ما يشكل التباساً كبيراً وهذا يقود الفكر ليس إلى الحرية بل إلى فجور ثقافي.
وعن سؤال ما الشخصية في الرواية لكاتبها؟ يجيب يوسا:
هي إسقاط لذاته، للعنة الموجودة في داخله لكنها أيضاً صورة عن الكائنات المحيطة به والكاتب ليس بالأمر السهل عليه أن يكون تحت رحمة شخصياته كما أن الأدب يدفعنا إلى النرجسية وإلى الاستعراء، فالروائي يقوم بدور متواضع لكنه بالغ الأهمية وغير محدود إذ لا يتحدث عن نفسه إنما يتحدث بصوته وسيرته الخاصة عن العالم حيث يقود صراعه ضد الفوضى والالتباس.
وما وجعك اليوم؟ يجيب يوسا: الفساد البطيء للعقول والمؤسسات، الصفاقة التي تقول: ما فائدة الجمال؟ والحقيقة غير موجودة كل ذلك يتساوى عند الذين يقلعون عن التفكير. وتلك مهمة الأدب أن يذكرنا بمقدار ما تكون الأرض التي نقف عليها صلبة وبمقدار ما تكون ألوان المدن التي نعيش فيها براقة يعني أن الشياطين تنتظرنا في كل مكان.
ولماذا تكتب؟ لأني غير سعيد.

نشرت تحت تصنيف غير مصنف

غونتر غراس و هوس الألقاب 

ترجمة : يوسف أبو لوز

تأخذني الكتابة عن الإبداع إلى الكتابة عن الكتابة، فهي أس الإبداع، والإبداع الأدبي هو العنوان الأبرز للكتابة.
الإبداع مفهوم واسع، فهناك إبداع في العلوم، وإبداع في الإدارة، وإبداع في القيادة، وإبداع في الاقتصاد، وإبداع في الزراعة، وإبداع في التصنيع، غير أن الكتابة هي المفردة الجاذبة لروح كلمة «إبداع»، وهكذا، عندما يقال «فلان مبدع» يذهب بك المعنى إلى أن هذا «الفلان» هو شاعر بارع على نحو خاص، أو أنه روائي متميز، أو كاتب قصة محترف، وبتكثيف آخر، هو كاتب، وهاجسه الكتابة.

لقد استهلكت كلمة «مبدع» كما استهلكت كلمة «أديب»، واليوم من السهل إطلاق كلمة أديب على شاعر يقرأ للمرة الأولى في أمسية شعرية، أو من السهل إطلاق كلمة أديب على شاعر أو روائي أو قاص يصدر أول كتبه، وقد أسهمت بعض الصحافات الثقافية في هذا الاستسهال في الوطن العربي، والأمر نفسه ينطبق على كلمة «مبدع»، فالشاعر، مبدع، منذ الإصدار الأول له، والروائي «مبدع» منذ روايته الأولى، وهكذا، على هذا النحو الاستسهالي المجاني من دون الأخذ في الاعتبار التجربة الإبداعية هذه وعمرها، ومرجعياتها، وحجم التعب عليها، ومدى جديتها، ثم حجم قراءة هذه التجربة نقدياً، وبأدوات نقدية منهجية علمية.

لذلك، وهروباً من التباسات كلمتي: أديب، ومبدع، ينأى البعض عن هاتين الكلمتين باتجاه الكتابة، أو الأصح، الكتابة عن الكتابة.

ليست كل كتابة أدباً، وليست كل كتابة إبداعاً، والأرجح أن الكتابة هي الطفولة، والكتابة هي الإقامة في الكتابة.

الكتابة خيار، ومصير، وسلوك، والكتابة هي الشعور بالامتلاء، بل الشعور بالقوة والثقة، بل الشعور بالشجاعة، والطمأنينة. وحتى الغرور. الكتابة، طريق إلى الاستقلالية، والكتابة، مدى مفتوح للحرية.

كان الروائي والشاعر الألماني «غونتر غراس» مستقلاً وحراً، قبل أن توصله الكتابة إلى نوبل، وبعدها أوصلته الكتابة إلى نوبل. الكتابة هي حريته واستقلاليته، وأسلوبه في العيش وفي الحياة. غابرييل غارسيا ماركيز كاتب حر ومستقل، ودربه إلى نوبل هو الآخر كان درب الكتابة.

خذ النماذج الأدبية الكبرى في العالم: ميلان كونديرا، نجيب محفوظ، أراغون، البياتي، أدغار آلن بو، محمود درويش، رامبو، أنسي الحاج، سان جون بيرس، أدونيس، ناظم حكمت، أمل دنقل.. والقائمة طويلة.. هي قائمة الاستقلالية والحرية، أو هي قائمة الكتابة.

بقيت هذه النماذج في ذاتها الخلاّقة، والكثير من كتّاب العالم الكبار اختاروا العزلة، وابتعدوا، بكبرياء نبيلة عن بهرجة وغش الإعلام، وأيضاً، الكثير من الكتّاب الكبار عاشوا في ما يشبه «قلاع أنفسهم»، والأجمل في هؤلاء أنهم كانوا يجفلون، بل يتطيرون من نقاد الأدب هؤلاء المولعين بإطلاق الأوصاف الكبيرة، مثل الشاعر الكبير، والروائية الكبيرة، والأديب العظيم، والمبدعة العظيمة، وإلى آخر هذه الخلطات الجاهزة. الكتابة، بهذا المعنى، أي معنى النأي والعزلة والاستقلالية والحرية، هي نوع من الخلاص والتطهر والتحضر. الكتابة بهذا المعنى تمدّن بشري نظيف، وشكل من أشكال الرقي، بل، الكتابة سفر في الأمكنة وفي البشر وفي الحضارات بعيداً من التقوقع في ذات نرجسية متضخمة جوفاء.

أخيراً، وليس أخيراً بالطبع.. الكتابة التي تحقق هذه الطهرانية والرقة والعفاف هي الفكر، واستعمال القلب والعقل معاً في معادلة إنسانية حضارية تحيل إلى الإشباع والجرأة والنبل.