نشرت تحت تصنيف قصة_قصيرة، غير مصنف

هاروكي موراكامي – السير في كوبه

هاروكي موراكامي

Murakami

السير في كوبه

ترجمة : محمد نجيب

كوبة* KOBE : مدينة يابانية ضربها الزلزال عام 1995

ضرب أوساكا زلزال بقوة 6.1 ريختر . في عام 1997 يرتحل هاروكي موراكامي على قدميه من مركز مدينة كوبه لموطن طفولته في أطراف المدينة ليرى التغيير الذي أحدثه الزلزال ببلدته . وجد معالم غريبة لكن وجد أيضاً آثار لذاته و وجد الصدى الدائم للعنف

 

 

1

في مايو عام 1997 . عامان بعد الزلزال العنيف الذي ضرب كوبه , خطرت ببالي فكرة أن أسير بمفردي في روية من نيشينومايا إلى سانوميا في وسط مدينة كوبه . تصادف بقائي في كيوتو في ذلك الوقت من أجل العمل , فمضيت إلى نيشينومايا . على الخريطة , المسافة من هناك إلى كوبه حوالي خمسة عشر كيلو متر . ليست مسافة قصيرة بأي شكل لكن ليست مسافة مرهقة أيضاً , بالإضافة لذلك أنا  سائر واثق الخطى .

ولدت في كيوتو لكن سرعان ما انتقلت عائلتي لشوكوجاوا , حي في نيشينومايا ثم سرعان ما انتقلنا ثانية , مقتربين أكثر من كوبه , إلى آشيا حيث قضيت جل سنين مراهقتي . مدرستي الثانوية كانت تقع في التلال فوق المدينة لذا كان من الطبيعي أن وسط المدينة في كوبه كانت المكان الذي أتوجه إليه كي أستمتع بوقتي , بالتحديد حول سانوميا . أصبحت فتى هانشين – كان نموذجي , يشير المصطلح للمنطقة الواقعة بين أوساكا و كوبه . في ذلك الوقت و ربما الآن أيضاً , كان مكاناً رائعاً للنشأة فيه .مكان هادئ و مسالم يمنحك شعوراً بالاسترخاء و يتميز بإطلالته على المحيط , و الجبال و مدينة كبيرة بالجوار . أحببت الذهاب إلى الحفلات , والبحث عن الكتب الرخيصة في متاجر الكتب المستعملة, والتسكع في مقاهي الجاز و الاستمتاع بأفلام الموجة الجديدة التي أنتجتها نقابة مسرح الفن[1] . الموضة المفضلة لي في ذلك الوقت ؟ جاكيت فانز بكل تأكيد .

لكن بعد ذلك انتقلت لطوكيو من أجل الالتحاق بالجامعة . تزوجت و بدأت العمل هناك و بالكاد كنت أعود لهذه البقعة الصغيرة بين أوساكا و كوبه . كانت هنالك أوقات أعود فيها بالتأكيد إلى هناك لكن بمجرد أن أنهي عملي , كنت دائماً ما أقفز مباشرة في القطار السريع عائداً إلى طوكيو . كنت منشغلاً دائماً و كنت أقضي معظم الوقت مسافراً . و هنالك بعض الأسباب الشخصية أيضاً . يشعر بعض الناس بقوة تجذبهم دائماً للعودة لبلدتهم الأم بينما يشعر أخرون بأنهم لن يستطيعوا العودة أبداً . أحياناً يبدو الأمر كما لو أن القدر هو من يقسم البشر إلى هاتين المجموعتين , و لا يتعلق الأمر إلا قليلاً بمدى قوة مشاعرك نحو هذا المكان . أحببت الأمر أو لا , بدا أنني أنتمي للمجموعة الثانية .

لسنوات عاش والداي في آشيا لكن عندما ضرب زلزال هانشين المنطقة في يناير 1995 , دُمر بيتهما بشكل يستحيل معه البقاء فيه لذا سرعان ما أنتقلا لكيوتو . لذا باستثناء الذكريات التي أختزنها من أجل نفسي ( كنزي الغالي ) , لم يبق هنالك اتصال مادي يربط بيني و بين منطقة هانشين – كان . حرفياً لم تعد بلدتي الأم بعد الآن . انتابني شعور عميق بالخسارة بسبب تلك الحقيقة كما لو أن محور ذكرياتي يتشقق داخلي بصوت خافت لكن لا يزال مسموعاً . كان شعوراً جسدياً .ربما لهذا السبب أردت أن أسير هناك بيقظة وانتباه بحثاً عن أي شئ يمكنني اكتشافه . ربما أردت أن أرى بنفسي كيف ستبدو البلدة التي فقدت كل الروابط الواضحة التي تربطني بها , لي الآن . كم سأكتشف من ظل ماضيّ ( أو ظل الظل ) هناك ؟ أردت أن أرى تأثير الزلزال على البلدة التي نشأت فيها .

زرت كوبه عدة مرات بعد الزلزال , و كنت مصدوماً حقاً من مدى الدمار الذي حل بالمكان . لكن الآن بعد نحو عامين , بدت البلدة و قد لملمت من شتات نفسها , و أردت أن أرى بأم عينيّ التغيرات التي شهدتها المدينة – ماذا سرق هذا العدوان الغاشم من البلدة و ماذا خلف ورائه . لابد من وجود بقايا ما , لا تزال تربطني بها , هكذا فكرت .

ترجلت من القطار في محطة نيشينومايا , لابساً حذاء مشي مطاطي , و حاملاً على كتفيّ حقيبة ظهر تحوي دفتر تدوين و كاميرا صغيرة . بدأت أمشي بإيقاع بطيء باتجاه الغرب . كان الجو مشرقاً و مشمساً فارتديت نظارتي الشمسية . أول مكان مررت به هو السوق قرب المخرج الغربي للمحطة . في المدرسةالإبتدائية , كثيراً ما قدت دراجتي إلى هناك كي اشتري أشياء . مكتبة المدينة قريبة من هنا أيضاً , حيث كنت أقضي وقت فراغي هناك و تصفحت كل كتاب لليافعين وقعت يداي عليه . هنالك أيضاً محل للأعمال اليدوية كنت أبتاع منه الألعاب البلاستيكية . لذا أعاد إلي هذا المكان فيضاً من الذكريات . لم أت لهنا منذ مدة طويلة و السوق قد تغير تماماً بشكل يصعب علي تعرفه . ما مدى التغير الذي سببه التغيير الطبيعي الذي يطرأ على الأشياء عبر الزمن و ما مدى التغيير الذي فرضه الدمار المادي الذي سببه الزلزال , لا يمكنني حقاً التمييز . رغم أن الندوب التي خلفها الزلزال كانت واضحة للعيان . في مكان الأبنية المهدمة , تبعثرت الأراضي الخاوية في المنطقة مثل أسنان كثيرة مفقودة , بينها متاجر مبنية بشكل مؤقت كما لو كانت تربطها ببعضها البعض .نمت الحشائش في الأراضي الخاوية المحاطة بالحبال . يملأ الطريق الأسفلتي تشققات خلفها الحدث المشؤوم . كانت دلائل الدمار الفظيع في كل مكان كما لو كانت المنطقة أطلال مكان قديم .

مقارنة بحي كوبه التجاري الذي ركز عليه العالم و تم إعادة بنائه بسرعة بعد الزلزال , الفراغات الشاسعة هنا اجتاحتني كشئ ثقيل و كئيب مصحوبة بعمق هادئ . من المؤكد أن ذلك الدمار ليس مقتصراً على سوق نيشينومايا . لابد من وجود أماكن كثيرة حول كوبه لا تزال تحمل نفس الجروح و الندبات لكنها تكاد تكون منسية .

بعد حي التسوق و عبر الشارع الرئيسي مزار إبيسو[2] . مزار كبير جداً مبني من أخشاب سميكة . عندما كنت طفلا صغيرا , أحببت أن ألعب هنا و آلمني أن أرى الندبات الواضحة في نفس المكان الآن . معظم مصابيح الإنارة الحجرية الممتدة بطول طريق هانشين السريع كان ينقصها الفوانيس العلوية التي تغطيها . كانت مبعثرة على الأرض أسفلها مثل رؤوس قطعها سيف حاد . أما قواعد المصابيح فقد تحولت لصف من قطع حجرية لا معنى و لا هدف منها , ساكنة كرموز في حلم .

الجسر الحجري القديم الذي يعبر فوق البركة حيث كنت أصطاد الجمبري و أنا طفل ( باستخدام أسلوب بسيط . أربط خيط حول زجاجة فارغة ,  ثم أضع بودرة رخوة كطعم ثم أنزل الزجاجة إلى الماء فيدخل الجمبري لداخل الزجاجة و حينها أقوم بالسحب . ) قد انهار و بقي كذلك .كان الماء في البركة أسوداً وموحلاً و سلاحف ذات أعمار مختلفة ترقد متمددة فوق صخور جافة تتشمس , بينما رؤوسها دون أدنى شك خالية من أي أفكار . آثار الدمار في كل مكان كما لو أن المنطقة أطلال عتيقة . فقط الأخشاب كانت كما أتذكرها من أيام طفولتي صامدة في مواجهة الزمن .

جلست على أرضية المزار تحت أشعة شمس أوائل الصيف , و حدقت من جديد فيما حولي , محاولاً  التأقلم مع ما أراه . أمتص المشهد و أقبله على أنه شئ طبيعي بقدر الإمكان ذهنياً و داخلياً . حاولت تذكر كيف كنت في الماضي . لكن استغرقني ذلك وقتاً طويلاً كما يمكنك أن تتخيل .

_______________

تم إنشائها في الثمانينيات و اهتمت بإنتاج الأفلام اليابانية المستقلة .[1]

إله في الديانة اليابانية [2]

 

 

2

مشيت من نيشينومايا إلى شوكوجاوا . لم يحل الظهر بعد , لكن الجو كان مشمساً لدرجة أنني قد بدأت أتعرق . لم أحتج لخريطة كي تخبرني بشكل عام أين أنا لكن لم أكن أملك ذاكرة للشوارع نفسها . لابد أنني سرت في تلك الشوارع مئات المرات لكن الآن ذاكرتي بيضاء تماماً . لماذا لا أستطيع تذكر الشوارع ؟ أمر غريب . شعرت بحيرة شديدة كما لو أنني عدت للمنزل فوجدت الآثاث و قد تم استبداله . سرعان ما أتضح السبب لي . الأماكن التي كانت أراضي خاوية لم تعد كذلك و الأماكن التي كانت مشغولة لم تعد كذلك – مثل صور نيجاتيف و صور حقيقية قد حلت محل بعضها البعض . في معظم الحالات , الأراضي الخاوية صارت بيوتاً بينما البيوت القديمة قد دمرها الزلزال . يتضافر تأثير هذه الصور –قبل و بعد – لتضيف لعملية الطمس الزائفة لذكرياتي عن البلدة في الماضي .

البيت القديم الذي كنت أعيش فيه قرب شوكاجاوا قد اختفى و حل محله صف من المنازل . و الأرض التي كانت مدرستي الثانوية مبنية عليها قد امتلاءت بمساكن مؤقتة تم تشيدها لإيواء ضحايا الزلزال . حيث كنت و أصدقاؤي نلعب البيسبول , كان ناجو الزلزال المقيميين في تلك الملاجأ قد علقوا غسيلهم و وضعوا الكنب في الهواء الطلق في مساحة تبدو الآن شديدة التكدس .

حاولت عبثاً أن أعثر على آثار الماضي لكن بالكاد وجدت شيئاً منه . لا يزال الماء ينساب في النهر صافياً و نقياً كما كان دائما . انتابني شعوراً غريباً حين رأيت كيف صارت ضفة النهر محاطة الآن بالأسمنت . سرت لفترة في اتجاه البحر قبل أن أتوقف عند مطعم سوشي . كان بعد ظهر يوم أحد و كانوا مشغولين بإعداد الطلبات . المساعد الشاب الذي خرج لتسليم طلبات للبيوت , لم يعد قبل وقت طويل و كان مالك المحل مصراً على تلقي كل الاتصالات الهاتفية . مشهد معتاد تراه في أي مكان في اليابان . انتظرت قدوم طلبي , بينما احتسي البيرة و أبقي عيناً على التلفاز . كان محافظ ولاية هيوغو يتحدث مع أحدهم في برنامج عن سير عمليات إعادة البناء بعد الزلزال . أحاول الآن تذكر ما قاله بالضبط لكن عبثاً لا يمكنني تذكر كلمة واحدة .

عندما كنت طفلاً , كنت أتسلق إلى ضفاف النهر حيث يندفع تيار الماء أمامي مباشرة دون أي عائق يعوق مجال بصري . أعتدت أن أسبح هناك في الصيف . أحببت المحيط و أحببت السباحة . كنت أذهب للصيد أيضاً و أصطحب كلبي للمشئ هناك كل يوم . أحياناً كنت أحب مجرد الجلوس دون أن أفعل أي شئ . و أحياناً أخرى كنت أتسلل خلسة من المنزل ليلاً و أذهب للبحر مع أصدقائي لنجمع الحطب و نشعل النار . أحببت رائحة البحر , و زئيره البعيد و كل ما يجلبه معه . لكن الآن لم يعد هنالك بحر . لقد هدموا الجبال و ألقوا بكل التراب في البحر بواسطة شاحنات و أحزمة ناقلة حتى ملئوا البحر و سدوه .كون الجبال و البحر قريبين جداً , كانت تلك المنطقة مثالية لهذا النوع من أعمال البناء . انتشرت مجتمعات سكنية صغيرة في مكان الجبال المهدمة و بنفس الطريقة برزت مجتمعات سكنية جديدة مكان البحر . حدث كل هذا بعد انتقالي لطوكيو أثناء عصر النمو السريع لليابان عندما كانت البلاد في خضم إزدهار عمراني واسع النطاق .

أمتلك الآن بيتاً في بلدة على ساحل البحر في ولاية كاناجاوا قرب طوكيو حيث أتنقل باستمرار بينه و بين طوكيو . لسوء الحظ , أو دعني أقول لسوء الحظ الشديد , هذه البلدة على ساحل البحر تذكرني أكثر ببلدتي الأم أكثر مما تذكرني بلدتي الأم الآن . تحوي المنطقة جبال خضراء و شاطئ رائع للسباحة . أريد أن أتمتع بتلك الأشياء بقدر الإمكان لأن بمجرد أن يتلاشى مشهد طبيعي فأنه يتلاشى للأبد . بمجرد أن يُطلق جماح العنف البشري , لا يمكن إيقافه أو إصلاح إثاره المدمرة .

بعد ضفاف النهر ,تم ملأ المساحة التي كانت منتجع كوري على الساحل , بالماء فصارت خليجاً أو بركة صغيرة مريحة . كان راكبو القوارب الشراعية هناك , يحاولون قصار جهدهم الإبحار مع الريح . مباشرة جهة الغرب , حيث كان شاطئ آشيا , تقف عمارات شاهقة الارتفاع ككتل صخرية من المونوليث[3] مجردة من أي معالم .

على الشاطئ , الأسر التي قادت سياراتها  الستيشن واغن و الميني فان إلى هناك , تستخدم خزانات البروبان ( الغاز ) الصغيرة للشواء . يشوون لحماً و سمكاً و خضراوات و الدخان الأبيض يتصاعد في صمت إلى السماء في هذا الأحد السعيد . بالكاد توجد غيوم في السماء . كان تابلوه مثالي ليوم من أيام مايو .مع ذلك , بينما أجلس هنالك على الضفة الأسمنتية و أحدق حيث كان البحر الحقيقي في الماضي , كل شئ هنا يشبه إطار عجلة يتسرب منها الهواء ببطء , و بهدوء تفقد واقعيتها .

في قلب هذا المشهد الوديع , من الصعب إنكار آثار العنف .هكذا صدمني الأمر . جزء من بقايا العنف تقبع مختبئة أسفل أقدامنا و أجزاء أخرى مخبئة داخلنا . أحداها مجاز للأخر . أو ربما يمكن لأحداهما ان يحل محل الآخر , كلاهما يرقد هنا نائمين مثل زوج من الحيوانات يراودهما نفس الحلم .

***

أجتزت نهر صغير و ذهبت إلى آشيا . عبرت أمام مدرستي الثانوية القديمة , ثم أجتزت البيت الذي كنت أعيش فيه و وصلت لمحطة قطار آشيا . أعلنت لافتة في المحطة عن مباراة في الساعة الثانية مساء في ذلك اليوم في أستاد كوشين في أوساكا بين فريقي البيسبول تايجرز هانشين و ياكولت سوالوز .  عندما وقعت عيناي عليها , انتابتني رغبة مفاجئة للذهاب . أجريت تغييرات سريعة في خططي و قفزت في القطار . كانت المباراة قد بدأت للتو ,لذا إذا ذهبت الآن , هكذا فكرت فسأكون هناك في الوقت المناسب لمتابعة الشوط الثالث . يمكنني متابعة المشي غداً .

تغير ملعب كوشين قليلاً منذ كنت صبياً . كما لو كنت قد تعثرت في دوامة زمنية , شعرت بإحساس نوستالجي بعدم الانتماء – طريقة غريبة لصياغة مشاعري , أعترف بذلك . من الأشياء القليلة التي تغيرت : غياب الباعة المتجولين الذين يحملون على أكتافهم صفائح الكالبس   المنقطة , و يبيعون شراب اللبن المُخمر . (يبدو أنه لم يعد هنالك الكثير من البشر في العالم الذين لا يزالون يشربون الكالبس . ) و لوحة النتائج التي صارت ألكترونية الآن . ( و يصعب رؤيتها أثناء النهار ) . لكن لون عشب الملعب الأخضر لم يتغير , و مشجعي هانشين لا يزالوا صاخبين كما هو معروف عنهم . قد تأتي و تذهب الزلازل و الحروب و القرون لكن مشجعي هانشين أبديون .

كانت المباراة منافسة بين الراميين كاواجيري و تاكاتسو و انتهت بفوز هانشين بنتيجة 1-0 . قد تعتقد أن فارق النقطة الواحدة يعني أنها كانت مباراة مثيرة لكنها لم تكن بأي شكل من الأشكال . كانت مباراة خالية من أي لحظة مميزة . لأعبر عن الأمر بوضوح أكبر , كانت مباراة لا تستحق المشاهدة . خاصة بالنسبة للمتفرجين في الملعب . بينما تشتد الشمس , زاد عطشنا بشدة . تناولت بعض البيرة الباردة و نعست في مكاني في المدرجات . عندما استيقظت , كنت قد نسيت تماماً أين أنا . ( بحق الجحيم أين أنا ؟ تساءلت ) . ظلال الأضواء الكاشفة كانت تميل باتجاهي , مقترباة مني . تكاد تصل إلي .

_______________________________________________

 مونوليث : معلم جيويوجي يتكون من صخرة ضخمة .[3]

 

3

نزلت في فندق صغير حديث الإنشاء في كوبه . معظم النزلاء مجموعات من النساء .أنا متأكد أن بإمكانك تخيل نوع الفندق الذي أتحدث عنه . في الصباح التالي استيقظت في السادسة و استقليت قطاراً قبل ساعة الذروة الصباحية إلى محطة آشياجاوا و بدأت من جديد جولتي القصيرة مشياً على الأقدام . على عكس اليوم  السابق , كانت السماء ملبدة بالغيوم و الهواء بارد بعض الشئ . تقرير الطقس في الجريدة كان يتوقع بيقين هطول المطر بعد الظهر . ( و بكل تأكيد كانوا صائبين في توقعهم . في المساء , كنت مبللاً تماماً . ) في الجريدة الصباحية التي اشتريتها من محطة سانوميا كان هنالك أخباراً جديدة عن اعتداء على شابتين في بلدة سوما الجديدة ( مكان جديد بُني عن طريق قطع جانب من قمم الجبال , لم أسمع عنه من قبل في حياتي ) . أحداهما قد ماتت . كانت الشرطة تطلق على الحادثة ” هجوماً عشوائياً , و لا يملكون أي أدلة تقودهم للجاني بينما المواطنون الذين يملكون أطفالا صغارا , مرعوبون .كان ذلك قبل مقتل جون هاس , طفل في الحادية عشرة  في كوبه بعد عدة أيام . علي أيه حال , كان هجوماً مرعباً و فظيعاً يستهدف أطفال المدرسة الإبتدائية . نادراً ما أقرأ الجريدة و لم أكن قد سمعت حتى بهذا الهجوم . أتذكر إحساسي بنبرة إقرارية جافة في أسلوب السرد لكن لا تخلو من عمق و غرابة مختبئة بين سطور المقالة .

بينما أطوي الصحيفة , خطرت فجأة ببالي فكرة : رجل يسير في الأرجاء  بمفرده في وضح النهار في يوم عمل قد يبدو مثيراً للشكوك . ظل هذا العنف المتجدد عمّق أكثر من إحساسي بأني عنصر دخيل هنا . كما لو كنت ضيفاً غير مرغوب فيه يسير متخبطاً في مكان لا ينتمي إليه .

سرت بمحاذاة طريق في التلال حيث تمتد قضبان السكة الحديد . أخذت انعطافات قليلة في طريقي نحو الغرب و في غضون ثلاثين دقيقة كنت أدخل لآشيا . آشيا بلدة طويلة و ضيقة تمتد شمالاً و جنوباً . امش قليلاً في اتجاه الشرق أو الغرب لتجد نفسك قد غادرتها . على جانبي الطريق هنالك أراضي خالية خلفها الزلزال و قليل من البيوت المهجورة و قد مالت لأحدى الجانبين .

تختلف التربة في منطقة هانشين – كان عنها في طوكيو . فهي منطقة جبلية رملية لذا الأرض فيها ملساء و بيضاء مما يجعل الأراضي الخالية أكثر بروزاً للعيان . كانت المنطقة مغطاة بحشائش الصيف الخضراء مما جعل التناقض في الألوان أكثر وضوحاً أيضاً . تصورت ندبة جراحية ضخمة على جلد شخص عزيز علي , صورة جعلت ألماً جسدياً حاداً كطعنة يسري داخلي , ألم غير مقيد بزمن أو مكان .

بطبيعة الحال لم تقتصر المنطقة على الأراضي الخالية المغطاة بالحشائش فقط . مررت بعدة مواقع بناء . يمكنني أن أتخيل أنه في أقل من عام سيكون هنالك صف من منازل حديثة البناء هنا , كثيرة جداً لدرجة أنني لن أتعرف على المكان . سيلمع قرميد الأسطح الجديدة تحت أشعة الشمس . بحلول ذلك الوقت ربما لن يبقى أي شئ مشترك بين المشهد هنا و بيني كإنسان . ( غالباً لن يبقى ) . يقف بيننا حاجز قهري فرضته آلة تدميرية قاهرة اسمها الزلزال . حدقت لأعلى نحو السماء في هذا الجو الصباحي الغائم قليلاً و فكرت في هذه الأرض التي جعلتني الشخص الذي أنا عليه الآن و فكرت في الشخص الذي صنعته هذه الأرض , في كل الأشياء التي لا نملك أي سيطرة عليها .

***

 

عندما وصلت لمحطة أوكاموتو المحطة التالية لآشيا , فكرت في الجلوس قليلاً على مقهى – أي مكان سيفي بالغرض – و أطلب فطورا تقليدياً . لم أكل أي شئ طوال النهار . لكن لم أجد أي مقهى مفتوحاً بعد . لم تكن تشبه البلدة التي في ذاكرتي . أشتريت مكرها بسكويت كالوري ميت من أحدى متاجر لوسون على جانب الطريق ثم جلست على دكة حديقة و أخذت أكل في صمت , و أبلع البسكويت مع القهوة . أنتهزت الوقت كي أدون ملاحظات عن الأشياء التي رأيتها في رحلتي حتى الآن .

بعد استراحة قصيرة . أخرجت نسخة من رواية همنجواي ” الشمس تشرق أيضاً ” من جيبي و تابعت القراءة من حيث وقفت . قرأت الرواية من قبل في المدرسة الثانوية و كنت قد بدأت قرائتها ثانية في سريري بالفندق بالأمس و أسرتني القصة تماماً . أتساءل لماذا لم أدرك من قبل كم هي رواية عظيمة . إدراكي لذلك منحني شعوراً غريباً . لابد أن عقلي كان في مكان أخر حين قرأتها أول مرة .

لم أجد مكاناً للأفطار في المحطة التالية  أيضاً لذا مشيت بتثاقل بمحاذاة قضبان السكة الحديد , و أنا مستغرقاً في أحلامي عن فنجان قهوة ساخن و شرائح توست سميكة . كالسابق , وجدت نفسي أمر بعدد من الأراض الخالية و مواقع البناء . أنزلقت على الطريق بجواري عدة سيارات مرسيدس بينز سيدان كلاس : إي , تقل الأطفال للمدرسة أو المحطة , كما أتصور . لا يعلو السيارات خدشاً أو بقعة واحدة . مثل رموز بلا معنى و زمن يمضي دون هدف , كلها لا صلة لها بالزلزال أو العنف , على الأغلب .

أمام محطة روكو , أعطيت لنفسي امتيازاً صغيراً فدخلت لمطعم ماكدونالز و طلبت سندوتش ماك مافن بالبيض ( ب 360 ين ) و تمكنت أخيراً من إسكات جوعي الذي كان يتنامي داخلي كزئير بحر . قررت أخذ أسترحة لمدة نصف ساعة . كان الوقت الآن هو التاسعة صباحاً . عندما دخلت لماكدونالز عند التاسعة صباحاً  , شعرت كما لو أنني داخل واقع متخيل ضخم خلقه المكان أو كاني جزء من عقل باطني جمعي [4] . لكن في الحقيقة كنت محاطاً بواقعي أنا . للأفضل أو الأسوء , كانت ذاتي قد وصلت مؤقتاً لطريق مسدود , و لم تعد تملك مكاناً تذهب إليه .

 

***

لأني قطعت كل هذه المسافة , قررت أن أصعد المنحدر الذي يقود إلى مدرستي الثانوية القديمة . بدأ شريط خفيف من العرق في التكون فوق جبهتي . في الثانوية كنت استقل دائماً حافلة مزدحمة للمدرسة لكن الآن أمشي في نفس الطريق بمفردي .

في ساحة اللعب الشاسعة المساحة الذي تم شقه في منحدرات الجبال, كانت الطالبات يلعبن كرة اليد كجزء من حصة الرياضة . كان هنالك هدوء خارق للطبيعة يخيم على المكان ما عدا صيحات الفتيات التي تعلو من حين لأخر . كان المكان ساكناً تماماً لدرجة أنني شعرت أنني تعثرت و سقطت في فراغ من نوع ما . فراغ ليس من المفترض أن أدخله .ما سر هذا الصمت المطبق ؟

حدقت في ميناء كوبه الذي يتوهج بضوء شاحب بعيداً في الأسفل , و أستمعت بإنصات أملاً في التقاط بعض أصداء من الماضي لكن لا شئ أتى إلي . فقط أصوات الصمت .  هذا كل شئ . لكن ماذا بيد الإنسان أن يفعله ؟ نتحدث عن أشياء حدثت منذ أكثر من ثلاثين عاماً . أكثر من ثلاثين عاماً .

شئ واحد يمكنني قوله بكل يقين : كلما كبُر الإنسان , كلما صار أكثر وحدة . ينطبق ذلك على الجميع دون استثناء .لكن ربما هذا ليس شيئاً سيئاً . ما أعنيه هو : من منظور ما , حيواتنا لا شئ سوى سلسلة من مراحل تساعدنا على التعود على الوحدة . و من هذا المنطلق , فلا سبب للشكوى . بالإضافة لذلك حتى لو أردنا أن نشكو , فمن سنشكو له على أية حال ؟!

***

_________________________________

[4] مصطلح يطلق على جزء من العقل الباطن للإنسان مستمد من خبراته و تفاعله مع بيئته .

 

 

 

4

Marina District Collapse

نهضت و غادرت المدرسة الثانوية و بدأت بفتور في هبوط المنحدر الطويل ( كان التعب قد بدأ يحل بي  . ) . تابعت المشي دون راحة حتى بلغت محطة شين كوبه , المحطة التي يتوقف فيها القطار السريع .من هنا يمكنني الوصول لوجهتي, سانوميا في رحلة واحدة سريعة .

كان لدي متسع من الوقت لذا بدافع الفضول دخلت فندق أورينتال كوبه الجديد , فندق عملاق تم افتتاحه حديثاً قرب المحطة . غصت في أريكة في بهو القهوة و تناولت أول فنجان قهوة مقبول اليوم . أنزلت حقيبة الظهر و خلعت النظارة الشمسية و أخذت نفساً عميقاً و مددت ساقي أمامي كي أمنحها بعض الراحة . شعرت برغبة في التبول فذهبت لدورة المياه و أفرغت مثانتي لأول مرة منذ مغادرتي الفندق في الصباح الباكر . عدت للجلوس في مكاني و طلبت أعادة ملء فنجاني بالقهوة و تأملت المكان حولي .كان الفندق واسعاً بشكل مخيف, مختلف اختلافاً شاسعاً عن فندق أورينتال كوبه القديم قرب الميناء (فندق جميل مساحته مريحة تم إغلاقه بسبب الزلزال . ) وصف هذا الفندق الجديد بأنه مهجور أقرب للحقيقة من وصفه بالاتساع . كان مثل هرم دون عدد كاف من المومياوات . لا أريد أن أنقد المكان نقداً لاذعاً , لكنه ليس مكاناً أود المكوث فيه .

بعد شهور قليلة حدث تبادل لإطلاق النار في نفس البهو الذي جلست فيه . قُتل شخصان . بكل تأكيد لم أملك أي فكرة عن حدوث شئ كهذا في ذلك المكان .لكن تصادف مروري بالمكان في فجوة زمنية سبقت العنف الآتي . سمها صدفة لكن مع ذلك لا يقلل ذلك من شعوري بالغرابة . مثل الماضي , فأن الحاضر و المستقبل يومضان ذهاباً و أياباً بسرعة خاطفة على معبر فوقي .

لماذا نتعرض لمثل هذا العنف العميق و المستمر ؟

بعد أربعة شهور من رحلتي القصيرة تلك , بينما أجلس على مكتبي و أكتب هذه الكلمات , لم أستطع منع نفسي من التساؤل . حتى لو نحيت ما حدث في منطقة كوبه جانباً , أشعر كأن فعل واحد من العنف مُقدر له ( واقعياً أو مجازياً )  كي يقود مباشرة لفعل عنف أخر . هل هنالك حتمية مُولدة لتلك الدائرة المفرغة من العنف ؟ أم أنها الصدفة و حسب , و لا شئ أخر ؟

حدث زلزال هانشين أثناء وجودي في أمريكا ثم بعد ذلك بشهرين حدث هجوم غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو . وجدت هذا بمثابة سلسلة متصلة من الأحداث .

في ذلك الصيف عدت لليابان و سرعان ما أنخرطت في أجراء حوارات مع الناجين من هجوم السارين . بعدها بسنة نشرت كتابي ” تحت الأرض ” . هدفي من هذا الكتاب , ما أردت الكتابة عنه – ما أردت أنا أن أعرف أكثر عنه – هو العنف في مجتمعنا الذي يقبع مختبئاً تحتنا مباشرة . عن العنف الموجود هناك كاحتمال خامل , احتمال قد ينفجر في أي لحظة في صورة عنف , كل هذه الأشياء التي نتناسى وجودها . لهذا لم أختر محاورة من يدعوا أنهم ضحية في الهجوم بل الضحايا الحقيقيون .

أثناء سيري الصامت طوال يومين من نيشينوما إلى كوبه , ظلت تلك الأفكار تدور في رأسي . بينما أمشي خلال الظل الذي تركه الزلزال , ظللت أسأل نفسي : ما المغزي من هجوم السارين في مترو الأنفاق ؟ في نفس الوقت بينما أمضي مخترقاً ظل هجوم السارين : ما الهدف من زلزال هانشين ؟ بالنسبة لي لم يكن الحدثان منفصلين و غير مرتبطين . كشف اللثام عن أحداهما قد يساعد في كشف اللثام عن الأخر . كانت هذه مسألة مرتبطة مادياً و نفسياً في آن واحد . بمعنى أخر الجانب النفسي كان مرآة للجانب المادي و العكس . و علي أن أخلق بنفسي ممراً خاص بي يربط بين الجانبين .

يمكنني أن أضيف سؤالاً أخراً  أكثر  خطورة لمجموعة الأسئلة تلك : ماذا يمكنني أن أفعل بخصوص هذا العنف ؟

 

***

آسف لقولي هذا , لكنني لم أعثر بعد على أجابة واضحة و منطقية لأسئلتي . لم أصل لأي نهاية محددة . كل ما يمكنني فعله حتى هذه النقطة هو أنه من خلال كلماتي الخالية من اليقين أن أرسم بأمانة الطريق الحقيقي الذي قادتني إليه أفكاري ( و تحديقي و ساقاي ) . أتمني أن تتفهم هذا . في النهاية أنا أنتمي لنوعية البشر التي يمكنها إحراز تقدم فقط بتحريك سيقانها و تحريك جسمها , من خلال عملية مادية بطيئة خطوة بخطوة في خط ينحرف باستمرار .يستغرق الأمر وقتاً . وقتاً طويلاً على نحو بائس . أتمنى فقط ألا يكون طويلاً للغاية .

وصلت أخيراً لسانوميا ثانية . بحلول هذا الوقت بدأت تفوح مني رائحة كريهة .لم تكن مسافة طويلة , لكنها أطول من مشيك الصباحي المعتاد . في حجرة الفندق أخذت حماماً ساخناً . جففت شعري و تجرعت زجاجة باردة من المياه المعدنية من الثلاجة . أخذت ثياباً نظيفة من حقيبتي . قميص بولو أزرق غامق و معطف رياضي أزرق من القطن و بنطلون شينوز . كانت ساقاي لا تزالان متورمتين قليلاً لكن لم يكن بإمكاني فعل شئ بخصوص ذلك . تماماً كما لم يمكنني انتزاع تلك الأسئلة المُبهمة التي تقبع ثقيلة و غير مُجابة داخل رأسي .

لم يكن هنالك أي شئ معين أريد فعله لذا ذهبت لمشاهدة فيلم شدني إليه, من بطولة توم كروز . لم يكن فيلماً مؤثراً لكنه لم يكن سيئاً جداً أيضاً . أسترخيت في مكاني و تركت الوقت يمضي . مرت ساعتان من حياتي –ليست بصورة مؤثرة لكن ليست بصورة سيئة أيضاً .

كان الليل يقترب بينما أخرج من السينما . سرت باتجاه التلال نحو مطعم صغير . جلست على منضدة و طلبت بيتزا مأكولات بحرية و بيرة . كنت الزبون الوحيد الموجود بمفرده . ربما كان هذا  نابع من خيالي فقط لكن بدا الجميع سواي سعيدين حقاً . بدا الأزواج راضيين بينما تقهقه مجموعة من الرجال و النساء بصخب . بعض الأيام تكون هكذا .

كان على بيتزا المأكولات البحرية التي جلبوها لي ورقة صغيرة كُتب عليها : هذه البيتزا التي أنت على وشك الاستمتاع بتناولها هي البيتزا 958,816 التي يعدها مطعمنا . لم أستطع استيعاب الأمر . ما الرسالة التي يجب أن أفهمها من تلك الملحوظة ؟ عندما كنت صغيراً كنت معتاداً على الحضور إلى هنا مع حبيبتي , نشرب بيرة مثلجة و نأكل بيتزة مخبوزة حديثاً تحمل نفس الورقة التي تشير لرقم ما . كنا نتحدث عن مستقبلنا , و كل توقعاتنا وقتها لم يتحقق و لو توقع واحد منها . لكن كان هذا منذ وقت طويل جداً . وقت كان لا يزال هنالك بحر هنا , وقت كان فيه جبال . لا يعني أنه لا يوجد هنا بحر أو جبال . بالتأكيد يوجد . لكن ما أتحدث عنه هو بحر مختلف و جبال مختلفة . مختلف عما هو موجود الآن .

بينما أحتسي بيرتي الثانية , فتحت نسختي من ” الشمس تشرق أيضاً “و تابعت القراءة  . قصة منسية عن جيل ضائع . سرعان ما أندمجت مع عالم الشخصيات .

عندما غادرت المطعم أخيراً , كانت تمطر كما توقعت النشرة الجوية . تبللت . تبللت بشكل مذري , وصل الماء حتى عظامي . لم يعد هنالك داع لشراء شمسية .

 

 

 

 

 

أضف تعليق